إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2019/03/29

Economic & Insurantial Implication of the Mosul Ferry Disaster


مصباح كمال

نشرت هذه المقالة أصلاً في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:


هذه الورقة هي تتمة لما نشرناه مباشرة بعد وقوع "فاجعة"[1] غرق العبّارة في نهر دجلة[2] وقد استفدنا في كتابتها من كتابات أخرى لنا سنشير إلى بعضها.  نظراً لعدم توفر معلومات وبيانات دقيقة فإننا سنلجأ إلى عرض موضوع هذه الورقة من خلال مقتربات تصورية.


ماذا يحصل عندما تتعرض شركة لخسارة، وهل هناك حاجة للتأمين؟

أثرت مؤخراً في دراسة لي السؤال التالي: ماذا يحصل عندما تتعرض شركة لخسارة كبيرة؟  وجواباً على السؤال كتبت الآتي:

"عندما تتعرض شركة إلى حادث يسبب خسارة مادية أو ضرر، وتتوقف الأعمال نتيجة لمثل هذه الخسارة أو الضرر وتتعرض أيضاً للمسؤولية القانونية قبل الغير، يتوجب على الشركة تصليح أو استبدال الأصول موضوع الخسارة أو الضرر، ودفع فاتورة الأجور وغيرها من المصاريف الثابتة وتعويض الغير (الطرف الثالث) المتضرر نتيجة للحادث.  دعونا من باب الاختصار أن نطلق على هذه الخسائر والأضرار والمسؤوليات "خسارة."

لكي تكون الشركة قادرة على مواصلة عملياتها يجب أن تملك الموارد اللازمة لتغطية الخسارة.  وللقيام بذلك، يمكن للشركة أن تعتمد على:

§       الدخل التشغيلي (ولكن إذا كانت الخسارة كبيرة فإن هذا الدخل لن يكون كافياً).

§    الاقتراض من البنوك (لكن هذا القرض قد لا يكون متاحاً بسهولة باعتبار أن الشركة التي تكبدت خسائر كبيرة لن يكون عميلاً جذاباً أو أن شروط اقراضها مرهقة، وتزيد من الأعباء المالية للشركة).

§    صندوق مالي لمواجهة الطوارئ أو أي صندوق خاص (لكن العديد من الشركات لا تخصص مثل هذه الصناديق لتمويل الخسائر).

للحماية ضد الخسارة سيكون أسهل وأكثر توفيراً على الشركة تخصيص ميزانية سنوية لشراء حماية التأمين ضد الخسارة.  وهكذا، يتم نقل عبء تمويل الخسارة من الشركة إلى شركة التأمين التي ستتولى توفير الحماية المالية."[3]

أردت من هذا العرض المقتبس تأكيد ضرورة وجود برنامج تأميني للتعويض عن آثار الخسائر البشرية والمادية، فهو الأقل كلفة في التعامل معها.


الوسائل المتاحة للتعامل مع الحوادث

للاقتراب من موضوع الآثار الاقتصادية والتأمينية للحوادث الناتجة بفعل قوى الطبيعة أو الفعل البشري نسأل:

عندما تتسبب إحدى شركات القطاع الخاص بحوادث تمتد آثارها على الغير (أطراف ثالثة) من يتحمل الكلفة الاقتصادية لهذه الحوادث؟  فيما يلي نقدم بعض المقاربات.

لو كانت الشركة قد قامت بالتأمين على مسؤولياتها المدنية فإن شركة التأمين تتكفل بتعويض الأطراف الثالثة المتضررة (الأضرار البدنية بما فيها الوفاة والأضرار المادية لممتلكات هذه الأطراف).

في غياب التأمين يمكن إغاثة الأطراف المتضررة من خلال وسائل التضامن الاجتماعي كـ "الفزعة" أو "العونة" التي تتجسد على أرض الواقع كفعل جماعي آني بتأثير من القيم الاجتماعية المتوارثة غير المكتوبة الكامنة في المخيال الجمعي إذ تقوم الجماعة بالتكاتف والتعاضد في مواسم الحصاد مثلاً أو العمل المشترك أمام المصائب والرزايا الطبيعية والبشرية لتقديم الإغاثة للمصابين والمتضررين.  وهو تحرك، سلوك، غير رسمي، وتحرك تلقائي من قبل الناس نحو منطقة الكارثة لتقديم ما يستطيعونه أو المساعدة في تخفيف أعباء العمل (قطاف الزيتون مثلاً).  وقد نقلت الصحافة أخباراً عن المتطوعين في فريق الإنقاذ حال غرق العبّارة.  إن هذا السلوك الجماعي يمثل شكلاً بدائياً لفكرة التأمين: تعاون الجماعة لإغاثة من ألمت بهم مصيبة.  ويكتب أحد الاقتصاديين:

وكتعميم أكثر موثوقية فإن الأزمات تُطلق دائماً تقريباً تدفقاً للدعم من خارج المنطقة المنكوبة، وهي الظاهرة التي أصبحت تعرف بـ "السلوك التآزري “convergence behavior”.[4]

كما يمكن تقديم الإغاثة من خلال المؤسسات الخيرية والإحسانية.  بالنسبة للعراق فإن هذه المؤسسات لم تتطور أو قل لم يسمح لها بالتطور وخاصة في العهد الدكتاتوري (1968-2003)، ذلك لأن النظام كان ذو طابع شمولي يعمل على السيطرة على جميع مناحي الحياة وتوجيهها كما يشاء بحيث انه ضيَّق باستمرار فضاء العمل الجماعي الطوعي المستقل لأنه كان يخشى أن تتحول هذه الفضاءات إلى بؤر قد تؤثر على سيطرته.[5]

في أغلب الحالات، فإن شركات القطاع الخاص لا تتمتع بترف الانقاذ الحكومي عند تعرضها للخسارة.[6]  ومن دون تأمين ليس لها غير الاعتماد فقط على قوة ميزانياتها العمومية (دخلها التشغيلي) أو رصيد الطوارئ إن كان موجوداً، أو اللجوء إلى الاقتراض.  وإذا كانت النقدية والموجودات الأخرى في الميزانية العمومية للشركة ليست كافية لدفع كلفة الخسارة أو الضرر فإن انهيارها يصبح حقيقة واقعة.

ولكن في حالات معينة تبادر الحكومة إلى تمويل كلفة ما تسببت به الشركة الخاصة للأفراد والجماعات من خزينة الدولة بحدود معينة.  يعني هذا أن المصائب التي تأتي من الشركة الخاصة تتحول إلى عبء جديد غير متوقع على ميزانية الدولة، أي أنها تموّل من حصيلة الضرائب، التي كان بالإمكان الاستفادة منها في مشاريع أخرى للدولة.

لننظر، من باب المقارنة، إلى الشركات المملوكة للدولة فهذه عند تعرضها للخسارة يمكن أن تلجأ، كملاذ أخير، إلى الحكومة لإنقاذها رغم أن مئات الملايين من الدولارات التي قد تكون لازمة لجبر الخسارة قد تستقطع من تخصيصات أخرى في ميزانية الحكومة لتمويل الخسارة.  تسريب مثل هذه الموارد المالية سيؤثر على مجالات أخرى من مجالات الإنفاق الحكومي، على سبيل المثال تمويل مشاريع اجتماعية جديدة أو خدمات عامة.  إن تحويل الأموال هذه قد يؤدي إلى ضغوط سياسية على الحكومة خاصة إذا كانت هذه الأموال مخصصة لمشاريع تتمتع بالكثير من الدعم الشعبي.[7]

يمكن إجمال الآثار الاقتصادية المادية للحوادث من نمط حادث غرق العبّارة بالآتي:

أولاً، ضحايا الحادث.  عدا الآثار النفسية المختلفة فإن فقدان رب/ربة الأسرة يعني توقف مصدر الدخل للأسرة.  وفي غياب التعويض المناسب، من قبل شركة التأمين أو الحكومة، فإنه يعني إفقار الأسرة وما يحمله معه من مشكلات لأفراد الأسرة.

ثانياً، صاحب المنشأة.  وقد تتمثل الآثار بتضرر المعدات، وخسارة عدد من المستخدمين، وتوقف المنشأة عن العمل (خسارة الدخل) لحين استرداد النشاط، والتعرض للمساءلة القانونية.

ثالثاً، الاقتصاد الوطني.  إن الآثار السلبية المترتبة على غياب التأمين تحمل معها تكلفة للاقتصاد الوطني، وتأثيراً على النمو الاقتصادي، كما حاولت الكشف عن بعضها.[8]


من سيعوض ضحايا غرق العبّارة؟

في غياب أية معلومات عن تأمين المنشآت والمعدات في المجمع السياحي في جزيرة أم الربيعين بما فيها العبّارة نفترض أن هذا المجمع لم يكن موضوعاً للتأمين مثلما لم يكن موضوعاً للضوابط التنظيمية والرقابية من قبل الهيئات المعنية به بدءاً من إنشائه وانتهاءً بتشغيله.  يعني هذا أن الحكومة هي التي ستتولى تعويض ضحايا غرق العبّارة.  فقد ورد في الأمر الديواني الصادر من المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراق بتاريخ 22 آذار 2019 بند حول "إقرار التعويضات اللازمة."  (لم يحدد الأمر من هم المنتفعين من التعويضات.  من المفترض أن تتكشف التفاصيل فيما بعد).

هل ستقوم الحكومة بممارسة حق الحلول[9] واسترداد قيمة التعويضات التي ستدفعها للمتضررين من مسببي غرق العبّارة؟  هذه مسألة قانونية هي خارج معرفتنا ولكننا نثيرها لنرى إن كانت الحكومة تمتلك الإرادة لممارسة هذا الحق، إن كان قائماً بقوة القانون، أو إي إجراء آخر، خارج نظام التأمين، ضد مسببي حادثة غرق العبّارة.  (سجل الحكومة في مجال مقاضاة الفاسدين في القطاعين العام والخاص ضعيف).


غرق العبّارة والامتثال للقواعد التنظيمية

يأتي وقوع حادثة غرق العبّارة تأكيداً على الخراب العام في البنى التحتية وفي إنشاء وتشغيل معظم منشآت الشركات الخاصة المشتركة في الفساد والمحاصصة والإبقاء عليهما.  لقد أطنب البعض في مدح دور القطاع الخاص دون التوقف عند الممارسات غير السليمة للشركات المنضوية في القطاع ودافع تعظيم الربح على حساب اعتبارات أخرى (حياة الناس ومصالحهم، التأثيرات الخارجية لنشاط هذه الشركات، المسؤولية الاجتماعية وغيرها)، وعدم الامتثال للقواعد الانضباطية regulatory compliance.  هناك حاجة لمراجعة وإعادة تقييم دور رأس المال الخاص من منظور فك ارتباطه بمنظومة الفساد والمحاصصة.  فالبعض من "الرأسماليين" يعكسون الوجه القبيح لرأسمالية المحاسيب[10] crony capitalism من خلال ارتباطهم ليس فقط مع وزراء ومسؤولين حكوميين وقادة طائفيين بل على المليشيات والجماعات المسلحة[11] مما يدفع موضوع الامتثال للضوابط إلى القاع وحتى غض النظر عنها بسبب قوتها.[12]

هناك ميل لدى معظم الشركات الخاصة، الكبيرة والصغيرة، إلى عدم الامتثال للضوابط الخاصة بالسلامة مثلاً (باعتبار أن الامتثال يمثل كلفة لا ترغب بتحملها ويؤثر على الأرباح)، أو محاولة تجنب دفع الضرائب، أو التحايل لتمرير غسيل الأموال ... إلخ.  وهناك مدرسة فكرية تدعو إلى التقليل من الضوابط الرقابية باعتبارها تشل المنافسة بين الشركات وتضعف الابتكار.

إن رأسمالية المحاسيب في العراق قد وفّر لمعظم أصحابها فرصة إضعاف التنظيم/الانضباط لا بل أنها حققت سيطرة تنظيمية regulatory capture أي عكس قواعد الانضباط بحيث أن هيئات الرقابة والإشراف تخضع لتأثير أو هيمنة الشركات التي تخضع لرقابتها، من خلال غض النظر عن بعض المخالفات، أو إفساد القائمين بالرقابة بالمال ومغريات أخرى.  إن هذا الاستيلاء التنظيمي هو مؤشر على فشل الحكومة حيث تتماهى الهيئات المنظمة للنشاط الاقتصادي مع الشركات التي من المفترض أن تنظمها، وهو ما أسفر عنه غرق العبّارة.

ويجد البعض تفسيراً لتدخل الحكومة في الحياة الاقتصادية ووضع القواعد التنظيمية في "نظرية المصلحة العامة" public interest theory والتي تقول إن التنظيم الحكومي يمكن أن يؤثر على الشركات، وخاصة الشركات الاحتكارية، في التصرف بما يحقق المصلحة العامة.[13]  وبالنسبة للنشاط التأميني، حسب هذه النظرية، فإن التنظيم يستهدف حماية المؤمن لهم من فشل شركات التأمين في مقابلة التزاماتها.[14]


التأمين وسبب غرق العبّارة

عند دراسة مطالبة بالتعويض تلجأ شركة التأمين إلى تحديد سبب الخسارة أو الضرر الذي لحق بالمؤمن له، وفيما إذا كان السبب مستثنى من غطاء وثيقة التأمين، والسبب الذي تبحث عنه هو السبب المباشر وليس غيره لفاعليته في إحداث الخسارة أو الضرر.  مشاهد الفيديو المتداولة لغرق العبّارة تشير إلى أن سبب الحادث هو تحميل العبّارة فوق طاقتها الاستيعابية.  وقد يكشف التحقيق الرسمي ما يؤكد هذا السبب ويضيف إليه أسباباً أخرى مترابطة بها، إضافة إلى الأسباب البعيدة غير المباشرة.

وقد لخصت رابطة الأكاديميين العراقيين في المملكة المتحدة في "بيان تضامني مع أهلنا" في الموصل بتاريخ 26 آذار 2019 (واقتبس منها كمثال) سبب كارثة غرق العبّارة بالاستهانة بالأنظمة:

نود ان نؤكد على إن كارثة غرق العبارة، حصلت بسبب عدم احترام المواطنين والاستهانة بأرواحهم وعدم التزام القائمين على الجزيرة السياحية بنظم السلامة والصحة التي يجب ان تراعى في جميع المرافق العامة والسياحية. ونشخص في هذا المجال إن الجهات المسؤولة عن هذه الكارثة الوطنية، هي الجهات التي تدير هذا المرفأ السياحي، والحكومة المحلية لمدينة الموصل لتهاونها في مراقبة إجراءات السلامة والصحة والأمان، إضافة لمسؤولية الحكومة المركزية، وكل حسب مستوى مسؤوليته.

وهو موقف تشترك فيه منظمات أخرى وبعض الأحزاب السياسية وهي تتساءل عن أسباب وقوع حادث مأساوي في منشأة تستقبل المدنيين وتديرها شركة خاصة.  هناك اعتقاد يكاد أن يكون عاماً، ربما سيتأكد بعد انتهاء التحقيق ونشر نتائجه، أن المسؤولية المباشرة لحادث الغرق تقع على صاحب العبّارة، المسكون بدافع تحقيق الربح العالي، والذي سمح بتحميلها بأكثر من طاقتها التصميمية.  وتتحمل الجهات الخاصة المسؤولة عن الإشراف على جزيرة أم الربيعين وإدارتها قسطاً كبيراً من المسؤولية عن الحادث.  مثلما تتحمل الجهات الحكومية، الاتحادية والمحلية، المسؤولية بإهمالها للموصل، وفساد إدارة شؤونها، والتلاعب بتخصيصات إعادة الإعمار على قلتها، وضعف أجهزة الطوارئ لديها في التعامل مع الحادثة كافتقار الشرطة المحلية إلى الآليات والمعدات لإنقاذ الضحايا.

لقد كان واضحاً من مشاهدة فيديو غرق العبّارة مدى غياب إدارة الخطر (تشخيص مصادر الخطر، وتقييم ـاثيرها، وأتخاد الإجراءات للسيطرة عليها، والتفكير بشراء حماية التأمين).  وهو، كما يؤكد أحد الكتاب، مجرد مثال على ما هو عام إذ أن

الاهمال وافتقاد معايير السلامة والأمان يطال الطرقات العامة والجسور والسدود والمحرمات البيئية والأنهار ومؤسسات الخدمة العامة ووسائل النقل والترفيه واجهزة الانضغاط الخاصة بالتدفئة والتبريد ووسائل الأمان من الحرائق ومؤسسات الفحص الغذائي والدوائي ومشاريع مياه الإسالة والسقي وشبكات الكهرباء ومعايير السلامة المدنية في مشاريع الإنشاء ومنظومات المجاري واجهزة الاتصالات وأعمال الزراعة والتسميد العشوائي وآليات السيطرة على الأسلحة خارج إطار الدولة والاستخدام العشوائي لوسائل التكنلوجيا الحديثة وغياب الرقابة الاستيرادية على كافة متطلبات السوق وأعمال البيطرة والماكياج والتجميل والمتنزهات والفنادق وصولا الى المزابل العشوائية المتراكمة بين بيوت السكن.[15]

لم يكتف الكاتب بعرض هذا الواقع المزري لمجرد الانتقاد بل من أجل تجاوزه ولهذا فقد دعا في نهاية مقاله إلى

ضرورة اعادة الحياة الى المركز الوطني للسلامة المهنية واجهزة التقييس والسيطرة النوعية واجهزة الرقابة البيئية والاقتصادية ومراكز الدفاع المدني وتنشيطها ودعمها او دمجها جميعا في مركز او مجلس اعلى يسمى المجلس الأعلى للسلامة الوطنية يكون معنيا بالتفتيش والرقابة الاستباقية على كل ماله علاقة بسلامة الوطنين وفِي كافة مؤسسات الدولة دون استثناء مع منحه سلطة قاض بتشريعات قضائية تخص سلامة الأفراد وقوة ردع أمنية مناسبة.

حتى وقت كتابة هذه الورقة لم يصدر موقف من جمعية التأمين العراقية تجاه الحادث، وبيان دور التأمين في الحماية من آثار الحوادث، والمساهمة في تطوير إدارة خطر المجمعات السياحية.  فالمعروف أن شركة التأمين قبل أن تكتتب بخطر ما (كطلب التأمين على مجمع سياحي أو عباّرة ... إلخ) فإنها تقوم بدراسة المعلومات التي يقدمها طالب التأمين، وربما تلجأ إلى الكشف الميداني على محل التأمين وعلى ضوء هذه الدراسة/الكشف تقدم عرضاً بأسعار التأمين وشروط/اشتراطات القبول بطلب التأمين.  والمعروف أيضاً، أن شركة التأمين التي تضم مكتتبين أكفاء قد تُلزم طالب التأمين الامتثال لجملة من الاشتراطات كأن يتمتع مشغّلو محل التأمين بالمؤهلات الخاصة بالمهنة، أو التقييد بقواعد السلامة الخاصة في تشغيل محل التأمين وتوفير المعدات المناسبة وغيرها.  وهي بذلك تساهم في تحسين محل التأمين وخاصة عند ربط القبول بالتأمين بقيام طالب التأمين/المؤمن له بتنفيذ توصيات تحسين الخطر خلال فترة التأمين التي تشترطها شركة التأمين.


تطوير التأمين من المسؤولية

لقد كان موضوع التأمين من المسؤولية يشغل حيزاً صغيراً في كتاباتي ومنها دراسة بعنوان "التأمين في المنهاج الحكومي: قراءة أولية"[16]  تناولت فيها البرنامج الحكومي الصادر سنة 2014، الذي تضمَّن الجانب التأميني منه على ثلاثة بنود، واحدة منها انصب على مشروع التأمين الإلزامي للمسؤولية عن المنتجات والمسؤولية المهنية:

§       اعتماد نظام التأمين الصحي للمواطنين كافة وتطبيق نظام طبيب الاسرة.
§    جعل التأمين على المُنْتَجْ والمسؤولية المهنية فيما يتعلق بالسلع والخدمات المنتجة اجبارياً وذلك لحماية حقوق المستهلك.
§    توفير مظلة فاعلة من التأمين الزراعي تحمي المزارعين من الخسائر الناجمة عن الكوارث الطبيعية.

وقد مرَّ أزيد من أربع سنوات على هذا البرنامج ولم يجد أياً من بنود التأمين طريقه إلى التنفيذ.

ثم كتبت دراسة أخرى بعنوان "التمهيد لغطاء إعادة تأمين المسؤولية المدنية" خصيصاً لجمعية التأمين العراقية (3 نيسان 2016)، وهي الأخرى لم تلقَ ما تستحقه من اهتمام دونكم ترجمة ما فيه من أفكار من قبل شركة إعادة التأمين العراقية أو أي من شركات التأمين العراقية العامة والخاصة.[17]

ربما لم يتطور التأمين من المسؤولية المدنية في العراق خارج المسؤولية التي يغطيها التأمين الإلزامي من حوادث السيارات بسبب فقر الثقافة الحقوقية لدى الناس ومنها حقوق الإنسان.  هذا موضوع بحاجة إلى استقصاء سوسيولوجي.  ويمكن وضع الموضوع في إطار أوسع يجمع ضعف انتشار التأمين في العراق بشكل عام مع فقر ثقافة التدبر للمستقبل.  وقد كتبت في مكان آخر[18] أن الربط بينهما يستدعي تطور الفردانية individuation بحيث يكون الإنسان مسؤولاً عن نفسه وأفعاله ومستقلاً في التفكير خارج الانماط القيمية التقليدية المتوارثة.  لكن مجتمعنا لا يزال محكوماً بقيم مصنوعة في السماء وأخرى متجذرة في البنية العشائرية.  وبهذا تكون جاذبية التأمين ضعيفة ما لم تتدخل الدولة لفرض شراء التأمين على الأفراد والشركات والمؤسسات الحكومية.  هذا ما يشهد عليه تطور فروع معينة للتأمين في العراق ودول أخرى كالتأمين على المسؤولية المدنية الناشئة عن السيارات، أو ضمان الموظفين، أو التأمين الهندسي على العقود الإنشائية والتي تشمل التأمين من المسؤولية عن الأضرار التي تلحق بالأطراف الثالثة.

لقد آن الأوان لبدء نقاش موسع تمهيداً لتشريع إلزامية التأمين من المسؤولية على كل شركة أو هيئة عامة أو خاصة تؤثر نشاطاتها على الناس.

27 آذار 2019



[1] لقد وضعت "الفاجعة" بين قويسين صغيرين لأنها لم تكن حتمية؛ لقد كانت من صنع البشر الفاسدين والغارقين في الجهل وغير المؤهلين في إدارة نشاط يحمل معه احتمال التأثير على حياة مستخدميه (المستهلكين).  لقد كانت هذه "الفاجعة" صورة مصغرة لما يعيشه العراق، هي "وقائع موت معلن" كما كتبت لإحدى الزميلات في المجال التأميني، وهي من نمط الحوادث الموقوتة التي تتهيأ للوقوع في أي وقت بسبب غياب الاهتمام بالإنسان ومتطلبات السلامة.

[2] مصباح كمال، "العيد الحزين وغياب إدارة الخطر والتأمين: تعليق على حادث غرق عبّرة في جزيرة أم الربيعين السياحية،" Misbah Kamal-Ferry Disaster

[3] مصباح كمال، "تأمين مصافي النفط العراقية: دعوة للمناقشة،" نشرت في عدة مواقع ومنها مجلة التأمين العراقي: https://misbahkamal.blogspot.com/2019/03/insuring-iraqi-refineries.html

[4] جاك هيرشلايفر، "الكوارث والانتعاش الاقتصادي،" فصل مترجم في كتاب قيد الطبع بعنوان مقالات ومراجعات حول الخطر والتأمين، ترجمة وإعداد مصباح كمال.

[5] نظام العمل الشعبي في العهد الديكتاتوري لا يصنّف ضمن أشكال العمل الجماعي الطوعي فقد كان مفروضاً من فوق وليس نابعاً من قاع المجتمع المدني، كما حصل بعد 2003 إذ التأمت جهود شبابية طوعية في بعض النشاطات ذات النفع العام.

[6] شهدت اقتصادات العديد من البلدان الرأسمالية أثناء الأزمة المالية العالمية، 2007-2008، تدخل الدولة لإنقاذ مؤسسات مالية كبيرة خاصة كانت على شفا الانهيار التام ومن بينها شركات تأمين في الولايات المتحدة الأمريكية.

[7] وهذا يعني أن هناك تشابهاً بين الشركات الخاصة والشركات العامة عندما يكون التأمين غائباً لتمويل الخسائر التي قد تتعرض لها.

[8] مصباح كمال، "هل هناك تكلفة للاقتصاد عندما يكون التأمين غائباً؟  ملاحظات أولية،" فصل من كتاب قيد الإعداد بعنوان مقالات غير مألوفة حول التأمين.

[9] تضم بعض وثائق التأمين شرط الحلول الذي يرد بصيغ مختلفة ومنها ما ينص على حق المؤمِن (شركة التأمين) في مباشرة الدعوى باسم المؤمن له (الدائن حسب أحكام القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951) ضد الطرف المتسبب في الخسارة والتي يكون المؤمن مسؤولاً عن التعويض عنها.

يجد القارئ المهتم الكثير من التحليل والمقارنة في تطبيق هذا الشرط في وثائق التأمين الإلزامي ووثائق التأمين الاختياري في كتاب بهاء بهيج شكري، التأمين من المسؤولية في النظرية والتطبيق (عمّان: دار الثقافة، 2010)، ص 540 وما يليها.

[10] للتعريف برأسمالية المحاسيب راجع الموسوعة الحرة:

[11] أوردت بعض الصحف العراقية معلومات تحدثت عن انتماء مدير الجزيرة السياحية التي غرقت فيها العبّارة لجماعة مسلحة متنفذة تعمل في نينوى.

[12] إن ما يدل على الحضور القوي للمليشيات، ومنها فرق الحشد الشعبي في الموصل، دعوة رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة في أمره الديواني لجميع القوى السياسية والمراكز الإعلامية: "اللجوء الى منطق القانون والتهدئة وعدم الانجرار الى أجواء التصعيد وتبادل الاتهامات بما يضر بمصالح أهالي نينوى والعراق."

ترجع خلفية هذا البند في الأمر الديواني إلى الاحتقان الطائفي في الموصل، ودور الميليشيات التي من المفترض أن تكون تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة وهي ليست كذلك وإلا لما كان للاحتقان الطائفي من وجود، ولا التجاوز على الأملاك، ولا غض النظر عن القواعد التنظيمية في إدارة وتشغيل المنشأة السياحية.  لقد كان على المرجع الديني علي السيستاني أن يكمل دعوته للجهاد الكفائي الذي أصدره في 13 حزيران 2014 بالطلب ممن شارك فيه بالعودة إلى عمله وبيته وأهله بعد تقديمه للشكر لهم.

[13] Richard A. Posner, Theories of Economic Regulation, Working Paper No. 41, Center for Economic Analysis of Human Behavior and Social Institutions National Bureau of Economic Research. Inc, New York, 1974.  https://www.nber.org/papers/w0041.pdf
كانت الأطروحة التي تقدم بها البروفيسور بوسنر هي أن التنظيم الحكومي لا يتعلق بالمصلحة العامة على الإطلاق، بل هو عملية تسعى من خلالها مجموعات المصالح إلى تعزيز مصلحتها الخاصة وبمرور الوقت، تصبح الوكالات التنظيمية خاضعة لسيطرة الصناعات الخاضعة للتنظيم.

[14] Peter Zweifel and Roland Eisen, Insurance Economics (Heidelberg: Springer, 2012), p 323-324.
[15] مقتطف من مقال للمهندس إبراهيم البهرزي، منشور في موقعه في الفيسبوك بتاريخ 22 آذار 2019.

[16] مصباح كمال، التأمين في التفكير الحكومي وغير الحكومي، 2003-2015 (مكتبة التأمين العراقي، 2015)، فصل "التأمين في المنهاج الحكومي: قراءة أولية،" ص 136-152.  الكتاب متوفر في المكتبة الاقتصادية لشبكة الاقتصاديين العراقيين:

[18] فاروق يونس، "حوار مع مصباح كمال حول بعض قضايا التأمين في العراق."  شبكة الاقتصاديين العراقيين: