إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2011/12/23

Oil Licesning Rounds & Insurance Implications:

اتفاقيات النفط الجديدة وآثارها التأمينية

مناقشة لبعض تصورات د. صبري زاير السعدي



نشرت هذه المقالة في المستقبل العربي، العدد 394، كانون الأول/ديسمبر 2011، ص135-142.

مصباح كمال



جاء في دراسة جديدة للدكتور السعدي ("الاقتصاد السياسي لتنامي قوة النفط في العراق: مرحلة حاسمة،" المستقبل العربي، العدد 378، آب 2010):



"إن من المتصور أن تبرز التطورات الرئيسية التالية نتيجة اتفاقيات النفط الجديدة:

1- تزايد هيمنة السلطة الحاكمة.

2- تزايد دور القطاع الخاص الوطني، وخاصة قطاع التشييد (المقاولات) والصناعات المرتبطة به، وفي الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وفي قليل من الشركات المساهمة الكبيرة. ولكن، ستبقى ضرائب الربح والدخل هامشية.

3- تراجع أهمية القطاع العام في الصناعة التحويلية والزراعة والمشاريع الخدمية، بينما سيحافظ على دوره في التمويل وفي تسيير مشاريع البنية الأساسية الاستراتيجية.

4- تزايد نفوذ الماليين والصناعيين والتجار والمزارعين الأغنياء والمهنيين في قطاع الخدمات المالية.

5- تزايد دور البنوك والسوق المالية وشركات التأمين وبقية الخدمات المالية.

6- تزايد أهمية الطبقة الوسطى في الفعاليات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية.

7- تزايد دور ريادة القطاع الخاص في تطوير التكنولوجيا وفي الإدارة الكفء للشركات والمشاريع.

8- ستزداد أهمية نظام الأمن والرفاه الاجتماعيين للحفاظ على منافع العاطلين عن العمل، وكبار السن، والمتقاعدين، والفقراء.[1]

يتابع الدكتور السعدي في هذه الدراسة موضوع الريع النفطي بعد أن كتب عنها العديد من الدراسات الأخرى بالعربية والإنجليزية، وثبت دور الموارد النفطية في تطوير (وكذلك تشويه) الاقتصاد العراقي في أحدث كتاب صدر له.[2] قراءة التجربة القائمة منذ الغزو الأمريكي في 2003 كما يخبرنا الكاتب تبين ازدياد الدور الريعي للإيرادات النفطية دون أن يرتبط ذلك بتغيير في السياسة الاقتصادية وفي تشكيل الرؤية المنظمة لها. لكن التصورات المقدمة، رغم خلفية التحليل الاقتصادي، أقرب إلى الاستنتاجات المنطقية وما يرتجيه الكاتب ضمن رؤيته للاقتصاد العراقي وتأكيده على الخروج من أسر الاقتصاد ذو البعد الواحد وتنويع مصادره بالتوازي مع الموارد الريعية.



هذه تصورات يمكن أن تتحقق على أرض الواقع كما يعرضها د. صبري أو تنحرف عن تصوراته فليس بالإمكان التحكم الكامل بما يسفر عنه الحراك الاجتماعي والسياسي ودينامية التطور الاقتصادي. ويلاحظ على هذه التصورات أنها لم توضع في إطار زمني محدد يمكن خلالها أن تتجسد التصورات في سياسات ومؤسسات وكأنه يريد التأكيد على اتجاهات تنتظم الأفكار الاقتصادية النقدية السائدة والممارسات القائمة عليها.



تقتصر ملاحظاتنا في هذه الورقة على بعض التصورات التي اقتبسناها أعلاه لقناعتنا بعلاقتها بقطاع التأمين العراقي في الحاضر وما يرجى له في المستقبل. وسنحاول إبراز بعض الآثار التأمينية للاتفاقيات النفطية.[3]



تزايد دور القطاع الخاص الوطني

تزايد دور القطاع الخاص الوطني، على خلفية اتفاقيات النفط الجديدة، قد يترتب عليه تزايد طلب القطاع للحماية التأمينية وخاصة الطلب على وثائق تأمين المقاولات، وهذا بافتراض أن عقود المقاولات الحكومية تشترط التأمين لدى شركات تأمين عراقية.[4]



المعلومات الأولية المتوفرة تشير إلى أن الأعمال "النفطية" التي ترسيها شركات النفط العالمية على شركات القطاع الخاص العراقي صغيرة الحجم وغير معقدة، وتنحصر في الوقت الحاضر بتشييد المسقفات والأعمال الصغيرة والبيوت السكنية المؤقتة في الحقول النفطية الخاضعة للتطوير. أما الأعمال النفطية الأساسية والمعدات والمواد المتعلقة بها والمستوردة من الخارج فإنها ترسي على شركات الخدمات النفطية الأجنبية المتخصصة التي تقوم بأعمال حفر الآبار وصيانتها وما يتبعها من عمليات لإنتاج النفط وجمعه ونقله. وهذه الشركات لها وثائق تأمين خاصة بها (وثائق مُجمّعة تغطي أعمالها في مختلف أنحاء العالم) مرتبة في أوطانها الأصلية ولا تفكر في إجراء التأمين على مخاطر أعمالها في العراق لدى شركات تأمين عراقية لا بل أن بعضها تستعين بشركات تأمين مقبوضة.[5]

تصور تزايد دور القطاع الخاص يقوم على فرضية أن الاستثمارات الأجنبية المادية المباشرة تجلب معها موارد للاقتصاد المحلي لم تكن موجودة أو فقيرة (تكنولوجيا متقدمة، مهارات عالية، كفاءة في الأداء، تنشيط الاقتصاد في مناطق تواجدها من خلال الطلب على الخدمات المحلية وغيرها). امتداد تأثير هذه الاستثمارات spillover effect على جوانب مختلفة للاقتصاد المحلي قد لا يظهر آنياً والزمن كفيل لتأكيد صحة أو خطأ هذا التصور.



تراجع أهمية القطاع العام

تراجع القطاع العام في "الصناعة التحويلية والزراعة والمشاريع الخدمية" يترتب عليه انخفاض دخل شركات التأمين العامة من أقساط التأمين على منشآت الصناعة التحويلية والزراعية والخدمية لأن شركات القطاع العام تؤمن على أصولها المادية لدى شركات التأمين العامة.



ولو صحت تصورات الكاتب فإن انخفاض دخل شركات التأمين العامة (شركتين فقط) سيعوضه تزايد دخل شركات التأمين الخاصة وربما شركات التأمين الأجنبية التي ترغب في توطين عملياتها في العراق في المستقبل. مصير شركات التأمين العامة ليس معروفاً في الوقت الحاضر ولم يطرح موضوع خصخصتها رسمياً. هي الآن تتنافس مع شركات التأمين الخاصة على الأعمال غير الحكومية، ومتى ما تم تطبيق أحكام قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 بشكل صحيح (أنظر أدناه تحت عنوان تزايد دور ريادة القطاع لخاص) عليها أن تتنافس أيضاً على تأمين الأعمال الحكومية.



تزايد دور ريادة القطاع الخاص في تطوير التكنولوجيا وفي الإدارة الكفء للشركات

حجم الأعمال التي تكتتب بها شركات التأمين الخاصة صغير، وهي وضعيفة في كوادرها الفنية في الوقت الحاضر مقارنة مع الشركتين العامتين لكن المستقبل سيكشف عن دور مهم لها، ضمن رؤية الدكتور السعدي، في إدخال تكنولوجيا المعلومات، وممارسة الإدارة دون الخضوع الكامل للبيروقراطية في العمل (توزيع مسؤولية اتخاذ القرار بدل حصرها بيد المدير المفوض أو المدير العام، الاستجابة الفورة لمطالب المؤمن لهم، الاستثمار في تحسين المهارات الفنية). الوضع الحالي لهذه الشركات لا يشي بذلك إلا أن الضغط التنافسي، ومسؤولية الإدارة أمام المساهمين، وكذلك الدخول في عمليات دمج واستحواذ بما فيها الشراكة مع شركات تأمين أجنبية ذات قدرات فنية عالية سيدفع باتجاه تسنم بعض هذه الشركات مواقع الريادة في قطاع التأمين.



يشهد سوق التأمين العراقي حالة من فوضى التنافس على الأسعار بين بعض الشركات القائمة وضعف الخدمات يتطلب تدخلاً من ديوان التأمين العراقي لضبط الأوضاع باعتباره القيّم على مصالح المؤمن لهم. ولعل الالتزام بأحكام قانون التأمين سيوفر آنياً أحد شروط تقدم الشركات الخاصة في تنافسها مع شركات التأمين العامة. فمن المفترض أن يجري التأمين على الأصول العامة للوزارات والمؤسسات الرسمية حسب ما يقضي به قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 بموجب الفقرة الثالثة من المادة 81 والتي تنص على ما يلي:



"يجري التأمين على الأموال العامة والأخطار التي ترغب الوزارات أو دوائر الدولة في التأمين ضدها بالمناقصة العلنية وفقاً لأحكام القانون، ولجميع المؤمنين المجازين في العراق حق الاشتراك فيها."



القطاع العام لا يلتزم بهذه الماجة ولم يجري تصحيح لهذا الوضع لأن "العادات قاهرات" كما يقال، فالمسؤولين[6] عن التأمين في الوزارات يميلون إلى التأمين مع شركات التأمين العامة بحكم العادة أو بسبب الجهل بأحكام قانون التأمين. ولم تنجح شركات التأمين الخاصة في محاولاتها العديدة مع المؤسسات المعنية لتغير هذا الوضع. وبالطبع فإن شركات التأمين العامة ساكتة عن هذا الموضوع وحتى جمعية شركات التأمين وإعادة التأمين العراقية ليست معنية به بسبب تركيبة مجلس إدارتها.



أهمية نظام الأمن والرفاه الاجتماعيين

القول بأن أهمية نظام الأمن والرفاه الاجتماعيين ستزداد بفضل الاتفاقيات النفطية (زيادة الموارد المالية للدولة) يحتاج إلى تكييف لأن الميل العام لدى معظم أفراد الطبقة السياسية الحاكمة هو تقييد هذا النظام وليس التوسع فيه. ومع هيمنة إيديولوجية الليبرالية الجديدة يصبح تعزيز هذا النظام صعباً، وما هو قائم منه لا ينهض على قناعات اقتصادية بأهمية بناء دولة الرفاهية وإدارة الطلب العام بقدر ما هو موضوع للتنافس السياسي بين مكونات الطبقة السياسية.[7] لكن إحدى نتائج تقليص العبء المالي على الدولة هوالدفع باتجاه تحويل عبء الأمن والرفاه (الصحة والتعليم والمسنين وتقاعدهم) على الأفراد، ضمن التكييف لمتطلبات صندوق النقد الدولي الذي يجد دوره قائماً بفضل سياسة الاقتراض التي أرستها الحكومة الحالية. الانحسار المخطط لدور الدولة قد يُعجّل من تعظيم دور شركات التأمين في تقديم منتجات تأمينية تستجيب للطلب على التأمين الطبي والرعاية الصحية والتعليم والمرتب التقاعدي من خلال وثائق التأمين على الحياة.



ويرتبط هذا التطور بتصور الدكتور السعدي عن "تزايد أهمية الطبقة الوسطى في الفعاليات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية" وهذا يفترض تزايد دخول الطبقة الوسطى، وهي غير مُعرّفة الآن بدقة، ولكن ما يؤشر على وجودها هو الأعداد الكبيرة العاملة في أجهزة الدولة (الوزارات، البرلمان، رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية) وفي الإدارات المحلية وفي إقليم كردستان العراق والمنافع المادية المخصصة للبعض والفئات المنتفعة من ارتباطها بالحكومة وعقودها.



تزايد دور البنوك والسوق المالية وشركات التأمين

دور البنوك وشركات التأمين في الوساطة المالية وتمويل الاستثمار في الوقت الحاضر ضعيف جداً إن لم يكن معدوماً. نقول هذا وفي بالنا، من باب المقارنة، ما يقوم به السوق المالي في الدول المتقدمة، فهو سوق تتم فيه المتاجرة بالأصول المالية. وتشمل هذه:



بورصة المتاجرة بأسهم الشركات والدين العام

سوق النقد للمتاجرة بالقروض قصيرة الأجل

سوق المتاجرة بالعملات الأجنبية

سوق المتاجرة بالمشتقات المالية (وهذه ليست معروفة في العراق بعد)



يتصور الكاتب أن القطاع الخاص الوطني سيقوم بهذا الدور الاقتصادي (وفيما يخص هذه الورقة دور شركات التأمين كوسيط مالي وكقناة للصناديق الاستثمارية). وقد لا نختلف مع هذا التقييم خاصة ونحن بإزاء مشروع تأسيس اقتصاد رأسمالي في العراق، لكن المعطيات الحالية لا تؤشر على دور مهم وكبير لشركات التأمين في تمويل النمو الاقتصادي فحجم أقساط التأمين المكتتبة في العراق لا يتجاوز بضعة ملايين من الدولارات (أقل من عشرة ملايين دولار).



لم يشهد العراق منذ 2003 على دور مشهود لشركات التأمين في تمويل النمو الاقتصادي. ومن المعروف في التاريخ الاقتصادي لبعض البلدان الغربية، ومنها بريطانيا، أن شركات التأمين كانت تلعب دوراً مهماً في تقديم القروض العقارية، وقروض للحكومة لتطوير المرافق العامة، وبناء أرصفة الموانئ، وقروض لشركات السكك الحديدية، والإدارات المحلية، والمساهمة في تطوير المرافق في مستعمرات التاج البريطاني، وقروض للإفراد بضمانة وثائق التأمين على الحياة وشراء أسهم وسندات المصانع الجديدة مساهمة بذلك في تطوير سوق لتداول رأس المال.[8] هذه المقارنة قاسية لكننا أشرنا إليها لإبراز أهمية الموضوع.



الحديث عن التأمين وكأنه متغير مستقل ليس صحيحا إذ أن النشاط التأميني، رغم دوره "الإنتاجي" في حماية الأصول المادية من خلال التعويض المالي عن الأضرار والخسائر المادية (وفوات الأرباح إن كانت هذه موضوعاً للتأمين) التي تلحق بهذه الأصول، وكذلك دوره الاستثماري من خلال توظيف أرصدة أقساط التأمين المتجمعة لدى شركات التأمين في أصول مادية أو مالية، يظل نشاطاً تابعاً بامتياز للصناعة والزراعة وما يرتبط بهما من خدمات. وعدا ذلك فإن النشاط التأميني في شقه الاستثماري يتأثر بالسياسة النقدية (تحقيق استقرار في المستوى العام للأسعار من خلال التحكم بعرض النقد ومعدلات الفائدة وحجم الائتمان المصرفي للحد من التضخم)، واستقرار في سعر الصرف) والمالية (الإنفاق الحكومي والضرائب).[9]



ونضيف إلي ذلك أن تحسن الأوضاع الأمنية سيشجع شركات تأمين أجنبية، ذات الإمكانيات الفنية والمالية العالية التي تستقدم كوادر مدربة من خارج العراق، وهو أمر غير مستبعد، على مزاولة العمل في سوق التأمين العراقي وبفضل مزاياها المالية والفنية تستطيع أن تكتسح الشركات العراقية القائمة. وبذلك فإن دور شركات التأمين الوطنية سيؤول إلى التقلص.



إن سوء إدارة الاقتصاد الوطني، وغياب الصرامة القانونية (قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 الذي وفر الغطاء القانوني للتأمين خارج العراق)، ومحدودية الوعي الاقتصادي والاجتماعي بالتأمين (ضعف عادة التدبر والاقتصاد thrift and prudence وسيكولوجية الاتكال والاستهانة بعواقب الأخطار لدى الناس) يفسر في الوقت الحاضر ضآلة حجم النشاط التأميني. تراجع النشاط التأميني، مقارنة بعقد سبعينات القرن الماضي مثلاً، وهزاله الحالي مسألة تستحق المزيد من البحث العياني رغم قيامنا برصد بعض مظاهره في أوراق نشرناها سابقاً. هناك عوامل أخرى تقف وراء مراوحة النشاط في مكانه: بيروقراطية إدارات شركات التأمين العامة، وهي الأكبر من بين الشركات، وضعف مبادراتها لبناء القدرات الفنية، وكذلك الافتقار إلى الكوادر المدربة لدى الشركات الخاصة، وضعف مساهمة شركات التأمين في ترويج عادة التدبر والاقتصاد لدى الناس، وسوء الأوضاع الأمنية وتفاقم الفقر والأمية الأبجدية والثقافية وغيرها من أسباب (ومنها عدم إلزامية التأمين على أخطار معينة، وضعف توسيع دائرة توزيع المنتجات التأمينية) تفسر إخفاقات قطاع التأمين العراقي الخاص والعام في تحقيق نقلة نوعية في أدائه والخروج من وضعه المأزوم. ومن المفترض أن تزايد عدد شركات التأمين منذ سنة 2000 كان من شأنه أن يخلق تنافساً يؤدي إلى زيادة الطلب على التأمين (من خلال الجهد الإلحاحي في البيع sales pressure) لكن الزيادة لا تزال في حدودها الدنيا، والمنافسة تنحصر على أسعار التأمين ولا ترتبط بجودة الخدمات.



الملاحظات التي قدمناها عن تصورات د. صبري السعدي وربطها بقطاع التأمين يمكن أن توسع لتكون مادة لدراسة مستقلة، نظرية وميدانية، تغطي من بين عناوين أخرى:



تحديد النظام المالي في العراق – البنوك بضمنها المصرف المركزي، شركات التأمين، الوسطاء الماليون، سوق الأوراق المالية.



النظام المالي والاقتصاد العيني الإنتاجي (تمويل الاستثمارات الجديدة وتوسيع القدرات الإنتاجية).



العلاقة بين النشاط الاقتصادي بضمنه الاستثمارات العينية والنشاط التأميني واعتماد الأخير على النشاط الاقتصادي.



الوساطة المالية لشركات التأمين في العملية الاستثمارية – تدوير أرصدة التأمين نحو الاستثمار في الأوراق المالية وفي الاستثمار العيني.



ولكن مما يؤسف له أن الاهتمام الاقتصادي بالنشاط التأميني، كقطاع متميز، لم يلق عناية حقيقية. وقد ذكرنا في الماضي في دراسة سابقة أن:



"قطاع التأمين لا يرقى في أهميته إلى قطاع النفط المهيمن على تفكير الاقتصاديين العراقيين. وحتى العاملين في قطاع التأمين لم يدرسوا أهميته في المساهمة في الحفاظ على الثروات الوطنية (أي المساهمة في تجديد الأصول المتضررة من خلال تمويل التصليحات أو الاستبدال)، وكذلك دوره كوسيلة ادخارية فعّالة (وخاصة تأمينات الحياة)، والمساهمة في تكوين رأس المال، وإمكانية توفير فرص كبيرة للعمالة، وأخيراً دوره الحضاري في التقليل من النزاع الاجتماعي وتحويل عبء الاختلاف بين الأفراد إلى شركات التأمين (كما في تأمين المركبات). وبعبارة أخرى، فإن دور التأمين في التنمية الاقتصادية لم يلقَ ما يستحقه من عناية الباحثين."[10]



الآثار التأمينية للعقود النفطية الجديدة، في الفترة الحالية، محدودة الأثر فيما يخص مساهمتها في زيادة دخل الأقساط المكتتبة. لكننا لا نعدم بعض الأثر في تعرُّف شركات التأمين العراقية على أغطية تأمينية جديدة لا عهد بها سابقاً، والدخول في معترك التعامل مع الشركات النفطية العالمية بصورة ضيقة مباشرة أو غير مباشرة، وتعزيز الثقة لديها في التلاؤم مع متطلبات عمل هذه الشركات رغم إمكانياتها الفنية والمالية الضعيفة.[11]



ومقارنة بالتوقعات العالية (المبالغ فيها كما يقول البعض) المرسومة لزيادة إنتاج النفط من الحقول القائمة وتلك الخاضعة للتطوير وما يترتب عليها من زيادة الواردات ورفع مستوى الصناعة النفطية[12] فإن المنفعة المتوقعة لقطاع التأمين سيكون صغيراً ما لم تتغير إدارة الاقتصاد وتتوضح معالم السياسة المرسومة لقطاع التأمين في العراق.[13]



لندن، أيلول/سبتمبر – تشرين الأول/أكتوبر 2010

misbahkamal@btinternet.com





1 يراد من هذا الاقتباس توفير السياق للقارئ الذي ربما لم يقرأ الدراسة، والاستفادة منه في ربط بعض عناصره مع تصور الكاتب لقطاع التأمين العراقي. (يمكن قراءة الدراسة باستخدام هذا الرابط:

http://www.caus.org.lb/PDF/EmagazineArticles/mustaqbal_378_42-60%20sabri%20alsaadi.pdf

ونشرت الدراسة باللغة الإنجليزية، بصيغة معدلة:

Sabri Zire al-Saadi, “Growing Oil Power Reshaping Iraq's Future,” Middle East Economic Survey (MEES), VOL. LIII, No 32, 9-Aug-2010.

http://www.mees.com/postedarticles/oped/v53n32-5OD01.htm



2 صبري زاير السعدي، التجربة الاقتصادية في العراق الحديث: النفط والديمقراطية والسوق في المشروع الاقتصادي الوطني: 1951-2006 (بغداد ودمشق وبيروت: دار المدى، 2009).



3 نفترض أن تحليل الدكتور السعدي يمتد ليشمل ضمناً الاتفاقيات النفطية التي عقدتها حكومة إقليم كردستان العراق مع شركات نفطية أجنبية. والمعروف أن الموارد المترتبة على تصدير النفط من الإقليم تحول إلى الخزينة الاتحادية لكن سياسة الإنفاق لحكومة الإقليم لا تعكس بالضرورة سياسة الإنفاق الاتحادي. يعني هذا أن تصورات الدكتور السعدي لا تمتد إلى التطورات المرتقبة في الإقليم. ولعله يوسع دراسته مستقبلاً لإدخال اقتصاد الإقليم في تحليله.



4 شرط التأمين في بعض عقود التراخيص النفطية واضح في النص على التأمين مع شركات تأمين مسجلة في العراق، وإن لم يتوفر غطاء التأمين المطلوب في العراق يحق عندها لشركة النفط الأجنبية التأمين خارج العراق. وهناك إشكالية جديدة يبدو أن وزارة النفط أو إحدى الشركات التابعة لها قد خلقتها بسبب ما يبدو على أنه تجاوز لأحكام قانون تأمين تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 في حصر التأمين مع شركة محددة. وهذا موضوع يستحق الرصد والدراسة المستقلة.



5 أنظر: مصباح كمال "الشركات الأجنبية وشركات التأمين العراقية وضرورة تعديل قانون تنظيم التأمين لسنة 2005". يمكن قراءة الموضوع في مدونة مجلة التأمين العراقي الإلكترونية:

Iraq Insurance Review, http://misbahkamal.blogspot.com/2009/03/2005-29-2009.html



6 ليس في الوزارات العراقية والمؤسسات التابعة لها وكذلك شركات القطاع العام والقطاع المختلط موقع وظيفي لما يعرف بمدير التأمين وإدارة الخطر. ولذلك فتوصيف "المسؤولين عن التأمين"، رغم عموميته، صحيح. وينطبق هذا الوضع حتى على الصناعة النفطية. والملاحظ أن مسؤولية التأمين تتوزع على قسم الحسابات أو قسم الحقوق أو مكتب الوزير وغير ذلك. أي ان الاختصاص في إدارة التأمين يكاد أن يكون مفقوداً في مؤسسات الدولة. وذات الوضع يكرر نفسه بالنسبة للقطاع الخاص. ويستنتج من هذا الوضع القائم أن التأمين لا يحتل مكاناً مهماً في التنظيم الإداري للمؤسسات الرسمية والخاصة.



7 لقراءة مغايرة للموضوع أنظر مصباح كمال "التأمينات الاجتماعية في العراق: قراءة لموقف الحزب الشيوعي العراقي"، الثقافة الجديدة، العدد 338، 2010. يمكن قراءة الموضوع في مدونة مجلة التأمين العراقي الإلكترونية http://misbahkamal.blogspot.com/2010/08/338-2010-56-65.html



8 Barry Supple, The Royal Exchange Assurance: A History of British Insurance 1720–1970 (Cambridge: Cambridge University Press, 1970), pp 326, 330

Michael Moss, Standard Life, 1825-2000 (Edinburg: Mainstream Publishing, 2000), pp 11, 73, 78, 97.

9 مصباح كمال، "التأمين: موضوع مهمل في الكتابات الاقتصادية العراقية"

http://misbahkamal.blogspot.com/2010/07/336-2010-36-49.html

نشرت نسخة معدلة من هذا النص في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 336‘ 2010، ص36-49.



10 مصباح كمال "التأمين في العراق وعقوبات الأمم المتحدة" مدونة مجلة التأمين العراقي الإلكترونية.

http://misbahkamal.blogspot.com/2008/06/2002-73-96.html

وقد نشرت هذه الدراسة تحت نفس العنوان كفصل في كتاب جماعي بعنوان دراسات في الاقتصاد العراقي (لندن: المنتدى الاقتصادي العراقي، 2002)، ص 73-96.



11 مصباح كمال ""الاتفاقية الأولية" بين وزارة النفط وشركة شيل لمشروع غاز الجنوب والتأمين على أخطار المشروع المشترك" دراسة غير منشورة تم توزيعها على مدراء شركات التأمين العراقية.



12 وليد خدوري،"معلومات متضاربة حول زيادة طاقة إنتاج النفط في العراق" الحياة، 29 آب/اغسطس 2010.



13 أنظر: "السياسات الاقتصادية في العراق والخيارات البديلة: قطاع التأمين نموذجاً" الثقافة الجديدة، العدد 333-334، 2009). يمكن قراءة الموضوع في مدونة مجلة التأمين العراقي الإلكترونية

http://misbahkamal.blogspot.com/2009/12/2009.html

أنظر أيضاً مصباح كمال: "على هامش مسألة اعتماد سياسة للتأمين وإعادة التأمين في العراق" مدونة مجلة التأمين العراقي الإلكترونية http://misbahkamal.blogspot.com/view/magazine#!/2010/07/httpmisbahkamal.html

2011/11/13

Stagnation of Iraq's Insurance Market

ركود سوق التأمين العراقي:
مناقشة لرأي اقتصادي



نص الرأي

مرة أخرى نعود للحديث عن الكتابة التأمينية في الصحافة العراقية في ضوء الخبر التالي الذي نقلته الوكالة الإخبارية للأنباء في 30 تموز 2011 تحت عنوان "اقتصادي يدعو شركات التأمين الى توعية المواطن":[1]

بغداد (الإخبارية)..علل الخبير الاقتصادي باسم جميل [انطون] سبب ركود سوق التأمين العراقي وذلك لتردي الوضع الأمني وقلة الشركات في العراق، مشيراً الى أن التأمين يحتاج الى الوعي والتثقيف الذي لا زال يفتقره المواطن العراقي.

وقال جميل في تصريح لمراسل (الوكالة الإخبارية للإنباء) اليوم: أن أسباب ركود سوق التأمين العراقي يعود الى قلة شركات التأمين وتردي الأوضاع الأمنية الغير مستقرة في البلد، اضافة الى ان المواطن العراقي لا يمتلك وعياً وثقافة للتعامل مع هذه الشركات.

ودعا الخبير الاقتصادي الى توعية المواطن وزيادة ثقافته بهذا الموضوع عن طريق الدورات والندوات التثقيفية، مشيراً الى دور الإعلام الفاعل في توعية ذلك.

ويذكر ان شركات التامين الخاصة والعامة مارست اعمالها في فترة النظام السابق وقد ادى الحصار الاقتصادي المفروض على العراق الى مقاطعة شركات التامين الدولية لقطاع التامين وبعد سقوط النظام صدر قانون تنظيم اعمال التامين رقم 10 لسنة / 2005 ./أنتهى/8.ر.م/[2] [التأكيد من مصباح كمال]

اهتمامنا بهذا الحديث القصير، الذي لم توفر لنا وكالة الأنباء خلفيته، ينبع من كونه صادراً عن خبير اقتصادي وخبير صناعي أيضاً وعضو في مجلس إدارة اتحاد الصناعات العراقية والمدير المفوض لفندق بابل.  وهو معروف بنشاطه في الكتابة الرصينة عن الشأن الاقتصادي في الصحافة العراقية والتصريحات الصحفية عن جوانب مختلفة للاقتصاد العراقي.  ونحن العاملين في قطاع التأمين نرحب بكل ما يكتبه الاقتصاديون والخبراء عن النشاط التأميني لأنه يُعلّى من مكانة التأمين ويساهم في التوعية به وتعزيزه لدى القراء.

تعليل "ركود سوق التأمين العراقي" بقلة شركات التأمين وتردي الأوضاع الأمنية، وعدم امتلاك المواطن العراقي للوعي والثقافة للتعامل مع هذه الشركات فيه شيء من التبسيط والتجني على المواطن العراقي.  ربما لم يُنقل رأي الخبير بكامله أو بالشكل الصحيح، وربما تعرّض الرأي المصرح به للتشويه من دون قصد.  نرجو ذلك.

المواطن العراقي
وغياب الوعي والثقافة في التعامل مع شركات التأمين

لنبدأ بتحليل القول بعدم امتلاك المواطن العراقي للوعي (والمواطنة العراقية، لحسن حظها، تقع خارج دائرة الموضوع)، ففيه تعميم لا يقوم على منطق سليم ولا ينهض به الواقع.  فليس كل المواطنين سواسية في وعيهم وثقافتهم، والقول بغير ذلك هو افتئات على قدراتهم الفكرية.  لو حصرنا الوعي والثقافة بمفهوم التأمين والمعرفة لدى شركات التأمين، فهناك ما لا يقل عن ألفي شخص، وربما أكثر، يعملون حصراً في قطاع التأمين، يضاف لهم الأفراد والمؤسسات الصناعية والتجارية والخدمية التي تشتري أغطية تأمينية مختلفة من شركات التأمين العراقية.  كل هؤلاء لا ينقصهم الوعي بالتأمين بغض النظر عن مستوى هذا الوعي.

ثُم: هل هناك علاقة سببية بين ركود السوق ووعي وثقافة المواطن؟  تُرى هل أن توفر الوعي والثقافة لدى المواطن، وخاصة الفقير والمحدود الدخل، ستدفعه صوب شركات التأمين لشراء الحماية منها وهو لا يمتلك دخلاً يكفيه لتمويل حاجياته الأساسية؟  أليس القول السائر "العين بصيرة واليد قصيرة" (وبلغة الاقتصاد غياب الطلب الفعّال لتدني حجم الدخل الفائض بعد الإنفاق الضروري على البضائع والخدمات الأساسية) هو الأوفر حظاً في التقرُّب من جواب لتفسير ركود السوق أو قل نموه البطيء، وهو ما نميل له وما يمكن قياسه بالرجوع إلى الإحصائيات.

التعكُّز على افتقار المواطن للوعي والثقافة، وهما مترابطان، في شرح ركود السوق يرهن الظاهرة الاقتصادية بحالة فكرية (المقترب الذاتي) بدلاً من محاولة استكشاف قوى وعوامل موضوعية تؤثر مباشرة على عرض الحماية التأمينية والطلب عليها.  لا شك أن التكوين الاجتماعي (العائلة والعشيرة) وما يرتبط به من المفاهيم التقليدية السائدة (الإيمان بالقضاء والقدر، الاتكالية، التعاضد الأسري والقرابي والعشائري، وربما التحريم الديني) يشكل خلفية مهمة في صياغة الوعي بالتأمين والإقبال عليه من عدمه وكذلك تطوير ثقافة التدبر للمستقبل من خلال البدائل الحديثة كالادخار والاعتماد على آلية التأمين.  هذه الخلفية الثقافية، مع تعقيداتها التي تنتظر الكشف، لها تأثير على حجم الطلب على التأمين.  لكن الاعتماد على هذا التوصيف لوحده ليس كافياً لشرح حالة ركود سوق التأمين.  علينا، إضافة لذلك، البحث في حجم الدخل المتوفر للإنفاق على الحماية التأمينية، والتكييف القانوني لشراء التأمين بضمنه إلزامية التأمين على أنواع معينة من الأخطار، والحد من تسرب أقساط التأمين إلى خارج العراق بسبب قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005، وأسعار التأمين، وكفاءة تقديم الخدمات التأمينية وخاصة في تسوية المطالبات وغيرها بما فيها الترويج للتأمين من خلال الإعلانات و"الدعاية المسلحة" عند تسديد شركة التأمين لتعويض كبير متى ما ركّزت شركة التأمين على الاستفادة منه.

ولنا أن نضيف على ذلك حجم التجارة الخارجية (الطلب على التأمين البحري على البضائع والسفن)، عدد الوحدات الصناعية والتجارية والخدمية والزراعية التي تخصص بنداً في ميزانياتها لشراء التأمين، حركة البناء والمشاريع .. الخ.  وبعبارة أخرى، البحث في مكونات الطلب على التأمين في ظل الظروف السائدة.

ولمعالجة حالة ركود سوق التأمين العراقي يدعو "الخبير الاقتصادي الى توعية المواطن وزيادة ثقافته بهذا الموضوع عن طريق الدورات والندوات التثقيفية، مشيراً الى دور الإعلام الفاعل في توعية ذلك."

دورات وندوات تثقيفية لمن؟  لكل المواطنين العراقيين، وكيف يتم ذلك؟  من خلال الإعلام؟  هذه دعوة مشكوك في صحتها.  ربما كان الخبير يفكر في الدعاية، المرئية والمسموعة، على النمط الغربي (عملية تكييف واستحواذ على عقل المستهلك) أما دور الإعلام فهو أمر آخر قابل للتحقيق ولكنه لا يتم من خلال بضعة دورات وندوات.  نتمنى على الخبير باسم جميل أنطون التوسع في شرح ما يرمي إليه ووسائل تحقيقه.

تردي الأوضاع الأمنية والتأمين

السبب الآخر الذي ذكره الخبير لتفسير ركود سوق التأمين هو تردي الأوضاع الأمنية.  وهذه الأوضاع أصبحت الشماعة التي صرنا نعلق عليها كل مشاكلنا الاقتصادية وغيرها لكننا قلما حاولنا تفكيك هذه الأوضاع للتعرّف عليها وتقييم آثارها على النشاط التأميني.  ربما نكون متعسفين في هذا القول وعسى أن يدلنا القارئ الحصيف على دراسات تدحض موقفنا.  ومن المناسب هنا التذكير بأن تدهور الأوضاع الأمنية هو استمرار لتدهور عام بدأ في عهد الدكتاتورية واستمر خلال حروب النظام والعقوبات الدولية[3] وتفاقم مع الغزو والاحتلال الأمريكي سنة 2003.

في الحالة العراقية يتمظهر غياب الأمن بالتفجيرات على أنواعها، مختلف العمليات الإرهابية، عمليات الخطف، إكراه الناس على مغادرة بيوتهم لأسباب طائفية، القتل على الهوية، تصفية خصوم الفكر، قتل الصحفيين والأكاديميين، عمليات الانتقام وغيرها.  ولم تنجح الحكومات المنتخبة في القضاء على الإرهاب وتحقيق الأمن الضروري للتنمية الاقتصادية.

نعرف بأن النشاط التأميني لا يجري في فراغ بل ضمن ضوابط قانونية ورقابية وفي بيئة تتوفر فيها درجة من الاستقرار والاطمئنان على النفس وحرية الحركة.  أي أن الإنتاج التأميني يتم في وضع يتوفر فيه الأمان على النفس والمال.  ويتأثر هذا النشاط بالمتغيرات الاقتصادية ومنها التضخم النقدي، السياسة المالية، التركيبة السكانية، البطالة، الأزمات المالية، الكساد، حركة الإنشاءات وغيرها.

يُقيد غياب الأمن حركة العاملات والعاملين في قطاع التأمين وهو ما يؤثر على الإنتاجية (إنتاج وثائق تأمين جديدة، تجديد وثائق تأمين على وشك الانتهاء، تقديم الخدمات لحملة وثائق التأمين).  ويؤثر أيضاً على وصول طالبي التأمين إلى شركات التأمين أو متابعة مطالباتهم بالتعويض معها بسبب غلق الشوارع.

ويؤدي غياب الأمن، وكذلك الفساد المالي، إلى تأجيل المشروعات أو تقليصها وحتى إلغائها، وهذه من المصادر المهمة لفرع التأمين الهندسي.  كما يؤدي لدى البعض إلى ضعف الإقبال على شراء الحماية التأمينية، في حالة توفر فائض في دخل الأفراد، لعدم الاطمئنان على ما تخبئه الأيام.

كما أن سوء الأوضاع الأمنية يُصعّبُ على شركات التأمين شراء حماية إعادة التأمين من الشركات الإعادية العالمية ويقلّص ويُضعف من نطاق هذه الحماية، إذ لا تتوفر هذه الحماية إلا بأسعار وشروط مُكلفة.  وبالتالي، فإن ضعف الحماية الإعادية يؤثر سلباً على القدرات الاكتتابية واحتفاظ شركات التأمين بالأقساط.

غياب الأمن يساهم في خلق مُناخ ملوث يشجع على استفحال الفساد المالي والإداري وحالات الغش والتزوير لأن من يقوم به يدعم سلوكه بقوة السلاح أو بالتواطؤ مع عناصر في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية أو بالتغاضي عن التطبيق الصارم للقوانين.  وهنا يثور سؤال: هل يستطيع الطرف المتضرر إقامة دعوى على مسبب الضرر دون وجل؟  وهل يستطيع الاعتماد على أجهزة الشرطة في تسجيل حادث واستصدار المستندات المناسبة من هذه الأجهزة وغيرها؟  أخبار الفساد ومرتبة العراق في سلم الفساد على المستوى العالمي لا تنقطع في الصحف العراقية والأجنبية، وما يهم موضوع هذه الورقة هو مساهمة الفساد في تعطيل توقيع العقود الإنشائية والمباشرة بإنجازها.[4]  وحتى عند توقيع العقود فإن شركات التأمين العراقية لا تنتفع إلا بالنزر اليسير من هذه العقود بسبب شروط التأمين في هذه العقود والموقع القوي للشركات النفطية العالمية وغيرها من الشركات.

لكننا لا نعدم بعض "الآثار الإيجابية" لتدهور الأوضاع الأمنية ومنها قيام شركات التأمين على إدخال منتجات تأمينية جديدة للتخفيف من نتائج الأوضاع المتدهورة كما حصل مع توسيع وثيقة تأمين الحوادث الشخصية الجماعية ليشمل حالات الإصابة والوفاة جراء العمليات الإرهابية.  وكذلك تكوين مجمعات لتأمين أخطار معينة مستثناة من عقود إعادة التأمين الاتفاقي ومنها مجمع تأمين النقد ومجمع تأمين المخازن.[5]

محاولة للتعريف بركود سوق التأمين العراقي

الركود بالمعنى الاقتصادي هو تباطؤ النمو لفترة طويلة، واقترانه بالبطالة، وعدم القدرة على الاستفادة من الطاقات الانتاجية المتاحة لضعف الطلب الفعّال الذي يؤدي بدوره إلى عدم القيام بتوظيفات إنتاجية جديدة أو توسيع ما هو قائم منها.

مقياس الركود في التأمين بهذا المعنى هو تباطؤ نمو الأقساط (حجم أعمال التأمين المكتتبة من قبل شركات التأمين) أو، في أحسن الحالات، قد يعني الركود مرواحة أقساط التأمين المكتتبة في مكانها دون تقدم يذكر مقارنة بالفترة الماضية أو الفترة منذ 2003 وفي كلتا الحالتين فإن الفترة طويلة – ما يزيد عن العقد في كل فترة.

ينمو النشاط التأميني ويزدهر في أوقات السلم والاستقرار وتوفر الأمن.  وهذه قاعدة عامة معروفة شريطة أن لا يكون الاقتصاد الوطني في حالة ركود ومثالها الكساد العظيم في 1929-1933.  وفي العراق، وكما حاولنا أن نبين في الفقرات أعلاه، فإن تدهور وغياب الأمن أثَّر على النشاط التأميني لكن التأثير كان مختلطاً فالمحصلة النهائية، رغم استمرار زيادة دخل الأقساط المكتتبة، كانت ضعيفة وأسبابها ليست كامنة في تردي الأوضاع الأمنية حصراً.  فتطور أقساط التأمين من 7 ملايين دولار تقريباً قبل 3 سنوات إلى ما يزيد عن 30 مليون دولار سنة 2010 ومن المتوقع أن يتضاعف مع انتهاء السنة دليل على أن الأوضاع الأمنية لم توقف تطور الأقساط لكنها، أي الأقساط، كانت ستكون أكبر مما هي عليها لو أن الأوضاع الأمنية تحسنت أكثر وأزداد عدد المشاريع وتم التأمين عليها وعلى تجارة الاستيراد مع شركات تأمين مسجلة ومجازة في العراق.  هذا التطور يشهد على أن الزعم بركود السوق ليس صحيحاً.

هناك عوامل أخرى، سنأتي على ذكرها تحت عنوان قلة الشركات، تفسر عدم تطور الانتاج التأميني بأكثر مما تحقق منه حتى الوقت الحاضر.

قلة شركات التأمين؟

أما السبب الآخر الذي أورده الخبير لبيان ركود سوق التأمين فهو قلة شركات التأمين.  وهذا الزعم لا يسنده الواقع الحالي لسوق التأمين العراقي.

عندما أممت شركات التأمين سنة 1964 كانت موزعة على تسع شركات تأمين و 15 فرع ووكالة لشركات تأمين عربية وأجنبية.  وبموجب الموقع الإلكتروني لديوان التأمين العراقي فإن عدد الشركات المسجلة (في آخر زيارة لنا له في 29 أيلول 2011) هو 12 شركة في حين ان العدد الحقيقي هو 24 شركة: شركتين عامتين، شركة إعادة تأمين عامة واحدة، خمس شركات في إقليم كوردستان (أربيل والسليمانية)، واحدة في النجف، وواحدة في تكريت والباقي في بغداد.

قلة عدد الشركات لا علاقة لها بالركود.  في الفترة من تأميم قطاع التأمين سنة 1964 لغاية سنة 1997 عندما تم تغيير قانون الشركات للسماح بعمل الشركات الخاصة (بدأت أول شركة تأمين خاصة بالعمل سنة 2000) كان سوق التأمين محتكراً من الدولة ويتكون من شركتين للتأمين وشركة واحدة لإعادة التأمين.  ومع هذا العدد القليل تطورت أقساط التأمين باستمرار ووصلت أوجها في فترة "الخطة الانفجارية" السيئة السيط[6] إلى مئات الملايين من الدولارات.  وقتها كان سوق التأمين العراقي رائداً بين أقرانه في العالم العربي.

في سنة 1964 كان عدد الشركات 24 شركة وعددها الآن (تشرين الأول 2011) 24 شركة أيضا!  ربما كان هذا ما يدور في ذهن الخبير في تعليله لركود قطاع التأمين.  ربما كان يفكر بعدد السكان الذي كان قرابة 10 ملايين نسمة في ستينيات القرن الماضي وأصبح 31,234,000 عام 2009 حسب تقديرات صندوق النقد الدولي في حين ظل عدد شركات التأمين، بالصدفة، على حاله.  وقل مثل ذلك فيما يخص الناتج القومي الإجمالي وعنصره الأساسي: الموارد النفطية.  ربما كان في ظنه أن قلة عدد الشركات يسبب ركود سوق التأمين لأنها لا تتناسب مع حجم السكان وحجم الناتج القومي، وهما عنصران يؤثران على حجم الطلب على الحماية التأمينية.  أو أنه يعتقد أن هناك طلباً على الحماية التأمينية لا تستطيع الشركات القائمة على تلبيته (وليست هناك بيانات تدل على ذلك)؛ أو انه يعتقد بموضوعة أن "العرض يخلق الطلب" حسب مقولة الاقتصادي الفرنسي جان بابتيست ساي (1767–1832)، أي كلما زاد عدد شركات التأمين خَلَقَ الطلب على الحماية التأمينية.  وبالنسبة لموضوعنا يتمثل العرض بعدد شركات التأمين التي توفر الحماية التأمينية وبقدراتها الاكتتابية، ويتمثل الطلب بالحاجة للحماية التأمينية المدعومة بتوفر الدخل لشرائها.  القبول بتعليل الخبير الاقتصادي يعني أن سوق التأمين يعاني من عدم توازن بين العرض (القليل) والطلب (الكبير)، أي إننا أمام أزمة ركود – كما يوحي رأي الخبير.

هذه تكهنات نظرية فيها الكثير من التبسيط أثرناها في محاولة لاكتشاف التحليل الاقتصادي المضمر في مقولة قلة عدد شركات التأمين وتسببها بأزمة ركود سوق التأمين العراقي.  ومن الملاحظ أن زيادة عدد الشركات تؤجج المنافسة على الأسعار وقد تؤدي إلى نتائج سلبية كتدهور الخدمات المرتبطة بوثائق التأمين وربما قيام شروط إفلاس بعض الشركات بسبب عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه المؤمن لهم أو مقابلة ديونها، وعندها قد تتدخل الدولة (جهاز الأشراف والمراقبة على قطاع التأمين)، خاصة في الدول النامية، من خلال رفع حدود رأس المال والدفع باتجاه الدمج بين الشركات الضعيفة في رأسمالها لتكوين كيان يتمتع بملاءة مالية أفضل.  ومن الملاحظ أيضاً بروز ميل عند بعض الشركات نحو الاستحواذ والاندماج للحفاظ على حصتها من السوق وحماية هامش أرباحها، وهذا ميل سائد في الاقتصاد الرأسمالي.

قلة عدد شركات التأمين أو تضخم عددها يحتاج إلى دراسة مستقلة لبنية سوق التأمين العراقي لتقدير عناصر العرض والطلب على الحماية التأمينية، وهل أن السوق الآن بحاجة حقاً إلى عدد أكبر من الشركات أم ان الشركات القائمة بحاجة إلى تطوير وان التشريعات ذات العلاقة بالتأمين تحتاج إلى إعادة نظر جذرية لتأكيد دور هذه الشركات .. الخ.

هل هناك حقاً أزمة ركود في سوق التأمين العراقي؟

نحن لا نتفق مع هذه الأطروحة.  فلا تدهور الأوضاع الأمنية ولا قلة عدد شركات التأمين يشكلان سبباً كافياً لتفسير ضعف الإنتاج التأميني، وهما لم يمنعا تحقيق قطاع التأمين لبعض التقدم في حجم أعماله المكتتبة، وزيادة عدد العاملين في شركات التأمين وظهور شركات تأمين جديدة، وتأسيس جمعية لشركات التأمين.  وهذه كلها من مظاهر النمو.

نحن نرى أن القطاع كان سيستطيع تحقيق المزيد من خلال: الضغط على معيدي التأمين لتعديل وتحسين شروط اتفاقيات إعادة التأمين التي تؤثر على مجمل النشاط التأميني؛ إعادة النظر بقانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 وكذلك شرط التأمين في قانون الاستثمار الاتحادي والإقليمي لضمان التأمين مع شركات مسجلة في العراق ومجازة من ديوان التأمين؛ الحد من شروط تعامل الشركات العالمية العاملة في العراق مع شركات التأمين العراقية مما يتطلب إعادة النظر في شروط التأمين في العقود الموقعة مع هذه الشركات.  هذه وغيرها من الإجراءات، ومنها ما يخص التنظيم الداخلي للشركات وبناء القدرات، تساهم في تعزيز مكانة قطاع التأمين وحجم انتاجه مع بقاء عدد الشركات على حاله.

عندما يتحدث خبير اقتصادي ورجل أعمال متمرس عن قطاع التأمين بهذا الشكل غير المكتمل في التصور والتحليل فإن ذلك يفصح، مع الأسف، عن تقصير من جانبه للتعرّف على القطاع عن كثب.[7]  ولكننا نعفيه من هذا النقد لو أن وكالة الأنباء كانت هي المسؤولة عن عدم الدقة في نقل الحديث.

وعلى أي حال فإن "الحل" الوحيد الذي اقترحه الخبير للخروج من أزمة ركود سوق التأمين هو الدورات والندوات التثقيفية ودور الأعلام الفاعل في توعية المواطن العراقي.  ولم يخطر على باله، مثلاً، اقتراح التنسيق والتعاون بين جمعية التأمين العراقية واتحاد الصناعات، ورجال الأعمال، وغرف التجارة، أو التوسع في قنوات توزيع المنتجات التأمينية، أو ابتداع منتجات متهاودة في أسعارها لترغيب الطبقات الفقيرة بها أو طبقات معينة كالفلاحين أو العمال، وغيرها من مقترحات لتعزيز مكانة قطاع التأمين العراقي.  اكثرية العراقيين لا توفر من دخولها شيئاً، وما تكسبه منها ينفق على الحاجات الأساسية: الغذاء، السكن، الملبس، الصحة لإعادة انتاج قوة العمل.  إزاء هذا التقييم يجب إعادة التفكير بالوسائل التي تساهم في تعظيم الكثافة التأمينية والتغلغل التأميني.

لو سلمنا جدلاً بركود سوق التأمين فإنه من ركود الاقتصاد العراقي (بضمنه القطاع المالي) وحالته الريعية، وما لم يخرج الاقتصاد من ركوده سيظل النشاط التأميني عاكساً وتابعاً لحالة الاقتصاد.  لا نأتي بجديد في القول ان الاقتصاد وكذلك النشاط التأميني المرتبط به يخضع للتغير إلا أنه في المرحلة الحالية لا يتمتع بالدينامية الكافية لتحقيق نقلة نوعية كتجاوز طبيعته الريعية ليحتل القطاع المالي (المصرفي والتأميني كمثال) مكانة أكبر في التنمية الاقتصادية.  هذا الوضع يعكس غياب الرؤية الاقتصادية والسياسات الموجهة مثلما يعكس حالة "الحصار" غير المعلنة على نشاط القطاع: قوانين وعقود غير ملائمة (قوانين التأمين والاستثمار وشروط التأمين في عقود الدولة)، ضعف الحماية الإعادية، غياب سياسة تأمينية وطنية، يضاف لها هشاشة الثقافة التأمينية على المستوى المؤسسي والشعبي – وهو ما ذكره الخبير باسم أنطون الذي وفر لنا فرصة تدبيج هذه الورقة. فشكراً له ونتوقع منه المزيد من الكتابة في الشأن التأميني.

لندن 4 تشرين الأول 2011.

نشرت، بتلخيص، في جريدة المدى بتاريخ 11 تشرين الأول 2011


[1] نشر هذا الخبر وتحت نفس العنوان في المجلة اللبنانية المراقب الإنمائي، العدد 238، أيلول 2011، ص 156، دون الإشارة إلى المصدر.
[2] الفقرة التوضيحية لمحرر الخبر مفيدة جداً خاصة للقارئة والقارئ غير الملم بالنشاط التأميني.  كل المعلومات التي أوردها المحرر صحيحة لكنه كان بالإمكان صياغتها بشكل أفضل والإضافة إليها خاصة وأن هذه الفقرة تنسجم مع دعوة الخبير الاقتصادي باسم جميل أنطون للاستفادة الفعّالة من دور الأعلام في التوعية التأمينية.

[3] للتعرف على آثار العقوبات على قطاع التأمين راجع: مصباح كمال، "التأمين في العراق وعقوبات الأمم المتحدة" في الكتاب الجماعي دراسات في الاقتصاد العراقي: دراسات مختارة (لندن: المنتدى الاقتصادي العراقي، 2002) ص73-96
[4] “Corruption probe stalls Iraq projects” and “Contract scrutiny delays Iraq offshore oil export award” MEED, 30 September-6 October 2011, p 7 and 12.
[5] هذا العرض لا يعدو غير محاولة أولية لرصد بعض مكونات الأمن وما يترتب على غيابه من آثار تطال قطاع التأمين والمتعاملين معه.  نأمل أن يقوم آخرون بدراسة موضوع الأمن وعلاقته بالنشاط التأميني بعمق وبالأرقام.
[6] مصباح كمال، "تأميم قطاع التأمين في العراق،" مجلة التأمين العربي، القاهرة، الاتحاد العام العربي للتأمين، العدد 109، 2011، ص 7.

[7] كتبنا العديد من المقالات عن مواقف رسمية لوزراء عراقيين لم يعيروا قطاع التأمين العراقي ما يستحقه من عناية ومنها نكران وجود شركة تأمين في العراق.  أنظر بهذا الشأن "رسالة غير مكتملة إلى جمعية شركات التأمين وإعادة التأمين العراقية: لنعمل على وقف الإساءة لقطاع التأمين العراقي،" مجلة التأمين العراقي، 31 كانون الثاني 2009 http://misbahkamal.blogspot.com/2009/01/blog-post_23.html