إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2022/03/18

Insurance and Religions

 

جان-بيير دانيال:* السياق الثقافي الأوسع للتأمين: التأمين والأديان

The Broader Cultural Context of Insurance: Insurance and Religions

 by Jean-Pierre Daniel*

 

ترجمة مصباح كمال

 

نشر النص الأصلي لهذا المقال في مجلة أوراق جنيف حول الخطر والتأمين

The Geneva Papers on Risk and Insurance Vol. 28 No. 1 (January 2003) 102–110 # 2003 The International Association for the Study of Insurance Economics. Published by Blackwell Publishing, 9600 Garsington Road, Oxford, OX4 2XG, UK.

 https://link.springer.com/content/pdf/10.1111/1468-0440.00212.pdf

 نشرت الترجمة العربية في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

جان-بيير دانيال:* السياق الثقافي الأوسع للتأمين: التأمين والأديان – شبكة الاقتصاديين العراقيين (iraqieconomists.net)

 http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2022/03/Religion-and-Insurance-in-the-Broader-Cultural-Context-IEN-2.pdf

 

 

لمن يقرأ هذا النص المترجم عليه أن يأخذ بعين الاعتبار أنه نشر سنة 2003، وأن بعض معلومات كاتب النص الأصلي فيما يخص نشاط التأمين في البلاد العربية والإسلامية تعوزها الدقة.

 

للتعرف على موقفنا تجاه موضوع الدين والتأمين يمكن الرجوع إلى كتابنا مواقف دينية تجاه التأمين: مقاربات نقدية (مكتبة التأمين العراقيـة، 2021) وتلخيصنا للموقف، ص 5-13.

 

جميع الهوامش من وضع المترجم وكذلك العبارات المحصورة بين أقواس مربعة.

 

12 آذار 2022

 

*******

 

ما هي الأرضية المشتركة التي يمكن أن تكون بين الأديان، التي تعتمد على الروحانية الفردية، والتأمين، وهي آلية مالية واكتوارية تندرج في مجال الاقتصاد؟  ربما يكون هناك أكثر مما يبدو واضحًا على الفور، إذا أخذ المرء بنظر الاعتبار أن شركة التأمين تتعامل مع أربع مواد أولية، الزمن وعمر الإنسان، المال وقانون المتوسطات، التي لم تكن الأديان أبدًا غير مبالية بها.

 

إن ملاحظة مستويات اختراق التأمين في البلدان التي يتم تحديد ثقافتها جزئيًا بالرجوع إلى دين مُهيمن تشجع على متابعة هذا التحليل.

 

عندما تحاول شركات التأمين حساب الفروق في مستويات انتشار التأمين بين البلدان المختلفة، فإنها تستدعي العوامل الاقتصادية والثقافية.  العوامل الاقتصادية واضحة، إذ يعتبر التأمين بطبيعته نشاطًا ثانويًا: فلا يمكن التأمين على الأصول ما لم تكن موجودة، وبالتالي يجب على رجال الأعمال بناء المصانع والمستودعات والطائرات لتمكين شركات التأمين من ممارسة تجارتهم.  ما يثبت هذا التفسير البسيط هو حالة التأمين على الممتلكات، ونموذجه الأولي هو التأمين من الحريق، وكذلك في التأمين من المسؤولية.  إن تعقيد الحياة الاقتصادية، ورفض اللايقين - وهو بالفعل موقف ثقافي - يستلزم وجود بوالص تأمين ضد الخسارة أو الضرر الذي يلحقه الفاعل الاقتصادي بآخر.  التوسع الاقتصادي هو أيضًا عامل حاسم في بوالص التأمين على الحياة، وهي ترتبط بطبيعتها وبشكل أكبر بعمليات الادخار، وتعتمد بوالص التأمين على الحياة على حقيقة أن الأفراد العاديين لديهم المال للادخار أو تحويله إلى عائلاتهم ويريدون الاستعداد للتقاعد أو ضمان الموارد لأحبائهم عند وفاتهم.

 

تمثل أقساط التأمين الآن [2003] 8.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة، و 8 في المائة في فرنسا، ولكن ما يزيد قليلاً عن 2 في المائة في اليونان و 1 في المائة فقط في تركيا.  ويؤكد الاقتصاديون، على الرغم من أن هذه ليست حجة نتبناها هنا، أن نمو التأمين أكثر تناسبًا مع نمو الاقتصاد بشكل عام، وهذا يفسر الانحرافات الكبيرة [في حجم الأقساط المكتتبة] بين الولايات المتحدة وفرنسا، من ناحية، و اليونان وتركيا من ناحية أخرى.

 

بالإضافة إلى التفسير الاقتصادي، فإن العامل الآخر الذي يُسهّل فهم مستويات الاختراق [التأميني]penetration levels  المختلفة هو الجانب الثقافي.  يخبرنا المحترفون أن بيع التأمين، ولا سيما التأمين على الحياة، لأحد الأفراد في جنوب إيطاليا أصعب بكثير من إقناع هولندي أو إنجليزي.  الدول الإسلامية، التي يحرم بعض قوانينها بيع بوالص التأمين وفقًا للمبادئ المطبقة تقليديًا في الغرب، تتذرع بهذه القوانين.  هنا، مرة أخرى، يمكن استخلاص العديد من الدروس من تحليل الأرقام إذ لا يمكن تفسير الاختلافات في نمو التأمين على الحياة بالعوامل الاقتصادية وحدها.  لضمان ملاءمة هذه الملاحظة، يجب تنحية السنوات الأخيرة من القرن العشرين جانبًا، حيث تغلغلت البنوك بشكل متزايد في سوق التأمين على الحياة، وبالتالي طمست الصورة التقليدية لبوالص التأمين على الحياة وإضافة بُعد مالي.

 

لإجراء مقارنة صحيحة إحصائيًا، يجب أن نعود إلى عام 1986، أي قبل ظهور التأمين عبر المصارف bancassurance، الذي طرح منتجات التي جاء تشابهها مع عقود التأمين فقط في ميزات مالية مماثلة [لما توفره هذه العقود].  ويمكن ملاحظة أنه في ذلك التاريخ، خصص الأمريكيون 3.5 في المائة من ناتجهم المحلي الإجمالي للتأمين على الحياة ، والإسبان 0.45 في المائة والإيطاليون 0.40 في المائة.  وخصصت فرنسا 1.83 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي للتأمين على الحياة.  بالتأكيد، اختلفت مستويات النمو الاقتصادي في هذه البلدان، ولكن من الواضح أن الفارق بين الولايات المتحدة وإسبانيا أو إيطاليا لم يكن 7 إلى 1، والفرق بين فرنسا وجيرانها الجنوبيين لم يكن 4 إلى 1.  وللحصول على صورة أكثر شمولاً، يمكن أن نضيف أنه في ذلك التاريخ، خصصت تونس 0.1 في المائة فقط من ناتجها المحلي الإجمالي للتأمين على الحياة.

 

لذلك، لا يمكن القول بأن الاقتصاد مسؤول عن كل شيء.  فالعوامل الثقافية تلعب دورًا ويمكن لذلك أن ندرك أن ارتباط التأمين بالدين أمر بالغ الأهمية.  أولاً، لأننا نعلم منذ ماكس فيبر Max Weber [1864-1920] أن البروتستانت قد تبنوا موقفًا مختلفًا تجاه الثروة من الكاثوليك.[1]  وثانيًا، لأن الأديان الأربعة[2] الرئيسية الموجودة في ذلك الجزء من العالم تظهر سلوكيات مختلفة تجاه التأمين والمفاهيم التي يقوم عليها.

 

الكتاب المقدس يدين التأمين

 

يُعَدُّ وجود هذه الاختلافات أمرًا مثيرًا للاهتمام نظرًا لأنه وفقًا للكتاب المقدس تمامًا، والذي يشكل نقطة البداية أو الإلهام للأديان الرئيسية الأربعة، يمكن للمرء أن يتوقع تحريمًا صريحًا على جميع أنواع التأمين.  تنبع إدانة التأمين من مبدئين، ورد في العهدين القديم والجديد.

 

المبدأ الأول والعام هو أن الله سيوفر كل شيء.  يمكن الاستنتاج بسهولة [اعتمادًا على هذا المبدأ] أنه لا يجب على الإنسان بالتالي أن يهتم بمستقبله الدنيوي.  فالله يعرف الاحتياجات المادية للإنسان وسيوفر الموارد اللازمة للإنسان ليعيش حياة صحيحة على الأرض.  ومن ثم، عندما كان العبرانيون في الصحراء، أرسل لهم الله المَنَّ manna كل يوم ولم يكن لديهم ما يدعو للقلق بشأن أي شيء.  فالواهب هو الله.  ويتم أخذ هذا المبدأ إلى أبعد من ذلك عندما نقرأ، أيضًا في سفر الخروج، أنه عندما أصاب العبرانيون القلق بشان المستقبل، وضعوا المن جانباً من يوم واحد لليوم التالي، أرسل الله الديدان لتلوث طعامهم، الذي تعفن على الفور.  وهكذا يُعاقب الناس على افتقارهم إلى الإيمان.  تبنى الإنجيليون Evangelists هذا المفهوم وقامت الديانات المسيحية المختلفة بتفسير دقائق الفروق في المفهوم، والتي تمسكت جميعًا بمعتقد متجذر في الإيمان المطلق بالله في جميع الأمور.

 

إلى جانب هذه النظرة إلى الإله الحامي الذي، على الرغم من أنه يفرض [على المؤمنين] التجارب التي يصعب تحملها، إلا أنه لا ينسى أبدًا أطفاله ويُغذّيهم عند الضرورة، يمكن اعتبار تحريم إقراض المال بفائدة حقيقة عرضية، مستمدة مباشرة من السياق الاقتصادي الذي صدر فيه المبدأ.  على الرغم من أنه يحمل طابع أصوله التاريخية، إلا أن هذا التحريم كان له تأثير كبير، وسمَ الفكر الاقتصادي لمدة 2000 عام.  إن تحريم الربا usury معروف وأثَّر على جميع المهن المالية منذ أول نشأتها: وتأتي الأعمال المصرفية في المقام الأول، ويأتي التأمين كنتيجة غير مباشرة.

 

إِنْ أَقْرَضْتَ فِضَّةً لِشَعْبِي الْفَقِير[3] الَّذِي عِنْدَكَ فَلاَ تَكُنْ لَهُ كَالْمُرَابِي. لاَ تَضَعُوا عَلَيْهِ رِبًا. (سفر الخروج، 22: 25)[4]

 

لِلأَجْنَبِيِّ[5] تُقْرِضُ بِرِبًا، وَلكِنْ لأَخِيكَ لاَ تُقْرِضْ بِرِبًا، لِكَيْ يُبَارِكَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ فِي كُلِّ مَا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ يَدُكَ فِي الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا. (سفر التثنية 23:20)[6]

 

بصرف النظر عن العوامل التاريخية المرتبطة بطريقة حياة اليهود من القرن التاسع إلى القرن السادس قبل الميلاد، يمكن بسهولة فهم الأساس الديني لهذا التحريم في الوقت الذي كُتبت فيه هذه النصوص.  فالشخص المحتاج ويطلب الاقتراض هو شخص بائس وله الحق في الحصول على ما يحتاج إليه.  يجب ألا يكون هناك أي سؤال في فرض الفائدة، على وجه التحديد لأن الشخص محتاج.  هذه هي الصدقة التي يستحقها، وتتعارض تمامًا مع أي فكرة عن دفع الفائدة.  أدخلت الآراء اليهودية تعديلات كبيرة على هذه الأفكار.  فقد وضع اليهود نظرية التوازن بين المُقرض والدائن، مما يدل على أن التحريم [تحريم الفائدة] داخل المجتمع اليهودي أصبح لا ينطبق خارجه [على غير اليهود]، مما سمح لليهود في العصور الوسطى بأن يصبحوا المصرفيين المشهورين كما هو معروف.[7]

 

الإسلام ليس مشتقًا من الكتاب المقدس.  يشير الإسلام ببساطة إلى الكتاب المقدس وتفسيره مطابق لتفسير اليهود.  القرآن لا لبس فيه:

 

"الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ... يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ...." (سورة البقرة: الآية 275-276)

 

ينطبق التحريم في المقام الأول على آليات التأمين على الحياة التي، بسبب طبيعتها الأساسية، لها بُعد إضافي للرسملة.  ينطبق التحريم أيضًا على جميع أنواع التأمين التي تُمارس في الغرب، على الحياة وغير الحياة، والتي تنطوي على استثمار احتياطيات فنية لتحقيق ربح مالي.  يظل التحريم ساريًا، نظرًا لأن أحد أهداف النظرية المالية الإسلامية المعاصرة هو السعي لضمان عمل المؤسسات المالية الحديثة والفعالة دون اللجوء إلى الفائدة بالمعنى الغربي للمصطلح.

 

في البلدان المسيحية، حمل السكولاستيون scholastics بقيادة القديس توما [الأكويني 1225-1274] الشعلة وصاغوا نظرية لتحريم الربا.  وعلى أساس هذه النصوص التوراتية نفسها، قاموا ببناء عقيدة منظمة حول الصيغة الشهيرة: "Pecunia pecunium non paret" [المال لا يطيع المال-Money doesn’t obey mony]، التي أوضحها القديس توماس على النحو التالي:

 

"إن تحصيل الفائدة على قرض نقدي هو عمل غير عادل لأنه يعني بيع شيء غير موجود، وهو عدم مساواة وبالتالي ظلم."

 

إن الأساس النظري للتحريم هو أن الزمن ليس له قيمة لأنه مُلكٌ لله الذي يوفره دون تقسيم أو شرط.  لذلك، لا يمكن للإنسان أن ينتفع بهذه الهبة من الله.  هذه الإشارة إلى الزمن ضرورية.  وكما أوضح أوريو جياريني Orio Giarini في نص نُشر أيضًا في هذا العدد، فإن التأمين، بطبيعته، يستخدم الزمن كأحد مواده الأولية.  بالتأكيد، فإن القديس توماس نفسه لم يقم بصياغة أي تأملات حول التأمين، والذي لم يكن موجودًا حقًا خلال زمانه، ولكن يمكن بسهولة إدراك أن هذا الفشل في التعرّف على القيمة الجوهرية للزمن هو بالكاد في صالح التأمين.  وهذا ليس بعيدًا عن الفكرة الإسلامية القائلة بأن المستقبل لله وحده، وهو أحد أسباب إدانة المسلمين للتأمين.

 

تستدعي الأديان استجابات متباينة

 

اعتمادًا على هذه النصوص نفسها، التي لا تترك مجالًا كبيرًا للتأمين، تبنت الأديان التي تشير إلى الكتاب المقدس مواقف متناقضة كوظيفة لكل من أساسها العقائدي والسياق الاقتصادي الذي تزدهر فيه.  في التاريخ الحديث، الذي يتميز بالنمو التاريخي للتأمين كصناعة، وفي الوقت الحاضر، يتراوح التدرج في الموقف من التأمين بين التحريم الصريح إلى الدعاية المؤيدة للتأمين.  إن مراجعة الموسوعات الدينية الرئيسية، التي تعكس وجهة النظر الحالية لكل دين تجاه مفاهيم الحياة العلمانية، تكشف الكثير.  ففي مقال بعنوان "التأمين"، تشرح الموسوعة الكاثوليكية آليات التأمين مع الإشارة بشكل خاص إلى تغطية المباني الدينية، لكنها تشير صراحة إلى احتمال عدم أخلاقية التأمين على الحياة.  وتشرح الموسوعة اليهودية أيضًا طريقة عمل التأمين وتشدد على مشاركة العائلات اليهودية الرائدة في تطورها التاريخي.  وتتبنى الموسوعة البروتستانتية نفس المنظور، وتقتصر بشكل عام على وصف علماني للتأمين.  لم تكن محتويات الموسوعة الإسلامية مفاجأة: فهي لا تحتوي على مقال بعنوان "التأمين.

 

وهكذا تتراوح الأديان الرئيسية [في موقفها من التأمين] ما بين وجهة نظر تقييدية إلى وصف محايد لآلية علمانية، إلى جهل [تجاهل] متعمد.

 

الإسلام

 

اليوم، أكثر من الماضي، مع الأخذ في الاعتبار عودة الأصولية، تُحرّم بعض الدول الإسلامية أنشطة شركات التأمين الغربية على أراضيها.  ومع ذلك، فإن الكثير من المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن ويحترمون مبادئ القرآن لا يترددون في تأمين منازلهم أو سيارتهم، لا سيما عندما يعيشون في دول أوروبية أو دول عربية عَلمانية.  ومع ذلك، لا يزال التأمين على الحياة يطرح مشكلة ويشعر العديد من المسلمين بنفور عميق من هذا النوع من التغطية.

 

الكاثوليكية

 

لم تعد الكاثوليكية تعارض التأمين، ومن الناحية التاريخية، لا يمكن حقًا القول بأنها عارضتها على الإطلاق.  في الواقع، فقدت الكنيسة قوتها الدنيوية قبل أن يصبح التأمين نشاطاً اقتصادياً مكتملاً.  ومع ذلك، تظل الحقيقة أن المفاهيم الناشئة عن الكاثوليكية، والتي تجد حضورًا لها بشكل أعمق في البلدان ذات التقاليد الكاثوليكية، يمكن تفسيرها بسهولة على أنها معادية للتأمين.  إن القبول الأكثر استعدادًا للإملاءات من الأعلى، جنبًا إلى جنب مع الميل إلى الثقة بالله والنفور من التجارة والشؤون النقدية، هي عقبات فيما يتعلق باللجوء إلى التأمين، وهو آلية مالية في الأساس.

 

اليهودية

 

لم تتبنى اليهودية موقفًا معينًا على الرغم من المفارقة أن اليهود يفضّلون التأمين في حياتهم اليومية.  قبل إنشاء دولة إسرائيل، لم يكن اليهود أبدًا في وضع يسمح لهم بإملاء التشريعات، الأمر الذي يفسر حقيقة أن اليهودية لا تجسد عداءًا للتأمين ولا حركة مؤيدة للتأمين.  إن تجربة المحن العميقة وذاكرة الاضطهاد والهجرات التي ميزت الوعي الجماعي للعائلات ذات التقاليد اليهودية، دفعتهم إلى اللجوء إلى التأمين، ليس فقط لحماية ممتلكاتهم، ولكن أيضًا لحماية أطفالهم في حالة الوفاة.  على الرغم من هذا النمو، لا يزال التأمين على الحياة قضية مشكوك فيها لبعض المؤمنين.  وكما هو الحال مع المسلمين والكاثوليك، فإن المخاطر المرتبطة بحياة الإنسان، وهو المجال الذي يكون فيه التدخل الإلهي هو الأكثر إلحاحًا، لا يزال يُمثّل مشكلة لبعض اليهود.

 

البروتستانتية

 

ليس من المستغرب أن البروتستانتية هي إلى حد بعيد الدين الأكثر تفضيلاً للمفاهيم التي يقوم عليها التأمين.  بالتأكيد، بعض المجتمعات، مثل الأميش Amish، معادية للتأمين، لكن موقفهم هامشي.  لأن البروتستانتي يعيش أولاً على الأرض، لأنه يفصل بين المادي والروحي، ولأن اكتساب الثروة يعتبر واجبًا وأحيانًا حتى عربون نعمة إلهية، فإن البروتستانتي لا يتردد في الحصول على التأمين.  فهو يؤمّن على الممتلكات التي يمتلكها أو يبنيها، وكذلك يؤمن على حياته لمساعدة أطفاله بعد وفاته، معتبراً التأمين آلية اقتصادية بحتة دون أي دلالات دينية.

 

الأديان والتأمين في التاريخ

 

من منظور تاريخي، يلاحظ المرء تعديلاً أساسياً في ميزان القوى بين التأمين والأديان على مر الزمن.  ففي نهاية العصور الوسطى، كان الدين المسيحي والإسلام قويين للغاية، حيث عارضت تعاليمهما إنشاء آليات التأمين، التي كانت في ذلك الوقت في مهدها وتتطور باستمرار.  منذ ذلك الوقت، شهد التاريخ انحسارًا ثابتًا للأديان، وحتى وقت قريب نسبيًا عندما شهدنا إحياء الحركات الأصولية.  لقد شهدت القرون الخمسة الماضية عَلْمَنة تقدمية لا هوادة فيها للحياة الاقتصادية والاجتماعية إذ ضعُف الدور الدنيوي للأديان المختلفة إلى حد الاختفاء التام في الدول الغربية.  على الرغم من وجود دول إسلامية اليوم، إلا أنها تمثل أقلية مقارنة بالدول التي يكون فيها الإسلام هو الدين السائد، لكن العلمنة هي القاعدة.  خلال هذه الفترة، ولا سيما في سياق القرن العشرين، ترسَّخ وضع التأمين وترسخ الشعور بضرورته الاقتصادية بشكل أكبر، كما هو الحال اليوم خاصة إذا ما أخذنا غطاء التأمين الاجتماعي بالحسبان فهو الآن ضروري لعمل المجتمعات الحديثة كالنفط أو الكهرباء.

 

باستثناء الإسلام، لا تعارض الأديان الحالية نمو التأمين.  لقد تغيّر ميزان القوى تمامًا وفقد الدين قوته الدنيوية وكثيرًا من هيمنته الروحية.  في الوقت نفسه، أصبح التأمين منتشرًا في كل مكان، مما أثر على مجمل وجودنا الفردي وتلك الخاصة بشركاتنا.  وكما هو الحال في العصور الوسطى، عندما كان من المستحيل تخيل بناء منزل أو القيام برحلة دون الحصول على مباركة رجل دين، فإن أي مؤسسة بشرية، فردية أو جماعية، هي اليوم موضوع بوليصة تأمين.  هل يمكن دفع هذه المقارنة أكثر من خلال تصور وجود اتجاه نحو استبدال [الدين] بهذين الشكلين من الحماية؟  جزئيًا، بالتأكيد.

 

من الحماية الإلهية إلى التأمين

 

عبر تاريخ الزمن، سعى الإنسان إلى الحماية من المستقبل، بحكم تعريف المستقبل على أنه غير مؤكد.  لقد ضحّى الرومان بالحيوانات، وصلّى المؤمن إلى الله، ورائد الأعمال اليوم يثق في شركة التأمين التي يتعامل معها.  ومع ذلك، يجب عدم المبالغة في هذا التوازي؛ فشركة تأمين كاثوليكية لن تسعى إلى اختزال الدين (دينها أو دين شركة تأمين أخرى) إلى مجرد تأمين للمستقبل.  والسجلان مختلفان: الدين يقوم على الإيمان، والتأمين يقوم على الإحصاء.  لكنَّ بعض الأديان، وخاصة الكاثوليكية والإسلام، كان لها دور كبير في العمل الاجتماعي وأدركت تمامًا أن نمو التأمين العام والخاص من شأنه أن يزيل أحد أقوى وسائل تعاملها مع المؤمنين.  من المؤكد أن هذا الخوف غير المعترف به يفسر إلى حد كبير عداء هذه الأديان لتعميم آلية تكون نتيجتها، إن لم يكن الغرض منها، إلى حد كبير، استبعادها من العمل الاجتماعي.

 

ومع ذلك، يُظهر التاريخ، وليس فقط في قطاع التأمين، أن الأديان لا يمكنها معارضة الضرورات الاقتصادية على المدى الطويل.  لقد فهمت ديانات معينة، ولا سيما اليهودية، هذه الحقيقة جيدًا لدرجة أنها أدرجت مبدأ الضرورة في عقيدتها،[8] مما سمح لها بالتكيف مع حقائق اللحظة والبقاء على الرغم من الاحتمالات الحالية.  لم تمنع عقيدة توما الأكويني Thomism تطوير القروض بفائدة، واليهودية لا تمنع غالبية اليهود من الانخراط في أنشطة يوم السبت ولن تمنع مقاومة الكنيسة الكاثوليكية المتاجر الكبرى من الافتتاح أيام الأحد.

 

لذلك، إذا لم تستطع الأديان، بشكل مباشر وعلى المدى الطويل، معارضة الحقائق الاقتصادية التي تجعل اللجوء إلى التأمين أمرًا ضروريًا، فلا يمكن استنتاج أن التأثيرات الدينية قد اختفت بالفعل.  إن الفصل بين الدنيوي والروحي لا يعني بأي حال من الأحوال إدراكًا موحدًا لمفاهيم مثل التأمين، إذ تستمر الخصوصيات والعوامل الدينية هي السائدة بينهم [بين أتباع الديانات].  من الواضح أننا لا نتحدث عن الدين في بعده الشعائري، بالنظر إلى أن تراجع الممارسة الدينية أدى إلى انخفاض المعرفة بالطقوس الدينية.  نعني أن الدين يُنظر إليه على أنه جانب من جوانب الثقافة السائدة لدولة أو منطقة جغرافية.  من الواضح، ولا سيما في سياق تراجع النفوذ الديني في الأمور الدنيوية، أن الدين لا يحدد الفعل، ولا يفرض الأوامر بعد الآن.  الدين اليوم يشجع فقط على الموقف، ويؤدي إلى نوع من السلوك.

 

مع تراجع الطقوس الدينية، أصبح تأثير الأديان أكثر حذاقة [نابعًا من الإيحاء]، لكن التأثير مع ذلك يظل مستمرًا.  فبدلاً من أن يكون التأثير دينيًا، أصبح ثقافيًا، لكن الأديان لا تزال تؤدي إلى تقبّل أكبر أو أقل للمفاهيم التي تتعامل معها شركات التأمين.  إن التحكم في المخاطر والإدارة الاقتصادية للعمر البشري ليست مجرد أنشطة "مثل أي أنشطة أخرى."  لقد ولّدت قوة الذاكرة الجماعية واستمرارية العوامل الثقافية مفارقة: التأمين، الذي لا يمكن للأديان أن تكون غير مبالية به بفضل تطوره التاريخي، يُنظر إليه اليوم ضمن إطار مرجعي لا يزال فيه البعد الروحي موجودًا، على الرغم من كونه دينيًا.  يبدو أن اللامبالاة أصبحت وجهة نظر الأغلبية.

 

أثار نص جان-بيير دانيال تبادلاً كبيرًا للآراء مع أوريو جياريني Orio Giarini [1936-2020]، المستشار الخاص للرابطة الدولية لدراسة اقتصاديات التأمين (رابطة جنيف).  المقتطفات الرئيسية من رد أوريو جياريني منشورة أدناه.[9]

 

أود هنا أن أعبر عن الآراء التالية، التي دعمت التزامي برابطة جنيف على مدى عدة سنوات.  أقدم منظورًا مختلفًا تجاه تطور الحقائق الثقافية والأخلاقية والاقتصادية للتأمين في سياق الفلسفة التي تقوم عليها الثورة الصناعية، وثانيًا، التغيير الجوهري في ممارسة الاقتصاد المعاصر.  نقاطي هي كما يلي:

 

§   ليس من قبيل المصادفة أن مواضيع الخطر وعدم اليقين حاضرة اليوم بشكل متزايد في المناقشات المتعلقة بتطور ثقافة وقيم مجتمعنا المعاصر.  يشهد على ذلك كتاب بيتر بيرنشتاين: "ضد الآلهة، قصة الخطر الرائعة".[10]

 

§   منذ عصر النهضة، وحتى منذ ديكارت [1596-1650]، وما بعده، شهدت أوروبا تطورًا ثقافيًا، عُرِّف لاحقًا على أنه التنوير، والذي قدَّم نفسه كبديل للمعتقدات الدينية، وولّد التوترات وحتى عدم التوافق.  مع مرور الوقت، عزز هذا التطور الثقافي المواقف الدينية الزائفة، التي كثيرًا ما تُعرَّف بأنها "علمية" (على وجه الخصوص الماركسية، ولكن أيضًا العديد من أشكال الليبرالية)، والتي ادعت، بدءًا من التفاصيل التي يمكن التحقق منها (انظر ديكارت)، أنه وبالتدريج يمكن اكتساب معرفة أوسع، لتبلغ ربما في يوم من الأيام ذروتها في معرفة كلية، أي الله.  لقد كان الأمر يتعلق في الأساس بتبني خط حجة معكوس لتلك التي اقترحتها الأديان، والتي تفترض في البداية وجود الله والتي، وبعبارات عامة، تدرك وجود فجوة بين هذه المعرفة أو القوة الدينية العالمية والواقع، ومن ثم تُترجم إلى الغموض أو الغموض الذي يقوم عليه الإيمان.  من الواضح أن الرؤية "العلمية" المناهضة للدين أصبحت اليوم بالية.  ولكي يحدث هذا، كان من الضروري تجربة الأهوال التي شهدها القرن الماضي.  ومع ذلك، فإن عملية الوعي هذه لم تكتمل بعد.  وفي جميع الأحوال، من الصعب اليوم اعتبار العلم بمثابة ترياق أكثر فعالية للخطر وعدم اليقين من الدين.

 

§   من المهم أيضًا أن نتذكر أن الاقتصاديين العظام كانوا دائمًا علماء أخلاقيين في المقام الأول: فليس من قبيل المصادفة أن آدم سميث (أستاذ العلوم الأخلاقية) وضع أسس الاقتصاد الصناعي.  هذا لأنه من الأخلاقي moral [اعتماد مبادئ الصواب والخطأ] وانه من الأخلاقي ethical [اعتماد قواعد السلوك] لتطوير حياة أفضل لجنسنا البشري في المجتمع البشري من خلال توفير فرص لتغذية وحماية أفضل مما كان عليه في الماضي.  هذه طريقة لإعطاء البشر المزيد من الفرص ومكافحة الفقر.

 

§   وهنا، يصبح من الضروري الإشارة إلى أن آدم سميث كان لديه القدرة، بشكل حدسي إلى حد كبير، ولكن بناءً على التجربة المباشرة للعالم الذي رآه من حوله، لتسويغ العملية الرئيسية لنمو الرفاهية الاقتصادية على أساس مناهج الإنتاج المرتبطة بالمجتمع الصناعي المزدهر.  لم يكن ذلك سهلاً، بالنظر إلى أنه في ذلك الوقت، كانت الصناعة، التي كانت قد بدأت في التوسع لتصبح العامل الأكثر ديناميكية، لا يزال لها تأثير ضئيل مقارنة بالزراعة والموارد الزراعية، التي يمكن للبشرية الاعتماد عليها في بقائها.  في الواقع اُنتقد آدم سميث بشأن هذه النقطة: فقد اتُهم بالفشل في فهم أن الطبيعة الأساسية للإنتاج مرتبطة بالزراعة وأن الصناعة كانت في الأساس ظاهرة هامشية.  ما لم يفهمه النقاد في ذلك الوقت هو أن هذه الظاهرة الهامشية كانت في الواقع العامل الديناميكي الذي عمل، على مدى أكثر من قرنين، على تسهيل تحويل القدرة على إنتاج الثروة في مجتمعنا وتعزيز ظروف المعيشة المحسنة.

 

§   يمكن للمرء بالتالي أن يدرك مجموعة من العوامل الأخلاقية والتقنية والاقتصادية.  خلف واقع الثورة الصناعية ومقدماتها الثقافية (مع أسسها "العلمية" أو "الحتمية")، كان الشيء الأكثر أهمية هو إنتاج المزيد والأفضل.  كان يُنظر إلى العلم على أنه يوفر اليقين المتزايد الذي استبعد، منذ بداية الثورة الصناعية، الوعي بالتأمين كنشاط.  لم يكن التأمين أكثر من مؤشر على نقص عابر [عدم اكتمال مؤقت] للمجتمع.  بعبارة أخرى، لا يزال التأمين، الذي أصبح الآن أكثر قبولًا لدى الديانات الإبراهيمية بعد عملية تكيف طويلة وعملية، مستبعدًا إلى حد كبير من الفكر الاقتصادي الحالي بقدر ما لا يزال مرتبطًا بالبني الثقافية التقليدية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالثورة الصناعية التقليدية.  كثيرًا ما يُظهر الفحص الدقيق للتحليل الاقتصادي في النظام المالي، حتى اليوم، أن المبادئ النظرية الأساسية للتأمين مستبعدة فعليًا من كليات الاقتصاد العالمية.  وفي أفضل الأحوال، ينحصر التأمين في نوع من القطاع الفرعي تهيمن عليه الأنشطة الاستثمارية المرتبطة بالبنوك والمؤسسات المماثلة.

 

§    لذلك، في رأيي، يجب خوض معركة، لم يتم تصورها بوضوح بعد، لتأسيس "روح التأمين" وشرعيته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.  وهذا تحدٍ رهيب في وقت تعتمد فيه القضايا الرئيسية للحكم على الفوز في هذه المعركة: بناء مجتمع الرفاهية الجديد، وإدارة نقاط الضعف بجميع أنواعها، بما في ذلك البيئة، إلخ.

 

§   إننا نعيش حاليًا في تحول عميق يتجاوز بكثير ما نجده في نصوص الاقتصاد السياسي.  لم يعد الاقتصاد المعاصر قائمًا أساسًا على إنتاج السلع، ولكن على استخدامها مع مرور الوقت.  هذا يعني أن القيمة الاقتصادية لم تعد مرتبطة، كما هو الحال في الاقتصاد الكلاسيكي والكلاسيكي الجديد، بتوازن الأسعار الناتج عن العرض والطلب، في سياق صفقة بيع يُفترض أنها "مؤكدة".  بمجرد ربط قيمة الأنشطة بأدائها بمرور الوقت، من الواضح أن قضايا الخطر وعدم اليقين (كما هو الحال بالنسبة لبوليصة التأمين) تصبح قابلة للتطبيق على النشاط الاقتصادي ككل.  من الآن فصاعدًا، لم يعُد من الممكن التعامل مع الخطر وعدم اليقين على أنهما معلومات غير كاملة (يجب استكمالها من خلال التطورات العلمية المستقبلية)، ولكن على العكس من ذلك، يجب اعتبارها جانبًا أساسيًا من جوانب إدارة الثروة والإنتاج والاستخدام.  إن ربط سعر أو قيمة بالأداء المستقبلي لنظام ما هو بمثابة وضع فكرة عدم اليقين وإدارة الخطر في مركز ذلك النظام.  لا يمكن أن يكون المستقبل معروفًا تمامًا إلا لشخص لا يحيد عن قناعاته الحتمية أو شخص مجنون.

 

§   التأمين الآن هو الجوهر الاقتصادي والثقافي للمجتمع المعاصر ويعتمد بشكل متزايد على مفهوم علمي يختلف تمامًا عن مفهوم القرن الماضي.  نحن الآن ندخل عالم فكر كارل بوبر [Karl Popper 1902-1994]: ما يحدد المعرفة العلمية ليس يقينها certainty (أي ادعاء باليقين هو في الواقع أيديولوجي)، ولكن في الواقع حقيقة أنه، في سياق غير محدد indeterminist، فإن أي نظرية تدعي أنها علمية لا يمكن تصنيفها إلا على هذا النحو [أي علمية] لأن جزءًا على الأقل من النظرية المعنية يمكن إثباته، بعبارات ملموسة، على أنه "قابل للتكذيب falsifiable."

 

§   عندما يصل المرء إلى هذه النقطة، فإن النظرة الفلسفية للعلم تمهد الطريق لموقف لم يعد في مواجهة مباشرة مع ديانات العالم.  تتكون العملية العلمية من إثبات مدى صحة نظرية أينشتاين إلى حد معين فقط، لكن جميع الباحثين الجدد، الذين لديهم طموحات تتعلق بجائزة نوبل، يكرّسون وقتهم لإثبات الحدود limits، وحتى أوجه القصور، في نظريات أينشتاين.  في بنائه، لا يضيف العلم لبنات المعرفة الواحدة تلو الأخرى، وبدلاً من ذلك، فإن كل بناء جديد يدعو إلى التشكيك في البناء السابق، حتى لو تم استخدام الأخير كنقطة انطلاق.  ومن ثم، فإن الادعاء بأن المعرفة البشرية يمكن أن تصبح عالمية ومطلقة لا يمكن، من وجهة نظر علمية، أن تكون مقبولة.  يمكن للمعرفة البشرية فقط، ومن باب توسيع الجدل، أن تكون مشتركة عالميًا (وهو أمر ضروري سياسيًا)، ولكن سيتم أيضًا تكييفها مع مرور الوقت.  وكان [بليز] باسكال [1623-1662] قد صرَّح بالفعل: "المعرفة مثل فقاعة في عالم الجهل، كلما اتسعت، زاد عدد الأسئلة والاستجوابات".

 

§   هذا لا يعني، من وجهة نظري، أن الأديان هي بالضرورة مستودعات أو حافظات للحقيقة، ولكنها في جميع الأحوال تستجيب للاحتياجات الروحية والنفسية التي لا تحتاج إلى أن ينازعها العقل العلمي.  على هذا المستوى، لكل شخص تفضيلاته.

 

§   لذلك سترى أنه إذا قال أحدهم أن "التأمين نشاط اقتصادي ثانوي،" فإن المرء يقبل ضمنيًا نظام تفسير الواقع الاقتصادي والثقافي للثورة الصناعية، والذي كان يُدخل بالفعل خطأً جوهريًا في الاتجاه في شروط التفسير الاقتصادي والثقافي والاجتماعي لإدارة الخطر وعدم اليقين في المجتمع الحديث.

 

§   لذلك أنا شخصياً أجادل في أن الإطار المرجعي للتحليل الاقتصادي المستخدم حاليًا يمكن اعتباره مقبولاً، نظرًا لأنه يقوم على فكرة أن نظام التفسير الذي تقوم عليه النظرية الاقتصادية، أي ظاهرة الثورة الصناعية، هو ثابت.  يجب أن أصرَّ على أن النظرية الاقتصادية الحالية هي مجرد تبرير لفترة امتدت على قرنين من الزمان، انتهت تقريبًا، كان خلالها هدف الإنتاج الصناعي هو القوة الدافعة وراء اكتساب الدول المختلفة للثروة.  وعلى نفس المنوال، كان للزراعة دور مهيمن قبل الثورة الصناعية بمجرد أن تأسس الجنس البشري ونظم مختلف أشكال الإنتاج الزراعي.  اليوم، عندما يتم توظيف 80 في المائة وأكثر من جميع الموارد البشرية في أنشطة خدماتية (من البحث والصيانة والتعليم ونقل المعلومات إلى التخلص من النفايات أو إعادة التدوير، فمن الواضح في رأيي أننا نشهد فجوة هائلة بين الواقع الاقتصادي وفهمه النظري العالمي.

 

§   يُعد تكييف الأديان مع التأمين الذي تشير إليه في نصك أمرًا مثيرًا للاهتمام ومفيدًا، لكن قضايا التكييف هذه تنبع، في رأيي، من حقيقة أنه عندما تطورت الأديان الرئيسية، فإنها كانت متجذرة في مجتمع زراعي.  كانت هذه حقيقة طارئة.  استلزم هذا الارتباط بالمجتمع الزراعي إدانة الربا: فقط مع الثورة الصناعية أصبح مفهوم القرض بفائدة ضروريًا اقتصاديًا، ونتيجة لذلك، كان حتى مبررًا أخلاقياً لتحفيز الاستثمار وتراكم رأس المال اللازمة للتصنيع.  من وجهة النظر هذه، من الواضح أن آدم سميث، مثل جون ماينارد كينز [1883-1946]، كان يعمل ليس فقط على مستوى تقنيات التحليل الاقتصادي، ولكن أيضًا وبشكل أساسي على مستوى قبول الحجج الأخلاقية للإدارة الفعالة للنقود واستخدامها.

 

§   نحن نعيش في الوقت الحاضر عصرًا نشهد فيه أن كل التحليل الاقتصادي وفهم الواقع (الذي تم من خلاله تكوين ثروة الأمم) والإطار المرجعي الثقافي والأخلاقي المقابل، هو في طور إفساح المجال أمام مجتمع جديد.  هذا الوضع يكمن وراء الانتشار الحالي للكتب والمبادرات والتصورات التي تحاول إظهار قيمة وواقع الخطر وعدم اليقين في العالم المعاصر.  ومع ذلك، لم نرَ حتى الآن أي تحليل مفصل لجذور هذه الظواهر.  إن الاقتصاديين الكلاسيكيين والنيوكلاسيكيين، من خلال تكرار النظم النظرية دون وعي ومن دون تحليل متعمق للعوامل العميقة، المرتبطة بأساس ثقافي محدد جيدًا، والتطور الاقتصادي الأساسي، هم الآن في نفس الموقف تقريبًا مثل الكنائس في بداية الثورة الصناعة التي عارضت التطورات التي كانت تتكشف أمام أعينهم.  في الوقت الحالي، غالبًا ما يرفض الاقتصاديون أنفسهم، من خلال الكسل أو الافتقار إلى الطموح، (ما لم يكن الأمر مجرد مسألة الدفاع عن قوتهم الراسخة) إدراك الواقع الاقتصادي الجديد.

 

§   سأذهب إلى أبعد مما فعلت: إن التأمين ليس مجرد روح، ولكنه روح النشاط الاقتصادي المعاصر ويقع في صميم أنظمة الإنتاج والقيم الثقافية الأساسية، والتي تنطوي الآن على رؤية أكثر عالمية وعميقة لإدارة المخاطر وقبول عدم اليقين في الحياة الإنتاجية اليومية.

 

 

* مدرس أكاديمي ومستشار استراتيجي وتسويقي دولي لشركات التأمين، أكثر من أربعين عامًا من الخبرة في مجال التأمين.  نشر العديد من الكتب باللغة الفرنسية من بينها:

 

Les enjeux de la bancassurance

تحديات التأمين المصرفي

L'assurance automobile aujourd'hui : Le modèle français et les marchés européens

التأمين على السيارات اليوم: النموذج الفرنسي والأسواق الأوروبية

La sécurité sociale au coeur de la démocratie

الضمان الاجتماعي في قلب الديمقراطية

بالاشتراك مع Christian Oyarbide كريستيان أوياربايد

 

 

12 آذار 2022



[1] يعني كاتب المقال الإشارة إلى كتاب عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر.  نشرت الترجمة الإنجليزية سنة 1930:

Max Weber, The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism (George Allen & Unwin 1930.

نشر الأصل الألماني في جزئين في مجلة Arciv fur Sozialwissenscaft und Sozialpolitik, 1904-1905 وكان فيبر أحد محرريها، كما جاء في مقدمة أنتوني غيدنز Anthony Giddens للطبعة الإنجليزية للكتاب سنة 1967.

[2] لم يُحدد كاتب النص هنا الأديان الأربعة، ويفهم من السياق أنها تضم اليهودية والمسيحية الكاثوليكية والمسيحية البروتستانتية والإسلام.  يقسم المسيحية إلى كاثوليكية وبروتستانتية كدينين مستقلين بسبب موقفهما المتميز من مؤسسة التأمين وبعض النشاطات المالية.

[3] "الشعب الفقير" هم فقراء اليهود المعوزين.

[4] الترجمة مقتبسة من موقع الأنبا تكلا هيمانوت:.

https://st-takla.org/Bibles/BibleSearch/showChapter.php?chapter=22&book=2

[5] "الأجنبي" يعني غير اليهودي.  العهد القديم يبيح التعامل بالربا مع غير اليهود.

[6] الترجمة مقتبسة من موقع الأنبا تكلا هيمانوت:

https://st-takla.org/Bibles/BibleSearch/showChapter.php?book=5&chapter=23

 

[7] Werner Sombart, The Jews and Modern Capitalism (1911)

https://socialsciences.mcmaster.ca/econ/ugcm/3ll3/sombart/jews.pdf

 

[8] كما في القاعدة الأصولية الإسلامية: "الضرورات تبيح المحظورات" التي تجد سنداً لها في النص القرآني:

"مَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (البقرة:173)

"وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ" (الأنعام 119)

"فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (الأنعام 145)

[9] أوريو جياريني Orio Giarini (1936-2020)، عالم اقتصاد إيطالي، مؤسس معهد الخطر Risk Institute والأمين العام لرابطة جنيف Geneva Association المتخصصة بالبحث في اقتصاديات التأمين.  له العديد من المؤلفات من بينها كتاب The Emerging Service Economy (Pergamon, 1987)

[10] Peter Bernstein, Against the Gods, the Remarkable Story of Risk (Wiley, 1998)