إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2017/09/26

Academic and Professional Study of Insurance in Iraq



مصباح كمال

نشرت هذه الورقة أصلاً في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

تقديم

ترجع خلفية هذه الورقة إلى سؤالين أثارهما معي السيد مصطفى رشيد الهاشمي، محرر الصفحة الاقتصادية لجريدة الصباح: "لماذا لم يخصص ضمن مناهج الدراسات التخصصية الاقتصادية مادة للتأمين؟  باعتقادكم هل ان وجود مثل هذه المناهج في الدراسات الاكاديمية من شأنه ان يجدد دماء قطاع التأمين لاسيما إذا ما تم توظيف المتفوقين في مادة الرياضيات والرياضيات الاكتوارية؟

12 أيلول 2017"

استفدت من جوابي المختصر على هذين السؤالين، بعد تنقيحه والإضافة إليه، في كتابة هذه الورقة.

غياب التأمين في مناهج الدراسات التخصصية؟

1       لماذا لم يخصص ضمن مناهج الدراسات التخصصية الاقتصادية مادة للتأمين؟

إن الجواب عند من ينظم ويقرر مناهج الدراسات التخصصية، وبدلاً من التكهن نقدم بعض الملاحظات ذات الطابع التاريخي تلقي قليلاً من الضوء على ما كان موجوداً في مجال الدراسات التأمينية.

ليست لدينا معلومات تفصيلية عن مناهج تدريس مادة التأمين في المؤسسات الأكاديمية العراقية.  هناك دراسة جيدة بعنوان "الدراسة الأكاديمية للتأمين في العراق" للمرحوم مروان هاشم القصاب يمكن الرجوع إليها للتعرف على جوانب للموضوع.[1]

لقد كانت مادة التأمين حاضرة وبدرجات متفاوتة في مناهج دراسة الاقتصاد منذ خمسينيات القرن الماضي في كلية التجارة وفيما بعد في كلية الإدارة والاقتصاد، وكذلك في مؤسسة المعاهد الفنية/معهد الإدارة الرصافة/قسم التأمين.

ومن المفيد أن نذكر أن فترة ازدهار قطاع التأمين في سبعينيات القرن الماضي شهد تعاوناً مثمراً بين المؤسسة العامة للتأمين الملغاة وبين جامعة بغداد تمثَّل في تأسيس الدراسة الأكاديمية للتأمين في قسم الدراسات العليا في كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة بغداد.  وللتعريف بهذه الدراسة نقتبس من كراس كتبه د. جمال عبد الرسول غانم:

تعتبر دراسة الدبلوم العالي بإدارة التأمين أعلى دراسة تخصصية في التأمين في العراق.  مدة الدراسة فيها سنتان تقويميتان، ويتخلل الدراسة تدريب عملي في قطاع التأمين العراقي ومنشآته، وتغطي الساعات النظرية كل فروع التأمين إضافة إلى بعض الساعات لمواد غير أساسية (غير تأمينية) تفيد رجل التأمين في عمله. [2]

ويضيف د. غانم:

تتكون البحوث من جوانب نظرية مع دراسة تطبيقية في قطاع التأمين العراقي، وقد أشرف على تلك البحوث أساتذة هم في معظمهم يحتلون مواقع قيادية في قطاع التأمين العراقي، وعليه فإن بحوث الدبلوم العالي بإدارة التأمين تشكل مصدراً هاماً للمعنيين بالتأمين.[3]
ونكتشف من فهارس البحوث بأنها قد توزعت على التأمين البحري-بضائع، التأمين البحري-سفن، التأمين من الحريق، التأمين على الحياة، التأمين الهندسي، تأمين السيارات-التكميلي، تأمين السيارات-الإلزامي، تأمين الطيران والفضاء، التأمين من الحوادث، التأمين الزراعي، تخطيط التأمين، الإدارة المالية للتأمين، إدارة الخطر، اقتصاديات التأمين، إعادة التأمين، ومواضيع تأمينية متفرقة.

استمرت دراسة الدبلوم العالي للفترة 1975-1982:

تخرجت الدورة الأولى لهذه الدراسة عام 1975 وآخر دورة تخرجت عام 1982 وتوقف القبول في هذه الدراسة بعد ذلك.[4]

لماذا توقف القبول في هذه الدراسة؟  لم نعثر على معلومات للجواب على هذا السؤال لكننا نجازف بالقول إنه بعد تخرج 74 طالباً يحملون شهادة الدبلوم العالي في التأمين لم يعد استمرار هذه الدراسة مناسباً فقد كان العدد كافياً لملء المواقع الإدارية والفنية الكبيرة في قطاع التأمين، وكانت وقتها يضم ثلاث شركات حكومية هي شركة التأمين الوطنية وشركة التأمين العراقية وشركة إعادة التأمين العراقية.  تخريج أعداد جديدة من حملة هذه الشهادة كان سيكون فائضاً عن حاجة الشركات، وربما يؤدي إلى تدهور معنويات بعض حاملي الشهادة لعدم توفر الموقع المناسب لاختصاصهم.

وهنا ينهض سؤال: هل أن قطاع التأمين بحاجة إلى حملة الشهادات العليا في التأمين أم إلى أشخاص على درجة جيدة من التعليم ويتمتعون بمعارف ومهارات مهنية تفيد الأداء اليومي لأعمال الشركات بكفاءة؟[5]  لقد ساهمت مؤسسة المعاهد الفنية، معهد الإدارة/الرصافة الذي ضمَّ قسماً متخصصاً بالتأمين في تكوين كادر وسطي للعمل، بعد التخرج، في شركات التأمين أو أقسام التأمين في شركات القطاع العام وبعض الوزارات المعنية بالصناعة والطاقة.  يكتب المرحوم مروان القصاب بهذا الشأن من موقف نقدي:

كان لابد من رفد كادر وسطي من الموظفين المتعلمين أكاديميا في شركات التأمين أو أقسام التأمين في الشركات الحكومية مثل قسم التأمين في شركة الخطوط الجوية العراقية أو شركة ناقلات النفط أو وزارة التجارة ... الخ لتغطي حاجتها من الموظفين على إدارة خدمة التأمين كمؤمن أو مؤمن له.

وبالرغم من ان هذا المعهد قد خرج أكثر من 2400 طالب خلال ثلاثة عقود فهو لم يحقق هدفه الذي ذكرناه أعلاه.  ويبدو ان معظم الطلبة الملتحقين بهذا المعهد من أصحاب المعدلات المنخفضة والذين لا يملكون خيارات متعددة ولم تكن الرغبة في التعلم هي هدفهم بل إبعاد تأريخ الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية للطلبة وكخيار أفضل من الجلوس في البيت بالنسبة للطالبات ما عدا قليل منهم شق طريقه في هذا المجال عمليا وبنجاح وخصوصا في الدورات الأولى.

ويبدو ان المختصين في اقتصاديات التعليم والتخطيط وجدوا ان التكاليف المدفوعة والجهد المبذول لإعداد هؤلاء الطلاب لا يوازي الفائدة والمردود المتوقع منهم.  وبدلا من مناقشة هذه المشكلة بشكل جدي من قبل المعنيين بالموضوع تم إغلاق هذا القسم ودمجه مع الأقسام المالية والمصرفية.  (تم غلق القسم عام 2008).[6]

وقد تمَّ إعادة فتح فرع التأمين في المعهد العالي للدراسات المالية والمحاسبية في جامعة بغداد أمام طلبة الماجستير.  ويقوم في الوقت الحاضر عدد من الطلاب والطالبات بمتابعة دراساتهم للماجستير في مادة التأمين في هذا المعهد وبعض الجامعات.[7]
تخصصات تأمينية مفقودة

2       هل ان وجود مثل هذه المناهج في الدراسات الاكاديمية من شأنه ان يجدد دماء قطاع التأمين لاسيما إذا ما تم توظيف المتفوقين في مادة الرياضيات والرياضيات الاكتوارية؟

من المؤسف أن العديد من خريجي الدراسات العليا للتأمين قد هاجروا خارج العراق أو تقاعدوا عن العمل، ولذلك فإن التراكم المعرفي الجماعي في مجال التأمين تأثر سلباً بغيابهم.  وحسب المعلومات القليلة المتوفرة لدينا فإن مناهج دراسة التأمين لم تتوسع لتشمل دراسة إدارة الخطر أو الرياضيات الاكتوارية.  هذين الموضوعين، إدارة الخطر والعلوم الاكتوارية، يمكن لهما أن يدخلا مقترباً جديداً للتعامل الأكاديمي والتطبيقي مع التأمينات العامة وتأمينات الحياة وكذلك إعادة التأمين.  ولكي لا يُساء فهمنا فإن موضوع إدارة الخطر قد تسلل إلى الجامعات العراقية في ثمانينيات القرن الماضي[8] لكنه ظلَّ أسيراً لفهم ضيق له وحصره ضمن الإطار التأميني.  كما أن العلوم الاكتوارية هي الأخرى لم تمتد لتشمل رياضيات التأمين على الحياة، والاحتياطيات المختلفة التي تحتفظ بها شركات التأمين في فروع التأمين المختلفة.  لقد أوفدت شركة التأمين الوطنية عدداً من موظفيها لدراسة العلوم الاكتوارية في المملكة المتحدة لكنه ليس معروفاً إن قام هؤلاء بهذه الدراسة فعلاً أم تحولوا لدراسة فروع علمية أخرى.  (أنظر الملحق).

ليس لدينا شك بأن وجود خبير اكتواري صاحب معرفة علمية وتدريب عالٍ في شركات التأمين يمكن أن يشكل نقلة نوعية في عمل هذه الشركات.  على سبيل المثل، يمكن التقليص من الركون إلى التجربة والخطأ في تحديد احتفاظات شركة التأمين، والاستفادة من هذه المعرفة المتخصصة، خارج قطاع التأمين، في دراسة التوقعات المستقبلية، والتغيرات في التركيبة السكانية، وصناديق التقاعد والضمان، واستثمارات الدولة وغيرها.[9]

يمكن النظر إلى موضوع الدراسة الأكاديمية للتأمين، وكذلك التدريب المهني المتواصل، على أنه جزء من عملية أو ميل لتحويل مؤسسة التأمين، كمؤسسة مفتوحة يمكن أن يعمل فيها أي شخص يحمل شهادة في العلوم الطبيعية والإنسانية وغيرها، كما هو الحال في الوقت الحاضر، إلى مؤسسة شبه مغلقة، في المدى الطويل، يقتصر العمل فيها على من له تخصص نظري أو عملي في التأمين أو ما يتعلق به.  وهذا الميل أو العملية هو ما يجري التأكيد عليها في أسواق التأمين المتقدمة، من خلال التدريب المهني المستمر للعاملين والعاملات وغيره، لإضفاء الصفة المهنية الاحترافية على العمل في قطاع التأمين.

ومع ذلك فإن قطاع التأمين لا يمكن له أن يستغني عن تخصصات أخرى كالعلوم الطبية والاكتوارية في التأمين على الحياة، والهندسة والإحصاء وخبراء الاستثمار والعاملين في إدارة الأفراد وتكنولوجيا المعلومات والحقوقيين وغيرهم.  ولذلك نشهد أن شركات التأمين وشركات وساطة التأمين تضم في كوادرها من درس التاريخ أو الفلسفة أو الجغرافية أو اللغة السويدية أو الروسية لكنه تدرَّب ليصبح "أستاذاً" في ممارسة الفرع التأميني الذي اختص به.

اعتماداً على معطيات واقع النشاط التأميني في العراق في الوقت الحاضر يمكن القول بأن التحول المُرتجى (تجديد دماء قطاع التأمين) سيستغرق زمناً طويلاً ما لم نشهد تطوراً كبيراً في حجم أعمال التأمين المكتتبة (مليار دولار على الأقل خلال سنة أو سنتين مع زيادة مدروسة لرأسمال شركات التأمين)، وفي استيعاب التأثيرات التكنولوجية الرقمية الهائلة التي تتسلل بقوة في إدارة المصانع والخدمات وما تجرّه من اختلالات في عمليات الإنتاج، لأسباب داخلية أو خارجية، وتعقيدات في التعامل مع مطالبات التعويض الناشئة عنها.  إضافة إلى ذلك، من الضروري تغيير سياسة الاستخدام في شركات التأمين العامة (وهي رب العمل الأكبر في قطاع التأمين) والتخلص من العمالة الفائضة، غير المنتجة، فيها والموجودة لأسباب غير فنية.

وفي تقديرنا، هناك إمكانيات بشرية واعدة في العراق، رغم قلتها وتناثرها، بحاجة إلى عناية وتطوير والاستفادة منها لوضع أسس التحول في دراسة التأمين في المؤسسات الأكاديمية والمهنية ولوضع برامج للتدريب المهني.  نخلص من هذا إلى أن حال مناهج دراسة التأمين يعكس الواقع الحقيقي للنشاط التأميني، ودليلنا على ذلك هو التطور النوعي في دراسة التأمين في حقبة ازدهار التأمين في سبعينيات القرن الماضي، والتدريب المهني الكثيف التي كانت المؤسسة العامة للتأمين (الملغاة) تقوم به لإعداد كوادر شركات التأمين، وكذلك التدريب خارج العراق وخاصة لدى شركات إعادة التأمين العالمية.  تُرى هل هناك الآن تعاون وتنسيق حقيقي بين شركات التأمين، ممثلة بجمعية التأمين العراقية، وبين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لدراسة مدى الحاجة إلى التخصصات التأمينية ولوضع خطة لتدريس مادة التأمين، وهل هناك سياسة وبرنامج وطني للتدريب؟[10]

مصباح كمال
16 أيلول 2017




ملحق
مشروع الدراسة الأكاديمية والمهنية للتأمين خارج العراق

سأروي حكاية، قد تكون مملّة لكنها تضمُّ، في رأي، بعض المعلومات المفيدة.

بتاريخ 4 كانون الأول 2011 علمت من إدارة شركة التأمين الوطنية أن مجلس الوزراء قد قام بتخصيص خمس عشرة بعثة دراسية إلى المملكة المتحدة للحصول على شهادة الماجستير في العلوم المتخصصة بالتأمين.  وقد سررت بهذا التطور وعبَّرت عن تمنياتي أن تتضافر الجهود لإنجاح الهدف المرتجى والحصول على المعارف العلمية المتخصصة بما يخدم الاقتصاد العراقي ويساهم في تطوير قطاع التأمين.

جاءت هذه المعلومة عقب تبادل رأي مع إدارة الشركة في لقاءات في لندن، واستلامي لدعوة من رابطة الأكاديميين العراقيين في المملكة المتحدة للاستجابة لرسالة وجهتها الملحقية الثقافية العراقية تطلب فيها تحديد التخصصات العامة والدقيقة لدراسة المبتعثين في الملكة المتحدة.  استجابة لهذه الدعوة اقترحت تخصيص بضع بعثات دراسية جامعية للحصول على شهادة الماجستير في العلوم الاكتوارية Actuarial Science والتأمين وإدارة الخطر Insurance & Risk Management وكذلك الدراسة المهنية للحصول على زمالة معهد التأمين القانوني (مركزه في لندن) Chartered Insurance Institute (CII) أو على شهادات أخرى يمنحها هذا المعهد.

سرّني أن الملحقية الثقافية تعاملت بإيجابية مع ما اقترحت وكتبت بتاريخ 13 كانون الأول:

وجه السيد المستشار الثقافي الدكتور عبد الرزاق عبد الجليل العيسى بأننا سنعمل للحصول على قبول للعدد الذي يحدد من قبلكم مع التخصص العام والدقيق.

ولكوني لست صاحب قرار في الموضوع أعلمت الملحقية الثقافية بما وردني من شركة التأمين الوطنية لتأخذ علماً به وإن تطلب الأمر التنسيق مع الملحقية خاصة إذا كانت شركة التأمين الوطنية ستساهم في تمويل بعضٍ من هذه البعثات الدراسية.  وبادرت بالكتابة إلى إدارة شركة التأمين الوطنية بتاريخ 19 كانون الأول 2011 مع نسخة لرئيس ديوان التأمين وكالة، مرفقاً نسخة من رسالتي إلى الملحقية الثقافية أدناه، مع رجاء لإعلامي إن كانت لدى الشركة أية ملاحظات أو إضافات لخدمة مشروع تطوير الدراسة الأكاديمية والمهنية للتأمين.

الأعزاء في الملحقية الثقافية

تحية طيبة

التقيت يوم أمس مع السيد صادق الخفاجي، المدير العام ورئيس مجلس إدارة شركة التأمين الوطنية، وأعلمني أن البعثات الدراسية التي أقرتها وزارة المالية ووافق عليها مجلس الوزراء لا تشمل العلوم ذات العلاقة بالتأمين، وانه بصدد ترتيب إجازات دراسية، بالتنسيق مع شركة التأمين العراقية وشركة إعادة التأمين العراقية، لعدد من العاملين في الشركات الثلاث لدراسات عليا (ماجستير) في المملكة المتحدة.  وقد فهمت منه بأن الوزارة معنية باختصاصات أخرى تقع خارج دائرة التأمين.

وقد اقترحت عليه أن تكون الإجازات الدراسية فيما يخص الدراسة الجامعية مقتصرة على العلوم الاكتوارية وإدارة الخطر على أن يقترن ذلك بدراسات ذات طابع مهني توفر مهارات آنية عملية إضافة إلى المعرفة القانونية والإدارية والمبادئ والممارسات التي تنتظم فروع التأمين المختلفة.  ويمكن أن تتخذ الدراسة المهنية شكل الدراسة للحصول على زمالة معهد التأمين القانوني (مركزه في لندن) Chartered Insurance Institute (CII) أو على شهادات أقل درجة من الزمالة.  حملة هذه الشهادات سيعملون، كما أرى، في قطاع التأمين العراقي الذي يتحمل تكاليف الدراسة.

واقترح عليكم العمل على تخصيص بضع بعثات دراسية جامعية للحصول على شهادة الماجستير في العلوم الاكتوارية Actuarial Science والتأمين وإدارة الخطر Insurance & Risk Management، وكلتاهما متوفرتان في لندن وخارجها.  حملة شهادة العلوم الاكتوارية يمكن أن يعملوا في وزارة المالية، وزارة التخطيط، الضمان الاجتماعي، صندوق التقاعد، استثمارات الدولة والمجالات الأخرى التي تقوم على الاحتمالات والتوقعات المستقبلية.  وبالطبع يمكن أن يعملوا في شركات التأمين أيضاً وبخاصة في حقل التأمين على الحياة.

وقد يكون من المناسب قيامكم بالتنسيق المباشر (أو عن طريق وزارة التعليم العالي) مع شركة التأمين الوطنية، شركة التأمين العراقية وشركة إعادة التأمين العراقية (وكلها تابعة للدولة) أو من خلال ديوان التأمين العراقي (جهاز الإشراف على نشاط التأمين التابع لوزارة المالية) فيما يخص دراسة التأمين وإدارة الخطر لتعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة لتمويل الدراسة الجامعية الأولية والعليا.

آمل أن تكون هذه الملاحظات مفيدة.

مع التقدير.

مصباح كمال

لم يردني أي رد من الملحقية الثقافية.  تبادلت بعض الرسائل مع إدارة شركة التأمين الوطنية بشأن الدراسة الاكتوارية لكن التواصل توقف ولم أشأ أن أكون مصدراً للإزعاج.  علمت فيما بعد أن عدداً من طلبة البعثات يواصلون دراسة الماجستير في بريطانيا، واكتشفت أن البعض منهم ليس له معرفة كافية باللغة الإنجليزية، ومجال الدراسة بعيد عن إدارة الخطر أو العلوم الاكتوارية.  ربما تم اختيارهم دون توفرهم على المؤهلات الأساسية المطلوبة للدراسة في الخارج، وليس هذا بغريب على معظم الحكومات العراقية منذ 1968 وحتى الوقت الحاضر مع استثناءات قليلة.

إذا كان قطاع التأمين مفتقراً إلى سياسة، تخطيط، لدراسة التأمين على مستويات مختلفة وبرنامج للتدريب المهني، داخل وخارج العراق؛ وإذا كان حاجته لموظفات وموظفين بمؤهلات تعليمية مناسبة ليس محدداً كيف يتسنى للمؤسسات التعليمية والبحثية، الأكاديمية والمهنية، إعداد المناهج التخصصية؟  لكن هذا الحال هو من حال العراق.

يذكر الأستاذ عبد الباقي رضا في رسالة لي حكايته عندما رُشح، بعد تخرجه عام 1955 من كلية التجارة والاقتصاد، لبعثة تحت عنوان (محاسبة التأمين) لدراسة الماجستير في الولايات المتحدة الأمريكية.

وحين كلف مترجم الوزارة لترجمة هذا العنوان والطلب من الملحق الثقافي في واشنطن الحصول على قبول لي لدراسة هذه المادة، ظهر أن الجهة التي طلبت هذا التخصص هي (دائرة العمل والضمان الاجتماعي) فكتبت وزارة المعارف إليها تسأل عن طبيعة هذا التخصص فجاء الجواب (دراسة المحاسبة بصورة عامة ومحاسبة التأمين بصورة خاصة).  بناء عليه طلبت الوزارة من الملحق الثقافي الحصول على قبول في إحدى الجامعات لدراسة (Accounting & Insurance).  التحقت بالجامعة في ايلول 1957 فأخبرني الأستاذ المختص بأن دراسة المحاسبة في الـ postgraduate يكون في إدارة الأعمال.  وحيث أن الملحقية الثقافية العراقية طلبت أن أدرس التأمين إضافة إلى الدراسة العليا في المحاسبة فإن عليَّ تلقي دروس في التأمين في مرحلة البكالوريوس.  هكذا بدأت بدراسة التأمين على الحياة صباحاً والدراسة العليا في المحاسبة مساءً.

انتهى الفصل الأول وكان عليَّ مواصلة دراسة التأمين في الفصل الثاني فكانت المادة (تأمين الحريق والحوادث).  حين بدأت دراسة هذه المادة استغربت من علاقة هذه المادة بالعمل والضمان الاجتماعي فراجعت استاذي حوله فسأل عن الجهة التي عينت تخصصي وحين أخبرته انها (العمل والضمان الاجتماعي) كان رد فعله العجيب هو O boy you are on the wrong track! وان الاختصاص المطلوب لهذه الدائرة هو علم آخر اسمه actuarial science وهذا الاختصاص غير موجود في جامعتنا وان خلفيتي الأكاديمية لا تساعد في متابعة التخصص الذي يتطلب رياضيات وليس محاسبة.

عدت إلى بغداد في أيلول 1959 وراجعت العمل والضمان الاجتماعي فرحبوا بي للتعيين محاسباً في أحد فروعها، ولدى مراجعة الإدارة العامة لمعرفة حقيقة التخصص المطلوب واستخراج اولياته وجدنا تقريراً من خبير أمريكي يقول ان الدائرة بحاجة إلى actuary وترجمت الكلمة إلى (محاسب تأمين) كما في قاموس أنطون إلياس أنطوان.

هكذا أُخفقت أول محاولة لتزويد العراق بخبير اكتواري وحتى الآن يخلو العراق منه![11]


مصباح كمال
16 أيلول 2017



[1] مروان هاشم القصاب، مقالات في التأمين وإعادة التأمين في العراق (مكتبة التأمين العراقي، ط2، 2014)، ص 26-40.  الكتاب متوفر عندي بصيغته الإلكترونية (بي دي إف) يمكنني إرسال نسخة منه لمن يرغب.
[2] جمال عبد الرسول غانم (إعداد)، فهارس بحوث الدبلوم العالي في إدارة التأمين (بغداد: وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مؤسسة المعاهد الفنية، معهد الإدارة/الرصافة، قسم إدارة التأمين، 1983)، ص 1.

[3] د. جمال عبد الرسول غانم، مصدر سابق، ص 2.
[4] المصدر نفسه، ص 1.

[5] أ. د. محمد الربيعي" "لمن تقرع الأجراس ... للتعليم الأكاديمي أم التعليم المهني؟" شبكة الاقتصاديين العراقيين:

[6] مروان القصاب، مصدر سابق، ص 31-32.

[7] لا تتوفر لدينا معلومات عن دراسة التأمين في إقليم كردستان-العراق.
لم نطلع على أطروحات الماجستير في المعهد العالي للدراسات المالية والمحاسبية لنكوّن رأياً عنها وهل أنتجت معرفة علمية أم اجتراراً مهذباً لما هو متوفر من معرفة تأمينية.

[8] سليم الوردي، إدارة الخطر والتأمين (بغداد، د.ن، 1999)، ص 4-5.  النسخة الإلكترونية (مكتبة التأمين العراقي، 2016)، ص 10-11، متوفرة في المكتبة الاقتصادية لشبكة الاقتصاديين العراقيين:

[9] من المؤسف، وحسب علمنا، أن الدولة في العراق لا تضمّ دائرة لخبير اكتواري ليساعد أصحاب القرار في رسم السياسات اعتماداً على تحليلات علمية.  للتعرّف على مثل هذه الدائرة في المملكة المتحدة Government Actuary’s Department راجع:

[10] هناك حاجة لدراسة اقتصاديات ربط التعليم الجامعي والمهني في مجال التأمين مع حاجة قطاع التأمين.  يمكن لجمعية التأمين العراقية البدء بمثل هذه الدراسة أولاً تمهيداً للدراسة المشتركة.

للتعرّف على دور ديوان التأمين وجمعية التأمين العراقية وسياسة التدريب وبعض إشكاليتها أنظر: مصباح كمال، "التدريب المهني بين الجمعية والديوان: ملاحظات أولية،" مرصد التأمين العراقي:

[11] عبد الباقي رضا، رسائل في السيرة الذاتية والتأمين (عنوان مقترح لكتاب غير منشور يضم مجموعة من رسائل الأستاذ عبد الباقي رضا)، ص 21-22.  الرسالة مؤرخة في 22 تموز 2011.

2017/09/20

Is there a cost to the economy in the absence of insurance?

هل هناك تكلفة للاقتصاد عندما يكون التأمين غائباً؟  ملاحظات أولية


مصباح كمال

نشر المقال أصلاً في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين


مقدمة

أُثير هذا السؤال معي قبل بضع سنوات من قبل أحد زملائي في الشركة التي كنت أعمل فيها كجزء من دراسة كان يعدّها لدائرة رسمية في إحدى الدول العربية تعمل على إدخال أشكال جديدة من التأمين، وخاصة في مجال المسؤوليات التي تمسُّ الناس والمجتمع.  وقتها كتبت ملاحظاتي باللغة الإنكليزية، كما طُلب مني.  وقد استهديت مؤخراً إلى هذه الملاحظات أثناء البحث في موضوع آخر، وبعد قراءتي السريعة لها وجدت أنه من المفيد أن أكتبها باللغة العربية لعلني بذلك أفتح "شهية" بعض المهتمين بالشأن التأميني لعرض أفكارهم النقدية عنها.

أبقيت على الإطار العام ومقترب تناول الموضوع كما كان في الأصل الإنكليزي مع بعض الإضافات.  أرجو أن تقرأ هذه الملاحظات كمحاولة أولية للاقتراب من الموضوع.

استطراد

لا أظن بأن هذا السؤال قد أثير في سوق التأمين العراقي أو لقى اهتماماً عميقاً من المعنيين بالنشاط التأميني في العراق.  وقد يعود ذلك لضآلة الدور الذي تلعبه مؤسسة التأمين في الاقتصاد وفي الحياة العامة وطغيان الريع النفطي على الخطاب الاقتصادي.[1]  وفي العادة يثار السؤال عندما تحصل كوارث طبيعية أو بشرية في بلد ما لتقدير آثارها على الاقتصاد الوطني.  فالمعروف أن الكوارث الطبيعية، الجسيمة في حجم الأضرار والخسائر التي تحدثها، تجلب معها أثاراً اقتصادية سلبية في المدى القصير (سنتين أو أكثر بقليل)، مثلما تجلب أيضاً آثاراً سلبية في المدى الطويل على النمو الاقتصادي والتنمية.  وهناك آراء تقول بأن الآثار السلبية لمثل هذه الكوارث هي ليست دائماً حتمية وخاصة في البلدان التي تشهد تحولات اقتصادية متمثلة بالنمو السريع، والتوسع الحضري وما يرتبط بهذا التحضر من تغيرات تقنية واجتماعية (ولكل هذا آثار على الطلب على حماية التأمين في أعقاب الكوارث، مثلما يساهم التأمين، في حالة وجوده قبل الكوارث، في التعويض عن آثارها).  وهناك من يقول بأن الكوارث الطبيعية تعمل لصالح النظام الرأسمالي.[2]

ومع ذلك فإن تكلفة غياب التأمين للاقتصاد الوطني لا ينحصر في وقوع الكوارث الطبيعية كما سنحاول تبيانه في الملاحظات التالية.  إن هذه الملاحظات ليست شاملة ولا تستنفد ما يمكن للتحليل الاقتصادي أن يقدمه.



ملاحظة عامة حول بعض الآثار الاقتصادية لغياب التأمين

إن شركات التأمين، جنبا إلى جنب مع صناديق المعاشات التقاعدية والصناديق التبادلية، هي واحدة من أكبر المؤسسات الاستثمارية في أسواق الأسهم والسندات والعقارات ومن المتوقع أن تأثيرها المحتمل على التنمية الاقتصادية ستزداد بدلا من الانخفاض بسبب ظهور بعض الظواهر الحديثة كتزايد عدد المسنين وخاصة في المجتمعات الغربية (مما يتطلب تكوين صناديق أكبر للمعاشات التقاعدية والبحث عن أنماط جديدة للاستثمار والمحافظة على قيمة الأموال المتراكمة من التآكل بسبب التضخم النقدي والتقلبات في أسعار العملات الصعبة).

ويعتبر التأمين في اقتصادات الدول الغربية المتقدمة حجر الزاوية في الاقتصاد فهو الذي يسدد، على سبيل المثل، تكاليف المحامين والمحاكم والمحكمين (في حالات التنازع على الحقوق والالتزامات بين أطراف عقد التأمين)؛ وتكاليف العناية الصحية والعمليات الجراحية (عند وقوع حوادث تؤدي إلى إصابات بدنية، أو عندما يتعرض المؤمن عليه لمرض يستدعي المعاينة والعلاج)؛ وتكاليف تصليح الأضرار واستبدال المكائن وخسارة الإيراد (عندما يتعرض مصنع لحريق أو انفجار أو ينهار مشروع قيد الإنشاء أو قيد الاختبار) ...الخ.[3]

هذا على مستوى الأفراد والشركات (الطلب على التأمين)، ولكن التأمين هو جزء من القطاع المالي ويمكن أن يكون له تأثيراً هاماً على النمو الاقتصادي، فقد بينت بعض الدراسات التجريبية، التي تعتمد على عينات كبيرة من البلدان في الستينيات إلى الثمانينيات، أن تنمية القطاع المالي، بضمنه التأمين، يمكن أن يكون له تأثيراً اقتصادياً هاماً على النمو.[4]  في واحدة من هذه الدراسات قام كاتبيها بتحليل المجالات المختلفة التي يظهر فيها تأثير قطاع التأمين على النمو الاقتصادي: [5]
تحويل الأعباء المالية للمخاطر (تَحمُّل قطاع التأمين للمخاطر نيابة عن أشخاص اقتصادية أخرى وبما يساعد هؤلاء على تحقيق استقرار في تدفق إيراداتهم، وتقليل التقلبات في هذه الإيرادات، ودعم نشاطهم الاقتصادي وبالتالي النشاط الاقتصادي العام من خلال الترابطات بين الكيانات الاقتصادية).

توفير مدخرات بديلة (من خلال توسيع نطاق الاستثمار الذي من شأنه أن يزيد من فعّالية الوساطة المالية وبالتالي يساعد في النمو الاقتصادي).

الاستثمار (التوظيفات الرأسمالية في أعيان مادية أو أسهم وسندات، وبالتالي المساهمة في زيادة الحجم الإجمالي للاستثمار وتعميق أسواق رأس المال).

مجالات النفوذ المؤسسية (كالتأمين عبر المصارف).

مع ملاحظة أن قطاع التأمين يخضع لإشراف الأجهزة الرقابية المتخصصة والقواعد القانونية، وهذه تؤثر على استثماراتها وأشكال الاستثمار.

وهكذا عندما يكون التأمين غائباً، فإن أثره الاقتصادي سيتخذ شكل انخفاضٍ في الاستثمار، وبالتالي يؤدي إلى نمو أقلّ للاقتصاد.

التكلفة المباشرة للاقتصاد والمجتمع: مثال عدم التأمين على المسؤولية المهنية

ما هي التكلفة المباشرة للاقتصاد والمجتمع عندما لا تقوم الشركات والتنظيمات الأخرى بإجراء التأمين، على سبيل المثل، من أخطاء المسؤولية المهنية أو ترتيب حماية تأمينية كافية من هذه المسؤولية[6] آخذين بنظر الاعتبار حجم الانفاق الكبير على شراء التأمين من المسؤولية؟  في عام 2013 شكَّل هذا الانفاق في سوق لندن، على سبيل المثل، حوالي 16% (2,855bn باون) من إجمالي أقساط التأمين (17,445bn) المكتتبة من قبل شركات التأمين.[7]

إن التأثير الرئيسي لعدم شراء هذا التأمين أو عدم كفاية ما يُشترى منه هو أن هذه الشركات قد لا تستطيع أن تصمد أمام المطالبات القانونية بالتعويض التي قد تجابهها بسبب أخطاء مهنية، خاصة إذا كانت هذه الشركات حديثة النشأة أو في مراحلها الأولى من التطور، والمطالبات القانونية ضدها كبيرة.  فالشركة غير المؤمن عليها (الشركة التي لا تشتري التأمين) أو الشركة ذات التأمين الناقص (الشركة التي لا تشتري تأميناً كافياً) تُعرّض نفسها وبشدة للخطر (إضعاف قاعدتها المالية) عند وقوع حادث وقيام مطالبة ضدها لا تستطيع مواجهة أعبائها المالية (أي التعويض عنها) ويعيق قدرتها على القيام بأعمالها بشكل اعتيادي أو حتى إنهاء وجودها بالمرة.

لذلك من المرجَّح أن تتوقف الشركة نهائياً عن العمل إذا وقع حادث خطير دون أن يكون لديها تغطية تأمينية كافية، أو إذا توقفت الشركة عن العمل ولا توجد وسيلة لدى المُطالب بالتعويض، أي الشخص الثالث المتضرر، للحصول على تعويض من الشركة.  لذلك يمكن لهذه الحالة أن تؤدي إلى نتيجة/نتائج غير مباشرة، تأثير الدومينو، وهي أن الطرف المتضرر ربما لن يسعى إلى تعيين محامين/ممثلين قانونين له للمطالبة بحقوقه بالتعويض عمّا أصابه بسبب نشاط الشركة، كما أن الطرف المتضرر ربما لن يتمكن من التماس العلاج الطبي إذا لم يكن بمقدوره تحمّل مصاريفه.  وبالتالي فإن الطرف المصاب سيصبح أقل إنتاجية مما يؤثر على عمله وربما قدرته على كسب رزقه.

وتسعى المؤسسات المهنية للحصول على الحماية التأمينية لأعضائها لأن أنشطتها تؤثر على الناس والممتلكات.

يمكن التكهن بأن الناتج المحلي الإجمالي سيعاني انخفاضاً في حالة عدم وجود تأمين، وبالتالي فإن غياب التأمين من المسؤولية المهنية (وفروع تأمينية أخرى) سيؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي.  هناك إذاً أثر سلبي، سواء أكان اجتماعياً أو اقتصادياً، في حالة عدم شراء التأمين أو عدم توفره أو عدم كفايته.

التكلفة الاقتصادية لغياب التأمين بوجه عام

إضافة إلى ما أوردناه أعلاه بشأن التأمين من المسؤولية المهنية، يمكن توسيع نطاق النظر في التكلفة الاقتصادية لغياب التأمين من مسؤوليات أخرى كالمسؤولية الناشئة من المنتجات والمسؤوليات البيئية.  فأنشطة الشركات، العامة أو الخاصة، لها تأثير على الناس والممتلكات والبيئة.  والمسألة هنا هي كيفية قياس التكلفة التي يتعين على الاقتصاد الوفاء بها في غياب التأمين.

إن الشركات الرأسمالية تشتري حماية التأمين لتمويل:

§       التلف أو الضرر المادي الذي قد تلحق بأصولها المادية
§       خسارة الدخل (توقف العمل) نتيجة حادث عرضي
§       المسؤولية القانونية تجاه الغير الناشئة من نشاط الشركة

وذلك لضمان البقاء كمؤسسة عاملة وضمان استمرارية الأعمال.  وفي غياب شركات التأمين، على الشركات أن توفر الوسائل المناسبة لتمويل الخسائر المحتملة.  وقد تشمل هذه الوسائل (1) إيرادات التشغيل، ولكن إذا كانت الخسارة كبيرة فإن هذه الإيرادات لن تكون كافية لتمويل أعمال تصليح واستبدال المكائن والمعدات والمباني لتحقيق هذا الهدف.  (2) بدلاً من ذلك، قد تلجأ الشركات إلى الاقتراض من المصارف ولكن القروض قد لا تكون متاحة بسهولة أو متاحة ولكن بشروط صارمة ومكلفة.  وعلى أي حال، فإن الشركة التي تعاني من خسارة جسيمة كبيرة في الممتلكات والدخل لن تكون عميلاً جذاباً للإقراض.  (3) ومن ناحية أخرى، يمكن تخصيص صندوق خاص لتغطية تكاليف تمويل الخسارة، أو اللجوء إلى التأمين الذاتي أو تأسيس شركة تأمين مقبوضة.

وقد تمَّت تجربة هذه الحلول كبديل للتأمين في دول عديدة ولكن من الأنسب، اقتصادياً ومن منظور التوفير في التكاليف، نقل عبء الخسارة إلى شركة تأمين مقابل دفع قسط (كلفة معلومة ابتداءً في معظم الحالات يمكن إدراجها في ميزانية الشركة).

إن شركات القطاع العام لا تختلف عن الشركات الخاصة في تعرّضها للخسائر والالتزامات التي تواجهها.  وهذا هو السبب في أنها تلجأ أيضاً إلى التأمين التجاري والتأمين الذاتي (من خلال شركة تأمين تبادلية لتأمين الممتلكات والمسؤوليات القانونية، كما هو الحال مع البلديات في بعض البلدان).



غياب التأمين وإمكانية تعرض الاقتصاد إلى تكاليف مختلفة

في حالة عدم وجود حماية تأمينية، يتعين على أولئك الذين يعانون من نتائج الخسارة (المنتجات المعيوبة، والأضرار البيئية وغيرها) اللجوء إلى المحاكم للمطالبة باسترداد تكاليف هذه الخسارة من مسببها.  ويمكن للشركات الخاصة أن تقوم بتسوية مطالبة الطرف المتضرر بالتراضي دون اللجوء إلى المحاكم، أو من خلال التحكيم، أو ينتهي الأمر، عند عدم توفر السيولة أو فائض في الدخل لتعويض المتضررين، إلى وضع الشركة تحت إدارة قيِّم أو التصفية.

في حين يتعين على المؤسسات والشركات العامة، عند غياب التأمين، أن تدفع التعويضات من ميزانياتها العادية أو أن تطلب من خزانة الدولة (وزارة المالية) تمويل التزاماتها تجاه أطراف ثالثة.  وفي الواقع، فإن هذا الوضع يستلزم تحويل الموارد المالية، التي ربما تكون شحيحة، التي تُنفق على الأشغال العامة، والرعاية الاجتماعية، والاستثمارات الإنتاجية الأخرى، لتعويض المتضررين.  وهذا شكل من أشكال الخسارة للاقتصاد.

وبالمثل، عندما لا يكون هناك تأمين، فإن الأخطار الطبيعية والبشرية التي تسبب أشكالاً مختلفة من الأضرار بالممتلكات العامة (المباني والمصانع الطرق والجسور وغيرها من المنشآت) تتطلب إعادة البناء أو الإصلاح التي يجب أن تُموّل تكاليفها من قبل السلطات المحلية أو المركزية.  وهذا استنزاف للمالية العامة يمكن الحد منه والتخفيف من آثاره من خلال التأمين.

وفي حالة عدم وجود تأمين (أي عندما لا يوجد طلب على منتجات التأمين)، تتقلص محفظة الاكتتاب لشركات التأمين، وبالتالي فإن الأموال (الأقساط المتراكمة) التي ستكون متاحة لأغراض الاستثمار تأخذ بالتقلص.  وبالتالي فإن دور شركات التأمين كوسيط مالي سيضعف أو يتوقف ومن ثم سيتأثر نمو الاقتصاد.

إضافة إلى ذلك، عندما يتقلص حجم أقساط التأمين لدى شركات التأمين، ستتقلص بالنتيجة الضرائب والرسوم (ضريبة الدخل، الضريبة المفروضة على أقساط التأمين، رسم الطابع) التي تقوم وزارة المالية بجبايتها من هذه الشركات.

ومن شأن انخفاض الطلب على التأمين وبالتالي تقلّص الإنتاج في شركات التأمين أن يؤدي إلى تقليص الطلب على عمالة جديدة لا بل التخلص من أي عمالة فائضة عن الحاجة في هذه الشركات.  هذا الوضع يزيد من تكلفة إعانات البطالة والرعاية الاجتماعية للمسرَّحين من العمل.

ومن أجل احتواء أوجه التكاليف الاجتماعية الخارجية external diseconomies الناشئة من النشاط الصناعي والتجاري، تتدخل الدولة لوضع حدود وضوابط، على سبيل المثال، على التلوث الذي تنتجه الشركات الصناعية وغيرها.  وتتدخل الدولة أيضاً في جعل بعض التأمينات إلزامياً بسبب هذه التكاليف الخارجية؛ يعني هذا تحويل عبء التعامل مع التلوث على المسبب.

ماذا يعني غياب التأمين للاقتصاد سؤال كبير بحاجة إلى من يبحث فيه على المستوى النظري، وتقدير تكاليف هذا الغياب على الاقتصاد الوطني.

20 أيلول 2017



[1] حاولت دراسة التأمين في الكتابات الاقتصادية العراقية وإبراز بعض الجوانب الاقتصادية لمؤسسة التأمين في كتابي التأمين في الكتابات الاقتصادية العراقية (مكتبة التأمين العراقي، 2014).  الكتاب متوفر في المكتبة الاقتصادية لشبكة الاقتصاديين العراقيين:

[3] هذا العرض السريع لا يستفد دور قطاع التأمين في الاقتصادات الغربية كوسيط مالي، وكممول غير مباشر للتقدم العلمي والتكنولوجي ويكفي أن نذكر كمثل تأمين مشاريع تطوير وإطلاق الأقمار الصناعية.
[4] Peter R. Haiss and Kjell Sümegi, The Relationship of Insurance and Economic Growth - A Theoretical and Empirical Analysis, Emprica, Journal of Applied Economics and Economic Policy, Vol. 35, No. 4, pp. 405-431, 2008

وقد تناولنا دور الأصول المالية والوساطة المالية لشركات التأمين في فصل من كتابنا التأمين في كوردستان العراق: دراسات نقدية (مكتبة التأمين العراقي، 2014)، ص 12-33.
[5] Haiss and Sümegi, op. cit.

[6] اختيار تأمين المسؤولية المهنية كان ضمن ما طلب مني التعليق عليه. يمكن تطبيق التحليل على فروع أخرى كالتأمين على مصنع من خطر الحريق.
[7] International Underwriting Association of London, London Company Market Statistical Report, October 2014.
الأرقام والنسب التي أوردناها لا تضم إحصائيات سوق لويدز.