إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2019/03/10

Insuring Iraqi Refineries

تأمين مصافي النفط العراقية: دعوة للمناقشة


مصباح كمال


مقدمة


كانت لي وقفات مع جوانب من تأمين صناعة النفط في العراق، وقد جمعتُ بعض ما كتبت في كتاب إلكتروني.[1]  تناولت في المدخل العام للكتاب القضايا التالية:

الانشغال الشخصي بموضوع تأمين صناعة النفط العراقية
التحرك نحو تأمين صناعة النفط العراقية
وزارة النفط وتأمين قطاع النفط
شحة المعلومات
غياب برنامج تأميني موحد شامل
غياب قسم متخصص للتأمين وإدارة الخطر
تصورات شركات إعادة التأمين حول تأمين الأخطار النفطية
وزارة النفط وتأمين عقود التراخيص النفطية
شركات التأمين العراقية ومحنة تأمين قطاع النفط

أحاول في هذه الورقة الاستفادة من مدخل هذا الكتاب ومقالات وتعليقات أخرى نشرتها في الماضي لكنها ما زالت تحتفظ بقيمتها، وكذلك المعلومات التي استقيتها من خلال التحدث مع زملاء وزميلات في قطاع التأمين، لعرض بعض إشكاليات تأمين مصافي النفط العراقية أثناء الإنشاء والتشغيل بأمل تغطية جوانب أخرى في المستقبل وعند توفر المعلومات (كإدارة الخطر وسبل تمويله risk financing، تقييم أو إعادة تقييم الممتلكات لأغراض التأمين، مثلاً).  بعض هذه الإشكاليات يتعلق بالمصافي ذاتها، وبعضها الآخر يتعلق بشركات التأمين العراقية التي تقوم بالتأمين عليها.  وبسبب شحة المعلومات المتوفرة فإن العرض هنا سيكون تصورياً conceptual إلى حد ما ولكني أراه مفيداً من ناحية المساهمة في تعميق شرح بعض المفاهيم.

هناك عشرات المصافي موزعة في أنحاء مختلفة من العراق بضمنها إقليم كوردستان.  المعلومات المتعلقة بتأمين هذه المصافي ليست في التداول العام وخاصة المصافي في الإقليم.  وليس معروفاً إن كانت جميعها مؤمنة أو أن التأمين يقتصر على عدد قليل منها، كما كان الحال قبل بضع سنوات عندما قامت وزارة النفط بالتأمين على مصافي الدورة والبصرة وبيجي، دون غيرها، ثم توقَّفَ التأمين عليها لأسباب تستحق البحث.  أتمنى ممن يتوفرون على المعلومات الأساسية المشاركة في مناقشة مضمون هذه المقالة لتحقيق معالجة أفضل لواقع تأمين المصافي من قبل إداراتها، وكذلك للواقع الاكتتابي من قبل شركة/شركات التأمين العراقية ذات العلاقة بهذا التأمين.  وتقوم أهمية التأمين على المصافي من واقع ارتباطاتها الأمامية والخلفية في صناعة تكرير النفط العراقي، وأن ما يلحق بها من أضرار وخسائر، خاصة الكبيرة منها، يمكن أن تؤثر على هذه الارتباطات.

دعوى أن الخبرة المحلية كافية ومدى كفاءة الوظيفة التأمينية


لقد كان قطاع النفط هو الأكثر تقدماً في العراق، وكان يضم مجموعة متميزة من المهندسين وغيرهم من أصحاب الاختصاص في شتى المجالات، يمتد تاريخهم إلى العهد الملكي.  عندما أممت الشركات النفطية الأجنبية (1972-1975) كان هناك خوف مُفتعل أن صناعة النفط العراقية ستتوقف عن العمل أو تتأثر سلبياً لكن الواقع أثبت غير ذلك بفضل الكفاءات العراقية المحلية، لا بل أن إنتاج النفطي ازداد وتوسعت المنشآت النفطية مثلما تطورت الكوادر العاملة.

لكن هذا القطاع كغيره تعرّض إلى خسارة العديد من كوادره على مدى زمني طويل.  مع ذلك استمر القطاع بالعمل في ظل الظروف الصعبة للحصار الدولي وأثناء الاحتلال الأمريكي.  لا أحد ينكر القدرات المتوفرة للتشغيل والصيانة والتصليح في هذا القطاع إلا أن التقنيات والمعدات الجديدة ربما تحتاج إلى مقاولين متخصصين من خارج العراق.

ما يهمني من هذا العرض السريع هو الولوج إلى إثارة التساؤل عن كفاية الطاقم المتوفر في القطاع النفطي ومنه مصافي النفط لإدارة الوظيفة التأمينية.  إن المعرفة البسيطة التي تكونت عندي خلال السنوات الماضية تشير إلى ضعف هذه الوظيفة، وعدم كفاية المعرفة المناسبة بالأخطار التي تتعرض لها المصافي وأدوات التعامل معها، وهو ما يعرف بإدارة الخطر والتأمين.

هناك هشاشة في فهم مؤسسة التأمين.  نقل لي أحد الزملاء قولاً سمعه من أحد مسؤولي وزارة النفط: (1) أن الوزارة تدفع الأقساط لشركة التأمين منذ سنوات ولا تستلم شيئاً مقابل ذلك؛ و (2) أن المنشآت التابعة لها لم تختبر خسائر وأضرار مادية أو بشرية تستحق الذكر.

ونقل زميل آخر رأياً يقول إن تأمين المنشآت النفطية يجب أن لا يخضع لخسارة مهدرة دون أن يقدم حجة لهذه الأطروحة سوى أن قسط التأمين مرتفع.

فيما يلي سأتناول هذا الخطاب البائس بالنقد؛ أصفه بالبائس لأنه يعبر عن حالة انفصام عن مفاهيم التأمين المتداولة عالمياً وخاصة في مجال التأمين على الأخطار النفطية.

هل أن شراء التأمين توظيف خاسر للأموال؟


مدخل
تقوم الشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية العامة والخاصة وغيرها (وفيما يلي سأكتفي بالإشارة إليها بكلمة "الشركة أو الشركات" حسب السياق) بشراء التأمين للحماية من:[2]

§       الخسارة أو الضرر المادي
§       فقدان الدخل المترتب على الخسارة المادية أو الضرر المادي (خسارة الأرباح)
§       المسؤولية القانونية تجاه الطرف الثالث

وذلك لضمان استمرار تشغيل المنشآت وتحقيق الإيرادات المستهدفة.

ماذا يحصل عندما تتعرض الشركة لخسارة كبيرة؟

عندما تتعرض شركة إلى حادث يسبب خسارة مادية أو ضرر، وتتوقف الأعمال نتيجة لمثل هذه الخسارة أو الضرر وتتعرض أيضاً للمسؤولية القانونية قبل الغير، يتوجب على الشركة تصليح أو استبدال الأصول موضوع الخسارة أو الضرر، ودفع فاتورة الأجور وغيرها من المصاريف الثابتة وتعويض الغير (الطرف الثالث) المتضرر نتيجة للحادث.  دعونا من باب الاختصار أن نطلق على هذه الخسائر والأضرار والمسؤوليات "خسارة."

لكي تكون الشركة قادرة على مواصلة عملياتها يجب أن تملك الموارد اللازمة لتغطية الخسارة.  وللقيام بذلك، يمكن للشركة أن تعتمد على:

§       الدخل التشغيلي (ولكن إذا كانت الخسارة كبيرة فإن هذا الدخل لن يكون كافيا).

§    الاقتراض من البنوك (لكن هذا القرض قد لا يكون متاحاً بسهولة باعتبار أن الشركة التي تكبدت خسائر كبيرة لن يكون عميلاً جذاباً أو أن شروط اقراضها مرهقة، وتزيد من الأعباء المالية للشركة).

§    صندوق مالي لمواجهة الطوارئ أو أي صندوق خاص (لكن العديد من الشركات لا تخصص مثل هذه الصناديق لتمويل الخسائر).

للحماية ضد الخسارة سيكون أسهل وأكثر توفيراً على الشركة تخصيص ميزانية سنوية لشراء حماية التأمين ضد الخسارة.  وهكذا، يتم نقل عبء تمويل الخسارة من الشركة إلى شركة التأمين التي ستتولى توفير الحماية المالية.

الشركات غير المؤمن عليها أو غير المؤمن عليها بالقدر الكافي
الشركة غير المؤمن عليها (أي الشركة التي لا تشتري التأمين) أو الشركة التي يكون تأمينها ناقصاً (أي الشركة غير المؤمن عليها بالقدر الكافي) مُعرضة إلى خطر شديد من مسببات الخسارة القابلة للتأمين التي قد تشل قدرتها على تشغيل وإدارة أعمالها بشكل اعتيادي أو حتى تُوقِفُّ الشركة عن العمل تماماً.

لسوء الحظ، فإن التأمين غالباً ما يشغل المرتبة الثانية أو الثالثة من الاهتمام لدى العديد من الشركات.  والمشكلة لا تكمن في مجرد إغفال شراء التأمين ولكن إهمال شراء التأمين الصحيح المناسب والكافي إذ ان نتيجة هذا الإغفال يمكن أن تكون كارثية.

لننظر إلى الشركات المملوكة للدولة فهذه عند تعرضها للخسارة يمكن أن تلجأ، كملاذ أخير، إلى الحكومة لإنقاذها رغم أن مئات الملايين من الدولارات التي قد تكون لازمة لجبر الخسارة قد تستقطع من تخصيصات أخرى في ميزانية الحكومة لتمويل الخسارة.  تسريب مثل هذه الموارد المالية سيؤثر على مجالات أخرى من مجالات الإنفاق الحكومي، على سبيل المثال تمويل مشاريع اجتماعية جديدة أو خدمات عامة.  إن تحويل الأموال هذه قد يؤدي إلى ضغوط سياسية على الحكومة خاصة إذا كانت هذه الأموال مخصصة لمشاريع تتمتع بالكثير من الدعم الشعبي.

مقابل ذلك فإن شركات القطاع الخاص لا تتمتع بترف الانقاذ الحكومي عند تعرضها للخسارة.  ومن دون تأمين ليس لها غير الاعتماد فقط على قوة ميزانياتها العمومية.  وإذا كانت النقدية والموجودات في الميزانية العمومية للشركة ليست كافية لدفع كلفة الخسارة أو الضرر فإن انهيارها يصبح حقيقة واقعة.

ما الذي تدفعه وثيقة التأمين؟
يقوم التأمين بتمويل إصلاح أو استبدال الممتلكات والمباني والمعدات التابعة للشركة.

ويقوم التأمين أيضاً بتعويض الشركة عن خسارة الربح الإجمالي في حالة حدوث ضرر مادي يؤدي إلى توقف الشركة عن القيام بأنشطتها لفترة معينة.

كما يقوم التأمين أيضاً بتعويض الشركة إذا كانت مسؤولة قانوناً عن إصابة أو وفاة للأفراد.

ويقوم التأمين بتعويض الشركة إذا كانت مسؤولة قانوناً عن الخسائر أو الأضرار التي تلحق بممتلكات الآخرين.

إن التأمين، ومن خلال وظيفته التعويضية، هو آلية لحماية الشركات من الخسارة المالية التي تترتب على الخسارة المادية أو الضرر المادي.

إلزامية التأمين
معظم الشركات مُلزمة قانوناً بشراء تأمينات معينة مثل مسؤولية رب العمل، والمسؤولية تجاه الطرف الثالث المترتبة على استخدام المركبات، والتأمين ضد الحريق لممتلكاتها.  وهذه الإلزامية تختلف من بلد إلى آخر ولكن الشرط القانوني هو عادة شراء الحد الأدنى من التأمين بدلاً من المستويات المصممة خصيصا لتلبية حاجة كل شركة إلى مستوى من الحماية يتناسب مع نطاق تعرضها للخطر.

في هذه الحالة، تعتقد إدارة الشركة أن لديها حماية تأمينية وتشعر بفضلها بالأمان ولكن عادة ما يكون التأمين ناقصاً under-insurance – أي التأمين بأقل من القيمة الحقيقية (الاستبدالية) لممتلكاتها أو أنها لم تكن قد اشترت ما يكفي من أغطية تأمينية لحمايتها من جميع المخاطر التي تتعرض لها.

ومن جهة أخرى فإن شركات أخرى مُلزمة تعاقدياً من قبل المُقرضين لشراء التأمين حيث يضع هؤلاء شروطاً صارمة لحماية الأعمال وحماية الاستثمار وفي نهاية المطاف حماية قروضهم واستثماراتهم.  إن متطلبات التأمين بموجب هذه العقود تكون عادة أوسع من غيرها من حيث نطاق ومبالغ التأمين التي يُشترط شراؤها والمخاطر التي يتوجب التأمين عليها.  ولكن في كثير من الأحيان تخضع اشتراطات التأمين هذه لقرارات غير المتخصصين، وبالتالي فهي ليست دقيقة دائماً.

تحليل المخاطر
الطريقة الفضلى لشراء غطاء التأمين هو تحليل حالات التعرض للأخطار التي تواجهها كل شركة.

إن شراء التأمين يختلف وفقاً للمخاطر المعينة التي تتعرض لها الشركة، كما أن مبلغ التأمين يعتمد على مقدار الخطر التي تكون الشركة على استعداد لتحملها لحسابها الخاص.  وكذلك فإن نوع ومبلغ التأمين يختلف أيضاً تبعاً لحجم أقساط التأمين التي تكون كل شركة على استعداد لإنفاقه على شراء الحماية التأمينية.

يمكن لتحسين ممارسات إدارة المخاطر المساعدة في الحد من تعرض الشركة للخطر، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف الى خفض قسط التأمين الذي تطلبه شركات التأمين.  كما أن تحسين الخطر يساعد أيضاً الصناعات ككل، كما هو الحال في مجالات مثل تكرير النفط.  إن زيارات المهندسين الكيمائيين المؤهلين لمصافي النفط والصناعات الأخرى، على سبيل المثال، والكشف الميداني عليها يعتبر إسهاماً مهماً في تجميع وتقاسم الممارسات الجيدة على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم.  لقد ساعدت هذه الكشوف الهندسية الميدانية في خفض عدد الانفجارات والحرائق الكبرى في المصافي في انحاء العالم.

كيفية شراء وثيقة التأمين
هناك ثلاث خطوات رئيسية للشراء الصحيح للتغطية التأمينية المناسبة.

1)       اختيار وتعيين خبير فني في التأمين

بنفس الطريقة التي يتم بها اختيار مكتب محاماة أو محاسبين ومدققين، ينبغي أن يؤخذ تعيين استشاري متمرس في مجال التأمين أو وسيط تأمين متخصص على محمل الجد.[3]  ذلك لأن وسيط التأمين المناسب يستطيع تقديم المشورة للشركة عن أنواع التأمين التي ينبغي شراؤها ونطاق التغطية.  كما أن وسيط التأمين يعمل أيضاً نيابة عن المؤمن له على ترتيب شراء الحماية التأمينية بأسعار تنافسية من شركات التأمين التي تتمتع بملاءة مالية عالية.  (هذا الوضع لا ينطبق في الوقت الحاضر على العراق، ولكن يمكن تحقيق بعض منه من خلال وسيط إعادة التأمين العالمي الذي تعتمده شركة التأمين في العراق).

تميل العديد من الشركات إلى شراء التأمين بأقل الأسعار لكن هذا الميل لا يمثل دائماً أفضل الصفقات إذ أن الضمانة المالية لشركات التأمين، لا سيما في ظل المناخ المالي السائد، أمر ينبغي أن يستوقف النظر قبل الإقدام على شراء التأمين.  ففي حال قيام مطالبة بالتعويض، ترغب الشركة عند شراء التأمين أن تكون على يقين بأن شركات التأمين التي اشترت منها الحماية ستكون قائمة وقت الخسارة كي تسدد أي مطالبات وتتمتع بسيولة نقدية وقدرة كاملة على تعويض المؤمن له.

2)       تحليل أعمال الشركة

ينبغي على الشركة، في استخدامها لمهارات وسطاء التأمين وإدارة المخاطر لديهم، تحليل المخاطر التي تواجهها وحجم التعرض لها.  وبالطبع فإن لكل شركة احتياجاتها الفردية الخاصة، وانه فقط من خلال تحليل حالات التعرض للخطر يمكن للشركة تحديد التغطية التأمينية التي تحتاجها.

3)       التعرّف على أنواع التغطية المتاحة في أسواق التأمين

من خلال تعيين وسيط التأمين، فإن كل شركة تكون قادرة على مناقشة مختلف أنواع التأمين المتاحة لتغطية المخاطر التي تواجهها لكون الوسيط مهنياً محترفاً يمتلك المعرفة الخاصة بتخصصات المكتتبين والمهارات اللازمة لترتيب الأغطية المناسبة.  ولوسيط التأمين كذلك المعلومات عن أحدث المنتجات التأمينية الجديدة، والتطورات المهمة في سوق التأمين بشكل عام.

خلاصة
بمساعدة مهنية من الخبير الاستشاري أو وسيط التأمين[4] المتخصص، يمكن للشركات صياغة أغطية وثائق التأمين بما يتناسب مع جميع المخاطر المحتملة التي تتعرض لها.  وبالنسبة للشركات الصناعية الكبيرة فإن مدير الخطر والتأمين فيها يتعاون على نحو وثيق مع وسيط التأمين في وضع البرنامج.

من الملاحظ أن صناعة التأمين والأنشطة المرتبطة بها في تطور مستمر لتلبية المتطلبات المتغيرة للشركات في جميع أنحاء العالم، وحيثما يكون هناك خطر قيام خسارة مادية فإن صناعة التأمين تقوم بالاستجابة وتقديم الحلول. ويشهد تأريخ التأمين كيف أنه استجاب للأخطار التي ارتبطت بالثورة الصناعية الأولى وكيف تستجيب للأخطار المرتبطة بالعولمة والاعتماد والترابط المتبادل interdependency بين الشركات الموزعة جغرافياً في مراكز مختلفة من العالم، وما تفرضه التطورات التكنولوجية الحديثة من تحديات.

ويمكن القول إن معظم الحلول موجودة ولصناعة التأمين القدرة على إيجاد حلول جديدة، ولذلك يمكن لجميع الشركات النظر في الفوائد التي يمكن الحصول عليها من خلال الاستفادة من صناعة التأمين.

كثيراً ما ينظر إلى التأمين باعتباره جزءاً من نفقات إضافية لا لزوم لها، وهنا مكمن الخطورة لأن عدم شراء التأمين الصحيح يمكن أن يؤدي إلى وقوع الشركات في مأزق عدم القدرة على تمويل خسارة كبيرة من إيرادات التشغيل، واضطرارها إلى الاستدانة، وهو ليس سهلاً عندما تكون معسرة، أو اللجوء إلى خزانة الدولة بالنسبة للشركات العامة وهو ما يشكل عبئاً غير منظور على الخزانة.

إن الدولارات المستقطعة من الميزانية العمومية للشركات لتمويل الخسائر المادية العرضية يكون على حساب استخدام أموالها لتطوير وتنمية الأعمال والإنتاج.  مثل هذا الوضع يمكن أن يقلل بالتالي من هامش الربح والأرباح المدفوعة للمساهمين، أو لخزينة الدولة بالنسبة للشركات العامة، الذين يحتجون على الطريقة التي تتم بها إدارة الأعمال مثلما تجد الشركات نفسها ككل في حالة اضطراب.

ويمكن تجنب كل ذلك من خلال شراء وثيقة التأمين الصحيحة مقابل مبلغ معلوم (قسط سنوي) يمكن رصده مسبقاً في الموازنة المالية للشركة.

دعوى أن المصافي لم تتعرض إلى حوادث


تتخذ هذه الدعوى شكلين عند التفاوض مع شركة التأمين على الأسعار والشروط.  أحدهما يقول بأن تاريخ المصافي العراقية لم يشهد حوادث حريق وانفجار كبيرة إلا في حالات نادرة.  ربما ينطوي هذا الادعاء على بعض الصحة، نسبياً وبالمقارنة مع عدد وحجم خسائر الحوادث في الغرب.  لكن هذا الادعاء بحاجة إلى إثبات، وفي غياب ذلك فإنه يعكس نوعاً من التستر على الحقائق أو جهلاً بالتاريخ الحقيقي للحوادث، أو كلاماً يلقى على عواهنه.  فيما يلي أقدم بعض ما استطعت الوصول إليه، وربما يكشف البحث الموسع المزيد من الحوادث.[5]

في تصريح منسوب لبرهم صالح، نائب رئيس الوزراء (كانون الثاني 2007) فإن العراق يخسر سنوياً 1,5 مليار دولار بسبب الهجمات والسرقة في بيجي.[6]

وفي خبر نقلته رويترز (7 كانون الثاني 2008) أن انفجاراً في أحد خزانات الوقود في مصفى بيجي تسبب في حريق كبير وتدمير وحدة غاز البترول المسال (LPG) ووفاة أربعة من العاملين وجرح وإصابات لأكثر من عشرين عاملاً بدرجات مختلفة من الحروق.  وحسب أحد المهندسين في الموقع حصل الانفجار والحريق نتيجة لخطأ تقني.[7]

بعض الحوادث كانت نتيجة لأعمال إرهابية وعمليات حربية، كما ورد في إحدى الصحف الإلكترونية (27 شباط 2011) إذ وقع انفجار في مصفى بيجي يُشتبه أنه كان نتيجة هجوم إرهابي[8]  وقد ورد الخبر أيضاً في صحيفة نيويورك تايمز.[9]

وتعرّض مصفى بيجي سنة 2014 إلى هجوم إرهابي كما نقلت وكالات الأنباء (19 حزيران 2014) أدى إلى إشعال حريق في عدد من الخزانات.[10]

كما تعرّض مصفى القيارة إلى أضرار واسعة بسبب احتلال داعش ومعركة تحريره، شملت عشرين خزاناً من أصل 23 خزان، ووحدات المعالجة، وبنايات الإدارة، والأنابيب.[11]

ليست لدي معلومات عن قيمة هذه الخسائر إذ أن وزارة النفط أو الجهات الأخرى المعنية لم تعلن عنها، ولكن لا استبعد أن تقدر بعشرات الملايين من الدولارات.

بالنسبة لخطر الأعمال الإرهابية والأضرار الناتجة عنها فإنه يخضع لوثيقة تأمين مستقلة إذ أن وثيقة التأمين من الحريق أو وثيقة تأمين جميع الأخطار للممتلكات تستثني هذا الخطر.[12]

الشكل الثاني للدعوى يقول إن السنة أو السنتين أو الثلاث الماضية في الفترة مباشرة قبل التفاوض مع شركة التأمين على شروط وأسعار التأمين لم تشهد وقوع حوادث.

مثل هذا القول ينقل صورة إيجابية عن المصفى لمكتتب التأمين، وهو ما يأخذه بنظر الاعتبار، كأحد العناصر، في عملية الاكتتاب.  لكن هذه العملية لا تقصر تقييم الخطر المعروض للتأمين على هذا العنصر إذ أن المُكتتب ينظر إلى سجل حوادث المصافي، وأخطار الطاقة عموماً، على المستوى العالمي، فهو يكتتب محفظة من أعمال الطاقة موزعة في أنحاء مختلفة من العالم.

تقوم هذه الدعوى على نظرة قاصرة تحصر الحوادث بالحوادث المتحققة أو غير المتحققة ولا تأخذ بعين الاعتبار تلك الحوادث التي كانت على وشك الوقوع near miss accidents.  ويُعرّف مثل هذا "الحادث" على أنه حدث غير مخطط لم يؤدي إلى وقوع إصابة بشرية أو ضرر مادي ولكن احتمال وقوع الإصابة والضرر كامن في مثل هذا الحدث الذي كان على وشك التحقق.  إن الشركات الرصينة تنظم سجلاً لمثل هذه الحوادث لاستنباط الدروس منها والقيام بالإجراءات المناسبة للحيلولة دون وقوعها، وذلك هو جزء من عملية إدارة الخطر.

ثم أن هناك خبرة عالمية متجمعة حول الأخطاء التي تسببت بأضرار بشرية ومادية كان بالإمكان تجنبها.  وهناك دراسات عديدة حول هذا الموضوع.[13]

لماذا تفرض شركات التأمين خسارة مهدرة على المؤمن لهم


يحتل هذا الموضوع أهمية في عملية الاكتتاب من قبل شركات التأمين ويُعرف بفقرة التحمُّل excess أو الاستقطاع deductible أو الفرنشيزة franchise، وفي العراق جرت العادة على تسمية الاستقطاع بالخسارة المهدرة.  وهو يُمثّل مساهمة صاحب المنشأة أو المشروع الإنشائي (المؤمن له) في كلفة تصليح أو إعادة بناء المنشأة أو المشروع بعد تعرضه لضرر أو خسارة مادية، وقد يكون مبلغاً مقطوعاً أو نسبة من قيمة التصليح أو إعادة البناء (أي من قيمة المطالبة بالتعويض).[14]

وقد يُثار السؤال: لماذا تفرض شركات التأمين على المؤمن له تحمُّلَ مبلغٍ أو نسبةٍ من قيمة الضرر أو الخسارة التي تلحق بممتلكاته؟  (وثائق التأمين على الحوادث الشخصية وعلى الحياة لا تتضمن فقرة تحمُّل.  وفي وثائق التأمين الخاصة بتأمين خسارة الأرباح Loss of Profit or Business Interruption insurance تتخذ فقرة التحمل شكل فترة استقطاع عدد من الأيام من حساب التعويض يتحمل المؤمن له من خلالها جزءاً من خسارة الأرباح التي لحقت به).

إن الجواب على ذلك، باختصار، يتضمن شقين.

الأول، يقوم على اعتبارات عملية لها علاقة بكلفة إدارة المطالبات بالتعويض.  فلكي توفر شركة التأمين على نفسها تحمل كلفة إدارة المطالبات الصغيرة فإنها تفرض مبلغاً مقطوعاً يتحمله المؤمن له لحسابه الشخصي.  وبذلك يكون المؤمن له مؤمِناً على نفسه فيما يخص هذا المبلغ.  ويُؤخذ مثل هذا المبلغ بعين الاعتبار في العملية الاكتتابية إذ أن سعر/قسط التأمين يُحدد بناءً على حجم هذا المبلغ.

ويلاحظ أن رفع حجم المبلغ الذي يتحمله المؤمن من كل تعويض يترتب عليه تخفيضاً في قسط التأمين.  وهو ما تلجأ إليه الشركات الصناعية الكبيرة، وخاصة النفطية والبتروكيمياوية، للتوفير في كلفة شراء الحماية التأمينية، ولأنها تمتلك موارد مالية داخلية تستطيع استخدامها لتمويل ما تتعرض له من خسائر بحدود مبلغ التحمل.  (هذا الجانب من الموضوع ينطوي على ترتيبات أخرى كبناء صندوق مخصص للطوارئ، والتأمين الذاتي، أي عدم شراء التأمين من شركات التأمين، وتأسيس شركات تأمين مقبوضة.  هذا إضافة إلى صيغ مختلفة للخسارة المهدرة ذاتها).

الشق الثاني، يقوم على تحليل اقتصادي لما يُعرف بخطر عدم تناظر المعلومات asymmetric information أي عدم إلمام أحد طرفي عقد التأمين، وهو شركة التأمين، بالمعلومات الكافية المتوفرة عند الطرف الآخر، وهو المؤمن له المرتقب.  وينشأ عن هذا الوضع ما يعرف بمشكلة الاختيار السيئ (الانتقاء ضد شركة التأمين adverse selection problem) والخطر، أو المؤثر، المعنوي moral hazard.

بالنسبة لمشكلة الاختيار السيئ، ومن باب التبسيط، يلاحظ أن المشاريع (الممتلكات) المعرّضة لخطر الفيضان أو الحريق أو الزلزال، على سبيل المثل، أكثر من غيرها، يلجأ أصحابها إلى شراء الحماية التأمينية لها ضد خطر الفيضان.  وإذا افترضنا أن شركة التأمين تطبق معدل السعر المعتمد للممتلكات، دون أي قيود أو شروط أخرى، على تأمين هذه الممتلكات فإن احتمال تعرض الشركة للخسارة سيكون عالياً.

أما الخطر (أو المؤثر) المعنوي فإنه ينشأ عندما تقبل شركة التأمين توفير الحماية التأمينية للممتلكات بافتراض أن صاحبها سوف يعمل جهده لتجنب كل ما من شأنه أن يتسبب بإحداث ضرر أو خسارة لهذه الممتلكات.  ولكن بفضل وجود الحماية التأمينية فإن صاحب الممتلكات، المؤمن له، قد يكون أقل حرصاً على حماية الممتلكات المؤمنة لأن عبء الخسارة، إن تحققت، سيقع على عاتق شركة التأمين التي ستقوم بتعويضه.

وهنا ينهض مفهوم اقتصادي آخر يعرف بالحوافز incentives يستخدم كوسيلة للتغلب على نتائج الخطر المعنوي والاختيار السيئ.  وتتخذ الوسيلة شكل فرض قسط تأمين أعلى من معدل الأسعار التي تعتمدها شركة التأمين، أو فرض شروط معينة لقاء القبول بالتأمين، أو إدخال استثناءات معينة لتضييق نطاق الغطاء التأميني، وكذلك فرض مبلغ (خسارة مهدرة) يتحمله المؤمن له من كل مطالبة بالتعويض، وهو بيت القصيد بالنسبة لموضوعنا.  وبفضل ذلك، إي التحمل، فإن المؤمن له يكون مشاركاً في تحمل جزء من الخسارة التي يتعرض لها، يكون مسؤولاً عن تمويلها من حسابه الخاص.  وهو لذلك لا يتهاون في بذل الهمة المعقولة لحماية الممتلكات المؤمن عليها، ويتصرف كما لو أن هذه الممتلكات غير مؤمن عليها.

تأمين مشاريع إنشاء المصافي: نظرة سريعة


من المفترض أن يقوم من تُناط به مهمة التأمين على المشروع، أي مشروع، تقدير الكلفة التقديرية للتأمين على المشروع.  ويعتبر التأمين عنصراً داخلاً في احتساب تكاليف المشروع سواء كان رب العمل مسؤولاً عن التأمين أو المقاول المنفذ.  في عقود التراخيص، وبموجب مادة التأمين النموذجية، فإن كلفة التأمين تعتبر جزءاً من "تكاليف النفط."  وهي التكاليف القابلة للاسترداد والنفقات المتكبدة والمبالغ المدفوعة من قبل المقاول و/أو المشغل (ومنها شراء أغطية التأمين) بكل ما يتعلق بسير العمليات النفطية.  ومن رأيي أن كلفة التأمين ليست هي العائق أمام الاستثمار لأنها كلفة محتسبة أو قابلة للتقدير، وهو ما يقوم به المقاولون الدوليون.[15]

ما يهمنا هنا هو التفريق بين أنواع التأمين التي يتطلبها المشروع لتقييم كلفة التأمين بشكل أفضل.  في العادة، تحتاج المشاريع الهندسية إلى التأمين البحري (على المكائن والمعدات والمواد الأخرى ذات العلاقة بإنشاء المشروع)، والتأمين الهندسي (على أعمال الإنشاء والنصب والاختبار والفترة التجريبية للتشغيل وفترة الصيانة المتعاقد عليها)، والتأمين على الطرف الثالث (ويمكن أن يكون شخصاً طبيعياً أو معنوياً يتأثر من جراء تنفيذ أعمال المشروع).[16]

القاعدة العامة هي أنه كلما كان المشروع معقداً وحجمه كبيراً، أي أن قيمته عالية، كلما تطلب ذلك سعراً للتأمين مناسباً له وشروطاً معينة من حيث تغطية الأخطار واستثناء بعضها من التغطية.  وهناك جملة عوامل تؤخذ بنظر الاعتبار لتحديد سعر التأمين بعضها، على سبيل المثال، يكمن في طبيعة المشروع (فبناء مستشفى غير بناء جسر أو سد أو محطة كهربائية أو مصفى للنفط)، والبعض الآخر يتعلق بموقع المشروع (مدى تأثره بالفيضانات والزلازل)، والمقاول المنفذ (تجربته وسمعته واختصاصه)، وطبيعة التصميم (تقليدي مُجرّب، أم هو تصميم جديد أو يضم مكائن جديدة لم يسبق استخدامها).  ويلعب التنافس بين مكتتبي التأمين دوراً في التأثير على مستوى السعر ونطاق غطاء التأمين.

إن أسعار هذه التأمينات في السوق الدولية للتأمين تتم على أساس المعايير الفنية للاكتتاب بالأخطار الطبيعية والبشرية للمشروع وليس مجرد أن العراق منطقة غير آمنة.

هناك أنواع أخرى للتأمين قد يطلبها رب العمل من المقاول ومنها التأمين على معدات ومكائن الإنشاء، والتأمين على الأعمال الإرهابية/العنف السياسي التي قد يتعرض لها المشروع أثناء التنفيذ، والتأمين على العمال ضد إصابات العمل.  ويظل هناك خيار التأمين ضد خطر الاختطاف والفدية من عدمه وهو يخضع لإرادة المقاول المنفذ.

في البيئة العراقية التي ما تزال تعتبر منطقة في طريقها البطيء إلى استقرار عام من نوع ما فإن كلفة التأمين على أعمال الإرهاب/العنف السياسي والاختطاف والفدية (وهذه تتعلق بالتأمين على الأشخاص خلاف التأمين البحري والهندسي والطرف الثالث) تكون عالية مقارنة بما يماثلها في بلدان أخرى لا توصف بأنها غير آمنة للاستثمار.  فهناك تحميل إضافي على "السعر الفني" يعكس عدم انتظام البيئة الأمنية في العراق بشكل عام يطبق على مثل هذه التأمينات.

نطاق غطاء التأمين


تاريخياً، اقتصر تأمين المصافي، ومنها مصفى الدورة ومنذ خمسينيات القرن الماضي، على شراء وثيقة التأمين من الحريق والانفجار من شركة التأمين الوطنية وربما أضيف لها تأمين أخطار أخرى فيما بعد.

لا أذكر أن المصافي كانت مؤمنة من خطر عطب المكائن أو من خسارة الأرباح نتيجة لتوقف العمل بعد حادث حريق أو غيره.  ولم تُعرف وثيقة تأمين الممتلكات من جميع الأخطار All Risks Property Insurance (ARPI) في سوق التأمين العراقي إلا في وقت متأخر (بدايات الألفية الثالثة).[17]  وليس معروفاً إن قامت الشركة بعرض وثيقة جميع الأخطار على إدارات المصافي.  كما أنه ليس معروفاً إن قامت بعرض برنامج تأميني متكامل على هذه الإدارات يجمع بين أغطية تأمينية مختلفة.

إدارة التأمين لدى المصافي


أزعم بأن إدارات المصافي تفتقر إلى قسم متخصص بإدارة الخطر والتأمين، وهذا ينطبق على كل كيانات قطاع النفطي كما كتبتُ قبل عدة سنوات:

غياب قسم متخصص للتأمين وإدارة الخطر insurance and risk management department يعكس خللاً في تصور الأخطار الاحتمالية، الطبيعية والبشرية، التي قد تتعرض لها المنشآت النفطية.   قطاع النفط العراقي الوطني متخلف، من هذه الناحية، مع ما يماثله في البلدان المتقدمة وبعض البلدان العربية المنتجة للنفط.  والبون شاسع، تأمينياً، بين العراق وهذه البلدان.  وحسب علمنا، ليس هناك حالياً خطط لتأسيس مثل هذا القسم المتخصص، ولم يطرح الموضوع للنقاش داخل الوزارة أو خارجها، ولم تتقدم شركة/شركات التأمين العراقية المؤمنة على بعض منشآت الوزارة باقتراح لتأسيس مثل هذا القسم المتخصص.[18]

لم يتغير الوضع منذ ذلك الوقت فما زالت وظيفة التأمين موزعة بين محاسب، ومدقق، ومهندس، أو حقوقي أو غيرهم.  ليس بينهم من يحمل مؤهلاً مناسباً في مجال التأمين.  وهكذا فإن عملية شراء الحماية التأمينية والتفاوض عليها تتسم بالعفوية وفي أحسن الحالات بالقليل من المعرفة الفنية بمؤسسة التأمين، وما يجري في تأمين أخطار النفط في العالم.

أعرف من التجربة أن مدراء التأمين والخطر في أوروبا، مثلاً، ومعهم وسطاء التأمين الذين يعملون في خدمتهم، يصيبهم الأرق من جراء عدم اكتمال تجديد التغطية التأمينية بعد انتهاء أجلها، وخاصة في الفترة التي تسبق قرب انتهاء السنة حيث تشتد أعمال التجديد وتبدأ فترة أعياد رأس السنة.  في حالة العراق، فإن أي مصفى يمكن أن يظل بدون غطاء تأميني لسنة أو سنتين دون أن يرف جفن المسؤول عن التأمين أو من يقف على رأس الإدارة المالية أو إدارة المصفى!  لن تنتهي حالة الرقود هذا إلا بوقوع خسارة كارثية، وهو ما لا أرجوه.  وفي ظني أن القائمين على هذه الأمور يعتمدون على ما يحمله الحظ، لا يقيمون وزناً حقيقياً لاحتمالات المستقبل وقراءتها برويّة وبعقلانية لتجنب الآثار غير المرغوبة (حوادث الحريق والانفجار وغيرها) وضمان سلامة البشر والأصول والموارد، كما تقضي بذلك إدارة الخطر التي لا تقيم وزناً للحظ أو الإيمان والاتكال على الغيب في رد المصائب إذ

"لو كان كل شيء موضوعاً للحظ لأصبحت إدارة الخطر أمراً عقيماً.  إن التعكز على الحظ يخفي الحقيقة لأنه يفصل الحادثة عن مسبباتها."[19]

وفي ظني أيضاً أن هناك عدم اكتراث بالكلفة الاقتصادية للحوادث والتي يمكن أن تتخذ أشكالاً عديدة من بينها: خسارة/تلف الأصول المادية من مباني، وسيارات، ومكائن ومعدات؛ التأثير المباشر للحوادث على الإنتاج وعلى تقديم الخدمات والمتاجرة، أي البيع والشراء؛ خسارة الأرباح المترتبة على توقف الإنتاج؛ احتمال تعرّض العاملين للبطالة بعد توقف الأعمال؛ تكاليف مكافحة الحرائق؛ الإصابات البشرية وما تعنية للأُسر وللنظام الصحي العام؛ وإذا كانت الحوادث بفعل عمدي أو عمل إرهابي فهناك كلفة اقتفاء مقترفي الحوادث وكلفة تقديمهم للمحاكم.

يمكن للتأمين أن يعوض أو يخفف من آثار الحوادث من خلال توفير الأرصدة المالية المستحقة بموجب وثائق التأمين لاستبدال ما هو تالف أو تصليح ما هو متضرر وتعويض من ألمّت بهم إصابة بدنية، وحتى التعويض عن بعض تكاليف مكافحة الحريق.

الاكتتاب بأخطار المصافي في العراق


في حين أن بعض شركات التأمين العربية قد طورت القدرات الاكتتابية في مجال التأمين على الصناعات النفطية والبتروكيمياوية فإن شركات التأمين العراقية تفتقر إلى هذه القدرات، وما كان لديها منها كان محصوراً بشركة التأمين الوطنية العامة لكنها اختفت بسبب التقاعد أو الهجرة.  أما شركات التأمين الخاصة فهي الأخرى فقيرة بهذا الشأن.

مصافي النفط الحكومية تتعامل مع شركة التأمين الوطنية حصراً، وهو امتداد لما كان قائماً في الماضي، ويجد سنده في المادة 7 من قانون تأسيس شركة التأمين الوطنية رقم 56 لسنة 1950، الذي يُلزم "دوائر الحكومة والمؤسسات الرسمية وشبه الرسمية أن تعهد حصراً إلى الشركة بمعاملات التأمين التي تجريها."

يفترض هذا الوضع القانوني أن تنهض شركة التأمين الوطنية بالوظيفة الموكولة إليها بمستوى معرفي ومهني عالٍ، كما حاولت أن تعمل في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.  لكن الملاحظ أن الوظيفة الاكتتابية في الشركة لا تقوم على أسس علمية وقواعد وممارسات متعارف عليها في التأمين على أخطار الصناعة النفطية.  فقد نما إلى علمي أن الشركة قد أصدرت قبل سنوات وثيقة تأمين من الحريق لأحد المصافي دون تحديد خسارة مهدرة.  هل جرى ذلك في غفلة، أم أن المكتتب نسي إدراج الخسارة المهدرة في جدول وثيقة التأمين، أو أنه لا يفقه أصلاً قواعد الاكتتاب بالأخطار النفطية؟  ومعروف أن وثائق تأمين المنشآت النفطية تشترط خسارة مهدرة عالية، وبحدود دنيا كأن تكون نصف مليون دولار مثلاً.

لقد تولّد عندي بعض الانطباعات أوجزها كما يلي.

إن المكتتبين بأخطار الصناعة النفطية لم يتطوروا فنياً وعلمياً، وربما لم توفر لهم إدارة الشركة فرص التدريب والتعلم.  هناك حقاً نقص فاضح في عدد المكتتبين (هم مجرد موظفين) الخبراء في التأمين على أخطار الطاقة ومنها أخطار التأمين على المصافي.  هم، في اعتقادي، ورثة نظام لم يوليهم اهتماماً ليتحولوا من موظفين إلى مكتتبين.

وهم يفتقرون إلى معرفة جيدة باللغة الإنجليزية بحيث يصعب عليهم متابعة التطور في مجال التأمين على الأخطار النفطية في العالم.  ربما لم يجربوا تصميم نموذج model لخسارة كارثية لإحدى المنشآت؛ ربما لم توفر لهم الفرصة لتعلم هذا النمط من تحليل الأخطار وتقدير مشاهد الخسارة القصوى estimated maximum loss (EML).  إن كان هذا صحيحاً فهو يؤشر على وضع غير سليم خاصة وأن هناك قسم للأخطار الكبيرة في الشركة.

هناك ضعف في القدرات الفنية في مجال الكشف الميداني على المصافي قبل التأمين عليها أو عند تجديد وثائقها، وضعف في كتابة تقارير الكشف عنها، وتضمينها التوصيات المناسبة لما يسمي تحسين الخطر risk improvement recommendations.  يمكن تغطية هذا الضعف بالاستعانة بالخبرة الخارجية في هذا المجال.  (من جملة القواعد الاكتتابية المعتمدة في تأمين وإعادة تأمين الأخطار النفطية هو إبراز تقرير معاينة ميدانية survey report وبتوصيات لتحسين الخطر مجزأة إلى توصيات تقتضي اعتمادها وتنفيذها من إدارة المصفى فوراً، وتوصيات تقتضي التنفيذ خلال فترة زمنية محددة، وتوصيات للمدى الطويل تستوجب رصد ميزانية خاصة بها، وذلك قبل أن يقوم معيد التأمين بالتعاقد مع شركة التأمين).

ليس معروفاً إن قامت الشركة أو القسم المختص فيها بعرض التأمين على المصافي وفق وثيقة تأمين جميع أخطار الممتلكات، مكتفية بعرض وثيقة التأمين من الحريق والأخطار الإضافية الملحقة بها.  والمعتاد في معظم البلدان التي تضم صناعات نفطية التأمين عليها بموجب وثيقة جميع أخطار الممتلكات (البعض يسميها كافة الأخطار).

من المحزن أن الشركة لا تستفيد كثيراً من الخدمات الفنية التي يمكن لوسطاء إعادة التأمين ومعيدي التأمين تقديمها لها ولإدارات المصافي أيضاً.

خاتمة


إن كان ما قدمته في هذه الورقة صحيحاً فإنه يدل على وضع تشترك فيه إدارات المصافي وشركة التأمين الوطنية (لست معنياً هنا بشركات التأمين الخاصة لأنها هي الأفقر ضمن إطار هذه الورقة).  إن طرفي العلاقة التأمينية يتساويان في هشاشة المعرفة التأمينية الفنية، فهما ورثة نظام قديم متكلس في التعامل مع تأمين الأخطار النفطية.

أرجو من كل من يعنيهم موضوع هذه الورقة تنبيهي إلى أية أخطاء في المعلومات وفي التوصيف والحكم، وإضافة ما فاتني، وحتى تقديم رؤية مغايرة.  كما أرجو ألّا أكون متطفلاً على موضوع لم يلقَ ما يستحقه من اهتمام وتصديت له بعد تردد طويل.  وحسب علمي فإن أحداً لم يكتب عن الموضوع.

إذا كان البعض يرى بأن الورقة سجاليه ومشاكسة فإني أود التأكيد أن الغرض منها ليس سوى إثارة النقاش، وأقف خاشعاً أمام النقد البنّاء.

8 آذار 2019



[1] مصباح كمال، وزارة النفط والتأمين: ملاحظات نقدية (مكتبة التأمين العراقي، 2014).
[2] وزعت هذا الجزء من الورقة قبل سنوات على عدد من زملائي في العراق، وقد اعتمدته هنا بعد إدخال بعض التعديلات عليه.
[3] قد يبدو تأكيدي على دور وسيط التأمين مستغرباً ومتحيزاً كوني كنت أعمل في شركة وساطة للتأمين.  لكن الغرابة والتحيز يزولان بتذكر الشركات النفطية العالمية التي اشتركت في جولات التراخيص النفطية.  بعض هذه الشركات تملك شركات تأمين مقبوضة ولكنها، مع ذلك، تعتمد على وسيط عالمي للمشاركة في ترتيب احتياجاتها التأمينية داخل وخارج العراق.
[4] قد يكون الخبير الاستشاري فرداً مستقلاً لكن الاستشارات، في الغرب، صارت وظيفة تقوم بها شركات استشارية بعضها كانت متخصصة بالتدقيق القانوني وأضافت تخصصات استشارية مختلفة لمحفظة أعمالها.  وفي مجال وساطة التأمين وإعادة التأمين فإن الكلام هنا هو عن شركات الوساطة.
[5] أظن أن سجلات التعويض في شركة التأمين الوطنية يمكن أن تكون مصدراً مناسباً للتعرف على جميع المطالبات بالتعويض.
[12] اعتباراً من 1 كانون الثاني 2002 تم استبعاد تأمين الأعمال الإرهابية في عقود التأمين وإعادة التأمين، وقد جاء ذلك بعد تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 أيلول 2011.  بعدها صارت هذه الأعمال موضوعاً لوثائق تأمين مستقلة.
[13] راجع على سبيل المثل:
Trevor Kletz, What Went Wrong? Case Histories of Process Plant Disasters (Houston: Gulf Publishing Company, 3rd Ed 1994.  First published in 1985).
[14] كان هذا موضوع تعليق مع د. سناء عبد القادر مصطفى في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين.
[15] أنقل هنا معظم ما كتبته كتعليق على مقالة خبير النفط العراقي حمزة الجواهري بعنوان "مصفى ميسان والضجة المفتعلة” المنشورة في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين، ركزت فيه على كلفة التأمين على مشروع مصفى ميسان التي ذكرها كأحد الأسباب في “عزوف الشركات العالمية بالاستثمار في المصافي العراقية” مدللاً على ذلك بالقول “إن العراق مازال يعتبر منطقة غير آمنة للاستثمار، وبالتالي سوف يكون التأمين على المنشأة كبيرا للغاية، وقد يكلف نسبة عالية جدا من رأس المال."
[16] راجع: شروط المقاولة لأعمال الهندسة الكهربائية والميكانيكية والكيمياوية (بغداد: وزارة التخطيط)، ص 261-264.
راجع أيضاً: بشرى رضا محمد، عقد تأمين المشاريع النفطية: دراسة مقارنة، أطروحة ماجستير، كلية القانون، جامعة بغداد 2017.  نشرت هذه الأطروحة ككتاب ورقي مطبوع لكنني لم أطلع عليه بعد.
[17] للتعرف على الجوانب القانونية لهذه الوثيقة راجع:
John Hanson & Christopher Henley, All Risks Property Insurance (London: Lloyd’s of London Press, 1995.
مصباح كمال، "وثيقة جميع الأخطار: بعض ملامح صياغة النص للأضرار والخسائر المادية،" فصل في كتاب جماعي، تأمينات الأخطار الصناعية والبتروكيمياوية (القاهرة: الاتحاد العام العربي للتأمين، 1994)، ص 27-52.
[18] مصباح كمال، وزارة النفط والتأمين: ملاحظات نقدية (مكتبة التأمين العراقية، 2014)، ص 15.
[19] بيتر بيرنشتاين، ضد الأرباب: القصة الرائعة للخطر.
Peter Bernstein, Against the Gods: The Remarkable Story of Risk (New York: John Wiley & Son, 1988), p 197.

ليست هناك تعليقات: