إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2009/03/10

مداخلة حول تحديث البحث في التأمين وتاريخه في العالم العربي

مصباح كمال
نشرت هذه المقالة في التأمين العربي، مجلة الاتحاد العام العربي للتأمين، العدد 99، 2008. وننشره هنا لتعريف قراء المدونة بها وتوفير فرصة لمراجعة تاريخ التأمين في العراق الذي سننشر عنه مقالة في المدونة قريباً.

 الممارسة تأتي أولا وقد صدق من قدّم الممارسة، الفعل والعمل، على الكلمة، التنظير، دون أن يعني ذلك أن الممارسة لا تنطوي على تفكير أو فصم العلاقة بين الاثنين فهناك ارتباط متبادل تعاضدي بين الممارسة والفكر يغنيان بعضهما. هناك ممارسات تنتظر من ينّظر لها ويكتشف قواعدها لتكون موضوعا للتدريس والمزيد من المعرفة وكذلك تطوير الممارسة ذاتها. ممارسة التأمين كنشاط اقتصادي لم تنتظر وضع كتاب أو دليل عمل في أول عهدها في القرن السابع عشر وحتى لاحقا. فالمكتتبون-المغامرون الذين كانوا يجتمعون لتبادل المعلومات عن حركة السفن والتجارة البحرية وممارسة أعمالهم ذات العلاقة في مقهى لويدز (1688) في لندن لم يستهدوا في الممارسة بقانون مكتوب أو بكتاب. ممارسة التأمين البحري، أحد أقدم فروع التأمين، كانت قد بدأت بإشكالها الأولية قبل ذلك كما نعرف من قانون إنجليزي صدر في أواخر حكم الملكة إليزابيث (1533-1603). كان القانون يستوحي القواعد، بصيغة مختلفة، من الممارسة ويشذبها لتلبية مصالح معينة خاصة وعامة. وقبل هذا التاريخ لم تكن ممارسة التأمين تخضع لتنظيم قانوني. ويعتبر هذا القانون أول تشريع في تاريخ التأمين التجاري في بريطانيا. وتحدد مقدمة القانون وظيفة وغرض التأمين. وقد أورد جمال الحكيم نص المقدمة وترجمة له كما يلي:[1]

النص الإنجليزي:

 And whereas it bath [sic] been time out of mind and usage amongst merchants, both of this Realm and Foreign Nations, when they make any great adventure (specially into remote parts) to give some consideration of money to other persons (which commonly are in no small number) to have from them assurance made of their goods merchandises ships and things adventured, or some part thereof, at such rates and in such sort as the parties assurers and the parties assured can agree, which course of dealing is commonly termed a policy of assurance; by means of which policies it cometh to pass, upon the loss or perishing of any ship there followeth not the undoing of any man, but the loss lighteth rather easily upon many than heavily upon few, and rather upon them that adventure.

ترجمة النص:

" ... أي يفهم من عقد (بوليصة) التأمين البحري، أن فقد أو هلاك السفينة لا يتسبب عنه شقاء أي فرد، بل يكون عبء الخسارة بسيطاً بتوزيعه على عدد كبير من الأفراد أفضل مما لو لحقت خسارة جسيمة بنفر قليل منهم والعبء يكون موزعاً عليهم وبذلك لا تكون هناك مخاطرة. وهذا أضمن مما لو كان هناك مخاطرة. وبهذا فإن جميع التجار ـ صغار الدخل منهم على الأخص ـ يمكنهم المخاطرة برغبة وبجرأة."

لقد نشأ التأمين كنشاط اقتصادي متميز في صيغته الكلاسيكية في المراكز المدنية الأوروبية. وارتبط تطور هذا النشاط بتدخل الدولة من جهة، وبالاستجابة للحاجات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة وما يفرضه التقدم التكنولوجي من تحديات من جهة أخرى. وهو قطعاً لم ينشأ من فراغ بل استمد بعضاً من أصوله من ممارسات عميقة في أوروبا وفي مناطق أخرى من العالم ومنها العراق القديم.[2] وانتقل التأمين إلى العالم العربي من خلال الوكالات الأجنبية ضمن التوسع الرأسمالي الأوروبي الذي أتخذ شكلاً تجارياً ومن ثم كولونيالياً. ولسنا هنا بصدد التعرج لعرض هذا الأمر بل مجرد الإشارة إلى أن النشاط التأميني في العالم العربي لم يبدأ وطنياً. وقد مضت فترة طويلة قبل أن تأخذ النخب التجارية المحلية على عاتقها تأسيس شركات تأمين وطنية. فشركة التأمين الأهلية تأسست في مصر سنة 1900 إلا أن نشاطها كان ضيقاً (ولم تمارس التأمين على الحياة أولا وأسست شركة متخصصة في الإسكندرية، حيث يحتشد الأجانب، لبيع وثائق التأمين). وفي العراق تأسست أول شركة تأمين وطنية، شركة الرافدين للتأمين، سنة 1946. البحث في هذا التاريخ بحاجة إلى من ينهض به على المستوى الأكاديمي وربطه في سياق التطور الاقتصادي.

كانت الدراسات الأولى عن النشاط التأميني ذات طبيعة قانونية ثم أخذ النشاط موقعه في النظرية الاقتصادية وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية ففيها أصبح التأمين موضوعا للدراسة والبحث الأكاديمي المستقل أو المرتبط بدراسة النظم المالية والقانونية. وشهد العالم العربي تركيزا على دراسة الجوانب القانونية للتأمين، وصدرت بشأنها العديد من الكتب وخاصة في مصر. وصدرت دراسات مماثلة في دول عربية أخرى. ثم جاءت دراسة الجوانب الفنية وفروع التأمين المختلفة والقليل من الدراسات التي عالجت التأمين من منظور اقتصادي.[3] والكثير من هذه الكتب قد تجاوزها الزمن رغم أنها تظل شهادة تاريخية على الدور الذي قامت بها في تثقيف أجيال من ممارسي التأمين. فعلى سبيل المثال، اعتمد جيل خمسينات وستينات القرن العشرين في أكثر من قطر عربي فيما يخص تأمين الأخطار البحرية على كتاب جمال الحكيم. إن تاريخ تطور التأمين في العالم العربي، وهو موضوع صعب، لم يبحث بعد، وحتى تاريخ النشاط التأميني في كل قطر عربي، ارتباطاً مع التاريخ الاقتصادي، لم يحضى بدراسة.[4] وقد تكون مقارنة الإنتاج الفكري الضئيل في العالم العربي مع الغرب غير منصفة بسبب عراقة النشاط التأميني في بلدان أوروبية معينة كإيطاليا وإنكلترا وهولندة وغيرها. المقارنة ليست مطلوبة لذاتها وإنما التنبيه إلى حداثة البحث والتأليف في الشأن التأميني باللغة العربية. فأقدم نص عربي اتخذ شَكلَ رأي فقهي إسلامي، وكان في غير صالح التأمين، يعود إلى القرن التاسع عشر. فقد كتب الفقيه الشامي ابن عابدين (1784 - 1836) في حاشيته الشهيرة رد المحتار على الدر المختار، ونقتبس منه مطولاً، عن

 "مَطْلَبٌ مُهِمٌّ فِيمَا يَفْعَلُهُ التُّجَّارُ مِنْ دَفْعِ مَا يُسَمَّى سَوْكَرَةً[5] وَتَضْمِينِ الْحَرْبِيِّ مَا هَلَكَ فِي الْمَرْكَبِ. وَبِمَا قَرَرْنَاهُ يَظْهَرُ جَوَابُ مَا كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْهُ فِي زَمَانِنَا: وَهُوَ أَنَّهُ جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ التُّجَّارَ إذَا اسْتَأْجَرُوا مَرْكَبًا مِنْ حَرْبِيٍّ يَدْفَعُونَ لَهُ أُجْرَتَهُ، وَيَدْفَعُونَ أَيْضًا مَالاً مَعْلُومًا لِرَجُلٍ حَرْبِيٍّ مُقِيمٍ فِي بِلادِهِ، يُسَمَّى ذَلِكَ الْمَالُ: سَوْكَرَةً عَلَى أَنَّهُ مَهْمَا هَلَكَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي الْمَرْكَبِ بِحَرْقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ نَهْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَذَلِكَ الرَّجُلُ ضَامِنٌ لَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، وَلَهُ وَكِيلٌ عَنْهُ مُسْتَأْمَنٌ فِي دَارِنَا يُقِيمُ فِي بلادِ السَّوَاحِلِ الإسْلامِيَّةِ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ يَقْبِضُ مِنْ التُّجَّارِ مَالَ السَّوْكَرَةِ وَإِذَا هَلَكَ مِنْ مَالِهِمْ فِي الْبَحْرِ شَيْءٌ يُؤَدِّي ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنِ[6] لِلتُّجَّارِ بَدَلَهُ تَمَامًا، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي: أَنَّهُ لا يَحِلُّ لِلتَّاجِرِ أَخْذُ بَدَلِ الْهَالِكِ مِنْ مَالِهِ لأنَّ هَذَا الْتِزَامٌ مَا لا يَلْزَمُ. فَإِنْ قُلْتَ: إنَّ الْمُودَعَ إذَا أَخَذَ أُجْرَةً عَلَى الْوَدِيعَةِ يَضْمَنُهَا إذَا هَلَكَتْ قُلْتُ لَيْسَتْ مَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لأنَّ الْمَالَ لَيْسَ فِي يَدِ صَاحِبِ السَّوْكَرَةِ بَلْ فِي يَدِ صَاحِبِ الْمَرْكَبِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ السَّوْكَرَةِ هُوَ صَاحِبُ الْمَرْكَبِ يَكُونُ أَجِيرًا مُشْتَرِكًا قَدْ أَخَذَ أُجْرَةً عَلَى الْحِفْظِ، وَعَلَى الْحَمْلِ، وَكُلٌّ مِنْ الْمُودَعِ وَالأجِيرِ الْمُشْتَرِكِ لا يَضْمَنُ مَا لا يُمْكِنُ الإحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْمَوْتِ وَالْغَرَقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنْ قُلْت: سَيَأْتِي قُبَيْلَ بَابِ كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ قَالَ لأخَرَ اُسْلُكْ هَذَا الطَّرِيقَ، فَإِنَّهُ آمِنٌ فَسَلَكَ، وَأُخِذَ مَالُهُ لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ مَخُوفًا وَأُخِذَ مَالُكَ فَأَنَا ضَامِنٌ ضَمِنَ وَعَلَّلَهُ الشَّارِحُ هُنَالِكَ بِأَنَّهُ ضَمِنَ الْغَارُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ لِلْمَغْرُورِ نَصًّا أَيْ بِخِلافِ الأُولَى، فَإِنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى الضَّمَانِ بِقَوْلِهِ فَأَنَا ضَامِنٌ، وَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ الأصْلُ أَنَّ الْمَغْرُورَ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ لَوْ حَصَلَ الْغُرُورُ فِي ضِمْنِ الْمُعَاوَضَةِ أَوْ ضَمِنَ الْغَارُّ صِفَةَ السَّلامَةَ لِلْمَغْرُورِ فَيُصَارُ كَقَوْلِ الطَّحَّانِ لِرَبِّ الْبُرِّ: اجْعَلْهُ فِي الدَّلْوِ فَجَعَلَهُ فِيهِ، فَذَهَبَ مِنْ النَّقْبِ إلَى الْمَاءِ، وَكَانَ الطَّحَّانُ عَالِمًا بِهِ يَضْمَنُ؛ إذْ غَرَّهُ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ وَهُوَ يَقْتَضِي السَّلامَةَ. قُلْت: لا بُدَّ فِي مَسْأَلَةِ التَّغْرِيرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْغَارُّ عَالِمًا بِالْخَطَرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الطَّحَّانِ الْمَذْكُورَةِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَغْرُورُ غَيْرَ عَالِمٍ إذْ لا شَكَّ أَنَّ رَبَّ الْبُرِّ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِنَقْبِ الدَّلْوِ يَكُونُ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِمَالِهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَفْظُ الْمَغْرُورِ يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ لُغَةً لِمَا فِي الْقَامُوسِ غَرَّهُ غَرًّا وَغُرُورًا فَهُوَ مَغْرُورٌ وَغَرِيرٌ خَدَعَهُ وَأَطْمَعَهُ بِالْبَاطِلِ فَاغْتَرَّ هُوَ. وَلا يَخْفَى أَنَّ صَاحِبَ السَّوْكَرَةِ لا يَقْصِدُ تَغْرِيرَ التُّجَّارِ، وَلا يَعْلَمُ بِحُصُولِ الْغَرَقِ هَلْ يَكُونُ أَمْ لا، وَأَمَّا الْخَطَرُ مِنْ اللُّصُوصِ، وَالْقُطَّاعِ فَهُوَ مَعْلُومٌ لَهُ، وَلِلتُّجَّارِ لأَنَّهُمْ لا يُعْطُونَ مَالَ السَّوْكَرَةِ إلا عِنْدَ شِدَّةِ الْخَوْفِ طَمَعًا فِي أَخْذِ بَدَلِ الْهَالِكِ، فَلَمْ تَكُنْ مَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا، نَعَمْ: قَدْ يَكُونُ لِلتَّاجِرِ شَرِيكٌ حَرْبِيٌّ فِي بِلادِ الْحَرْبِ، فَيَعْقِدُ شَرِيكُهُ هَذَا الْعَقْدَ مَعَ صَاحِبِ السَّوْكَرَةِ فِي بِلادِهِمْ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ بَدَلَ الْهَالِكِ، وَيُرْسِلُهُ إلَى التَّاجِرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا يَحِلُّ لِلتَّاجِرِ أَخْذُهُ لأنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ جَرَى بَيْنَ حَرْبِيَّيْنِ فِي بِلادِ الْحَرْبِ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ مَالُهُمْ بِرِضَاهُمْ فَلا مَانِعَ مِنْ أَخْذِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ التَّاجِرُ فِي بِلادِهِمْ، فَيَعْقِدُ مَعَهُمْ هُنَاكَ، وَيَقْبِضُ الْبَدَلَ فِي بِلادِنَا أَوْ بِالْعَكْسِ، وَلا شَكَّ أَنَّهُ فِي الأُولَى إنْ حَصَلَ بَيْنَهُمَا خِصَامٌ فِي بِلادِنَا لا تُقْضَى لِلتَّاجِرِ بِالْبَدَلِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ خِصَامٌ وَدَفَعَ لَهُ الْبَدَلَ وَكِيلُهُ الْمُسْتَأْمَنُ هُنَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ لأنَّ الْعَقْدَ الَّذِي صَدَرَ فِي بِلادِهِمْ، لا حُكْمَ لَهُ فَيَكُونُ قَدْ أَخَذَ مَالَ حَرْبِيٍّ بِرِضَاهُ وَأَمَّا فِي صُورَةِ الْعَكْسِ بِأَنْ كَانَ الْعَقْدُ فِي بِلادِنَا، وَالْقَبْضُ فِي بِلادِهِمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لا يَحِلُّ أَخْذُهُ، وَلَوْ بِرِضَا الْحَرْبِيِّ لِابْتِنَائِهِ عَلَى الْعَقْدِ الْفَاسِدِ الصَّادِرِ فِي بِلادِ الإسْلامِ، فَيُعْتَبَرُ حُكْمُهُ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَاغْتَنِمْهُ فَإِنَّك لاَ تَجِدُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ."[7]

ولم يكتب ابن عابدين غير هذا الرأي وكان مقصوراً على التأمين البحري، واختتمه بدعوة القارئ أو طالب الرأي، اغتنام حججه في المسألة لأنه لا يجده في غير كتابه. يعني هذا أن ابن عابدين كان عارفاً بعدم وجود موقف إسلامي سابق من التأمين قبل إدلائه برأيه. ثم جاء دور الشيخ محمد عبده (1849-1905) سنة 1903 في نص ينسب إليه أتخذ هو الآخر شكل رأي فقهي أجاز فيه التأمين على أحد أشكال التأمين على الحياة.

 "سأل جناب المسيو "هور روسل" في رجل يريد أن يتعاقد مع جماعة (شركة مثلاً) على أن يدفع لهم مالاً من ماله الخاص على أقساط معينة ليعملوا فيها بالتجارة واشترط عليهم أنه إذا قام بمَ ذُكر أو انتهى أمد الاتفاق المعين بانتهاء الأقساط المعينة، وكانوا قد عملوا في ذلك المال، وكان حياً فيأخذ ما يكون له من المال مع ما يخصه من الأرباح، وإذا مات في أثناء تلك المدة فيكون لورثته أو لمن له حق الولاية في ماله أن يأخذوا المبلغ تعلق مورثهم مع الأرباح، فهل مثل هذا التعاقد الذي يكون مفيداً لأربابه بما ينتجه لهم من الربح جائز شرحاً؟ نرجو التكرم بالإفادة." وقد أجاب الشيخ محمد عبده عن ذلك بالإجابة التالية، وهي النص الرسمي للفتوى المشهورة: "لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل وهؤلاء الجماعة على الصفة المذكورة كان ذلك جائز شرعاً، ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط والعمل في المال وحصول الربح أن يأخذ، لو كان حياً، ما يكون له من المال مع ما خصه في الربح. وكذا يجوز لمن يوجد بعد موته من ورثته أو من له ولاية التصرف في ماله بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال مع ما أنتجه من الربح. والله أعلم."[8]

وهذين النصين الصغيرين يؤسسان لمنهجين في التعامل مع التأمين على المستوى الفكري والعملي في العالم العربي، فكلاهما يرتبطان بواقع كان قائماً في زمانهما في فرعي التأمين البحري والتأمين على الحياة. فأبن عابدين أسس، من حيث لا يدري، لمدرسة التحريم ومحمد عبده، في الإفادة المنسوبة إليه المفتقرة للمحاجة، أسس بدوره لمدرسة الإباحة، وما زال الجدل يدور بين الاثنين رغم قيام نشاط تأميني متميز آخذ بالنمو المستمر باسم التأمين الإسلامي أو التكافلي أو التعاوني. ويعني هذا النشاط أن تكييف النص الديني الاجتهادي مع متطلبات مجابهة الآثار المالية السيئة لأخطار الطبيعة والصناعة وعلى الأموال والأشخاص أمر ممكن من خلال تطويع وتطوير الآليات القائمة (التجارية الرأسمالية)، لتحويل عبء الخطر، لتتماشى مع فهم معين، سلبي أو إيجابي، للنصوص الدينية المتوارثة.

وليس من المغالاة في المقارنة التأكيد على أن الموقف النظري، بالنسبة للتأمين الإسلامي أو التعاوني أو التكافلي، كان سابقا على ممارسة هذا النوع من التأمين، وهو ما مهد للمساوقة بين آلية التأمين التجاري الذي يحرمه البعض ومفاهيم التعاون أو التكافل المقبولة اجتماعياً والقابلة للترجمة في أرض الواقع ضمن قيود معينة (الفصل بين رأسمال الشركة وحقوق حملة وثائق التأمين، توزيع الفائض، أي الأرباح، على حملة هذه الوثائق، اعتماد موقف ديني أخلاقي عند استثمار الأموال المتجمعة لدى شركة التأمين كعدم الاستثمار في الشركات المنتجة للخمور أو التي تتعاطى بلحم الخنزير، تشكيل مجلس شرعي للإشراف وغيرها).

قد يقول البعض أن النص المؤسس للتأمين موجود في القرآن وهو ما يسميه د. عيسى عبده بـ "التأمين الأصيل" وهو ما لا نتفق معه في إقحام النص الديني لمحاكمة شأن دنيوي.[9] فلا يرد في هذا النص الديني ما يفيد تنظيم النشاط التأميني، في صفته التجارية القائمة على تحقيق الربح أو صفته التبادلية في تحقيق فائض مالي، بموجب عقد قانوني ملزم، وصندوق لتجميع الأقساط وتسديد مستحقات المتضررين، ومؤسسة تتولى تنظيم العلاقة التأمينية. لا يعني هذا أن المجتمعات البشرية لم تشهد أشكالاً بدائية من التأمين بدون توفر عقد صريح مكتوب مثلاً، ولا يعني أيضاً وجود أشكال من التعاضد الاجتماعي الذي يحث عليه الدين الإسلامي وهو، في جوهره، جزء من التعاون الذي يقوم بين الناس، في مختلف أنحاء العالم، لإدارة حياتهم الاجتماعية. لكن النص الديني المتوارث لم يترجم نفسه عبر التاريخ في كيانات تشابه صندوق التأمين وتقوم بوظيفة التعويض عن العوار المادي والبدني الذي يلحق الناس في حياتهم كما يلحق الشركات.

 لسنا هنا بصدد رصد حالة البحث والكتابة عن التأمين في العالم العربي ولا استعراض ما كتب عنه (وهو ما لا طاقة لنا عليه) بل مجرد الإشارة إلى البطء الذي وسم إنتاج المؤلفات التأمينية بالعربية والغياب الفاضح للتأليف التاريخي. وبما أننا لسنا بمؤرخين محترفين، إذ لا نمتلك أدوات البحث التاريخي، نتمنى أن يقوم غيرنا برصد تاريخ النشاط التأميني بدءاً من الأشكال البدائية للتعاون الجماعي لدرء نتائج الحوادث العرضية التي تلحق بالناس وبممتلكاتهم وصولاً إلى الوقت الحاضر. وكذلك تحديث بعض المؤلفات الموجودة لتأخذ بالحسبان تطور الممارسة والتغييرات القانونية وما استجد في مجال البحث عن قضايا التأمين على مستوى العالم. ويمكن لمشروع التحديث هذا، في جانب منه، إن يتخذ شكل ترجمة منظومة من الكتب الإنجليزية، مثلاً، لسد الثغرة القائمة في المعرفة التأمينية الحديثة والنقص في البيانات التأمينية في اللغة العربية. وفي نفس الوقت يقوم المعنيون والمهتمون بالأمر بالبحث على المستوى الأكاديمي ومستوى الشركات.[10] ربما نتجاوز الواقع في طموحنا إن قلنا بأن مثل هذا المشروع قد يساهم في زرع نواة لتشكيل موقف فكري تأميني نابع من التجربة في البلدان العربية ويستفيد من الإنتاج التأميني في العالم. لا ننكر أن الكتابة عن التأمين مستمرة من خلال النشر في المجلات التأمينية المتخصصة، على قلة هذه المجلات وضعف إخراجها وتحريرها، وفي العديد من الندوات التي تقام في مختلف البلاد العربية ومنها ندوات الاتحاد العام العربي للتأمين. كما أن بعض الجامعات والمعاهد تقوم بتدريس مادة التأمين. المشكلة الأساسية، في تقديرنا، تكاد أن تنحصر في الفقر في البحث التاريخي والأكاديمي. لم تقم الشركات القائمة، حسب علمنا، بتكليف باحث للكتابة عن تاريخها، ولم يقم أركان صناعة التأمين المخضرمين بتدوين سيرهم الذاتية أو مذكراتهم. ولا تزال مكتبة التأمين العربية تفتقر إلى ببلوغرافيا بالمؤلفات العربية في التأمين (كتب، مقالات، نصوص محاضرات وغيرها). وهي تفتقر أيضاً إلى المجموعات الإحصائية، للشركة الواحدة أو أحد الأسواق، التي تغطي فترات طويلة والتي تعين الباحث الناشئ. ولا نقرأ ما يرصد أو ينظّر للدور الاقتصادي، الاستثماري للأرصدة التأمينية. وما يكتب عن بعض أوجه النشاط التأميني لا يحيل القارئ إلى المصادر والمراجع وهي ضرورية لخلق حالة من الوعي المشترك بها وتسهيل البحث. هذه محاولة أولية متواضعة للتنبيه على أهمية الارتقاء بالكتابة والبحث في الشأن التأميني. نأمل من زملاءنا تقويم ما أعوج في عرضنا والتوسع فيه.

مصباح كمال لندن 15 آب/أغسطس 2008

الهوامش

 [1] جمال الحكيم، التأمين البحري (القاهرة: مطبعة القاهرة الجديدة، الطبعة الثانية 1979 [الطبعة الأولى 1955])، ص 11. وقد أتى آدم سميث على ذكر فكرة هذا القانون في كتابه ثروة الأمم. ومما قاله إن: “The trade of insurance gives great security to the fortunes of private people, and by dividing among a great many that loss which would ruin an individual, makes it fall light and easy upon the whole society.” Adam Smith, An Inquiry into the Nature And Causes of the Wealth of Nations (1776), Book Five, Of the Revenue of the Sovereign or Commonwealth. CHAPTER I, Of the Expenses of the Sovereign or Commonwealth, PART 3, Of the Expense of Public Works and Public Institutions, ARTICLE 1. http://216.239.59.104/search?q=cache:vjZp_zdSlsEJ:www.adamsmith.org/smith/won-b5-c1-article-1-ss3.htm+adam+smith+wealth+of+nations+insurance&hl=en&ct=clnk&cd=2&gl=uk [2] "نظرات تاريخية في التأمين، تأليف: إيرفنغ فيفّر و ديفيد كللوك، ترجمة وتقديم مصباح كمال: مقدمة: موقع شريعة حمورابي في تاريخ التأمين." يمكن قراءة الموضوع في مدونتي Iraq Insurance Review باستخدام الرابط: http://misbahkamal.blogspot.com/2008_07_01_archive.html [3] أحمد شكري الحكيم، التأمين وإعادة التأمين في اقتصاديات الدول النامية (القاهرة: مكتبة الانجلو المصرية، [1971])
[4] هناك إشارات تاريخية سريعة في بعض الكتب لا تحيل إلى مصادر ومراجع ومنها كتاب باسم فارس: Bassim A. Faris, Insurance and Reinsurance in the Arab World (London: Kluwer Publishing, 1983)
[5] كلمة سَوْكَرَةً التي يستخدمها ابن عابدين هي، كما يظهر من سياق النص، كناية عن قسط التأمين. وتستخدم الكلمة في العامية العراقية كمقابل للضمان أو ما هو مؤكد. وترد الكلمة بالتركية sigorta كمقابل للتأمين ولا نعرف أصل هذه الكلمة. ولعل المراد بالسوكرة في النص المقتبس قسط التأمين والحماية التأمينية معاً كما نفهمها في زماننا.
 [6] تفيد كتب الفقه الإسلامي أن المستأمن هو الحربي الذي يدخل دار الإسلام بأمانٍ مؤقت لغرضٍ يقتضيه، ومتى ما انتهى ذلك الغرض خرج لبلاده. مصطلحات دار الحرب (البلاد التي لم يجرِ بينها وبين دار الإسلام عهد أو صلح) ودار السلام (بلاد الإسلام التي تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة) والمستأمن والذمي (المقيم بدار الإسلام إقامة دائمة بأمان مؤبّد) والحربي والمعاهَد (الحربي الذي تعاقد مع المسلمين على ترك القتال لمدّةً معلومة، فهو من أهل البلاد المتعاقد معهم) وغيرها أصبحت بالية لا تستقيم مع الواقع وتكشف عن ضعف فاضح، ومكانها يجب أن يبقى محصوراً في كتب الاختصاص بعد تطور أحكام القانون الدولي والتنظيم الدولي وانتشار المبادئ الإنسانوية وتقديم مفهوم المواطنة والمساواة في الحقوق والحريّات بين الناس على غيرها من مفاهيم.
[7] ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الإبصار المعروف باسم حاشية ابن عابدين. يمكن قراءة النص الأصلي باستخدام الرابط التالي: http://www.almeshkat.com/books/open.php?cat=38&book=2466
[8] عيسى عبده، التأمين الأصيل والبديل (بيروت: دار البحوث العلمية، 1972) ص 28-29
[9] يرتكز هذا الموقف على التراث الإيديولوجي الإسلامي السلفي الذي يعاني من إشكالية التعامل مع ما يسمى بالبدع وخاصة الغربية منها. والتأمين في هذا الإطار هو أحد هذه البدع وهو لا يستقيم مع النص الديني ولذلك فهو مرفوض. ومن أجل التعايش مع مطالب العصر الحديث يتولى السلفي نقد البدعة والقابلين بها أو المقلدين لها بالرجوع إلى النص القرآني لتأصيل نشاط تأميني موهوم. وهذا ما يشي به عنوان الكاتب وما يرد في ثناياه. ومحاولة الكاتب هذه تندرج تحت باب ما يسميه د. حسن حنفي بـ "الـتجديد من الخارج: ذلك عن طريق مذهب أوروبي حديث أو معاصر ثم قياس التراث عليه ورؤية هذا المذهب المنقول في تراثنا القديم وقد تحقق من قبل. ومن ثم نفتخر بأننا وصلنا إلى ما وصل إليه الأوربيون المعاصرون بعشرة قرون أو أكثر من قبل." التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط 5، 2002)، ص 31. اورد هذا الاقتباس يوسف بن عدي: "البديل السلفي في فكر عبدالله العروي: من المفارقة إلى إعادة بناء القطيعة،" المستقبل العربي، العدد 350، نيسان (أبريل) 2008، ص 95.
[10] في بريطانيا، على سبيل المثال، اتخذت الكتابة التاريخية عن التأمين في البدء، عموماً، تكليف الشركات الكبيرة والعريقة لمؤرخين للكتابة عن تاريخ أصول وتطور هذه الشركات ودورها في الاقتصاد الوطني. وهذا إضافة إلى كتابة تاريخ مثل هذه الشركات من قبل العاملين فيها. أنظر على سبيل المثال: P G M Dickinson, The Sun Insurance Office 1710-1960 (London: Oxford University Press, 1960), p v.

ليست هناك تعليقات: