إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2020/05/13

Competition in Open Arab Insurance Markets


المنافسة في أسواق التأمين العربية المفتوحة[1]


مصباح كمال


نشرت لأول مرة في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:


مخطط البحث


1                مقدمة عامة
2                الحاجة للتأمين بين السوق والتخطيط
3                تحليل اقتصادي للمنافسة
4                المنافسة: ظاهرة عربية صرفة أم ظاهرة عالمية؟
5                المنافسة بين شركات التأمين والوسطاء
6                أشكال المنافسة بين شركات التأمين
-        المنافسة على الأسعار
-        المنافسة غير السعرية: عقد التأمين والخدمات
7                المنافسة وبعض خصائصها العربية
-        أسلوب التعامل التقليدي أو السوق الإسلامي
-        انخفاض كثافة التأمين
-        المناقصات التأمينية
-        الزيادة في عدد الشركات وضعف التشريعات والرقابة
-        طبيعة عقود التأمين على الممتلكات
8                وسائل الحد من المنافسة (1)
-        آثار المنافسة: بالنسبة للمؤمن له
-        بالنسبة للمؤمن
-        بالنسبة لمعيد التأمين
9                وسائل الحد من المنافسة (2)
-التأميم
دور الدولة
دور إعادة التأمين
دور شركات التأمين
10            خاتمة



1-مقدمة عامة


بادئ ذي بدء أشكر الاتحاد العام العربي للتأمين على دعوته لي للمشاركة في هذه الندوة، وأشكر الجامعة التونسية لشركات التأمين لاستضافتها.  وفي استجابتي لهذه الدعوة عنَّ لي أن أتساءل مع نفسي كيف تأتى لي أن أقبل التحدث عن موضوع "المنافسة في الأسواق الحرة المفتوحة" فإذا بي أستذكر عملي في سوق عربي مغلق تميَّز بمتانته وريادته والقدرات الفنية لكوادره، وأربطه مع عملي الحالي كوسيط للتأمين يعمل في سوق لندن العريق.  لعلني لا أكون مؤهلاً للتحدث بشكل ملموس عن الموضوع إلا أن خبرتي الماضية ووضعي الحالي يسمحان لي بإبداء بعض الملاحظات في محاولة متواضعة لإبراز إشكالية المنافسة في النظام الاقتصادي الرأسمالي في صيغته المتواجدة في الأقطار العربية.

وقبل الدخول في صلب الموضوع أود أن أوضح بأنني سوف لن أخوض غمار الأحكام والمعايير الأخلاقية والسياسية في تحليل المنافسة كونها مقياس للحرية الفردية ولسيادة المستهلك في مواجهة سلطان الدولة الحديثة وضماناً للديمقراطية، كما يحاول المدافعون عن المنافسة الحرة تبيانه في أدبياتهم.  يكفي أن أقول هنا بأن موضوعة المنافسة الحرة -كما يبرره المدافعون عنها- لا تخلو من تبسيط لا ينهض به الواقع الاقتصادي حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، قلب الرأسمالية المعاصرة.

وزيادة في التوضيح أقول: إن التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية التي شهدتها البشرية قديماً وحديثاً ليست خالصة ونقية، بل هناك تعدداً في البنى الاقتصادية الاجتماعية التي تنتظمها رغم أننا لا نعدم وجود بنية سائدة قادرة على إدامة نفسها وإعادة توليدها.  وأريد أن أتوصل بذلك إلى استنتاج أولي وهو أن المنافسة قد لا تكون الصفة الغالبة في أسواق التأمين المفتوحة، إذ تنهض حالات تحدُّ من المنافسة أو توفر فرصاً للتعاون بين الشركات، كما تبيَّن لنا من خلال العرض الذي قدمه الدكتور رمضان الصفراوي حول تجربة السوق التونسي في أول يوم للندوة.  وفي اعتقادي أن معالجة الموضوع ضمن إطار الاقتصاد السياسي يوفّر فهماً أفضل للظاهرة ولاقتراح الحلول الأولية لمناقشتها قبل تبنيها.  وأضيف بأن الملاحظات التالية يجب أن ينظر إليها بحذر، إذ أنها بحاجة إلى تمحيص دقيق لم يتوفر لي الوقت الكافي للقيام به.

2-الحاجة للتأمين بين السوق والتخطيط


إن البدائل المقترحة تندرج ضمن ما يمكن أن يسمى اعتباطاً بديمقراطية السوق وتخطيط الحاجات.

لن نتعرض هنا لمسألة السوق ودورها في توزيع المصادر وإضفاء القيمة على البضائع والخدمات والمزاعم التي تنقل من أجل تجميلها كزعم سيادة المستهلك.  يكفي أن نقول بأن هذه المزاعم تبقى نظرية بفضل عدم التأكد والجهل بالمعلومات اللذين ينتظمان حركة أي مجتمع معقد.  فليس من السهولة مقارنة الأسعار والنوعية وكل بضاعة وخدمة، وحتى لو تمكَّنا من ذلك فإن الوقت الذي تستغرقه المقارنة يجعل منها عملية اقتصادية ذات كلفة عالية غير معقولة.

أما تخطيط الحاجات فإنه يصطدم بجملة من العقبات.  فالحاجات ليست من الوضوح تماماً بحيث يمكن تخطيطها مركزياً.  ثم ينهض هناك تساؤلات عن الجهة التي تقوم بالتخطيط والآثار السلبية التي قد تتركها على المستهلك، ودور عدم التأكد والجهل بالمستقبل، والصعوبات العملية التي تكتنف عملية التخطيط كالتضارب الذي ينشأ بين إشباع حاجة إنسانية معينة على حساب حاجة أخرى.  ولذلك فإن أي تخطيط للاقتصاد، ولقطاع التأمين يجب أن يستوعب النزاع بين الأهداف ويوفر الآليات التي يمكن لها أن تتوصل إلى التوفيق بين الأهداف المتضاربة.

قد يكون من المناسب الجمع بين أسلوب التخطيط والسوق في مجابهة الحاجات بعد دراسة هذه الحاجات في كل سوق على حدة، فبينما تضمن السوق الاستجابة لحاجات معينة فإن التخطيط يستجيب لحاجات أخرى.

3-تحليل اقتصادي للمنافسة


قبل إبداء أي مقترح بشأن الوسائل التي يمكن أن تحد من المنافسة يتوجب تحليل ظاهرة المنافسة في الأسواق العربية المفتوحة.  إلا أن المعطيات المتوفرة لا تسعف كثيراً في عملية التحليل.  ولذلك فإننا سنحاول الاقتراب من واقع المنافسة من خلال التحليل الاقتصادي العام للظاهرة.

تُعرَّف المنافسة في كتب الاقتصاد المدرسية بأنه وضع اقتصادي يرتبط بنظام الاقتصاد الحر، وينشأ من خلال تواجد عدد كبير من البائعين والمستهلكين، وحرية في نقل البضاعة داخل السوق، والمنافسة ذاتها بين البائعين محصورة في بضاعة متجانسة، وهناك معرفة تامة لما يجري في السوق بين المستهلكين والبائعين.  ويوصف هذا الوضع عادة بالمنافسة الكاملة أو التامة، وهو وضع لا ينهض به الواقع.  وبغية تقريبه من الواقع يلجأ الاقتصاديون إلى شكل المنافسة غير الكاملة والاحتكار وما بينهما.  ويمكن إجمال أهم خصائص المنافسة والاحتكار في الجدول التالي:

خصائص المنافسة والاحتكار

النوع
عدد المنتجين
البضاعة
منافسة كاملة
كبير
متجانسة
منافسة غير كاملة
-منافسة احتكارية
-احتكار القلة الكامل
-احتكار القلة غير الكامل



كبير
صغير جداً
صغير جداً

غير متجانسة
متجانسة
غير متجانسة
الاحتكار
واحد
واحدة



ولا مجال الآن لبيان مدى مطابقة هذه الأنواع لخصائص الواقع التأميني في الأسواق المفتوحة.  ويمكن القول، من باب التبسيط، أن طبيعة المنافسة في هذه الأسواق غير كاملة.  ولعلنا لا نبالغ لو قلنا بأن المنافسة فيها تتخذ صفة احتكار القلة غير الكامل.  وتبريرنا لذلك هو أن الطاقة الاستيعابية المحلية للأخطار، ممثلة في عدد الشركات المحلية، لا تكفي للاستجابة لحجم أخطار الممتلكات المراد التأمين عليها: فعدد الشركات صغير بهذا المعنى والبضاعة التأمينية، إن جاز لنا أن نسمي الحماية التأميينية بالبضاعة، غير متجانسة.  ولا يمكن، طبعاً، حسم الأمر إلا من خلال التحليل الدقيق لكل سوق.

4-المنافسة: ظاهرة عربية أم ظاهرة عالمية؟


تنسحب ظاهرة المنافسة على الاقتصاد مثلما تنسحب على السياسة وغيرها من حقول النشاط البشري.  ومع هذا، فإن المنافسة ليست الوسيلة الوحيدة لتوزيع الموارد، إذ أن هناك أنماطاً أخرى للتوزيع من خلال التعاون بين الأفراد والجماعات أو من خلال سلطة مركزية.  وبهذا المعنى فإن المنافسة ظاهرة عالمية لا تخص الوطن العربي وحده.

وللمنافسة روادها كما أن لها معارضيها.  لن ندخل في جدل حول ملائمتها أو عدم ملائمتها لأوضاع التأمين العربي فمثل هذا الجدل يدعونا إلى خوض معترك الاقتصاد السياسي للوطن العربي، ولعل المناسبة تنهض لهذا الجدل مستقبلاً.

ولهذا فإننا سنقوم برصد الظاهرة في محاولة أولية لبيان إشكاليتها في الأسواق المفتوحة.  وإذا كان لا بد من إبداء رأي في المنافسة فإنه يكفي القول بأن بلدان المركز الرأسمالي، برغم ما تمليه إيديولوجية الاقتصاد الحر، تلجأ إلى الحد من المنافسة بغية الحفاظ على الربحية.  إضافة إلى أن التشريعات والرقابة القانونية والذاتية كلها تحد من المساوئ المحتملة للمنافسة.

5-المنافسة بين شركات التأمين والوسطاء


عندما نتحدث عن المنافسة بشكل عام في أسواق التأمين العربية المفتوحة فإن الحديث ينصبُّ على المنافسة بين شركات التأمين وكيف تضارب هذه الشركات على أسعار التأمين فيما بينها، ولا يمتد الحديث إلى خارج الأسعار.  ولا ضير في ذلك، إذ أن هناك ميلاً عاماً لدى المؤمن لهم على تفضيل الأسعار المنخفضة بغض النظر عن نوعية ونطاق الحماية المؤسسة على هذه الأسعار باستثناء حالات محدودة.

إلا أن ظاهرة المنافسة لا تقتصر على شركات التأمين وإعادة التأمين فقط بل تمتد لتغطي سوق التأمين بالجملة.  ذلك لأن سوق التأمين، كغيره من الأسواق، يتطلب تواجد البائع والشاري ومن يتوسط بينهما رغم أن الوسيط قد لا يشكّل عنصراً لا يمكن الاستغناء عنه، إلا أننا نذكر الوسيط هنا لتواجده في الأسواق العربية المفتوحة كفرد أو شركة.

ومثلما تتنافس شركات التأمين فيما بينها لترغيب المؤمن لهم أو وسطاء التأمين للعمل معها، يتنافس الوسطاء فيما بينهم لتقديم أفضل العروض التأمينية للمؤمن لهم: سعراً وغطاءً.

هناك إذن طرفان يتنافسان على المؤمن له: شركة التأمين ووسيط التأمين.  لا يتسع الوقت لتفصيل المنافسة بين الاثنين في كل سوق.

6-أشكال المنافسة بين شركات التأمين


أ-المنافسة على الأسعار


وهي الشكل الغالب للمنافسة بين شركات التأمين في الأسواق المفتوحة.  وعندما نذكر المنافسة فإن الاهتمام ينصبُّ على المنافسة في الأسعار، أي في أقساط التأمين.  وتختلف حدة المنافسة من سوق لآخر اعتماداً على جملة من الضوابط الداخلية والخارجية التي تنظم عمل الشركات.  ففي المملكة العربية السعودية، على سبيل المثل، لا توجد ضوابط خارجية على أسعار التأمين.  وما قد يحدُّ من فرص تنافس بعض الشركات هو الضوابط الداخلية كالسياسة الاكتتابية التي تتبناها إدارة الشركة، أو خبرة الخسارة المتجمعة، أو توفر تسهيلات إعادة التأمين الاتفاقي والاختياري.

والقصد من انعدام الضوابط الخارجية هو انعدام أي تدخل مباشر من الدولة أو انعدام تعرفة متفق عليها بين الشركات العاملة.

ومما يثير النقد والاستياء من المنافسة على الأسعار هو تخطي الحدود الدنيا لمتطلبات الممارسة التأمينية من قبل الشركات اللاهثة وراء التدفق النقدي، أو الشركات التي تغتصب لنفسها مهمة وسيط التأمين من خلال الاكتتاب بوثيقة التأمين وإعادة تأمينها في الخارج بالكامل.

رغم هذا النقد والسخط والأحاديث الصحفية فإن موضوع المنافسة في الأسعار لم يلقَ حتى الوقت الحاضر اهتمام الباحثين.  ولهذا تبقى المسألة محصورة في دائرة الانطباعات الفردية أو الانطباعات المتشكلة من خلال اللقاءات بين العاملين في قطاع التأمين.

نقول هذا وفي ذهننا شكّاً حول مدى توفر المنافسة الحقيقية في الأسعار في بعض الأسواق المفتوحة حيث يسيطر عدد قليل من الشركات على مجمل محفظة الحريق.  ولن يزول الشك إلا من خلال الدراسة الدقيقة لواقع كل سوق على حدة.

وتستخدم شركات التأمين أساليب معينة في المنافسة السعرية من بينها: تخفيض سعر التأمين الأساسي، أو تخفيض على السعر السنوي، أو التأمين لفترة أطول.

ب-المنافسة غير السعرية


تتخذ المنافسة غير السعرية بين شركات التأمين إحدى صيغتين.  أولهما، صيغة المنافسة بوثيقة التأمين (عقد التأمين)؛ وثانيهما، صيغة المنافسة بالخدمات.

ب-1-عقد التأمين

وتنصبُّ المنافسة هنا على الغطاء الذي توفره شركة التأمين.  ويمكن القول، عموماً، بأن المنافسة تكاد أن تكون محدودة عندما يوجد في السوق الواحد غطاء نموذجي معتمد.  ويبدو هذا القول في ظاهره صحيحاً إلا أن الواقع العملي يبين أن الغطاء النموذجي يوفر الحدود الدنيا من الحماية التأمينية في حين أن احتياجات المؤمن لهم -سواء أكانوا أفراداً أم شركات- متباينة.  وهذا التباين يوفر لشركات التأمين فرصة إشباع هذه الاحتياجات من خلال الملاحق التي تُضاف إلى الغطاء الأساسي.  وعدا ذلك، فإن شركات التأمين ذاتها، بغية الاكتتاب بأكبر حجم من الأقساط التي تسمح بها ملاءتها المالية ورأسمالها، تعتمد وسائل شتى في هذا المجال كتقديم غطاء "كافة الأخطار" بدلاً من "الأخطار المسماة"، قبول التأمين على بعض الممتلكات المستثناة أو الأخطار المستثناة صراحةً، جباية أقساط التأمين على دفعات، تحديد الخسارة المهدرة[2] بما يناسب الوضع المالي للمؤمن له، صياغة شرط الحلول لملاءمة العلاقات القانونية للمؤمن له، التغاضي عن تطبيق شرط النسبية ... الخ.

ب-2-الخدمات

تستأثر الخدمات التأمينية باهتمام شركات التأمين التي تعمل بوعي على زيادة حصتها من حجم الأقساط المتوفرة في السوق.  وهناك وسائل عديدة معتمدة تتوسل بها شركات التأمين لتحقيق هذا الهدف ومنها: الإجراءات السريعة في إصدار وثائق التأمين، والتسوية العاجلة للمطالبات الصغيرة والمطالبات التي لا يطالها شك الاستثناء من غطاء التأمين.  وتذهب بعض شركات التأمين إلى أبعد من ذلك من خلال تقديم الخدمات المتخصصة في حقل منع الخسائر.

7-المنافسة وخصائصها العربية


لا شك أن تنافس شركات التأمين ووسطاء التأمين فيما بينهم ومع بعضهم له بواعث اقتصادية صرفة لم تلقَ العناية الكافية من الدراسة.  فالتأكيد على بيع الحماية والأمان، الفردي أو الجماعي، وكأنها مسألة أخلاقية يقصد منها عمل الخير والنفع العام تخفي هذه البواعث، وفي أحسن الحالات تعمل على تلطيف وطأتها في مجتمعات لمّا نزل نطلق عليها صفة التقليدية والمؤزرة بقيم الموروث الديني والاجتماعي.

إن شركات التأمين وإعادة التأمين والوساطة هي، بغض النظر عن النظام الاقتصادي الذي تعمل تحت ظله، هيئات تجارية تهدف إلى تحقيق أقصى الأرباح أو الفوائض لصالح مالكيها في المدى القريب أو خلال بضع سنين من خلال تقديم الخدمات التأمينية.  هذا هو الباعث الأساسي لقيام هذه الشركات، وكل البواعث الأخرى تحوم حوله وتعمل من أجل تحقيق المردود الاقتصادي المطلوب منه.  والمحاولات التي يقوم بها الاقتصاديون والجيل الجديد من أساتذة الإدارة الحديثة لإضفاء أهداف أخرى على عمل الشركات لا تغير من طبيعة الباعث الأساسي.  فالربح أو الفائض الاقتصادي هو الذي يضمن بقاء الشركات.  وفي الأسواق المفتوحة، وبفضل تعدد الشركات، تضطر هذه إلى المنافسة فيما بينها للاكتتاب بأعمال المؤمن لهم.  ويحلو للبعض التمييز بين المنافسة الشريفة أو المسؤولة والمنافسة غير الشريفة أو غير المسؤولة.  إلا أن مثل هذا التمييز في الأسواق العربية المفتوحة، وخاصة بعض أسواق الخليج التي تفتقر إلى الكيانات المؤسسية والأطر القانونية الحديثة التي تنتظم الحياة الاقتصادية في بلدان المركز الرأسمالي، يجعل قضية التمييز أمراً شاقاً فيه الكثير من اللبس السياسي الذي لا نرى الآن ضرورة للخوض فيه.

إن الإقرار بوجود المنافسة يستلزم رصدها في محيطها العربي الذي نحن بصدده، أي محاولة إبراز بعض خصائص الوضع التأميني في هذا المحيط، والذي يساعدنا في فهم أفضل لظاهرة المنافسة.  سنركز الحديث على الآتي:

أ‌-     أسلوب التعامل التقليدي أو السوق الإسلامي.
ب‌- انخفاض كثافة التأمين.
ت‌- المناقصات التأمينية.
ث‌- الزيادة في عدد الشركات وضعف التشريعات والرقابة.
ج‌-  طبيعة عقود التأمين على الممتلكات.

أ-السوق الإسلامي


يفترض في الشريعة أنها تقوم بتنظيم الحياة العملية بين أفراد المجتمع بضمنها العلاقات الاقتصادية، إلا أن تعقد مسيرة الحياة الاقتصادية قد جعلت من الشريعة مجرد إطار نظري عام ولم تستطع الشريعة النفاذ إلى صلب التعامل الاقتصادي.  وإن كان لابد من الاستهداء بالشريعة فإن الفقهاء وأصحاب الفتاوى، بغية مواكبة التعقيدات والمستجدات، لجأوا إلى ما يسمى بالحيل الشرعية لتبرير ما هو قائم فعلاً على أساس الاعتبارات التجارية.

وفي غياب الدور الريادي السائد والمنظم للشريعة تبلورت الأسواق الإسلامية التي تكاد أن تكون فريدة في تكوينها وتركزها وإدارتها وعمارتها، على أساس من الاعتبارات التجارية البحتة.  فمن أثبت نجاحه في السوق استطاع الصعود إلى القمة وفرض شروطه، وكان همُّ التاجر أن يحقق أفضل دخل له، ولم يكن بالإمكان أن يتحقق هذا الدخل والربح الملازم له دون مشقة المساومة على الأسعار سواء أكان موضوع التعامل بيع بضاعة أو تقديم قرض.  وقد استمر أسلوب التعامل هذا لقرون عديدة.  ويمكن مشاهدته بالعيان في الوقت الحاضر في ما يسمى بالأسواق التقليدية أو الأسواق التي تبيع بعض المنتوجات اليدوية.

ويمكننا أن نستخلص من هذا العرض أن تقاليد المساومة على الأسعار تقاليد حيّة لها دورها في التعامل التجاري المعاصر، وهي من الأساليب التي توفر إطاراً عاماً لتحديد أسعار التأمين لدى المكتتبين ووسطاء التأمين.  ومن شأن هذا الأسلوب، المقبول اجتماعياً، تشجيع المنافسة وتعزيزها.

ب-كثافة التأمين


هي واحدة من مؤشرات التحليل التي يلجأ إليها المعنيون في الدراسات التأمينية وبخاصة لأغراض المقارنة بين الأسواق.  ويقصد بكثافة التأمين معدل أقساط التأمين التي ينفقها الفرد على شراء وثائق التأمين، ويعتمد هذا المعدل أساساً على حجم الدخل المتوفر للفرد.  صحيح ان مؤشر الكثافة التأمينية يعتمد بالدرجة الأولى على الدخل المتوفر للفرد إلا أن هناك عوامل ثانوية أخرى تؤثر قليلاً أو كثيراً على الكثافة التأمينية، ومنها الأقساط المنفقة على التأمينات الإلزامية، ومدى فاعلية الأفكار الدينية في بعض المجتمعات، وتوفر وسائل بديلة للأمان الشخصي من خلال الأسرة الموسعة أو الجمعيات الخيرية أو الدولة.  ويصعب أحياناً تبيان أثر هذه العوامل في تقدير كثافة التأمين.

وباستخدام مؤشر كثافة التأمين يمكن قياس انتشار التأمين وشيوعه في بلد ما وبالتالي استكشاف ميل السكان إلى اللجوء إلى حماية التأمين بدلاً من اللجوء إلى وسائل الحماية الأخرى.

وحسب المعلومات المتوفرة فإن دراسة كثافة التأمين في أسواق التأمين العربية لم تحظ بالعناية المطلوبة شأنها شأن الجوانب الأخرى للتأمين وإعادة التأمين الذي يفتقر إلى البحث سواء على المستوى الأكاديمي أو مستوى العاملين في القطاع ما خلا بعض الدراسات التي تمت بفضل همة أصحابها فقط.

الانطباع العام لديَّ – في غياب الدراسات الإحصائية – هو أن كثافة التأمين في الوطن العربي منخفضة.  مصدر هذا الانطباع هو النظر إلى المكانة التي تحتلها بعض أسواق التأمين العربية من حيث حجم الأقساط عند مقارنتها بالأسواق الأخرى وخاصة بلدان المركز الرأسمالي.

وفي تحليل مكونات كثافة التأمين العربي في الأسواق المفتوحة وإبراز دورها في إشكالية المنافسة وخاصة في فرع تأمين الممتلكات، نرى طغيان حجم أقساط تأمين المؤسسات الصناعية الكبيرة وهو مصدر ما يعرف بالمحفظة التأمينية غير المتوازنة.  فوحدات الخطر الصناعية في دولة الإمارات العربية المتحدة أو المملكة العربية السعودية محدودة بالمقارنة مع مثيلاتها في بلدان المركز الرأسمالي.  في حين أن عدد شركات التأمين يكاد أن يخنق سوق التأمين.  فلا غرو إذن أن تشتد المنافسة على تأمين هذه الوحدات القليلة بين هذه الشركات لضمان مكانة في السوق المحلي وتحقيق حجم عالٍ من الأقساط.  ولا تبالي شركات التأمين بحجم الأخطار الكبيرة التي اكتتبت فيها لاعتمادها على إعادة التأمين الخارجي بأشكاله المختلفة.

ويمكننا أن نستخلص من هذا العرض استنتاجاً أولياً مفاده أن المنافسة في الأسواق المفتوحة، والتي هي موضوع للانتقاد المستمر من لدن الكثيرين، تنصبُّ على تأمين الأخطار الصناعية الكبيرة بالدرجة الأولى في حين أن المنافسة على تأمين الأخطار البسيطة للأفراد لا تلقى كثيراً من الاهتمام لصغر حجم أقساطها.  ومما يشجع على استشراء المنافسة على الأخطار الكبيرة هو طريقة المناقصات المفتوحة التي سنأتي على ذكرها.

هـ-استدراج المناقصات التأمينية


يمكن القول، إجمالاً، أن هناك طريقتان لاختيار شركة التأمين من قبل المؤمن له: طريقة التفاوض الفردي وطريقة المناقصات المفتوحة.  وينصب حديثنا هنا على المؤسسات الكبيرة وليس الأفراد إذ أن شراء أغطية التأمين من قبل الأفراد لا يحتاج إلى تعقيدات هاتين الطريقتين.  وعدا ذلك فإن بعض أغطية التأمين، بفضل إلزاميتها، لا تحتاج حتى إلى التسويق، فالقانون العام يتولى ذلك.

تفترض طريقة المفاوضات الفردية التعامل مع وسيط واحد للتأمين أو مباشرة مع شركة تأمين واحدة وخاصة بالنسبة للمؤسسات الصغيرة وحتى متوسطة الحجم التي لا تمتلك إدارات خاصة للتأمين والخطر.  وقد يتم التفاوض أحياناً مع أكثر من طرف.  وهذه الطريقة قلّما تؤدي إلى استشراء المنافسة.

ومن رأينا تظهر المنافسة على أشدها في تأمين ممتلكات المؤسسات الكبيرة وبخاصة الصناعية منها.  فمن الملاحظ أن هذه المؤسسات تلجأ سنوياً إلى استدراج مناقصات التأمين المفتوحة للتأمين على قسم أو أكثر من برنامجها التأميني، إذ يهرع وسطاء التأمين وشركات التأمين لتحصيل عقد أو عقود المناقصة الذي يحدد مواصفات التأمين المطلوب والتي لا يمكن الخروج عليها.

وتستهدف طريقة المناقصة بالدرجة الأولى تقليل كلفة التأمين، أي الأقساط، إلى أدنى حد ممكن بغض النظر عن سلامة المواصفات وكفاية التأمين المطلوب.

وترى انهماك الوسطاء وشركات التأمين محلياً وعالمياً في ابتداع وسائل لتخفيض سعر التأمين كي ترسي المناقصة على أحدهم.  ومن شأن هذه الطريقة إفراز منافسة ضارية باعتماد أساليب غير فنية.

د-الزيادة في عدد شركات التأمين


ارتبطت الزيادة في عدد شركات التأمين في الأسواق المفتوحة بالحقبة النفطية الجديدة التي ابتدأت في أوائل السبعينيات، فقد استجدت فوائض مالية لبعض الرأسماليين العرب استثمر بعضها في تأسيس شركات التأمين من باب تنويع الاستثمار أو بهدف استكمال النشاطات التجارية.  ويمكن القول، لذلك، إن تأسيس شركات جديدة في هذه الأسواق لم يأتِ استجابة للتطور في الوعي التأميني وإنما كوسيلة لتحقيق أرباح إضافية.

وكان من شأن هذه الشركات، التي تفتقر إلى العدد الكافي من الكوادر الفنية المدربة تدريباً علمياً وعملياً المساهمة في استثارة نمط جديد من المنافسة لا يرتبط بالأسس الفنية المعتمدة في تقييم وتسعير الأخطار، وإنما يقوم على أساس من الضغوط والاتباطات التي هي مدعاة شك.

وجاءت الزيادة في عدد الشركات في بعض الأسواق بفضل غياب أو ضعف التشريعات وأجهزة الرقابة وتوافقت مع الحقبة التي سادت فيها الأسعار والشروط السهلة وازدياد الطاقة الاستيعابية لإعادة التأمين المتوفرة في الأسواق العالمية.

ويمكن القول لذلك إن تزامن مجموعة من العوامل خلقت هذا الوضع التنافسي الجديد في أسواق التأمين المفتوحة.

هـ-طبيعة عقود التأمين على الممتلكات


إن معظم هذه العقود تبرم في الغالب لمدة سنة واحدة قابلة للتجديد في ضوء خبرة المطالبات والمتغيرات الأخرى.  ومعروف أن الخطر الأساس في هذه العقود هو خطر الحريق أو الانفجار، وأن الحوادث التي تلحق بمحل التأمين بسبب الحريق أو الانفجار، عند مقارنتها بالحوادث التي تلحق بمحل التأمين في عقود التأمين على عطب المكائن مثلاً، قد لا يتعدى الحادث الواحد.  وهذه الظاهرة، المثبتة إحصائياً، ربما شجعت بعض الشركات في الأسواق المفتوحة على المقامرة من خلال التأمين بأسعار غير فنية: فإما أن تقوم مطالبة واحدة أو لا تقوم.  وهذا يفسر الدافع وراء اللهاث خلف الكسب السريع دون أي اعتبار لمتطلبات العمل التأميني.

يضاف إلى ذلك وجود الفجوة الزمانية بين الإشعار بالحادث وبين تسوية المطالبة بالتعويض، أو قل التلكوء في التسوية، للاستفادة من الأقساط المتجمعة في تحقيق عائد استثماري أفضل.

8-وسائل الحد من المنافسة (1)


آثار المنافسة


قبل الحديث عن الوسائل المتاحة للحد من المنافسة نرى ضرورة لبيان الآثار المترتبة على المنافسة غير المقيدة التي ارتبطت في الأسواق العربية المفتوحة بالحقبة النفطية الجديدة.

أ-بالنسبة للمؤمن له


إن التحليل الأولي لظاهرة المنافسة تبين أنها تفيد المؤمن له كونها تؤدي إلى انخفاض في أسعار التأمين.  وقد يبدو للوهلة الأولى أن مقياس السعر المنخفض يبرر الاستمرار في المنافسة، إلا أن هذه النظرة تبسط الموضوع إذ أن انخفاض الأسعار لا يدوم طويلاً بفعل التقييدات المفروضة على عمل شركات التأمين من خلال إعادة التأمين الاتفاقي، إضافة إلى أن الأسعار المنخفضة لا تقابلها بالضرورة أغطية أو خدمات كافية.  فالمعروف حتى لدى بعض الشركات العالمية أن أسعارها التنافسية المنخفضة تقابلها خدمات متلكئة في تسوية المطالبات وحتى التدقيق المغالى فيه للمطالبات.

ويمكن القول إن آثار التنافس الشديد قد لا تخدم مصلحة المؤمن له في المدى البعيد.  فالدورة الاكتتابية التي تنظم عمل شركات التأمين لا بد أن تترجم نفسها في أسعار عالية وشروط قاسية وإضعاف خدمات ما بعد الاكتتاب.

ب-بالنسبة للمؤمِن


إن اندفاع شركات التأمين وراء سراب المنافسة دون تحليل كافٍ لدورها في السوق ولطبيعة الخدمة التأمينية وحجم الطلب عليها قد يؤدي إلى هلاكها.  وبافتراض أن المنافسة تؤدي إلى زيادة الإنتاج، فإن أكثر الآثار بروزاً على الشركات هي زيادة حجم كلفة الإنتاج – أي كلفة إنتاج الوثيقة من خلال عمولة الوسيط، وكلفة المطالبات، والمصاريف الإدارية الأخرى وخاصة في حالة انعدام الغطاء النموذجي – وزيادة حجم المسؤوليات.  صحيح ان الكلفة الحدية لوحدات الإنتاج تتناقص بفعل مزايا الإنتاج الكبير إلا أن هناك حداً للاستفادة من هذه المزايا وبعد ذلك تتدخل عوامل جديدة في حسابات الكلفة: كاستخدام موظفين إضافيين (الرواتب والعمولات) وتوسيع المكاتب (إيجارات وضرائب) وحجم الطلب في السوق.

وفي محاولة التقرّب من واقع الحال، يظهر بأن هذه المزايا تبقى صحيحة نظرياً فقط، إذ أن حجم الطلب على الخدمات التأمينة ضيق جداً في أسواق التأمين العربية على الإطلاق.  ولذلك فإن زيادة الإنتاج قضية نظرية، فمتوسط الإنفاق على التأمين في هذه الأسواق، وخاصة بين الأفراد، صغير وبالتالي فإن الكلفة المتكبدة في محاولة توسيع الإنتاج لا تعطي المردود الاقتصادي الكافي لتبرير هذه الكلفة، الأمر الذي من شأنه أن يخفض صافي دخل الشركة.

ج-بالنسبة لمعيد التأمين الاتفاقي


يؤدي التنافس على الأسعار إلى تحميل معيد التأمين أعباء مسؤوليات الأخطار بأسعارها غير الفنية.  ويصعب على المعيد الاتفاقي اكتشاف هذه المسؤوليات ما لم تنص الاتفاقيات على الأسعار الدنيا وإشعار المعيد في حال تجاوزها حدوداً معينة.

وقد يثار سؤال عن مسؤولية المعيد الاتفاقي عن التدهور الحاصل في بعض أسواق التأمين المفتوحة، وهو سؤال يستحق تحليلاً لا مجال للخوض فيه الآن، ويكفي أن نقول بأن توزيع عبء المسؤولية على طرف واحد دون آخر لا يعطينا جواباً شافياً فالأمانة العلمية تتطلب تحليل الظروف التي تعمل تحتها الشركات المسندة والمعيدين والتي تفرض بقوتها استجابات معينة.

هناك اتجاهان في تحليل المنافسة في الأسواق المفتوحة.  اتجاه ينعى باللائمة على معيدي التأمين، إذ أنه بدون الطاقة الاستيعابية والحماية الأساسية التي يوفرها هؤلاء لما كان بإمكان الشركات المسندة الاستغراق في منافسة غير مضمونة العواقب.  أما الاتجاه الآخر فإنه يعزي المنافسة إلى عوامل محلية لا علاقة لها بمعيد التأمين.

كلا الاتجاهين يحتملان المحاججة.  ويمكن القول، من باب التعميم، إن شركات إعادة التأمين قد تضطر إلى الرضوخ لواقع المنافسة المستشرية في بعض الأسواق بدافع تنويع مصادر الأخطار التي تكتتب بها وإيمانها بدورة الاكتتاب الذي ينتهي لصالحها.

9-وسائل الحد من المنافسة (2)


لو تمَّ التسليم جدلاً بمضار المنافسة على أطراف العملية التأمينية لأصبح بالإمكان تقديم بعض المقترحات الأولية للحد من آثارها.  وهذه المقترحات ذات طابع تأميني بحت، أو هذا هو المراد منها.  وخلاف ذلك فإن الدراسة تستوجب موضعة التأمين ضمن إطار النظام الاقتصادي الاجتماعي السائد في الأسواق العربية المفتوحة.

في ضوء هذه المقدمة نستطيع أن نضع التأميم جانباً لأنه قد يتعارض مع توجهات مثل هذا النظام، رغم أن تجربة التأمين، من منظار تنظيم السوق والسيطرة على أسعار التأمين، قد أثبتت جدارتها في بعض الأسواق.  ونترك هنا تقييم الخدمات التأمينية في أسواق التأمين المؤممة لأنها تحتاج إلى وقفة خاصة لا مجال لها الآن.

ومع هذا فإن الدولة في الأسواق المفتوحة تستطيع أن تمارس دوراً أكبر في الحد من المنافسة الضارة بهدف حماية المستهلك.  فمن الوسائل المتاحة للدولة إيجاد جهاز للرقابة على عمل شركات التأمين.  ويقتضي ذلك تشريعات خاصة بالملاءة المالية للشركات العاملة كتحديد رأس المال بما لا يشجع دخول شركات جديدة إلى السوق.  ومن المعروف في النظرية الاقتصادية الكلاسيكية أن تضييق فرص دخول منتجين جدد للسوق يؤدي إلى الحد من العرض مع بقاء المتغيرات الأخرى على حالها.

كما أن الدولة تستطيع أن تدخل ميدان العمل التأميني من خلال تأسيس شركة أو أكثر عائدة لها، مزودة بالمهارات الفنية اللازمة، وتوفر الحد الأدنى للحماية التأمينية بأسعار ثابتة بحيث تضيق مساحة المنافسة لبعض أنواع الوثائق كالتأمين على جميع المباني الخاصة والعامة وجعل هذا التأمين ملزماً.  إن تحقيق هذا المقترح يحتاج إلى دراسة معمقة.

ولو غضضنا النظر عن دور الدولة فإن أهم ما يؤثر على عمل شركات التأمين التجارية هو دعم إعادة التأمين الاتفاقي.  ويمكن القول إن سحب مثل هذا الدعم من بعض شركات التأمين قد يغير من تركيبة السوق، وقد يؤدي إلى تصلب الأسعار والشروط.  إلا أن تدخل شركات الإعادة المتخصصة، كتدخل الدولة، قد لا يتأتى بانعدام الإرادة.

ولعل ما يخفف من غلواء المنافسة وآثارها هو تداعي شركات التأمين في السوق الواحدة لتنظيم السوق من خلال إيجاد مكاتب متخصصة يناط بها مهمة صياغة الحدود الدنيا لتسعير تأمين الممتلكات والرقابة على التزام الشركات بهذه الحدود بحيث تبقى المنافسة محصورة في دائرة الخدمات التأمينية ومقابلة متطلبات الأوضاع المتباينة لجمهور المؤمن لهم.  ويقيني أن شركات التأمين الراسخة تستطيع إبراز ميزاتها من خلال الأساليب المتاحة للتنافس كالابتكار (ابتداع وثيقة تأمين تجعلها في وضع متميز)، أو التركيز على قطاع معين من السوق.

يمكن القول إن المقترحات المار ذكرها تفترض توفر الإرادة لوضعها قيد التطبيق بعد تمحيصها والتأكد من ملاءمتها للأوضاع الملموسة في كل سوق وتحويرها ضمن معطيات النظام الاقتصادي الاجتماعي السائد.  ولكن مما لا شك فيه أن هناك شروطاً اقتصادية معينة تملي نفسها على عمل الشركات قد تخلق المقدمات الضرورية لدمج الشركات.  فالمنافسة على الأسعار من خلال تخفيضها، بغية زيادة حجم الإنتاج للحصول على وفورات الإنتاج الكبير، لها حدودها إذ أن الشركات لا تستطيع أن تستمر بالتوسع إلى ما لانهاية دون أن تصطدم بواقع زيادة تكاليف الإنتاج الموسع وحجم الطلب على عقود التأمين في السوق.  وإزاء هذا الوضع فإن التجربة في البلدان الرأسمالية تدلل على أن الوسيلة الفضلى التي تلجأ إليها الشركات للامتثال لحجم الطلب هي الاندماج فيما بينها لضمان حصة أكبر في السوق.

10-خاتمة


لقد حاولنا في هذه الملاحظات التعميمية إلقاء بعض الضوء على إشكالية المنافسة دون الولوج في التفاصيل.  وإذا كان لابد من خاتمة سريعة لهذا العرض فإننا نتوجه بالدعوة المخلصة إلى التأني في اقتراح الحلول، والعمل بجدية على تحليل أفضل وأعمق للظاهرة في واقعها الملموس في كل بلد عربي.  فهناك مصالح متعددة ومتضاربة لا يمكن التوفيق بينها من خلال حل اعتباطي محلي أو مستورد.





[1] بتاريخ 12 آذار 2020 كتب لي د. جمال عبد الرسول الدباغ رسالة ذكر فيها بأنه وجد بين أوراقه نسخة من بحث لي، واستفسر إن كان لدي نسخة منه أم لا، وأرفق برسالته صورة الصفحة الأولى من البحث، وبعدها أرسل لي نسخة كاملة من البحث.  فله الشكر على الاحتفاظ بهذا البحث وإظهاره للعلن بعد مرور أزيد من ثلاثة عقود على كتابته.

إن لم تخني ذاكرتي فإنني قدمت هذا البحث في إحدى دورات لقاء قرطاج للتأمين وإعادة التأمين التي كان الاتحاد العام العربي للتأمين يقوم بتنظيمها.  ربما كان ذلك في أواسط ثمانينيات القرن العشرين، وكنت وقتها أعمل في شركة United Insurance Brokers Ltd (UIB) في لندن التي تقاعدت منها في حزيران 2016.  ويعود فضل استنساخ البحث بخط اليد للزميل إلياس طنوز، وكان يعمل في الأمانة العامة للاتحاد العام العربي للتأمين في دمشق، فله الشكر أيضاً.  كان الرجل كريماً بتبنيه نسخ البحث، بخط يده، والذي كان موزعاً على وريقات منفصلة.
[2] ويعرف أيضاً بالإعفاء أو التحمّل deductible