ركود سوق التأمين العراقي:
مناقشة لرأي اقتصادي
نص الرأي
مرة أخرى نعود للحديث عن الكتابة التأمينية في الصحافة العراقية في ضوء الخبر التالي الذي نقلته الوكالة الإخبارية للأنباء في 30 تموز 2011 تحت عنوان "اقتصادي يدعو شركات التأمين الى توعية المواطن":[1]
بغداد (الإخبارية)..علل الخبير الاقتصادي باسم جميل [انطون] سبب ركود سوق التأمين العراقي وذلك لتردي الوضع الأمني وقلة الشركات في العراق، مشيراً الى أن التأمين يحتاج الى الوعي والتثقيف الذي لا زال يفتقره المواطن العراقي.
وقال جميل في تصريح لمراسل (الوكالة الإخبارية للإنباء) اليوم: أن أسباب ركود سوق التأمين العراقي يعود الى قلة شركات التأمين وتردي الأوضاع الأمنية الغير مستقرة في البلد، اضافة الى ان المواطن العراقي لا يمتلك وعياً وثقافة للتعامل مع هذه الشركات.
ودعا الخبير الاقتصادي الى توعية المواطن وزيادة ثقافته بهذا الموضوع عن طريق الدورات والندوات التثقيفية، مشيراً الى دور الإعلام الفاعل في توعية ذلك.
ويذكر ان شركات التامين الخاصة والعامة مارست اعمالها في فترة النظام السابق وقد ادى الحصار الاقتصادي المفروض على العراق الى مقاطعة شركات التامين الدولية لقطاع التامين وبعد سقوط النظام صدر قانون تنظيم اعمال التامين رقم 10 لسنة / 2005 ./أنتهى/8.ر.م/[2] [التأكيد من مصباح كمال]
اهتمامنا بهذا الحديث القصير، الذي لم توفر لنا وكالة الأنباء خلفيته، ينبع من كونه صادراً عن خبير اقتصادي وخبير صناعي أيضاً وعضو في مجلس إدارة اتحاد الصناعات العراقية والمدير المفوض لفندق بابل. وهو معروف بنشاطه في الكتابة الرصينة عن الشأن الاقتصادي في الصحافة العراقية والتصريحات الصحفية عن جوانب مختلفة للاقتصاد العراقي. ونحن العاملين في قطاع التأمين نرحب بكل ما يكتبه الاقتصاديون والخبراء عن النشاط التأميني لأنه يُعلّى من مكانة التأمين ويساهم في التوعية به وتعزيزه لدى القراء.
تعليل "ركود سوق التأمين العراقي" بقلة شركات التأمين وتردي الأوضاع الأمنية، وعدم امتلاك المواطن العراقي للوعي والثقافة للتعامل مع هذه الشركات فيه شيء من التبسيط والتجني على المواطن العراقي. ربما لم يُنقل رأي الخبير بكامله أو بالشكل الصحيح، وربما تعرّض الرأي المصرح به للتشويه من دون قصد. نرجو ذلك.
المواطن العراقي
وغياب الوعي والثقافة في التعامل مع شركات التأمين
لنبدأ بتحليل القول بعدم امتلاك المواطن العراقي للوعي (والمواطنة العراقية، لحسن حظها، تقع خارج دائرة الموضوع)، ففيه تعميم لا يقوم على منطق سليم ولا ينهض به الواقع. فليس كل المواطنين سواسية في وعيهم وثقافتهم، والقول بغير ذلك هو افتئات على قدراتهم الفكرية. لو حصرنا الوعي والثقافة بمفهوم التأمين والمعرفة لدى شركات التأمين، فهناك ما لا يقل عن ألفي شخص، وربما أكثر، يعملون حصراً في قطاع التأمين، يضاف لهم الأفراد والمؤسسات الصناعية والتجارية والخدمية التي تشتري أغطية تأمينية مختلفة من شركات التأمين العراقية. كل هؤلاء لا ينقصهم الوعي بالتأمين بغض النظر عن مستوى هذا الوعي.
ثُم: هل هناك علاقة سببية بين ركود السوق ووعي وثقافة المواطن؟ تُرى هل أن توفر الوعي والثقافة لدى المواطن، وخاصة الفقير والمحدود الدخل، ستدفعه صوب شركات التأمين لشراء الحماية منها وهو لا يمتلك دخلاً يكفيه لتمويل حاجياته الأساسية؟ أليس القول السائر "العين بصيرة واليد قصيرة" (وبلغة الاقتصاد غياب الطلب الفعّال لتدني حجم الدخل الفائض بعد الإنفاق الضروري على البضائع والخدمات الأساسية) هو الأوفر حظاً في التقرُّب من جواب لتفسير ركود السوق أو قل نموه البطيء، وهو ما نميل له وما يمكن قياسه بالرجوع إلى الإحصائيات.
التعكُّز على افتقار المواطن للوعي والثقافة، وهما مترابطان، في شرح ركود السوق يرهن الظاهرة الاقتصادية بحالة فكرية (المقترب الذاتي) بدلاً من محاولة استكشاف قوى وعوامل موضوعية تؤثر مباشرة على عرض الحماية التأمينية والطلب عليها. لا شك أن التكوين الاجتماعي (العائلة والعشيرة) وما يرتبط به من المفاهيم التقليدية السائدة (الإيمان بالقضاء والقدر، الاتكالية، التعاضد الأسري والقرابي والعشائري، وربما التحريم الديني) يشكل خلفية مهمة في صياغة الوعي بالتأمين والإقبال عليه من عدمه وكذلك تطوير ثقافة التدبر للمستقبل من خلال البدائل الحديثة كالادخار والاعتماد على آلية التأمين. هذه الخلفية الثقافية، مع تعقيداتها التي تنتظر الكشف، لها تأثير على حجم الطلب على التأمين. لكن الاعتماد على هذا التوصيف لوحده ليس كافياً لشرح حالة ركود سوق التأمين. علينا، إضافة لذلك، البحث في حجم الدخل المتوفر للإنفاق على الحماية التأمينية، والتكييف القانوني لشراء التأمين بضمنه إلزامية التأمين على أنواع معينة من الأخطار، والحد من تسرب أقساط التأمين إلى خارج العراق بسبب قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005، وأسعار التأمين، وكفاءة تقديم الخدمات التأمينية وخاصة في تسوية المطالبات وغيرها بما فيها الترويج للتأمين من خلال الإعلانات و"الدعاية المسلحة" – عند تسديد شركة التأمين لتعويض كبير متى ما ركّزت شركة التأمين على الاستفادة منه.
ولنا أن نضيف على ذلك حجم التجارة الخارجية (الطلب على التأمين البحري على البضائع والسفن)، عدد الوحدات الصناعية والتجارية والخدمية والزراعية التي تخصص بنداً في ميزانياتها لشراء التأمين، حركة البناء والمشاريع .. الخ. وبعبارة أخرى، البحث في مكونات الطلب على التأمين في ظل الظروف السائدة.
ولمعالجة حالة ركود سوق التأمين العراقي يدعو "الخبير الاقتصادي الى توعية المواطن وزيادة ثقافته بهذا الموضوع عن طريق الدورات والندوات التثقيفية، مشيراً الى دور الإعلام الفاعل في توعية ذلك."
دورات وندوات تثقيفية لمن؟ لكل المواطنين العراقيين، وكيف يتم ذلك؟ من خلال الإعلام؟ هذه دعوة مشكوك في صحتها. ربما كان الخبير يفكر في الدعاية، المرئية والمسموعة، على النمط الغربي (عملية تكييف واستحواذ على عقل المستهلك) أما دور الإعلام فهو أمر آخر قابل للتحقيق ولكنه لا يتم من خلال بضعة دورات وندوات. نتمنى على الخبير باسم جميل أنطون التوسع في شرح ما يرمي إليه ووسائل تحقيقه.
تردي الأوضاع الأمنية والتأمين
السبب الآخر الذي ذكره الخبير لتفسير ركود سوق التأمين هو تردي الأوضاع الأمنية. وهذه الأوضاع أصبحت الشماعة التي صرنا نعلق عليها كل مشاكلنا الاقتصادية وغيرها لكننا قلما حاولنا تفكيك هذه الأوضاع للتعرّف عليها وتقييم آثارها على النشاط التأميني. ربما نكون متعسفين في هذا القول وعسى أن يدلنا القارئ الحصيف على دراسات تدحض موقفنا. ومن المناسب هنا التذكير بأن تدهور الأوضاع الأمنية هو استمرار لتدهور عام بدأ في عهد الدكتاتورية واستمر خلال حروب النظام والعقوبات الدولية[3] وتفاقم مع الغزو والاحتلال الأمريكي سنة 2003.
في الحالة العراقية يتمظهر غياب الأمن بالتفجيرات على أنواعها، مختلف العمليات الإرهابية، عمليات الخطف، إكراه الناس على مغادرة بيوتهم لأسباب طائفية، القتل على الهوية، تصفية خصوم الفكر، قتل الصحفيين والأكاديميين، عمليات الانتقام وغيرها. ولم تنجح الحكومات المنتخبة في القضاء على الإرهاب وتحقيق الأمن الضروري للتنمية الاقتصادية.
نعرف بأن النشاط التأميني لا يجري في فراغ بل ضمن ضوابط قانونية ورقابية وفي بيئة تتوفر فيها درجة من الاستقرار والاطمئنان على النفس وحرية الحركة. أي أن الإنتاج التأميني يتم في وضع يتوفر فيه الأمان على النفس والمال. ويتأثر هذا النشاط بالمتغيرات الاقتصادية ومنها التضخم النقدي، السياسة المالية، التركيبة السكانية، البطالة، الأزمات المالية، الكساد، حركة الإنشاءات وغيرها.
يُقيد غياب الأمن حركة العاملات والعاملين في قطاع التأمين وهو ما يؤثر على الإنتاجية (إنتاج وثائق تأمين جديدة، تجديد وثائق تأمين على وشك الانتهاء، تقديم الخدمات لحملة وثائق التأمين). ويؤثر أيضاً على وصول طالبي التأمين إلى شركات التأمين أو متابعة مطالباتهم بالتعويض معها بسبب غلق الشوارع.
ويؤدي غياب الأمن، وكذلك الفساد المالي، إلى تأجيل المشروعات أو تقليصها وحتى إلغائها، وهذه من المصادر المهمة لفرع التأمين الهندسي. كما يؤدي لدى البعض إلى ضعف الإقبال على شراء الحماية التأمينية، في حالة توفر فائض في دخل الأفراد، لعدم الاطمئنان على ما تخبئه الأيام.
كما أن سوء الأوضاع الأمنية يُصعّبُ على شركات التأمين شراء حماية إعادة التأمين من الشركات الإعادية العالمية ويقلّص ويُضعف من نطاق هذه الحماية، إذ لا تتوفر هذه الحماية إلا بأسعار وشروط مُكلفة. وبالتالي، فإن ضعف الحماية الإعادية يؤثر سلباً على القدرات الاكتتابية واحتفاظ شركات التأمين بالأقساط.
غياب الأمن يساهم في خلق مُناخ ملوث يشجع على استفحال الفساد المالي والإداري وحالات الغش والتزوير لأن من يقوم به يدعم سلوكه بقوة السلاح أو بالتواطؤ مع عناصر في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية أو بالتغاضي عن التطبيق الصارم للقوانين. وهنا يثور سؤال: هل يستطيع الطرف المتضرر إقامة دعوى على مسبب الضرر دون وجل؟ وهل يستطيع الاعتماد على أجهزة الشرطة في تسجيل حادث واستصدار المستندات المناسبة من هذه الأجهزة وغيرها؟ أخبار الفساد ومرتبة العراق في سلم الفساد على المستوى العالمي لا تنقطع في الصحف العراقية والأجنبية، وما يهم موضوع هذه الورقة هو مساهمة الفساد في تعطيل توقيع العقود الإنشائية والمباشرة بإنجازها.[4] وحتى عند توقيع العقود فإن شركات التأمين العراقية لا تنتفع إلا بالنزر اليسير من هذه العقود بسبب شروط التأمين في هذه العقود والموقع القوي للشركات النفطية العالمية وغيرها من الشركات.
لكننا لا نعدم بعض "الآثار الإيجابية" لتدهور الأوضاع الأمنية ومنها قيام شركات التأمين على إدخال منتجات تأمينية جديدة للتخفيف من نتائج الأوضاع المتدهورة كما حصل مع توسيع وثيقة تأمين الحوادث الشخصية الجماعية ليشمل حالات الإصابة والوفاة جراء العمليات الإرهابية. وكذلك تكوين مجمعات لتأمين أخطار معينة مستثناة من عقود إعادة التأمين الاتفاقي ومنها مجمع تأمين النقد ومجمع تأمين المخازن.[5]
محاولة للتعريف بركود سوق التأمين العراقي
الركود بالمعنى الاقتصادي هو تباطؤ النمو لفترة طويلة، واقترانه بالبطالة، وعدم القدرة على الاستفادة من الطاقات الانتاجية المتاحة لضعف الطلب الفعّال الذي يؤدي بدوره إلى عدم القيام بتوظيفات إنتاجية جديدة أو توسيع ما هو قائم منها.
مقياس الركود في التأمين بهذا المعنى هو تباطؤ نمو الأقساط (حجم أعمال التأمين المكتتبة من قبل شركات التأمين) أو، في أحسن الحالات، قد يعني الركود مرواحة أقساط التأمين المكتتبة في مكانها دون تقدم يذكر مقارنة بالفترة الماضية أو الفترة منذ 2003 وفي كلتا الحالتين فإن الفترة طويلة – ما يزيد عن العقد في كل فترة.
ينمو النشاط التأميني ويزدهر في أوقات السلم والاستقرار وتوفر الأمن. وهذه قاعدة عامة معروفة شريطة أن لا يكون الاقتصاد الوطني في حالة ركود ومثالها الكساد العظيم في 1929-1933. وفي العراق، وكما حاولنا أن نبين في الفقرات أعلاه، فإن تدهور وغياب الأمن أثَّر على النشاط التأميني لكن التأثير كان مختلطاً فالمحصلة النهائية، رغم استمرار زيادة دخل الأقساط المكتتبة، كانت ضعيفة وأسبابها ليست كامنة في تردي الأوضاع الأمنية حصراً. فتطور أقساط التأمين من 7 ملايين دولار تقريباً قبل 3 سنوات إلى ما يزيد عن 30 مليون دولار سنة 2010 ومن المتوقع أن يتضاعف مع انتهاء السنة دليل على أن الأوضاع الأمنية لم توقف تطور الأقساط لكنها، أي الأقساط، كانت ستكون أكبر مما هي عليها لو أن الأوضاع الأمنية تحسنت أكثر وأزداد عدد المشاريع وتم التأمين عليها وعلى تجارة الاستيراد مع شركات تأمين مسجلة ومجازة في العراق. هذا التطور يشهد على أن الزعم بركود السوق ليس صحيحاً.
هناك عوامل أخرى، سنأتي على ذكرها تحت عنوان قلة الشركات، تفسر عدم تطور الانتاج التأميني بأكثر مما تحقق منه حتى الوقت الحاضر.
قلة شركات التأمين؟
أما السبب الآخر الذي أورده الخبير لبيان ركود سوق التأمين فهو قلة شركات التأمين. وهذا الزعم لا يسنده الواقع الحالي لسوق التأمين العراقي.
عندما أممت شركات التأمين سنة 1964 كانت موزعة على تسع شركات تأمين و 15 فرع ووكالة لشركات تأمين عربية وأجنبية. وبموجب الموقع الإلكتروني لديوان التأمين العراقي فإن عدد الشركات المسجلة (في آخر زيارة لنا له في 29 أيلول 2011) هو 12 شركة في حين ان العدد الحقيقي هو 24 شركة: شركتين عامتين، شركة إعادة تأمين عامة واحدة، خمس شركات في إقليم كوردستان (أربيل والسليمانية)، واحدة في النجف، وواحدة في تكريت والباقي في بغداد.
قلة عدد الشركات لا علاقة لها بالركود. في الفترة من تأميم قطاع التأمين سنة 1964 لغاية سنة 1997 عندما تم تغيير قانون الشركات للسماح بعمل الشركات الخاصة (بدأت أول شركة تأمين خاصة بالعمل سنة 2000) كان سوق التأمين محتكراً من الدولة ويتكون من شركتين للتأمين وشركة واحدة لإعادة التأمين. ومع هذا العدد القليل تطورت أقساط التأمين باستمرار ووصلت أوجها في فترة "الخطة الانفجارية" السيئة السيط[6] إلى مئات الملايين من الدولارات. وقتها كان سوق التأمين العراقي رائداً بين أقرانه في العالم العربي.
في سنة 1964 كان عدد الشركات 24 شركة وعددها الآن (تشرين الأول 2011) 24 شركة أيضا! ربما كان هذا ما يدور في ذهن الخبير في تعليله لركود قطاع التأمين. ربما كان يفكر بعدد السكان الذي كان قرابة 10 ملايين نسمة في ستينيات القرن الماضي وأصبح 31,234,000 عام 2009 حسب تقديرات صندوق النقد الدولي في حين ظل عدد شركات التأمين، بالصدفة، على حاله. وقل مثل ذلك فيما يخص الناتج القومي الإجمالي وعنصره الأساسي: الموارد النفطية. ربما كان في ظنه أن قلة عدد الشركات يسبب ركود سوق التأمين لأنها لا تتناسب مع حجم السكان وحجم الناتج القومي، وهما عنصران يؤثران على حجم الطلب على الحماية التأمينية. أو أنه يعتقد أن هناك طلباً على الحماية التأمينية لا تستطيع الشركات القائمة على تلبيته (وليست هناك بيانات تدل على ذلك)؛ أو انه يعتقد بموضوعة أن "العرض يخلق الطلب" حسب مقولة الاقتصادي الفرنسي جان بابتيست ساي (1767–1832)، أي كلما زاد عدد شركات التأمين خَلَقَ الطلب على الحماية التأمينية. وبالنسبة لموضوعنا يتمثل العرض بعدد شركات التأمين التي توفر الحماية التأمينية وبقدراتها الاكتتابية، ويتمثل الطلب بالحاجة للحماية التأمينية المدعومة بتوفر الدخل لشرائها. القبول بتعليل الخبير الاقتصادي يعني أن سوق التأمين يعاني من عدم توازن بين العرض (القليل) والطلب (الكبير)، أي إننا أمام أزمة ركود – كما يوحي رأي الخبير.
هذه تكهنات نظرية فيها الكثير من التبسيط أثرناها في محاولة لاكتشاف التحليل الاقتصادي المضمر في مقولة قلة عدد شركات التأمين وتسببها بأزمة ركود سوق التأمين العراقي. ومن الملاحظ أن زيادة عدد الشركات تؤجج المنافسة على الأسعار وقد تؤدي إلى نتائج سلبية كتدهور الخدمات المرتبطة بوثائق التأمين وربما قيام شروط إفلاس بعض الشركات بسبب عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه المؤمن لهم أو مقابلة ديونها، وعندها قد تتدخل الدولة (جهاز الأشراف والمراقبة على قطاع التأمين)، خاصة في الدول النامية، من خلال رفع حدود رأس المال والدفع باتجاه الدمج بين الشركات الضعيفة في رأسمالها لتكوين كيان يتمتع بملاءة مالية أفضل. ومن الملاحظ أيضاً بروز ميل عند بعض الشركات نحو الاستحواذ والاندماج للحفاظ على حصتها من السوق وحماية هامش أرباحها، وهذا ميل سائد في الاقتصاد الرأسمالي.
قلة عدد شركات التأمين أو تضخم عددها يحتاج إلى دراسة مستقلة لبنية سوق التأمين العراقي لتقدير عناصر العرض والطلب على الحماية التأمينية، وهل أن السوق الآن بحاجة حقاً إلى عدد أكبر من الشركات أم ان الشركات القائمة بحاجة إلى تطوير وان التشريعات ذات العلاقة بالتأمين تحتاج إلى إعادة نظر جذرية لتأكيد دور هذه الشركات .. الخ.
هل هناك حقاً أزمة ركود في سوق التأمين العراقي؟
نحن لا نتفق مع هذه الأطروحة. فلا تدهور الأوضاع الأمنية ولا قلة عدد شركات التأمين يشكلان سبباً كافياً لتفسير ضعف الإنتاج التأميني، وهما لم يمنعا تحقيق قطاع التأمين لبعض التقدم في حجم أعماله المكتتبة، وزيادة عدد العاملين في شركات التأمين وظهور شركات تأمين جديدة، وتأسيس جمعية لشركات التأمين. وهذه كلها من مظاهر النمو.
نحن نرى أن القطاع كان سيستطيع تحقيق المزيد من خلال: الضغط على معيدي التأمين لتعديل وتحسين شروط اتفاقيات إعادة التأمين التي تؤثر على مجمل النشاط التأميني؛ إعادة النظر بقانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 وكذلك شرط التأمين في قانون الاستثمار الاتحادي والإقليمي لضمان التأمين مع شركات مسجلة في العراق ومجازة من ديوان التأمين؛ الحد من شروط تعامل الشركات العالمية العاملة في العراق مع شركات التأمين العراقية مما يتطلب إعادة النظر في شروط التأمين في العقود الموقعة مع هذه الشركات. هذه وغيرها من الإجراءات، ومنها ما يخص التنظيم الداخلي للشركات وبناء القدرات، تساهم في تعزيز مكانة قطاع التأمين وحجم انتاجه مع بقاء عدد الشركات على حاله.
عندما يتحدث خبير اقتصادي ورجل أعمال متمرس عن قطاع التأمين بهذا الشكل غير المكتمل في التصور والتحليل فإن ذلك يفصح، مع الأسف، عن تقصير من جانبه للتعرّف على القطاع عن كثب.[7] ولكننا نعفيه من هذا النقد لو أن وكالة الأنباء كانت هي المسؤولة عن عدم الدقة في نقل الحديث.
وعلى أي حال فإن "الحل" الوحيد الذي اقترحه الخبير للخروج من أزمة ركود سوق التأمين هو الدورات والندوات التثقيفية ودور الأعلام الفاعل في توعية المواطن العراقي. ولم يخطر على باله، مثلاً، اقتراح التنسيق والتعاون بين جمعية التأمين العراقية واتحاد الصناعات، ورجال الأعمال، وغرف التجارة، أو التوسع في قنوات توزيع المنتجات التأمينية، أو ابتداع منتجات متهاودة في أسعارها لترغيب الطبقات الفقيرة بها أو طبقات معينة كالفلاحين أو العمال، وغيرها من مقترحات لتعزيز مكانة قطاع التأمين العراقي. اكثرية العراقيين لا توفر من دخولها شيئاً، وما تكسبه منها ينفق على الحاجات الأساسية: الغذاء، السكن، الملبس، الصحة لإعادة انتاج قوة العمل. إزاء هذا التقييم يجب إعادة التفكير بالوسائل التي تساهم في تعظيم الكثافة التأمينية والتغلغل التأميني.
لو سلمنا جدلاً بركود سوق التأمين فإنه من ركود الاقتصاد العراقي (بضمنه القطاع المالي) وحالته الريعية، وما لم يخرج الاقتصاد من ركوده سيظل النشاط التأميني عاكساً وتابعاً لحالة الاقتصاد. لا نأتي بجديد في القول ان الاقتصاد وكذلك النشاط التأميني المرتبط به يخضع للتغير إلا أنه في المرحلة الحالية لا يتمتع بالدينامية الكافية لتحقيق نقلة نوعية كتجاوز طبيعته الريعية ليحتل القطاع المالي (المصرفي والتأميني كمثال) مكانة أكبر في التنمية الاقتصادية. هذا الوضع يعكس غياب الرؤية الاقتصادية والسياسات الموجهة مثلما يعكس حالة "الحصار" غير المعلنة على نشاط القطاع: قوانين وعقود غير ملائمة (قوانين التأمين والاستثمار وشروط التأمين في عقود الدولة)، ضعف الحماية الإعادية، غياب سياسة تأمينية وطنية، يضاف لها هشاشة الثقافة التأمينية على المستوى المؤسسي والشعبي – وهو ما ذكره الخبير باسم أنطون الذي وفر لنا فرصة تدبيج هذه الورقة. فشكراً له ونتوقع منه المزيد من الكتابة في الشأن التأميني.
لندن 4 تشرين الأول 2011.
نشرت، بتلخيص، في جريدة المدى بتاريخ 11 تشرين الأول 2011
[1] نشر هذا الخبر وتحت نفس العنوان في المجلة اللبنانية المراقب الإنمائي، العدد 238، أيلول 2011، ص 156، دون الإشارة إلى المصدر.
[2] الفقرة التوضيحية لمحرر الخبر مفيدة جداً خاصة للقارئة والقارئ غير الملم بالنشاط التأميني. كل المعلومات التي أوردها المحرر صحيحة لكنه كان بالإمكان صياغتها بشكل أفضل والإضافة إليها خاصة وأن هذه الفقرة تنسجم مع دعوة الخبير الاقتصادي باسم جميل أنطون للاستفادة الفعّالة من دور الأعلام في التوعية التأمينية.
[3] للتعرف على آثار العقوبات على قطاع التأمين راجع: مصباح كمال، "التأمين في العراق وعقوبات الأمم المتحدة" في الكتاب الجماعي دراسات في الاقتصاد العراقي: دراسات مختارة (لندن: المنتدى الاقتصادي العراقي، 2002) ص73-96
[4] “Corruption probe stalls Iraq projects” and “Contract scrutiny delays Iraq offshore oil export award” MEED, 30 September-6 October 2011, p 7 and 12.
[5] هذا العرض لا يعدو غير محاولة أولية لرصد بعض مكونات الأمن وما يترتب على غيابه من آثار تطال قطاع التأمين والمتعاملين معه. نأمل أن يقوم آخرون بدراسة موضوع الأمن وعلاقته بالنشاط التأميني بعمق وبالأرقام.
[6] مصباح كمال، "تأميم قطاع التأمين في العراق،" مجلة التأمين العربي، القاهرة، الاتحاد العام العربي للتأمين، العدد 109، 2011، ص 7.
[7] كتبنا العديد من المقالات عن مواقف رسمية لوزراء عراقيين لم يعيروا قطاع التأمين العراقي ما يستحقه من عناية ومنها نكران وجود شركة تأمين في العراق. أنظر بهذا الشأن "رسالة غير مكتملة إلى جمعية شركات التأمين وإعادة التأمين العراقية: لنعمل على وقف الإساءة لقطاع التأمين العراقي،" مجلة التأمين العراقي، 31 كانون الثاني 2009 http://misbahkamal.blogspot.com/2009/01/blog-post_23.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق