إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2009/03/27

ملاحظات سريعة عن تقرير سوق التأمين العراقي المقدم إلى المؤتمر السابع والعشرون للاتحاد العام العربي للتأمين، المنامة، البحرين، 26-28 شباط 2008 مصباح كمال مقدمة نشر هذا التقرير في مجلة التأمين العربي، المجلة الفصلية للاتحاد العام العربي للتأمين، العدد 99، كانون الأول/ديسمبر 2008 ص 40-48.[1] إن ما يدفعنا لكتابة هذه الملاحظات هو التنبيه على مُعدّي التقارير للارتقاء بمستوى كتابتها في المستقبل.[2] ولا نظن أن شركة التأمين الوطنية، التي تتولى إعداد التقرير، تفتقر إلى من له معرفة جيدة باللغة العربية يناط به مهمة التدقيق اللغوي والاطمئنان على صحة ووضوح التعبير؛ وكذلك لا تفتقر الشركة إلى المخضرمين من ممارسي التأمين، داخل الشركة أو لدى شركات التأمين الأخرى، ممن لهم الدراية الكافية بتاريخ سوق التأمين العراقي وتطوره. يجب أن نتذكر أن ما ينشر قد يصبح موضوعاً للقراءة، وبالتالي يتوجب على معدي التقارير الانتباه لسلامة اللغة، وحسن التعبير ووضوح المعنى. وباختصار علينا احترام ذكاء القارئ. تقتصر ملاحظاتنا (وهي انتقائية لأن التفصيل فيها ربما يؤدي إلى ملل القارئ وهو لا يتوفر على نسخة من التقرير) على السرد الذي ورد في أول التقرير، وسنقتبس منه مطولاً لفائدة القارئ إذ أن مجلة التأمين العربي التي نشرت التقرير ليست متوفرة في الموقع الإلكتروني للاتحاد. ولن نخوض في تحليل الإحصائيات المدرجة في الجداول ونكتفي بالقول إن الأرقام الواردة فيها، وكما قلنا في قراءتنا لتقرير سابق، "تؤشر على الحالة المتدنية لحجم الأقساط المكتتبة الذي يعكس بدوره حالة الانهيار الاقتصادي وانهيار الطبقة الوسطى وازدياد الفقر، وتزايد التعويل على الإيرادات المتأتية من استثمار الودائع في المصارف بالاستفادة من المعدلات العالية لأسعار الفائدة في دعم الأقساط المكتتبة." ونضيف الآن أن النشاط آخذ بالنمو المستمر رغم صغر حجمه. يتوزع التقرير على العناوين التالية: أولاً: الإطار القانوني المنظم لصناعة التأمين. ثانياً: المناخ الاقتصادي وانعكاسه على النشاط التأميني خلال فترة التقرير [2004-2006]. [ثالثاً:] نظرة مستقبلية. جداول إحصائية من 1-7 مدخل التقرير سنغض النظر في هذه الملاحظات عن الأخطاء الطباعية ولكننا نتوقف أولاً عند الفقرة الافتتاحية تحت عنوان الإطار القانوني المنظم لصناعة التأمين. ماذا تقول هذه الفقرة؟ "سوق التأمين العراقية مثل سائر بقية أسواق التأمين الأخرى، لم يكن تأسيسها وتطورها يحصل بفعل سلسلة متتابعة من القواعد والتشريعات القانونية المنظمة لها، بل يتحقق هذا التنظيم نتيجة إصدارات تنظيمية تتأثر في قوانين مختلفة حاولت الحكومات المختلفة فيما بعد على إعادة النظر في توحيدها في قوانين متخصصة تعالج قضايا التأمين وتجعل النشاط التأميني محكوماً بقواعد وأصول قانونية مستقلة." أقل ما يقال عن هذه الفقرة أنها فذلكة لا تعبر عن معنى واضح، وكان الأحرى بمعد التقرير غض النظر عن محاولة "التفلسف" التاريخي وهو أمر يبدو أنه ليس مؤهلاً له. التركيب اللغوي هو الآخر يساهم في غموض المقصود من هذه الفقرة. هناك تكرار ("سائر" و "بقية"، يدلان على نفس المعنى) وهناك عدم وضوح ("إصدارات تنظيمية تتأثر في قوانين مختلفة") ربما يعكس كسلاً فكرياً. وعند انتهاءنا من قراءة هذه الفقرة لا نعرف إن كان تأسيس وتطور السوق بفعل سلسلة من القوانين أو ما يسميه معد التقرير "إصدارات تنظيمية." هل فات معد التقرير التاريخ الطويل للتأمين في أشكاله المختلفة، وإنه آلية للاستجابة للنتائج التي تترتب على أخطار الطبيعة وتلك المرتبطة بالإنتاج المادي والعلاقات البشرية والمسؤوليات القانونية والتعاقدية .. الخ؟[3]

التأمين في العراق قبل 1958 "كانت القوانين التي تحكم قطاع التأمين في العراق قبل عام 1958، موزعة على عدة قوانين وأحكام القوانين [التأمين؟] مشتتة بينها ولا يجمعها وحدة هدف. حيث كانت تلك القوانين مشرعة لأهداف أخرى غير تنظيم أعمال شركات التأمين الأجنبية العاملة في العراق، وهي قوانين غير رقابية بل كانت تراقب تطبيق تعريفات [هكذا وردت في الأصل] السوق البريطانية وبالتالي تحقيق المصالح الأجنبية في عملية استنزاف الثروات الاقتصادية بتصدير كامل الأقساط المتحققة في سوق التأمين العراقية التي امتلأت بالشركات الأجنبية حصراً .. " نتفق مع معد التقرير أن أحكام التأمين كانت موزعة في عدة قوانين (كقانون الضمان (السيكورتاه) العثماني وقانون التجارة البرية والقانون المدني العراقي وغيرها) ولكننا نتوقف عند القول إن هذه القوانين لم تستهدف تنظيم ورقابة شركات التأمين إذ لا نعدم وجود قانون تنظيمي رقابي ونعني به قانون شركات التأمين رقم 74 لسنة 1936 الذي يضم 13 مادة ربما كان يشكّل أول محاولة جادة في الإشراف على عمل شركات التأمين المحلية والأجنبية. وتبع ذلك صدور نظام إجازات وكلاء شركات التأمين رقم 25 لسنة 1936.[4] ولذلك فإن أحكام القوانين ذات العلاقة بالتأمين لم تكن محصورة بمراقبة تعرفات السوق البريطانية، وحصر الرقابة بالتعرفات لا يستنفذ الوظيفة الرقابية. وتبقى مسألة استنزاف الثروات وعدم وجود شركات تأمين عراقية قبل 1946 بحاجة إلى بحث تاريخي اقتصادي لا نعتقد أن أحداً قد قام به. ولذلك فإن إطلاق الكلام ليس بديلاً عن التشخيص الموضوعي وتحليل البيانات، إن كانت متوفرة. ويبقى موضوع البحث المعمق قائماً.[5] ومن المفارقات أن التقرير يذكر استنزاف الثروات في مرحلة ما قبل عام 1985 لكنه يهمل الاستنزاف الذي طال سوق التأمين العراقي بعد 2003، وما زال يعاني منه بسبب قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 وتوجيهات وزارة التخطيط وتهميش دور شركات التأمين .. الخ. هناك الآن وضع مؤسسي للاستنزاف نأمل أن تتكاتف جهود الكيانات التأمين في العراق على تقويضه. كان من المناسب لو أشار التقرير، في مرحلة م بعد 1958، إلى قانون شركات ووكلاء التأمين رقم 49 لسنة 1960 إذ شكل صدور هذا القانون انعطافة جديدة في تاريخ النشاط التأميني في العراق.

ملاحظة على بعض الجداول يبين الجدول رقم (2) القوى العاملة في سوق التأمين العراقية إلا أن القارئ يقرأ في أعلى يسار الجدول أن "الأرقام بآلاف الدنانير"! وهو طبعاً سهو كان بالإمكان تلافيه من خلال تدقيق مسودات التقرير. وذات الملاحظة تنطبق على الجدول رقم (1)، بيانات بعدد الشركات والهيئات العامة في سوق التأمين العراقية كما هي في 31/12/2004، فالقوى العاملة وعدد الشركات لا يقاس بالدنانير. جداول [هكذا في الأصل] رقم (A3)، نشاط التأمينات العامة (أقساط إعادة التأمين) في سوق التأمين العراقية عن عام 2004، تنحصر البيانات الواردة في الجدول بينة 2004. ترى هل توقف السوق عن تجميع البيانات للسنوات اللاحقة؟ أليست البيانات متوفرة لدى شركة إعادة التأمين العراقية؟ ألم يكن بإمكان شركة التأمين الوطنية، معدة التقرير، الحصول على هذه البيانات؟ يرد في الجدول رقم (4)، نشاط التأمينات العامة، أقساط التأمين المباشر في سوق التأمين العراقية، بيان بشأن أقساط "سيارات الإلزامي" و "سيارات التكميلي" للسنوات 2004-2006. وسؤالنا هو: ألم يكن من المناسب شرح أو وضع هامش بخصوص أقساط التأمين الإلزامي إذ أن آلية إجراء هذا النوع من التأمين، وبعد صدور قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات رقم 52 لسنة 1980 وتعديلاته، لم يعد خاضعاً لجباية قسط تأميني بالطريقة التقليدية بل صار القسط جزءاً من سعر الوقود الذي يشتريه مستخدم السيارة. وتتمة للتساؤل: ماذا تمثل أقساط "سيارات الإلزامي" في هذا الجدول والتي كانت كما يلي: 541,063,000 (2004) 2,079,504,000 (2005) 1,437,350,000 (2006)

نظرة مستقبلية لن نُفصّل في تقديم الملاحظات عن هذا الجزء من التقرير ونكتفي بالقليل منها فيما يلي لأنه بحاجة إلى إعادة كتابة، وخطابيته لا تستقيم مع تقريرٍ من المفروض أن يكون دقيقاً، موضوعياً، وشاملاً للسوق برمته. لم يفرد التقرير مكاناً للمرحلة منذ الغزو والاحتلال الأمريكي سنة 2003 حتى نهاية فترة التقرير في 2006 رغم أن ما يسميه التقرير "إحداث [أحداث]9/4/2003" دشنت مرحلة جديدة في تاريخ التأمين في العراق لعل أبرزها الاستنزاف الذي أتينا على ذكره، والتعامل مع تركة النظام السابق والحصار الاقتصادي (1990-2003). ولا نرى أن توصيف الغزو والاحتلال، وهو ما أقره مجلس الأمن في القرار رقم 1483 الصادر في أيار 2003، يمكن أن يدرج تحت عنوان "أحداث" كما لو أن الأعمال الحربية العسكرية والدمار البشري والمادي الذي ترتب عليها هي من نمط حوادث الشغب والاضطرابات. لن نجهد في التعليق على هذا الموضوع كي نجنب معدو التقرير الحرج من الإفصاح عما كان يدور في ذهنهم بهذا الشأن عند صياغة التقرير. لا نعرف مدى صحة المعلومات الواردة بشأن "انسحاب غالبية المعيدين من الاتفاقيات التي عقدت على مدى عشرات السنين .." فهذا الانسحاب جاء مباشرة بعد غزو العراق للكويت في 2 آب 1990 وتحت طائلة عقوبات مجلس الأمن، المفروضة على العراق بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ولم يكن معيدو التأمين في وضع اختيار الإبقاء على التزاماتهم التعاقدية من عدمه فكل من يخرق قراراته يخضع للمساءلة. يمضي التقرير في التأكيد على "ان هذه التطورات [الحصار الاقتصادي الدولي، الذي لم يحدد تاريخه، أحداث 9/4/2003، الانبهار الذاتي بإدخال التأمين على خطر الإرهاب] أفصحت عن مستقبل مشرق لسوق التأمين العراقي تتمثل في حصول اتجاهات جديدة بعد صدور قانون التأمين الجديد الذي تم بموجبه إنشاء ديوان التأمين وجمعية لشركات التأمين الخاصة ["الخاصة" هكذا ورد في الأصل. المقصود هو جمعية شركات التأمين وإعادة التأمين العراقية] وبالتالي فتح الأبواب على مصراعيها [هكذا] للرجوع إلى السوق الدولية بنفس جديد وقوي باعتباره سوقاً واعداً .." لا نعرف كيف أن "هذه التطورات أفصحت عن مستقبل مشرق" وما زال حجم أقساط قطاع التأمين العراقي لا يزيد عن قسط تأمين أخطار مؤسسة صناعية واحدة في دولة أوروبية. ربما أراد معد التقرير ربط المستقبل المشرق بصدور قانون التأمين الجديد (قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005) لكن بعض مواد هذا القانون موضوع شكوى من قبل شركات التأمين ومنها شركة التأمين الوطنية. كما لا نعرف كيف أن القانون الجديد فتح باب الرجوع للأسواق الدولية. هناك قطعاً أسباب أخرى تستدعي الرجوع إلى معيدي التأمين الدوليين ليس للقانون الجديد أي دور فيه، فتاريخ العلاقات بين الشركات المسندة وشركات إعادة التأمين يشهد أن هذه العلاقات لم تكن مشروطة بوجود قانون للتأمين. الربط المنطقي للمقدمات بالنتائج ضروري دونكم الوقوف على الحقائق. لا نعتقد أن الاحتفاء بالقليل المنجز أو الرضا عنه كفيل "لصناعة" التقدم المنشود على مستوى القانون، وتفعيل ديوان التأمين العراقي وجمعية شركات التأمين وإعادة التأمين العراقية، وأداء شركات التأمين وبناء القدرات، وكذلك وقف نزيف الأقساط إلى الخارج. من باب الختام إن مستوى هذا التقرير لم يتطور منذ التقارير الماضية المقدمة لمؤتمرات الاتحاد العام العربي للتأمين. ونحن بانتظار التقرير القادم لنحكم على التحسن الحاصل في مضمونه وفي صياغته. ونود أن نقتبس هنا فقرات من مقالتنا "قراءة سريعة لتقرير سوق التأمين العراقي المقدم إلى المؤتمر السادس والعشرون للاتحاد العام العربي للتأمين، دمشق، أيار 2006" "كاتبو التقرير يتذكرون الماضي عندما كان سوق التأمين العراقي يتمتع بموقع الريادة في العالم العربي وكان السوق يتمتع باحترام معيدي التأمين لكن المحزن أن استحضار هذا التاريخ لا يلهم القائمين على إدارة النشاط التأميني في ترجمته إلى إجراءات وسياسات للخروج من الواقع الصعب والارتقاء بالنشاط. وإنصافاً لهم فإن الكثير مما يعرقل هذا النشاط هو خارج إرادتهم وبالتالي فإن المساحة التي يمكن أن يتحركوا فيها ضيقة، دونكم أعباء وتبعات الأوضاع الأمنية. المهم هو توسيع هذه المساحة باستمرار. نحن بانتظار أن نقرأ عن الدور الذي تمارسه جمعية شركات التأمين وإعادة التأمين العراقية، وعن تعزيز الكادر الإداري والفني لديوان التأمين العراقي الذي أغفله التقرير. وبودنا أن نقرأ عن الاجتماعات التي تقام داخل العراق من أجل النهوض بصناعة التأمين العراقية والأوراق البحثية التي تقدم فيها. لعل الضعف في التقرير يعود إلى عدم مشاركة واسعة من ممثلي شركات التأمين العراقية فيه. لعله كُتب ولم يوزع على الغير للمراجعة. أليس هناك من يستطيع أن يدلي بدلوه في هذا المجال ويضيف ويصحح ما ذكرناً وينصف من قام بكتابة وإعداد التقرير؟" مصباح كمال لندن 28 كانون الثاني 2009 [1] كنت قد نشرت "قراءة سريعة لتقرير سوق التأمين العراقي المقدم إلى المؤتمر السادس والعشرون للاتحاد العام العربي للتأمين، دمشق، أيار 2006" في المدونة ويبدو أن معدي تقرير 2008 لم ينتبهوا إلى الملاحظات التي أوردتها كان بإمكانهم الاستفادة منها عند إعداد تقريرهم الجديد. http://misbahkamal.blogspot.com/2008_03_01_archive.html [2] أذكر أن أ. عبد الباقي رضا، عندما كان المدير العام لشركة التأمين الوطنية، دأب على قراءة العديد من الكتب الصادرة من أقسام الإدارة العامة، وكان يؤشر تصحيحاته وتعليقاته على نسخ هذه الكتب بالحبر الأخضر. مثل هذا الاهتمام من رأس الشركة ساعد العديد من زملائنا على الانتباه لسلامة اللغة وصحة التعبير. [3] راجع بعض المقالات المنشورة في هذه المدونة ومنها: مصباح كمال "نظرات تاريخية في الـتأمين" http://misbahkamal.blogspot.com/2008_07_01_archive.html وكذلك: مصباح كمال "مداخلة في تحديث البحث عن التأمين وتاريخه في العالم العربي" التأمين العربي، العدد 99، ديسمبر 2008، ص 29-30. [4] كتبنا بحثاً صغيراً بعنوان "إطلالة على بواكير التأمين والرقابة على النشاط التأميني في العراق" (لندن: كانون الأول 2008) سنقوم بنشره مستقبلاً. [5] هل فكرت إدارة شركة التأمين الوطنية، وهي أغنى شركات التأمين في العراق، بتشجيع وتمويل البحث التاريخي للنشاط التأميني في العراق؟

2009/03/10

مداخلة حول تحديث البحث في التأمين وتاريخه في العالم العربي

مصباح كمال
نشرت هذه المقالة في التأمين العربي، مجلة الاتحاد العام العربي للتأمين، العدد 99، 2008. وننشره هنا لتعريف قراء المدونة بها وتوفير فرصة لمراجعة تاريخ التأمين في العراق الذي سننشر عنه مقالة في المدونة قريباً.

 الممارسة تأتي أولا وقد صدق من قدّم الممارسة، الفعل والعمل، على الكلمة، التنظير، دون أن يعني ذلك أن الممارسة لا تنطوي على تفكير أو فصم العلاقة بين الاثنين فهناك ارتباط متبادل تعاضدي بين الممارسة والفكر يغنيان بعضهما. هناك ممارسات تنتظر من ينّظر لها ويكتشف قواعدها لتكون موضوعا للتدريس والمزيد من المعرفة وكذلك تطوير الممارسة ذاتها. ممارسة التأمين كنشاط اقتصادي لم تنتظر وضع كتاب أو دليل عمل في أول عهدها في القرن السابع عشر وحتى لاحقا. فالمكتتبون-المغامرون الذين كانوا يجتمعون لتبادل المعلومات عن حركة السفن والتجارة البحرية وممارسة أعمالهم ذات العلاقة في مقهى لويدز (1688) في لندن لم يستهدوا في الممارسة بقانون مكتوب أو بكتاب. ممارسة التأمين البحري، أحد أقدم فروع التأمين، كانت قد بدأت بإشكالها الأولية قبل ذلك كما نعرف من قانون إنجليزي صدر في أواخر حكم الملكة إليزابيث (1533-1603). كان القانون يستوحي القواعد، بصيغة مختلفة، من الممارسة ويشذبها لتلبية مصالح معينة خاصة وعامة. وقبل هذا التاريخ لم تكن ممارسة التأمين تخضع لتنظيم قانوني. ويعتبر هذا القانون أول تشريع في تاريخ التأمين التجاري في بريطانيا. وتحدد مقدمة القانون وظيفة وغرض التأمين. وقد أورد جمال الحكيم نص المقدمة وترجمة له كما يلي:[1]

النص الإنجليزي:

 And whereas it bath [sic] been time out of mind and usage amongst merchants, both of this Realm and Foreign Nations, when they make any great adventure (specially into remote parts) to give some consideration of money to other persons (which commonly are in no small number) to have from them assurance made of their goods merchandises ships and things adventured, or some part thereof, at such rates and in such sort as the parties assurers and the parties assured can agree, which course of dealing is commonly termed a policy of assurance; by means of which policies it cometh to pass, upon the loss or perishing of any ship there followeth not the undoing of any man, but the loss lighteth rather easily upon many than heavily upon few, and rather upon them that adventure.

ترجمة النص:

" ... أي يفهم من عقد (بوليصة) التأمين البحري، أن فقد أو هلاك السفينة لا يتسبب عنه شقاء أي فرد، بل يكون عبء الخسارة بسيطاً بتوزيعه على عدد كبير من الأفراد أفضل مما لو لحقت خسارة جسيمة بنفر قليل منهم والعبء يكون موزعاً عليهم وبذلك لا تكون هناك مخاطرة. وهذا أضمن مما لو كان هناك مخاطرة. وبهذا فإن جميع التجار ـ صغار الدخل منهم على الأخص ـ يمكنهم المخاطرة برغبة وبجرأة."

لقد نشأ التأمين كنشاط اقتصادي متميز في صيغته الكلاسيكية في المراكز المدنية الأوروبية. وارتبط تطور هذا النشاط بتدخل الدولة من جهة، وبالاستجابة للحاجات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة وما يفرضه التقدم التكنولوجي من تحديات من جهة أخرى. وهو قطعاً لم ينشأ من فراغ بل استمد بعضاً من أصوله من ممارسات عميقة في أوروبا وفي مناطق أخرى من العالم ومنها العراق القديم.[2] وانتقل التأمين إلى العالم العربي من خلال الوكالات الأجنبية ضمن التوسع الرأسمالي الأوروبي الذي أتخذ شكلاً تجارياً ومن ثم كولونيالياً. ولسنا هنا بصدد التعرج لعرض هذا الأمر بل مجرد الإشارة إلى أن النشاط التأميني في العالم العربي لم يبدأ وطنياً. وقد مضت فترة طويلة قبل أن تأخذ النخب التجارية المحلية على عاتقها تأسيس شركات تأمين وطنية. فشركة التأمين الأهلية تأسست في مصر سنة 1900 إلا أن نشاطها كان ضيقاً (ولم تمارس التأمين على الحياة أولا وأسست شركة متخصصة في الإسكندرية، حيث يحتشد الأجانب، لبيع وثائق التأمين). وفي العراق تأسست أول شركة تأمين وطنية، شركة الرافدين للتأمين، سنة 1946. البحث في هذا التاريخ بحاجة إلى من ينهض به على المستوى الأكاديمي وربطه في سياق التطور الاقتصادي.

كانت الدراسات الأولى عن النشاط التأميني ذات طبيعة قانونية ثم أخذ النشاط موقعه في النظرية الاقتصادية وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية ففيها أصبح التأمين موضوعا للدراسة والبحث الأكاديمي المستقل أو المرتبط بدراسة النظم المالية والقانونية. وشهد العالم العربي تركيزا على دراسة الجوانب القانونية للتأمين، وصدرت بشأنها العديد من الكتب وخاصة في مصر. وصدرت دراسات مماثلة في دول عربية أخرى. ثم جاءت دراسة الجوانب الفنية وفروع التأمين المختلفة والقليل من الدراسات التي عالجت التأمين من منظور اقتصادي.[3] والكثير من هذه الكتب قد تجاوزها الزمن رغم أنها تظل شهادة تاريخية على الدور الذي قامت بها في تثقيف أجيال من ممارسي التأمين. فعلى سبيل المثال، اعتمد جيل خمسينات وستينات القرن العشرين في أكثر من قطر عربي فيما يخص تأمين الأخطار البحرية على كتاب جمال الحكيم. إن تاريخ تطور التأمين في العالم العربي، وهو موضوع صعب، لم يبحث بعد، وحتى تاريخ النشاط التأميني في كل قطر عربي، ارتباطاً مع التاريخ الاقتصادي، لم يحضى بدراسة.[4] وقد تكون مقارنة الإنتاج الفكري الضئيل في العالم العربي مع الغرب غير منصفة بسبب عراقة النشاط التأميني في بلدان أوروبية معينة كإيطاليا وإنكلترا وهولندة وغيرها. المقارنة ليست مطلوبة لذاتها وإنما التنبيه إلى حداثة البحث والتأليف في الشأن التأميني باللغة العربية. فأقدم نص عربي اتخذ شَكلَ رأي فقهي إسلامي، وكان في غير صالح التأمين، يعود إلى القرن التاسع عشر. فقد كتب الفقيه الشامي ابن عابدين (1784 - 1836) في حاشيته الشهيرة رد المحتار على الدر المختار، ونقتبس منه مطولاً، عن

 "مَطْلَبٌ مُهِمٌّ فِيمَا يَفْعَلُهُ التُّجَّارُ مِنْ دَفْعِ مَا يُسَمَّى سَوْكَرَةً[5] وَتَضْمِينِ الْحَرْبِيِّ مَا هَلَكَ فِي الْمَرْكَبِ. وَبِمَا قَرَرْنَاهُ يَظْهَرُ جَوَابُ مَا كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْهُ فِي زَمَانِنَا: وَهُوَ أَنَّهُ جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ التُّجَّارَ إذَا اسْتَأْجَرُوا مَرْكَبًا مِنْ حَرْبِيٍّ يَدْفَعُونَ لَهُ أُجْرَتَهُ، وَيَدْفَعُونَ أَيْضًا مَالاً مَعْلُومًا لِرَجُلٍ حَرْبِيٍّ مُقِيمٍ فِي بِلادِهِ، يُسَمَّى ذَلِكَ الْمَالُ: سَوْكَرَةً عَلَى أَنَّهُ مَهْمَا هَلَكَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي الْمَرْكَبِ بِحَرْقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ نَهْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَذَلِكَ الرَّجُلُ ضَامِنٌ لَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، وَلَهُ وَكِيلٌ عَنْهُ مُسْتَأْمَنٌ فِي دَارِنَا يُقِيمُ فِي بلادِ السَّوَاحِلِ الإسْلامِيَّةِ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ يَقْبِضُ مِنْ التُّجَّارِ مَالَ السَّوْكَرَةِ وَإِذَا هَلَكَ مِنْ مَالِهِمْ فِي الْبَحْرِ شَيْءٌ يُؤَدِّي ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنِ[6] لِلتُّجَّارِ بَدَلَهُ تَمَامًا، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي: أَنَّهُ لا يَحِلُّ لِلتَّاجِرِ أَخْذُ بَدَلِ الْهَالِكِ مِنْ مَالِهِ لأنَّ هَذَا الْتِزَامٌ مَا لا يَلْزَمُ. فَإِنْ قُلْتَ: إنَّ الْمُودَعَ إذَا أَخَذَ أُجْرَةً عَلَى الْوَدِيعَةِ يَضْمَنُهَا إذَا هَلَكَتْ قُلْتُ لَيْسَتْ مَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لأنَّ الْمَالَ لَيْسَ فِي يَدِ صَاحِبِ السَّوْكَرَةِ بَلْ فِي يَدِ صَاحِبِ الْمَرْكَبِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ السَّوْكَرَةِ هُوَ صَاحِبُ الْمَرْكَبِ يَكُونُ أَجِيرًا مُشْتَرِكًا قَدْ أَخَذَ أُجْرَةً عَلَى الْحِفْظِ، وَعَلَى الْحَمْلِ، وَكُلٌّ مِنْ الْمُودَعِ وَالأجِيرِ الْمُشْتَرِكِ لا يَضْمَنُ مَا لا يُمْكِنُ الإحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْمَوْتِ وَالْغَرَقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنْ قُلْت: سَيَأْتِي قُبَيْلَ بَابِ كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ قَالَ لأخَرَ اُسْلُكْ هَذَا الطَّرِيقَ، فَإِنَّهُ آمِنٌ فَسَلَكَ، وَأُخِذَ مَالُهُ لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ مَخُوفًا وَأُخِذَ مَالُكَ فَأَنَا ضَامِنٌ ضَمِنَ وَعَلَّلَهُ الشَّارِحُ هُنَالِكَ بِأَنَّهُ ضَمِنَ الْغَارُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ لِلْمَغْرُورِ نَصًّا أَيْ بِخِلافِ الأُولَى، فَإِنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى الضَّمَانِ بِقَوْلِهِ فَأَنَا ضَامِنٌ، وَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ الأصْلُ أَنَّ الْمَغْرُورَ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ لَوْ حَصَلَ الْغُرُورُ فِي ضِمْنِ الْمُعَاوَضَةِ أَوْ ضَمِنَ الْغَارُّ صِفَةَ السَّلامَةَ لِلْمَغْرُورِ فَيُصَارُ كَقَوْلِ الطَّحَّانِ لِرَبِّ الْبُرِّ: اجْعَلْهُ فِي الدَّلْوِ فَجَعَلَهُ فِيهِ، فَذَهَبَ مِنْ النَّقْبِ إلَى الْمَاءِ، وَكَانَ الطَّحَّانُ عَالِمًا بِهِ يَضْمَنُ؛ إذْ غَرَّهُ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ وَهُوَ يَقْتَضِي السَّلامَةَ. قُلْت: لا بُدَّ فِي مَسْأَلَةِ التَّغْرِيرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْغَارُّ عَالِمًا بِالْخَطَرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الطَّحَّانِ الْمَذْكُورَةِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَغْرُورُ غَيْرَ عَالِمٍ إذْ لا شَكَّ أَنَّ رَبَّ الْبُرِّ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِنَقْبِ الدَّلْوِ يَكُونُ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِمَالِهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَفْظُ الْمَغْرُورِ يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ لُغَةً لِمَا فِي الْقَامُوسِ غَرَّهُ غَرًّا وَغُرُورًا فَهُوَ مَغْرُورٌ وَغَرِيرٌ خَدَعَهُ وَأَطْمَعَهُ بِالْبَاطِلِ فَاغْتَرَّ هُوَ. وَلا يَخْفَى أَنَّ صَاحِبَ السَّوْكَرَةِ لا يَقْصِدُ تَغْرِيرَ التُّجَّارِ، وَلا يَعْلَمُ بِحُصُولِ الْغَرَقِ هَلْ يَكُونُ أَمْ لا، وَأَمَّا الْخَطَرُ مِنْ اللُّصُوصِ، وَالْقُطَّاعِ فَهُوَ مَعْلُومٌ لَهُ، وَلِلتُّجَّارِ لأَنَّهُمْ لا يُعْطُونَ مَالَ السَّوْكَرَةِ إلا عِنْدَ شِدَّةِ الْخَوْفِ طَمَعًا فِي أَخْذِ بَدَلِ الْهَالِكِ، فَلَمْ تَكُنْ مَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا، نَعَمْ: قَدْ يَكُونُ لِلتَّاجِرِ شَرِيكٌ حَرْبِيٌّ فِي بِلادِ الْحَرْبِ، فَيَعْقِدُ شَرِيكُهُ هَذَا الْعَقْدَ مَعَ صَاحِبِ السَّوْكَرَةِ فِي بِلادِهِمْ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ بَدَلَ الْهَالِكِ، وَيُرْسِلُهُ إلَى التَّاجِرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا يَحِلُّ لِلتَّاجِرِ أَخْذُهُ لأنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ جَرَى بَيْنَ حَرْبِيَّيْنِ فِي بِلادِ الْحَرْبِ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ مَالُهُمْ بِرِضَاهُمْ فَلا مَانِعَ مِنْ أَخْذِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ التَّاجِرُ فِي بِلادِهِمْ، فَيَعْقِدُ مَعَهُمْ هُنَاكَ، وَيَقْبِضُ الْبَدَلَ فِي بِلادِنَا أَوْ بِالْعَكْسِ، وَلا شَكَّ أَنَّهُ فِي الأُولَى إنْ حَصَلَ بَيْنَهُمَا خِصَامٌ فِي بِلادِنَا لا تُقْضَى لِلتَّاجِرِ بِالْبَدَلِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ خِصَامٌ وَدَفَعَ لَهُ الْبَدَلَ وَكِيلُهُ الْمُسْتَأْمَنُ هُنَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ لأنَّ الْعَقْدَ الَّذِي صَدَرَ فِي بِلادِهِمْ، لا حُكْمَ لَهُ فَيَكُونُ قَدْ أَخَذَ مَالَ حَرْبِيٍّ بِرِضَاهُ وَأَمَّا فِي صُورَةِ الْعَكْسِ بِأَنْ كَانَ الْعَقْدُ فِي بِلادِنَا، وَالْقَبْضُ فِي بِلادِهِمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لا يَحِلُّ أَخْذُهُ، وَلَوْ بِرِضَا الْحَرْبِيِّ لِابْتِنَائِهِ عَلَى الْعَقْدِ الْفَاسِدِ الصَّادِرِ فِي بِلادِ الإسْلامِ، فَيُعْتَبَرُ حُكْمُهُ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَاغْتَنِمْهُ فَإِنَّك لاَ تَجِدُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ."[7]

ولم يكتب ابن عابدين غير هذا الرأي وكان مقصوراً على التأمين البحري، واختتمه بدعوة القارئ أو طالب الرأي، اغتنام حججه في المسألة لأنه لا يجده في غير كتابه. يعني هذا أن ابن عابدين كان عارفاً بعدم وجود موقف إسلامي سابق من التأمين قبل إدلائه برأيه. ثم جاء دور الشيخ محمد عبده (1849-1905) سنة 1903 في نص ينسب إليه أتخذ هو الآخر شكل رأي فقهي أجاز فيه التأمين على أحد أشكال التأمين على الحياة.

 "سأل جناب المسيو "هور روسل" في رجل يريد أن يتعاقد مع جماعة (شركة مثلاً) على أن يدفع لهم مالاً من ماله الخاص على أقساط معينة ليعملوا فيها بالتجارة واشترط عليهم أنه إذا قام بمَ ذُكر أو انتهى أمد الاتفاق المعين بانتهاء الأقساط المعينة، وكانوا قد عملوا في ذلك المال، وكان حياً فيأخذ ما يكون له من المال مع ما يخصه من الأرباح، وإذا مات في أثناء تلك المدة فيكون لورثته أو لمن له حق الولاية في ماله أن يأخذوا المبلغ تعلق مورثهم مع الأرباح، فهل مثل هذا التعاقد الذي يكون مفيداً لأربابه بما ينتجه لهم من الربح جائز شرحاً؟ نرجو التكرم بالإفادة." وقد أجاب الشيخ محمد عبده عن ذلك بالإجابة التالية، وهي النص الرسمي للفتوى المشهورة: "لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل وهؤلاء الجماعة على الصفة المذكورة كان ذلك جائز شرعاً، ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط والعمل في المال وحصول الربح أن يأخذ، لو كان حياً، ما يكون له من المال مع ما خصه في الربح. وكذا يجوز لمن يوجد بعد موته من ورثته أو من له ولاية التصرف في ماله بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال مع ما أنتجه من الربح. والله أعلم."[8]

وهذين النصين الصغيرين يؤسسان لمنهجين في التعامل مع التأمين على المستوى الفكري والعملي في العالم العربي، فكلاهما يرتبطان بواقع كان قائماً في زمانهما في فرعي التأمين البحري والتأمين على الحياة. فأبن عابدين أسس، من حيث لا يدري، لمدرسة التحريم ومحمد عبده، في الإفادة المنسوبة إليه المفتقرة للمحاجة، أسس بدوره لمدرسة الإباحة، وما زال الجدل يدور بين الاثنين رغم قيام نشاط تأميني متميز آخذ بالنمو المستمر باسم التأمين الإسلامي أو التكافلي أو التعاوني. ويعني هذا النشاط أن تكييف النص الديني الاجتهادي مع متطلبات مجابهة الآثار المالية السيئة لأخطار الطبيعة والصناعة وعلى الأموال والأشخاص أمر ممكن من خلال تطويع وتطوير الآليات القائمة (التجارية الرأسمالية)، لتحويل عبء الخطر، لتتماشى مع فهم معين، سلبي أو إيجابي، للنصوص الدينية المتوارثة.

وليس من المغالاة في المقارنة التأكيد على أن الموقف النظري، بالنسبة للتأمين الإسلامي أو التعاوني أو التكافلي، كان سابقا على ممارسة هذا النوع من التأمين، وهو ما مهد للمساوقة بين آلية التأمين التجاري الذي يحرمه البعض ومفاهيم التعاون أو التكافل المقبولة اجتماعياً والقابلة للترجمة في أرض الواقع ضمن قيود معينة (الفصل بين رأسمال الشركة وحقوق حملة وثائق التأمين، توزيع الفائض، أي الأرباح، على حملة هذه الوثائق، اعتماد موقف ديني أخلاقي عند استثمار الأموال المتجمعة لدى شركة التأمين كعدم الاستثمار في الشركات المنتجة للخمور أو التي تتعاطى بلحم الخنزير، تشكيل مجلس شرعي للإشراف وغيرها).

قد يقول البعض أن النص المؤسس للتأمين موجود في القرآن وهو ما يسميه د. عيسى عبده بـ "التأمين الأصيل" وهو ما لا نتفق معه في إقحام النص الديني لمحاكمة شأن دنيوي.[9] فلا يرد في هذا النص الديني ما يفيد تنظيم النشاط التأميني، في صفته التجارية القائمة على تحقيق الربح أو صفته التبادلية في تحقيق فائض مالي، بموجب عقد قانوني ملزم، وصندوق لتجميع الأقساط وتسديد مستحقات المتضررين، ومؤسسة تتولى تنظيم العلاقة التأمينية. لا يعني هذا أن المجتمعات البشرية لم تشهد أشكالاً بدائية من التأمين بدون توفر عقد صريح مكتوب مثلاً، ولا يعني أيضاً وجود أشكال من التعاضد الاجتماعي الذي يحث عليه الدين الإسلامي وهو، في جوهره، جزء من التعاون الذي يقوم بين الناس، في مختلف أنحاء العالم، لإدارة حياتهم الاجتماعية. لكن النص الديني المتوارث لم يترجم نفسه عبر التاريخ في كيانات تشابه صندوق التأمين وتقوم بوظيفة التعويض عن العوار المادي والبدني الذي يلحق الناس في حياتهم كما يلحق الشركات.

 لسنا هنا بصدد رصد حالة البحث والكتابة عن التأمين في العالم العربي ولا استعراض ما كتب عنه (وهو ما لا طاقة لنا عليه) بل مجرد الإشارة إلى البطء الذي وسم إنتاج المؤلفات التأمينية بالعربية والغياب الفاضح للتأليف التاريخي. وبما أننا لسنا بمؤرخين محترفين، إذ لا نمتلك أدوات البحث التاريخي، نتمنى أن يقوم غيرنا برصد تاريخ النشاط التأميني بدءاً من الأشكال البدائية للتعاون الجماعي لدرء نتائج الحوادث العرضية التي تلحق بالناس وبممتلكاتهم وصولاً إلى الوقت الحاضر. وكذلك تحديث بعض المؤلفات الموجودة لتأخذ بالحسبان تطور الممارسة والتغييرات القانونية وما استجد في مجال البحث عن قضايا التأمين على مستوى العالم. ويمكن لمشروع التحديث هذا، في جانب منه، إن يتخذ شكل ترجمة منظومة من الكتب الإنجليزية، مثلاً، لسد الثغرة القائمة في المعرفة التأمينية الحديثة والنقص في البيانات التأمينية في اللغة العربية. وفي نفس الوقت يقوم المعنيون والمهتمون بالأمر بالبحث على المستوى الأكاديمي ومستوى الشركات.[10] ربما نتجاوز الواقع في طموحنا إن قلنا بأن مثل هذا المشروع قد يساهم في زرع نواة لتشكيل موقف فكري تأميني نابع من التجربة في البلدان العربية ويستفيد من الإنتاج التأميني في العالم. لا ننكر أن الكتابة عن التأمين مستمرة من خلال النشر في المجلات التأمينية المتخصصة، على قلة هذه المجلات وضعف إخراجها وتحريرها، وفي العديد من الندوات التي تقام في مختلف البلاد العربية ومنها ندوات الاتحاد العام العربي للتأمين. كما أن بعض الجامعات والمعاهد تقوم بتدريس مادة التأمين. المشكلة الأساسية، في تقديرنا، تكاد أن تنحصر في الفقر في البحث التاريخي والأكاديمي. لم تقم الشركات القائمة، حسب علمنا، بتكليف باحث للكتابة عن تاريخها، ولم يقم أركان صناعة التأمين المخضرمين بتدوين سيرهم الذاتية أو مذكراتهم. ولا تزال مكتبة التأمين العربية تفتقر إلى ببلوغرافيا بالمؤلفات العربية في التأمين (كتب، مقالات، نصوص محاضرات وغيرها). وهي تفتقر أيضاً إلى المجموعات الإحصائية، للشركة الواحدة أو أحد الأسواق، التي تغطي فترات طويلة والتي تعين الباحث الناشئ. ولا نقرأ ما يرصد أو ينظّر للدور الاقتصادي، الاستثماري للأرصدة التأمينية. وما يكتب عن بعض أوجه النشاط التأميني لا يحيل القارئ إلى المصادر والمراجع وهي ضرورية لخلق حالة من الوعي المشترك بها وتسهيل البحث. هذه محاولة أولية متواضعة للتنبيه على أهمية الارتقاء بالكتابة والبحث في الشأن التأميني. نأمل من زملاءنا تقويم ما أعوج في عرضنا والتوسع فيه.

مصباح كمال لندن 15 آب/أغسطس 2008

الهوامش

 [1] جمال الحكيم، التأمين البحري (القاهرة: مطبعة القاهرة الجديدة، الطبعة الثانية 1979 [الطبعة الأولى 1955])، ص 11. وقد أتى آدم سميث على ذكر فكرة هذا القانون في كتابه ثروة الأمم. ومما قاله إن: “The trade of insurance gives great security to the fortunes of private people, and by dividing among a great many that loss which would ruin an individual, makes it fall light and easy upon the whole society.” Adam Smith, An Inquiry into the Nature And Causes of the Wealth of Nations (1776), Book Five, Of the Revenue of the Sovereign or Commonwealth. CHAPTER I, Of the Expenses of the Sovereign or Commonwealth, PART 3, Of the Expense of Public Works and Public Institutions, ARTICLE 1. http://216.239.59.104/search?q=cache:vjZp_zdSlsEJ:www.adamsmith.org/smith/won-b5-c1-article-1-ss3.htm+adam+smith+wealth+of+nations+insurance&hl=en&ct=clnk&cd=2&gl=uk [2] "نظرات تاريخية في التأمين، تأليف: إيرفنغ فيفّر و ديفيد كللوك، ترجمة وتقديم مصباح كمال: مقدمة: موقع شريعة حمورابي في تاريخ التأمين." يمكن قراءة الموضوع في مدونتي Iraq Insurance Review باستخدام الرابط: http://misbahkamal.blogspot.com/2008_07_01_archive.html [3] أحمد شكري الحكيم، التأمين وإعادة التأمين في اقتصاديات الدول النامية (القاهرة: مكتبة الانجلو المصرية، [1971])
[4] هناك إشارات تاريخية سريعة في بعض الكتب لا تحيل إلى مصادر ومراجع ومنها كتاب باسم فارس: Bassim A. Faris, Insurance and Reinsurance in the Arab World (London: Kluwer Publishing, 1983)
[5] كلمة سَوْكَرَةً التي يستخدمها ابن عابدين هي، كما يظهر من سياق النص، كناية عن قسط التأمين. وتستخدم الكلمة في العامية العراقية كمقابل للضمان أو ما هو مؤكد. وترد الكلمة بالتركية sigorta كمقابل للتأمين ولا نعرف أصل هذه الكلمة. ولعل المراد بالسوكرة في النص المقتبس قسط التأمين والحماية التأمينية معاً كما نفهمها في زماننا.
 [6] تفيد كتب الفقه الإسلامي أن المستأمن هو الحربي الذي يدخل دار الإسلام بأمانٍ مؤقت لغرضٍ يقتضيه، ومتى ما انتهى ذلك الغرض خرج لبلاده. مصطلحات دار الحرب (البلاد التي لم يجرِ بينها وبين دار الإسلام عهد أو صلح) ودار السلام (بلاد الإسلام التي تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة) والمستأمن والذمي (المقيم بدار الإسلام إقامة دائمة بأمان مؤبّد) والحربي والمعاهَد (الحربي الذي تعاقد مع المسلمين على ترك القتال لمدّةً معلومة، فهو من أهل البلاد المتعاقد معهم) وغيرها أصبحت بالية لا تستقيم مع الواقع وتكشف عن ضعف فاضح، ومكانها يجب أن يبقى محصوراً في كتب الاختصاص بعد تطور أحكام القانون الدولي والتنظيم الدولي وانتشار المبادئ الإنسانوية وتقديم مفهوم المواطنة والمساواة في الحقوق والحريّات بين الناس على غيرها من مفاهيم.
[7] ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الإبصار المعروف باسم حاشية ابن عابدين. يمكن قراءة النص الأصلي باستخدام الرابط التالي: http://www.almeshkat.com/books/open.php?cat=38&book=2466
[8] عيسى عبده، التأمين الأصيل والبديل (بيروت: دار البحوث العلمية، 1972) ص 28-29
[9] يرتكز هذا الموقف على التراث الإيديولوجي الإسلامي السلفي الذي يعاني من إشكالية التعامل مع ما يسمى بالبدع وخاصة الغربية منها. والتأمين في هذا الإطار هو أحد هذه البدع وهو لا يستقيم مع النص الديني ولذلك فهو مرفوض. ومن أجل التعايش مع مطالب العصر الحديث يتولى السلفي نقد البدعة والقابلين بها أو المقلدين لها بالرجوع إلى النص القرآني لتأصيل نشاط تأميني موهوم. وهذا ما يشي به عنوان الكاتب وما يرد في ثناياه. ومحاولة الكاتب هذه تندرج تحت باب ما يسميه د. حسن حنفي بـ "الـتجديد من الخارج: ذلك عن طريق مذهب أوروبي حديث أو معاصر ثم قياس التراث عليه ورؤية هذا المذهب المنقول في تراثنا القديم وقد تحقق من قبل. ومن ثم نفتخر بأننا وصلنا إلى ما وصل إليه الأوربيون المعاصرون بعشرة قرون أو أكثر من قبل." التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط 5، 2002)، ص 31. اورد هذا الاقتباس يوسف بن عدي: "البديل السلفي في فكر عبدالله العروي: من المفارقة إلى إعادة بناء القطيعة،" المستقبل العربي، العدد 350، نيسان (أبريل) 2008، ص 95.
[10] في بريطانيا، على سبيل المثال، اتخذت الكتابة التاريخية عن التأمين في البدء، عموماً، تكليف الشركات الكبيرة والعريقة لمؤرخين للكتابة عن تاريخ أصول وتطور هذه الشركات ودورها في الاقتصاد الوطني. وهذا إضافة إلى كتابة تاريخ مثل هذه الشركات من قبل العاملين فيها. أنظر على سبيل المثال: P G M Dickinson, The Sun Insurance Office 1710-1960 (London: Oxford University Press, 1960), p v.

2009/03/05

الشركات الأجنبية وشركات التأمين العراقية وضرورة تعديل قانون تنظيم التأمين لسنة 2005 مصباح كمال كتبنا هذه الورقة بوحي من ورقتنا المعنونة "الاتفاقية الأولية" بين وزارة النفط وشركة شيل لمشروع غاز الجنوب والتأمين على أخطار المشروع المشترك (لندن 29 كانون الأول 2009) التي وزعناها على شركات التأمين العراقية. وكنا قد عرضنا بعض الأفكار الواردة في الورقة الحالية على أحد زملاء المهنة في العراق لاستمزاج الرأي، ولعله يكتشف بعض النصوص التي ثبتناها في تخاطبنا معه. القدرات الحالية لشركات التأمين العراقية متدنية عند مقارنتها مع مثيلاتها في أسواق التأمين العربية. ويعود هذا التدني لأسباب عديدة بعضها تاريخية والبعض الآخر منها يعود للتركيبة الداخلية لشركات التأمين. ويشمل هذا التدني، من بين أمور أخرى، نوعية الكوادر الإدارية العليا والمتوسطة، والتفاوت في قدراتها، ومستوى الأداء، والمستوى المعرفي للعاملين. ونعرف أن الإطار القانوني الحالي لعمل شركات التـامين يعمل في غير صالحها، كما أن المؤسسات التأمينية الأخرى (الديوان والجمعية) ليست فعّالة وتكاد أن تراوح في مكانها، وقد يمضي بعض الوقت قبل أن تستطيع تكييف عملها وفرض الدور المتوقع منهما. واعتماداً على هذه القناعة فإن شركات التأمين العراقية ليست قادرة بالوفاء بالمتطلبات التأمينية للشركات الصناعية والتجارية العالمية التي تعمل أو ستعمل في العراق. الأطروحة الذي حاولنا ونحاول توصيلها، وبتواضع، للعاملين في سوق التأمين العراقي، تقوم على التنبيه إلى أهمية دراسة القوانين الحالية وممارسات طالبي التأمين من العراقيين والأجانب ومحاولة تغييرها لصالح شركات التأمين العراقية. وهي أطروحة تبدو بسيطة لكن العمل على تحقيقها يحتاج إلى جهود جماعية، وتحرك مؤسسي نظراً للمصالح المترسخة التي تقف وراء الوضع الحالي لقطاع التأمين العراقي. نشر بضع مقالات هنا وهناك وفي مدونة مجلة التأمين العراقي لا يفي بالمرام إن لم يتبعه نقاش واسع، وتحديد لرؤى يصار إلى توصيلها للجهات صاحبة القرار السياسي-الاقتصادي والتشريعي. ونرى أن حالة شبه الركود في قطاع التأمين العراقي ناتج عن غياب رؤية أو عدم وضوح الرؤية لما يراد لهذا القطاع من دور يؤديه سواء بين العاملين فيه أو لدى مؤسسات الدولة المعنية به. نعلم أن الرؤية العامة للاقتصاد العراقي ليست واضحةً والتأمين، ربما، يعبر عن ذات عدم الوضوح العام. لكن ذلك لا يعفي أهل التأمين من إعادة ترتيب بيتهم الوطني، الفيدرالي، المشترك. وهو مسعى يستلزم بذل الكثير من الجهد وليس الاكتفاء بالوقوف على تخوم الأمنيات أو انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع. التحدي الحقيقي هو النهوض بمستوى العمل، في مختلف وجوهه، لمواجهه الواقع وثقله غير العادي على شركات التأمين العراقية لأداء ما يتطلبه برنامج تأميني رفيع المستوى لشركة أجنبية تعمل في العراق قد يكون فيه الكثير من التعقيد، وقد يضم تغطيات جديدة لم تعهدها هذه الشركات. يحصل التقدم عندما تتعامل شركات التأمين العراقية مع متطلبات الزبون العالمي بالتعاون فيما بينها ومع من تختاره من وسطاء التأمين العالمين. هناك تفاصيل عديدة وسيناريوهات لدى الزبون الأجنبي لا نعرف الآن عنها إلا القليل من خلال تجارب سابقة لنا (ولكن ليس من المناسب إسقاط تجارب شخصية في بعض الأسواق العربية وغيرها على سوق التأمين العراقي الحالي). قد يأتي الزبون العالمي محملاً بسلة من المطالب التي حددها سلفاً؛ قد يأتي لوحده أو بمعية وسيط إعادة التأمين الذي اتفق معه على إدارة محفظة التأمين؛ وقد يهمل الاتصال بالمرة بشركات التأمين العراقية دون أن يتعرض للمساءلة: أو ليس هو مستثمر أجنبي يحق له التأمين لدى شركة تأمين عراقية أو أجنبية كما يرتأي وكما يقضي به قانون الاستثمار العراقي؟ ربما يستفيد من غطاء تأميني قائم في موطنه الأصلي يستطيع أن يدرج أخطاره العراقية تحته، ربما يستفيد من شركة تأمين مقبوضة. الخيارات والمشاهد لمواجهة أخطار المشروع عديدة ومختلفة. ما يهم الشركة الأجنبية، غالباً، هو إجراء التأمين على أصولها ومسؤولياتها القانونية خارج منظومة القواعد الرقابية التأمينية العراقية. ويوفر قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 الغطاء القانوني لإجراء التأمين خارج نظام الرقابة والإشراف على أعمال التامين. أي أن الشركة الأجنبية تقوم بإبرام عقد التامين على أصولها في العراق مع شركة تأمين غير مرخص لها مزاولة أعمال التأمين في العراق non-admitted. المهم بالنسبة لشركات التأمين العراقية اقتناص الفرصة والعمل على عدة جبهات الآن وليس بانتظار ما سيسفر عنه المستقبل بالنسبة للقوانين العراقية أو تحرك الزبائن العالميين ووسطائهم. (هناك مسائل تفصيلية تستحق من يعمل لها كالاتصال بوزارة النفط أو شركة نفط الجنوب وغيرها من الوزارات والمحافظات والشركات، العراقية والأجنبية، التي تتعامل بعقود كبيرة، التنسيق بين شركات التأمين في المرحلة الحالية بدلاً من استفراد واحدة منها بالعمل على الأخطار الكبيرة.. الخ) يثار السؤال عن مدى مواكبة شركات التأمين العراقية للمعايير الفنية والمالية (وهي متباينة في أوضاعها المالية وقدراتها على تسديد المطالبات وخدمة وثائق التأمين) التي تضعها الشركات العالمية عند التعامل مع المؤمن المحلي. قد يكون الجواب بالنفي. لكن هذه هي الفرصة للعمل الدءوب من قبل إدارات شركات التأمين للتعرف على هذه المعايير ومواكبتها. لا نستسهل الأمر في ظل مستوى المهارات والمعارف القائمة وضعف الإلمام باللغة الإنجليزية لكن "رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة." ولسنا هنا في معرض توصيف ما يجب على شركات التأمين القيام به من تغيير في المواقف وفي اتخاذ الإجراءات التنظيمية المناسبة داخل الشركات وفيما بينها. المطلوب البدء بعملية استكشاف بدائل لما هو قائم وعلى مستوى استراتيجي. فعلى سبيل المثال، نعرف أن تأسيس كيانات تأمينية كبيرة من خلال الاندماج أو الاستحواذ ليس ممكناً في الوقت الحاضر: القوانين لا تفرض رسملة عالية قد تدفع باتجاه الاندماج كما حصل في الأردن؛ الشركات الخاصة كيانات أشبه ما تكون بالعائلية يُغير أصحابها عليها للاستفادة من أرباحها. إزاء هذا الوضع، الذي قد يتغير متى ما توفر الرأسمالي (فرد أو مؤسسة) الذي يستطيع شراء شركتين أو ثلاث بهدف دمجها (لكن هذا يقع، حالياً، في باب الحلم). لذلك تظل فرصة التعاون وتعزيزه بين شركات التأمين القائمة موضوعاً يستحق العمل من أجله لصالح الجميع. أما رغبة الدولة، أو فلنقل رغبة مجموعة من المنتفعين من وجودهم داخل مؤسسات الدولة، في استجلاب المستثمرين الأجانب لقطاع التأمين، فإنهم لا يملكون القرار النهائي في تحديد مصائر هذا القطاع إن كان أهل هذا القطاع مدركين لما يريدونه بشأن تكوين وتطوير سوق وطني عراقي، ويضغطون على الشارع العراقي لتعديل القوانين والقرارات التوجيهية القائمة. من المناسب هنا أن نؤكد بأننا لسنا ضد الاستثمار الأجنبي (العربي وغير العربي) في قطاع التأمين العراقي. صدرت قوانين بشأن الاستثمار، وقانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 يسمح لشركات التأمين الأجنبية فتح فروع لها في العراق لمزاولة أعمال التأمين. ما يهمنا في المرحلة الحالية هو تعزيز دور الرأسمالية الوطنية ومساهمتها في شركات التأمين القائمة كي تصل إلى درجة مناسبة من الندية مع رأسمال الأجنبي. أنظر إلى أسواق التأمين في البلدان العربية سترى أن الشركات الوطنية هي المكون الأساسي للسوق. المطلوب من الدولة ليس إرضاء الأجنبي إلا في الحدود التي تخدم المصالح العراقية دون تفريط بأي منها. نحن لا ندعو إلى الانغلاق بل إلى حماية المصالح العراقية لأن الاقتصاد العراقي مازال ريعياً ومنكشفاً أمام تقلبات أسعار النفط وأسعار الصرف، ويحتاج إلى سياسات قوية لتنويع الموارد ويدخ التأمين في ضمن هذه الموارد. نعرف أن التجاذبات السياسية والطائفية والإثنية أدت إلى الالتباس في هذه المصالح لكننا نعتقد أن الشأن التأميني هو الأقل عرضة للتجاذب، وبالتالي هناك كوة يمكن النفاذ منها نحو تشكيل رؤية وطنية مشتركة لقطاع التأمين. قد نكون متفائلين فيما نقول ولعل الأيام تسفر عن خطل أو صحة هذه الموضوعة. كانت جميع محاولاتنا ولا تزال تصب في حث القطاع على النهوض من كبوته وخموده والخروج من العقلية القديمة التي يجري على هديها ممارسة العمل المكبل بالبيروقراطية وفقر التفويض للمراتب الوسطى. وطالما ظل القطاع ضعيفاً طالما زادت فرص المنتفعين أو الجاهلين في الدولة ومؤسساتها لتجاوز شركات التأمين. خمود القطاع يذكرنا بمواقف بعض أركانه، خاصة بين شركات التأمين العامة، عندما كانت بيرنغ بوينت إنكBearingPoint Inc تحاول الخصخصة الفورية لهذه الشركات سنة 2003 بعد شهور قليلة من الاحتلال، وبعد ذلك قيام السيد مايك بيكنز Mike Pekins بطلب من الوكالة الأمريكية للتنمية العالمية في تدبيج مسودة قانون تنظيم أعمال التأمين باللغة الإنجليزية اعتماداً على قانون التأمين الأردني[i] وما تبعه من استهانة بالرأي العراقي وخوف مدراء الشركات العامة من اتخاذ موقف نقدي قوي تجاه مسودته. ستظل مثل هذه المواقف ومشاعر الخوف قائمة، وبعضها من تركة الماضي، ما لم ينهض موقف قوي لدى القطاع، بجميع مكوناته، لتعزيز مكانة الشركات (مراجعة وتعديل قانون 2005) وعمل الشركات ذاتها للارتقاء بمستواها على جميع الأصعدة. في رسالة لنا لأحد زملاء المهنة في العراق اقترحنا التحرك الجماعي من خلال عدد من النشطاء في قطاع التأمين للعمل على تحفيز الجمعية والديوان للتحرك. ويمكن أن يبدأ تحرك مجموعة النشطاء باقتراح جدول أعمال لاجتماع عام أو مؤتمر، وكذلك إجراء البحوث بشأن بنود الجدول واختيار الأشخاص الذين سيقومون بالبحث وكتابة الأوراق كي تكون جاهزة للتوزيع قبل انعقاد الاجتماع. لاحظ بأننا تحدثنا عن إجراء البحوث وكتابة الأوراق فما نشر حتى الآن يدخل في باب التحليل العام والإشارة إلى بعض السياسات ولذلك فإن التحليل الملموس لقضايا السوق ما زال قائماً كاقتراح خلق كيانات تأمينية كبيرة، على سبيل المثال، تستطيع التناغم مع متطلبات الشركات الأجنبية الكبيرة التي سيزداد دورها في تنفيذ المشاريع الكبيرة، وغيرها من قضايا تستحق الدراسة كفكرة المؤمن القائد والمشاركة في التغطية وإدارة ترتيبات الواجهة .. الخ. الاستمرار في المناقشة ضروري لبلورة المواقف والسياسات لكننا نرى أن تكون بين العاملين في القطاع لتطوير الخطاب المناسب لهم وتوجيهها للسياسيين والمشرعين للوصول إلى التغيير المطلوب وليس مجرد التناقش معنا، كما يفعل بعض الزملاء، فأنا لست إلا مشاهداً عن بُعد لا أتوفر على تفاصيل كافية لما يجري داخل السوق. أملنا حقا هو أن يتسع النقاش بين العاملين ليكون في العلن. إن كان هناك حرج عند البعض للمشاركة فلا ضير من الاستمرار بدونهم. أو إن كان النقاش العلني لا يؤدي الغرض المطلوب منه فليتم ذلك في لقاء مغلق بين ممثلي الشركات. خلاف ذلك لعل في تجربة المؤتمر العراقي الدولي للمصارف الذي عقد في بغداد في نهاية كانون الثاني 2009 تحت شعار "نظام مصرفي عراقي متين وسيلة لإرساء عراق مزدهر" مثالاً لعقد مؤتمر مماثل لقطاع التأمين دون أن يكون دولياً بل يقتصر على العراقيين في الداخل، المكتوين بثقل تركة الماضي، والحيف القانوني الواقع على شركاتهم. مصباح كمال لندن 3 آذار 2009 [i] لا نستهين بقدرات الرجل فقد كان مفوض التأمين (1997-2005) لولاية أركنساس في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد كرمه مجلس الشيوخ في الولاية بالثناء والإطراء على عمله في العراق في قرار صدر بتاريخ 14 آذار 2005. يمكن الإطلاع على نص هذا القرار باستخدام الرابط التالي: http://www.arkleg.state.ar.us/assembly/2005/R/Bills/SR13.pdf

2009/03/04

الدور المتوقع لوسطاء التأمين في العراق: تقييم تصوري للمنافع التي يحملها وسيط التأمين لسوق التأمين مصباح كمال تقديم تهدف هذه الورقة إلى إبراز دور وسيط التأمين النموذجي[1] ومساهمته في إغناء سوق التأمين الوطني. ونأمل أن يأتي اليوم الذي يجد فيه الوسيط العراقي حضوراً له في سوق التأمين العراقي ليساهم في إكمال بنية السوق وتطوره نحو الأحسن. بعض الأفكار الواردة هنا مستلة من ورقة أعددناها بناءً على طلب إحدى الجهات في أحدى الدول العربية لإقناع وزارة معنية بموضوع وساطة التأمين للدفع باتجاه التشريع للسماح بفتح سوق التأمين أمام عمل شركات الوساطة. بالنسبة للعراق فإن قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 أفرد بضعة بنود لوظيفة الوسيط التأميني، وقد قمنا بدراستها سابقاً. تنحاز الورقة نحو إبراز جانب اقتصادي لوساطة التأمين، وكذلك التركيز على دور الوسطاء في التأمين على أعمال المؤسسات التجارية والصناعية تميزاً له عن التأمين على التأمينات الشخصية. نود أيضاً لفت نظر القارئ إلى أن التطبيقات العملية لوساطة التأمين تتخذ أشكالاً عديدة لا يمكن رصدها جميعاً في هذه الورقة. على القارئ أن يأخذ هذا بالحسبان إن كانت تجربته لا تستقيم مع بعض المقولات التي أوردناها. في غياب دور وسيط التأمين والحاجة له في دراسة نشرناها في المدونة Iraq Insurance Review في 4/9/2008 تحت عنوان "عن الوساطة ووساطة التأمين في العراق" ذكرنا أن سوق التأمين العراقي لم يهتم بموضوع "وساطة التأمين كعنصر مكّمل للعملية التأمينية، ومساهمة الوساطة في تطوير سوق التأمين من حيث زيادة حجم الأعمال المكتتبة، وتطوير بنية السوق، وإصدار التشريعات المناسبة." وحاولنا في تلك الدراسة تقديم تعليل لعدم الاهتمام بوساطة التأمين عندما ذكرنا: "أن المنتجات التأمينية ومطالب المؤمن لهم لم تكن بالتعقيد الذي يتطلب دوراً لشخص أو مؤسسة محترفة لتقديم المشورة الفنية وتوفير الخدمات الإضافية لتحليل الخطر وتحويل آثاره من خلال آلية التأمين .. الخ. إضافة لذلك، فإن السنوات الممتدة من 1964 لغاية 2000، وهي كامل عمر صناعة التأمين المؤممة، لم تشهد تنافساً بين شركات التأمين قد يستلزم مساعدة طرف متمرس ومحترف (وسيط التأمين) للمفاضلة بين الشركات من حيث الأسعار ونطاق التغطية ومستوى الخدمات." وتوسعنا في التحليل لإبراز العوامل التي تساعد في تأسيس دور لوساطة التأمين: "إن تباين الحاجات بين طالبي التأمين وتعقد الأخطار القابلة للتأمين وتعقد بنية السوق من حيث عدد الشركات التي تعرض الحماية التأمينية وأنواع المنتجات التأمينية المعروضة، أو تلك التي يتطلبها طالب التأمين، يوفر الفرصة لبروز دور الوسيط. وهذا هو الحال في الأسواق القائمة على التنافس. مقابل ذلك ترى أن الأسواق الأخرى، المقيدة أو التي تخضع للتخطيط المركزي، تميل إلى خلق نسق موحد للحاجات يلغي دور الوسيط وقد نجد ما يشبه هذا الوضع، فيما يخص المنتجات التأمينية، في الأسواق التنافسية عندما يصار إلى تقنين هذه المنتجات من خلال التشريع مثلاً وعندها تصبح خاضعة لتعرفة ثابتة."[2] وهكذا فإن تباين الحاجات بين طالبي التأمين وتعقد الأخطار القابلة للتأمين وتعقد بنية السوق عناصر أساسية لتشكيل الأرضية التي يقوم عليها نشاط التوسط التأميني. ولعل الدراسة الملموسة لتطور بعض أسواق التأمين العربية يمكن أن تكشف صحة هذه الأطروحة أو تقييدها لتتناسب مع الواقع التاريخي. فيما يلي سنحاول تقديم صورة نموذجية تقريبية، تصورية، لأهمية قيام نشاط وساطة التأمين. صحيح أن سوق التأمين العراقي ما زال هشاً وضعيفاً وليس هناك إقبال قوي على شراء الحماية التأمينية، من قبل الأفراد والشركات، لكن تطور الاقتصاد العراقي ونموه سيوفر فرصة لولوج بعض المستثمرين، بالتعاون مع متمرسين في صناعة التأمين العراقيين، حقل الوساطة التأمينية. قد يبدو هذا طموحاً واهماً لكن تعقيد الحياة الاقتصادية، وازدياد دور القطاع الخدمي، والنزوع نحو التخصص يؤشر على إمكانية نهوض وساطة التأمين مستقبلاً. دور وسطاء التأمين والمساهمة في النمو الاقتصادي يتميز وسطاء التأمين وإعادة التأمين المحترفون (فيما يلي سنشير إليهم اختصاراً بالوسطاء أو الوسيط حسب مقتضى السياق) عن غيرهم من الوسطاء أو وكلاء التأمين بامتلاكهم معرفة واسعة بأسواق التأمين، والمنتجات التأمينية (أغطية التأمين وإعادة التأمين)، وأسعار التأمين، والقدرة الاستيعابية لشركات التأمين. كما أنهم يمتلكون المهارات الضرورية لتلبية حاجات طالبي التأمين ومتطلبات شركات التأمين وإعادة التأمين في الأسواق المحلية والعالمية. ويقوم الوسطاء بتسهيل عملية شراء الحماية التأمينية المباشرة أو الإعادية بتفويض من زبائنهم ونيابة عنهم. ويقومون أيضاً بتقديم الخدمات للزبائن وشركات التأمين وإعادة التأمين كعنصر مكمل في عملية إجراء التغطية التأمينية المباشرة أو الإعادية. وفي الحالة النموذجية، فإن الوسطاء يعملون لصالح طالب التأمين والذود عن مصالحه والتصرف باستقلالية مهنية في التعامل مع شركات التأمين. ويقومون كذلك بمساعدة الزبائن في انتقاء أفضل الخيارات التأمينية للحماية من الأخطار، من حيث نطاق التغطية والأسعار، وانتقاء شركة التأمين التي ستقوم بالاكتتاب بوثيقة التأمين، من حيث قدرتها على تقديم الخدمات خلال فترة نفاذ التأمين وعلى رأسها تسوية التعويضات وتسديد مستحقاتها. ونود هنا أن نلفت الانتباه إلى أن دور الوسطاء، كم ذكرناه، يجب أن ينظر إليه في إطار الحماية التأمينية ودورها في الاقتصاد المعاصر. فالمعروف، وكما يشهد التاريخ الاقتصادي للغرب، أن القطاع الخاص، في غياب الحماية التأمينية، لا يستطيع الاستمرار في الأداء والإقدام على المخاطرة والإنفاق على البحث والتطوير والإبداع بدون حماية تأمينية. مؤسسات القطاع الخاص معرضة للتوقف عن العمل والهلاك الاقتصادي إن لم تستطع تمويل خسائرها المادية وتلك المترتبة على مسؤولياتها القانونية تجاه الأغيار[3] بكلفة اقتصادية معقولة (من خلال تسديد أقساط اقتصادية للتأمين، وهي الأقل كلفةً، أو الحصول على قروض ميسرة من المصارف لجبر الخسائر وهي ليست متوفرة دائماً لأن الشركة التي تعمل تحت وطأة الخسارة ليست بالزبون المرغوب). وما ذكرناه بشأن توقف الأعمال والتعرض للهلاك ينطبق على مؤسسات القطاع العام مع فارق أن تمويل الخسارة لدى القطاع العام، في غياب الحماية التأمينية، يتم من خلال خزينة الدولة – أي أن التمويل في نهاية المطاف هو من دافعي الضرائب أو، في حالة العراق، من الريع النفطي وهو المورد الأساسي للخزينة. القطاع الخاص، في غياب الحماية، لا يمتلك مثل هذا الامتياز وعليه أن يتدبر تمويل الخسارة من رأسماله أو بالاقتراض من المصارف – هذا إن كانت المصارف مستعدة لتقديم قروض لمؤسسة تعرضت لخسارة كبيرة. إذاً، لا محيص عن التأمين – الآلية الأكثر كفاءة واقتصاداً في تمويل الخسارة. التأمين وسيلة تمتاز بكفاءة كلفتها الاقتصادية في تحويل عبء أخطار الأعمال إلى شركات التأمين. وبهذا المعنى فإن الحماية التأمينية تساهم في دعم التقدم العلمي والتكنولوجي في مختلف المجالات كالطب والصناعات الدوائية، وتطوير المنتجات، واستكشاف الفضاء والتطبيقات التكنولوجية وغيرها. ويلعب وسطاء التأمين دوراً أساسياً في ترتيب عقود التأمين في هذه المجالات. ويساهم الوسطاء، جنباً إلى جنب مع شركات التأمين وإعادة التأمين، في تيسير أداء الاقتصاد الوطني والدولي لوظائفه. ففي غياب الدور التأميني، تمييزاً له عن دور استثماري، لشركات التأمين ووسطاء التأمين للحماية من أخطار الطبيعة وتلك المرتبطة بالإنتاج والفعل البشري، يتأثر النشاط الصناعي والتجاري سلباً بالتباطؤ أو التوقف. هذه النتيجة، التباطؤ والتوقف، تؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وهذا بدوره يترجم نفسه بتباطؤ وتوقف المنافع المالية التي يمكن أن تجنيها الأعمال والعاملين من استمرار النمو الاقتصادي. دور توزيعي لوسطاء التأمين يتخذ توزيع المُنتج التأميني أشكالاً مختلفة. ففي العديد من الأسواق، وخاصة في الدول المتقدمة، يتم القسم الأعظم من التوزيع من خلال الوسطاء فهم يشكلون رابطاً أساسياً بين شركات التأمين التي ترغب ببيع منتجاتها من وثائق التأمين وجمهور المستهلكين الذي يبحث عن الحماية التأمينية المناسبة. بصفتهم التوزيعية فإن الوسطاء يقومون بتوفير منتجات التأمين وإدارة الخطر لأولئك الذين يحتاجونها. وهم بذلك يساهمون في تعزيز المبادرة على دخول مخاطر اقتصادية استثمارية. ويقترن هذا الدور التوزيعي بمزايا أخرى نذكر بعضاً منها فيما يلي. إدخال وسائل تسويقية جديدة إدخال الممارسات الجديدة إلى السوق يقوم أساساً على تعميق وعي طالبي التأمين وجمهور المستهلكين عموماً بأنواع الحماية التي يوفرها التأمين باعتباره أحد الوسائل الفعالة والكفوءة لتحويل عبء الأخطار ووضعها على عاتق شركات التأمين. ويرتبط بهذا الجهد التسويقي تمايز وسيط التأمين في بيان الخيارات الحمائية المتوفرة لطالبي التأمين. قد يكون هناك تداخل بين وسيط التأمين وشركة التأمين في نشر أنماط من الوعي بأهمية التأمين لكن الوسيط يختلف عن شركة التأمين، التي تهتم بترويج المنتجات الخاصة بها، كونه حراً في عرض خدمات مختلف الشركات وفي تقديم خيارات لإدارة الخطر. إضافة إلى أن الوسيط يساهم في وضع طالب التأمين في مصاف شركة التأمين من حيث المعلومات الفنية والسعرية وشروط التأمين – أي الموازنة بين طرفي العقد وسنعرضه فيما بعد. نشر المعلومات بين الزبائن وشركات التأمين من خلال مساهمتهم التسويقية في تعميق فهم التأمين يقوم الوسطاء برفع مستوى الزبائن في تقييم حاجاتهم التأمينية، والخيارات البديلة المتوفرة لهم وكلفة تبني أو عدم تبني أي من الخيارات المناسبة لحمايتهم. ومن خلال خدمة حاجات الزبائن يقوم الوسطاء أيضاً بتجميع المعلومات عن الخسارات والأضرار التي يتكبدها الزبائن، وأقساط التأمين التي يسددونها، وإجراءات السيطرة على مصادر الأخطار التي يتعرضون لها وغيرها من معلومات. ومقابل ذلك يقوم الوسطاء بتجميع معلومات مختلفة عن شركات التأمين التي تؤمن على أخطار الزبائن. تنسيق وتحليل هاتين الفئتين من المعلومات تساعدان وسيط التأمين في تحسين نطاق التغطية التأمينية القائمة أو إدخال أغطية تأمينية إضافية أو جديدة. هذا النمط من العمل الاحترافي يساهم في رفع مكانة سوق التأمين من حيث مستوى المعارف، العملية والنظرية، لدى السوق، وكذلك صقل مستوى المهارات - وهذه من شأنها أن تساهم في جذب استثمارات جديدة لقطاع التأمين. دعم المنافسة هناك حوافز قوية (الاحتفاظ بتأمين محفظة أعمال المؤمن له، تعزيز قامته في سوق التأمين لجذب المزيد من الزبائن، توسيع حصته في السوق، تحقيق هامش جيد للربح وغيرها) تدفع الوسيط نحو خلق حالة من التنافس بين شركات التأمين للحصول على أفضل ما تستطيع أن تقدمه من أسعار وشروط وخدمات للزبائن. وتزداد أهمية المنافسة مع تطور وصقل إمكانيات الزبائن. ويجب أن نتذكر هنا أن العديد من الزبائن يفرضون التنافس بين وسطاء التأمين من خلال استدراج العروض من عدة وسطاء. في مثل هذه الأوضاع يتعين على شركات التأمين رفع مستوى أدائها لتستطيع مقابلة تحديات المنافسة التي يديرها الوسيط. إن الوضع التنافسي الذي يديره الوسيط سيترجم نفسه لصالح المؤمن له في صيغة منافع مختلفة تشمل تخفيض الأقساط وإدخال تحسينات على غطاء وثيقة التأمين وغيرها. تقليص الكلفة وسيط التأمين باعتباره منتجاً للأعمال يساهم في تقليص كلفة الإنتاج لدى شركة التأمين. ففي غياب وسيط التأمين يتوجب على شركة التأمين إنتاج أعمالها بذاتها وتحمّل تكاليفها. صحيح أن الوسيط يُكافأ على خدماته إلا أن مستوى هذه المكافأة (من خلال الأجور أو العمولة) هي أقل من كلفة الإنتاج التي تتحملها شركة التأمين في الإنتاج المباشر.[4] وهكذا فإن وسيط التأمين يساعد في تقليص تكاليف البيع والتسويق عند شركة التأمين. وفي ذات السياق فإن الوسيط يقلل أو يلغي كلفة البحث التي يتحملها طالب التأمين عند بحثه عن المنتج التأميني المناسب لأخطاره وشركة التأمين القادرة على تقديم أسعار تنافسيه للحماية من الأخطار مقرونة بمستوى الخدمات التي يرتضيها طالب التأمين. ولو توسعنا قليلاً في التحليل سنرى أن الاقتصاد سيستفيد من حضور وسيط التأمين في تخفيف وتقليص كلفة التأمين. تتحمل المؤسسات الصناعية والتجارية تكاليف التأمين، كعنصر أساسي في إنتاج السلع المادية أو الخدمات، للحماية من الآثار الضارة لمسببات الخطر غير المتوقعة (الطبيعية والبشرية وتلك المتعلقة بديناميكية تعقد العملية الإنتاجية) التي تؤثر على استمرارية الإنتاج وحتى فرص بقائها كمؤسسات منتجة. وفي أسواق التأمين المتقدمة لا تستطيع المؤسسات أن تقوم بأعمالها بدون ترتيب مجموعة من وثائق التأمين بعضها تفرضها قواعد حسن الإدارة لضمان البقاء في سوق تنافسي وبعضها مفروضة بقوة القانون. ولأن الوسيط يتمتع بالكفاءة في معرفة سوق التأمين (الأخطار التي يتعرض لها طالب التأمين وشركة التأمين المستعدة للتأمين على هذه الأخطار) فإنه يمارس دوراً مهماً في تخفيف عدم التأكد لدى طالب التأمين فيما يخص احتمال وقوع خسائر احتمالية والآثار المالية لهذه الخسائر. وفي هذا السياق فإن عدم التأكد يتخذ بعداً آخر وهو حقيقة أن طالب التأمين قد لا يعرف المتانة المالية لشركة التأمين وأحوال السوق من حيث توفر غطاء التأمين المناسب وشركات التأمين التي يمكم أن تكتتب بالغطاء بأسعار وشروط مناسبة.. الخ. ومقابل ذلك، فإن شركة التأمين أيضاً قد لا تعرف كل المعلومات عن طالب التأمين. ولذلك فإن إحدى الوظائف التي يقوم بها وسيط التأمين هي تجميع المعلومات الضرورية عن المشتري (طالب التأمين) والبائع أو المجهز (شركة التأمين)، وتصنيفها وعرضها بشكل مفهوم من قبل الطرفين: المشتري و البائع. هناك كلفة اقتصادية يتضمنها تجميع المعلومات وتصنيفها وتشذيبها لأغراض الاكتتاب بالتأمين وهو ما يتحملها وسيط التأمين. هذا لا يعني إعفاء طالب التأمين من تقديم المعلومات التي يعمل الوسيط على إعادة ترتيبها لأغراض الاكتتاب. ولا يعني، أيضاً، أن شركة التأمين لا تتحقق من المعلومات. موازنة العلاقة بين طالب التأمين وشركة التأمين القوة التفاوضية لطالب التأمين لا تعادل غالباً مثيلتها لدى شركة التأمين. وينطبق هذا القول على المؤسسات الصغيرة ومتوسطة الحجم عند تفاوضها مع شركات التأمين. إلا أن حضور الوسيط في العملية التفاوضية يخلق حالة من التوازن بين طرفي العقد، المشتري والبائع، وذلك لأن الوسيط، بحكم مؤهلاته، يستخدم خبرته المهنية وكذلك محفظة الأعمال التي يديرها للتفاوض مع شركة التأمين من موقع الندية معها للحصول على شروط تنافسية منها لصالح طالب التأمين. إضافة إلى ذلك، فإن الوسيط، أيضاً بفضل مؤهلاته، يفحص ويدقق المتانة المالية لشركة التأمين وقدرتها على تسديد المطالبات بالتعويض. طالب التأمين العادي ليس في وضع يؤهله للقيام بالوظيفة التدقيقية التي يقوم بها الوسيط. ومن المناسب التذكير هنا أن حجم أقساط محفظة طالب تأمين، عندما تكون كبيرة تمارس، بحد ذاتهاً ضغطاً كبيراً على تسعير الخطر من قبل شركة التأمين. وقد تكون العلاقة لذلك بين الطرفين غير متكافئة. ولهذا فإن شركة التأمين في هذه الحالة تعتمد على براعة وسيط التأمين والمعلومات المتوفرة لديه في موازنة العلاقة بحيث لا يكون سعر التأمين هو العنصر الأساس والوحيد في الاكتتاب.[5] الوسطاء وإدارة الخطر وسيط التأمين المحترف يوسع نطاق خدماته ليشمل تحليل تعرض طالب التأمين وموجوداته لمسببات الخسارة، ووسائل الحد من هذا التعرض والسيطرة عليه، وكذلك تحسين نوعية الخطر، بمعنى قدرة طالب التأمين على منع حدوث الأضرار وتحجيم نطاق آثارها عند وقوعها. وغالباً ما يقوم مهندسو وخبراء وسيط التأمين الآخرين بتنفيذ هذه الخدمة من خلال تقديم التوصيات المناسبة للمؤمن له. العديد من وسطاء التأمين العالميين يقدمون خدمات تتجاوز الخدمات التقليدية المرتبطة بتحويل عبء الخسارة من المؤمن لهم إلى شركات التأمين. هؤلاء الوسطاء يقدمون خدمات إضافية لها علاقة بالإدارة الكلية للمؤسسة الصناعية أو التجارية والتي قد تضم: · وسائل بديلة عن التأمين لتمويل الخسائر الاحتمالية. · وضع استراتيجيات لإدارة الخطر: التأمين الذاتي وتأسيس شركات التأمين المقبوضة كأدوات بديلة عن التأمين التجاري في الأسواق المفتوحة. · إدارة المطالبات بالتعويض. وفي معظم الأحيان يجري تقديم هذه الخدمات الإضافية لقاء أجور يجري الاتفاق بشأنها مع طالب التأمين. الوسيط وزيادة الإنتاج من الملاحظ أن أسواق التأمين العربية الأكثر تقدماً من حيث حجم أقساط التأمين هي التي يلعب فيها الوسطاء، المحليون والعالميون، دوراً بارزاً في ظل قوانين وتعليمات رقابية تتحسن باستمرار لتماشي مطالب المؤسسات التجارية والمالية الدولية. ولعل خير مثال على ذلك هو سوق التأمين في دولة الإمارات العربية المتحدة والمغرب. ويعني زيادة الإنتاج ارتفاع الكثافة التأمينية insurance density والتغلغل التأميني insurance penetration وهما مؤشران لتحديد أهمية قطاع التأمين في الاقتصاد الوطني. فالكثافة التأمينية معنية بقياس إنفاق الفرد على شراء الحماية التأمينية، وبالتالي فهي تعبر عن إجمالي أقساط التأمين المتحقق في البلد منسوباً إلى عدد السكان. أما مؤشر التغلغل التأميني فإنه يقيس نسبة دخل أقساط التأمين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهو بذلك يؤشر على أهمية قطاع التأمين في الاقتصاد الوطني وتطور هذا القطاع بالنسبة للاقتصاد الوطني ككل. إن كانت هذه النسبة مرتفعة فإن ذلك يعني أن قطاع التأمين ينمو بسرعة أكبر من سرعة نمو الاقتصاد الوطني. إن دراسة إحصائية بسيطة ستؤكد في تقديرنا على أن الكثافة التأمينية في العراق متدنية. ونرجو أن يقوم أحد الزملاء بدراسة النشاط التأميني العراقي من منظور تاريخي بالاستفادة من هذين المقياسيين. الوسيط المعنوي العالمي وتوطين ممارسات الوساطة العالمية بين التوجس والتوقع لو افترضنا قيام وسيط عالمي، من سوق لندن مثلاً حيث يخضع الوسيط للقوانين الرقابية للمملكة المتحدة، بالحصول على إجازة للعمل في العراق فإننا نتوقع منه إدخال ثقافة الشفافية في العمل والممارسات المرتبطة بها، والتأكيد على حماية مصالح المؤمن لهم، والحرفية المهنية. والأمل هو قيام مثل هذا الوسيط الأجنبي (المعنوي) بتطوير ممارسة حرفة الوساطة من خلال استيراد وتوطين الممارسات العالمية الجيدة والمتعارف عليها وتدريب العاملين لديه من العراقيين على اكتسابها ووسائل تطبيقها العملي. مثل هذا التطوير يعرف بانتشار spillover)) التأثيرات الجانبية للاستثمارات الأجنبية المباشرة. إن وسيطاً معنوياً من هذا النمط، بفضل خبرته العالمية، سيعكس هذه الخبرة في عمله في العراق أو هذا ما نتمناه أن يتحقق. في دراستنا التي أشرنا إليها في مستهل هذه الورقة، ذكرنا بعضاً من مخاوفنا، في ظل بقاء قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 على حاله دون تغيير، بشأن تحول الوسيط الأجنبي إلى "واجهة لخدمة الشركات الأجنبية العاملة في العراق وشركات التأمين وإعادة التأمين العالمية في الخارج والتي تكتتب بأعمال التأمين مباشرة في العراق دون أن يكون لقطاع التأمين العراقي أي دور في الاكتتاب بأعمال هذه الشركات. إذا ساد هذا الوضع ربما لن تحصد شركات التأمين العراقية من الوسيط والشركة الأجنبية غير وثائق تأمين بسيطة أو توفير وظيفة الواجهة لشركات التأمين وإعادة التأمين العالمية." اختتمنا دراستنا السابقة بالفقرة التالية عن تصورنا لتطور سوق التأمين العراقي ودور وسطاء التأمين، وهي ما نود اختتام هذه الورقة بها: "قد يشهد سوق التأمين العراقي، بعد استقرار الأوضاع الأمنية واستعادة الحياة الاعتيادية وتعاظم الدخول وازدياد عدد الشركات الصناعية والتجارية، وكذلك انتشار المعرفة بالتأمين ونهوض ثقافة الحقوق وما يترتب على ذلك من قيام المسؤوليات القانونية، تأسيس شركات عراقية لوساطة التأمين. قد يستغرق تأسيس مثل هذه الشركات زمناً طويلاً لكننا نتوقع أن تتطور وكالات الإنتاج الفردية إلى شركات وساطة أولاً. ويقتضي كل ذلك قيام ثقافة لإدارة الأعمال تشمل دوراً للوساطة يقوم على التخصص. شركات التأمين هي المعنية هنا إذ أن إنتاج الأعمال مقابل عمولة للوسيط يقتضي تغيراً في السياسة التسويقية وفي تقدير أقساط التأمين بافتراض أن شركات التأمين هي التي تكون مسئولة عن مكافأة الوسيط وليس المؤمن له."[6] مصباح كمال لندن 9 شباط 2009 [1] نعني بالوسيط في هذه الدراسة وسيط التأمين المعنوي المنظم كشركة تجارية مسجلة لدى الدوائر الرسمية ومجازة للعمل في وساطة التأمين وتخضع للرقابة، وليس الوسيط الشخصي. [2] مصباح كمال، "عن الوساطة ووساطة التأمين في العراق" مدونة Iraq Insurance Review http://misbahkamal.blogspot.com/search?updated-min=2008-01-01T00%3A00%3A00Z&updated-max=2009-01-01T00%3A00%3A00Z&max-results=44 [3] نتحدث هنا عن الخسائر القابلة للتأمين وليس ما يعرف بالخسائر التجارية كخسارة المستهلكين: عدم شراء منتجات المؤمن له لتغيير في الأذواق أو لدخول منتجات جديدة أقل سعراً من منتجات مماثلة. [4] ليس هذا بالمكان المناسب لتحليل كلفة الإنتاج عند شركة التأمين ويكفي أن نقول إن هذه الكلفة تضم الرواتب (للإدارة والتسويق والبيع)، المساهمات في صندوق التقاعد، أيجار المكاتب أو كلفة صيانتها والرسوم المترتبة عليها إن كانت مملوكة للشركة، تكاليف التدريب، مراقبة العمل .. الخ. اعتبارات الكلفة تفسر ميل شركات التأمين في الأسواق المتقدمة للاعتماد على وسطاء التأمين في الإنتاج رغم أن هناك ميلاً جديداً للبيع المباشر لوثائق التأمين الشخصية من قبل بعض شركات التأمين بفضل الفرص التي توفرها التكنولوجيا الإلكترونية. [5] نجد تعبيراً لهذا الوضع في المناقصات، ومنها مناقصات التأمين، حيث ينص على أن طالب التأمين ليس ملزماً بقبول أوطأ الأسعار، أي أن هناك اعتبارات أخرى لاتخاذ قرار بشأن قبول أي عرض. [6] مصباح كمال، "عن الوساطة ووساطة التأمين في العراق"، مصدر سابق.