إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2017/09/20

Is there a cost to the economy in the absence of insurance?

هل هناك تكلفة للاقتصاد عندما يكون التأمين غائباً؟  ملاحظات أولية


مصباح كمال

نشر المقال أصلاً في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين


مقدمة

أُثير هذا السؤال معي قبل بضع سنوات من قبل أحد زملائي في الشركة التي كنت أعمل فيها كجزء من دراسة كان يعدّها لدائرة رسمية في إحدى الدول العربية تعمل على إدخال أشكال جديدة من التأمين، وخاصة في مجال المسؤوليات التي تمسُّ الناس والمجتمع.  وقتها كتبت ملاحظاتي باللغة الإنكليزية، كما طُلب مني.  وقد استهديت مؤخراً إلى هذه الملاحظات أثناء البحث في موضوع آخر، وبعد قراءتي السريعة لها وجدت أنه من المفيد أن أكتبها باللغة العربية لعلني بذلك أفتح "شهية" بعض المهتمين بالشأن التأميني لعرض أفكارهم النقدية عنها.

أبقيت على الإطار العام ومقترب تناول الموضوع كما كان في الأصل الإنكليزي مع بعض الإضافات.  أرجو أن تقرأ هذه الملاحظات كمحاولة أولية للاقتراب من الموضوع.

استطراد

لا أظن بأن هذا السؤال قد أثير في سوق التأمين العراقي أو لقى اهتماماً عميقاً من المعنيين بالنشاط التأميني في العراق.  وقد يعود ذلك لضآلة الدور الذي تلعبه مؤسسة التأمين في الاقتصاد وفي الحياة العامة وطغيان الريع النفطي على الخطاب الاقتصادي.[1]  وفي العادة يثار السؤال عندما تحصل كوارث طبيعية أو بشرية في بلد ما لتقدير آثارها على الاقتصاد الوطني.  فالمعروف أن الكوارث الطبيعية، الجسيمة في حجم الأضرار والخسائر التي تحدثها، تجلب معها أثاراً اقتصادية سلبية في المدى القصير (سنتين أو أكثر بقليل)، مثلما تجلب أيضاً آثاراً سلبية في المدى الطويل على النمو الاقتصادي والتنمية.  وهناك آراء تقول بأن الآثار السلبية لمثل هذه الكوارث هي ليست دائماً حتمية وخاصة في البلدان التي تشهد تحولات اقتصادية متمثلة بالنمو السريع، والتوسع الحضري وما يرتبط بهذا التحضر من تغيرات تقنية واجتماعية (ولكل هذا آثار على الطلب على حماية التأمين في أعقاب الكوارث، مثلما يساهم التأمين، في حالة وجوده قبل الكوارث، في التعويض عن آثارها).  وهناك من يقول بأن الكوارث الطبيعية تعمل لصالح النظام الرأسمالي.[2]

ومع ذلك فإن تكلفة غياب التأمين للاقتصاد الوطني لا ينحصر في وقوع الكوارث الطبيعية كما سنحاول تبيانه في الملاحظات التالية.  إن هذه الملاحظات ليست شاملة ولا تستنفد ما يمكن للتحليل الاقتصادي أن يقدمه.



ملاحظة عامة حول بعض الآثار الاقتصادية لغياب التأمين

إن شركات التأمين، جنبا إلى جنب مع صناديق المعاشات التقاعدية والصناديق التبادلية، هي واحدة من أكبر المؤسسات الاستثمارية في أسواق الأسهم والسندات والعقارات ومن المتوقع أن تأثيرها المحتمل على التنمية الاقتصادية ستزداد بدلا من الانخفاض بسبب ظهور بعض الظواهر الحديثة كتزايد عدد المسنين وخاصة في المجتمعات الغربية (مما يتطلب تكوين صناديق أكبر للمعاشات التقاعدية والبحث عن أنماط جديدة للاستثمار والمحافظة على قيمة الأموال المتراكمة من التآكل بسبب التضخم النقدي والتقلبات في أسعار العملات الصعبة).

ويعتبر التأمين في اقتصادات الدول الغربية المتقدمة حجر الزاوية في الاقتصاد فهو الذي يسدد، على سبيل المثل، تكاليف المحامين والمحاكم والمحكمين (في حالات التنازع على الحقوق والالتزامات بين أطراف عقد التأمين)؛ وتكاليف العناية الصحية والعمليات الجراحية (عند وقوع حوادث تؤدي إلى إصابات بدنية، أو عندما يتعرض المؤمن عليه لمرض يستدعي المعاينة والعلاج)؛ وتكاليف تصليح الأضرار واستبدال المكائن وخسارة الإيراد (عندما يتعرض مصنع لحريق أو انفجار أو ينهار مشروع قيد الإنشاء أو قيد الاختبار) ...الخ.[3]

هذا على مستوى الأفراد والشركات (الطلب على التأمين)، ولكن التأمين هو جزء من القطاع المالي ويمكن أن يكون له تأثيراً هاماً على النمو الاقتصادي، فقد بينت بعض الدراسات التجريبية، التي تعتمد على عينات كبيرة من البلدان في الستينيات إلى الثمانينيات، أن تنمية القطاع المالي، بضمنه التأمين، يمكن أن يكون له تأثيراً اقتصادياً هاماً على النمو.[4]  في واحدة من هذه الدراسات قام كاتبيها بتحليل المجالات المختلفة التي يظهر فيها تأثير قطاع التأمين على النمو الاقتصادي: [5]
تحويل الأعباء المالية للمخاطر (تَحمُّل قطاع التأمين للمخاطر نيابة عن أشخاص اقتصادية أخرى وبما يساعد هؤلاء على تحقيق استقرار في تدفق إيراداتهم، وتقليل التقلبات في هذه الإيرادات، ودعم نشاطهم الاقتصادي وبالتالي النشاط الاقتصادي العام من خلال الترابطات بين الكيانات الاقتصادية).

توفير مدخرات بديلة (من خلال توسيع نطاق الاستثمار الذي من شأنه أن يزيد من فعّالية الوساطة المالية وبالتالي يساعد في النمو الاقتصادي).

الاستثمار (التوظيفات الرأسمالية في أعيان مادية أو أسهم وسندات، وبالتالي المساهمة في زيادة الحجم الإجمالي للاستثمار وتعميق أسواق رأس المال).

مجالات النفوذ المؤسسية (كالتأمين عبر المصارف).

مع ملاحظة أن قطاع التأمين يخضع لإشراف الأجهزة الرقابية المتخصصة والقواعد القانونية، وهذه تؤثر على استثماراتها وأشكال الاستثمار.

وهكذا عندما يكون التأمين غائباً، فإن أثره الاقتصادي سيتخذ شكل انخفاضٍ في الاستثمار، وبالتالي يؤدي إلى نمو أقلّ للاقتصاد.

التكلفة المباشرة للاقتصاد والمجتمع: مثال عدم التأمين على المسؤولية المهنية

ما هي التكلفة المباشرة للاقتصاد والمجتمع عندما لا تقوم الشركات والتنظيمات الأخرى بإجراء التأمين، على سبيل المثل، من أخطاء المسؤولية المهنية أو ترتيب حماية تأمينية كافية من هذه المسؤولية[6] آخذين بنظر الاعتبار حجم الانفاق الكبير على شراء التأمين من المسؤولية؟  في عام 2013 شكَّل هذا الانفاق في سوق لندن، على سبيل المثل، حوالي 16% (2,855bn باون) من إجمالي أقساط التأمين (17,445bn) المكتتبة من قبل شركات التأمين.[7]

إن التأثير الرئيسي لعدم شراء هذا التأمين أو عدم كفاية ما يُشترى منه هو أن هذه الشركات قد لا تستطيع أن تصمد أمام المطالبات القانونية بالتعويض التي قد تجابهها بسبب أخطاء مهنية، خاصة إذا كانت هذه الشركات حديثة النشأة أو في مراحلها الأولى من التطور، والمطالبات القانونية ضدها كبيرة.  فالشركة غير المؤمن عليها (الشركة التي لا تشتري التأمين) أو الشركة ذات التأمين الناقص (الشركة التي لا تشتري تأميناً كافياً) تُعرّض نفسها وبشدة للخطر (إضعاف قاعدتها المالية) عند وقوع حادث وقيام مطالبة ضدها لا تستطيع مواجهة أعبائها المالية (أي التعويض عنها) ويعيق قدرتها على القيام بأعمالها بشكل اعتيادي أو حتى إنهاء وجودها بالمرة.

لذلك من المرجَّح أن تتوقف الشركة نهائياً عن العمل إذا وقع حادث خطير دون أن يكون لديها تغطية تأمينية كافية، أو إذا توقفت الشركة عن العمل ولا توجد وسيلة لدى المُطالب بالتعويض، أي الشخص الثالث المتضرر، للحصول على تعويض من الشركة.  لذلك يمكن لهذه الحالة أن تؤدي إلى نتيجة/نتائج غير مباشرة، تأثير الدومينو، وهي أن الطرف المتضرر ربما لن يسعى إلى تعيين محامين/ممثلين قانونين له للمطالبة بحقوقه بالتعويض عمّا أصابه بسبب نشاط الشركة، كما أن الطرف المتضرر ربما لن يتمكن من التماس العلاج الطبي إذا لم يكن بمقدوره تحمّل مصاريفه.  وبالتالي فإن الطرف المصاب سيصبح أقل إنتاجية مما يؤثر على عمله وربما قدرته على كسب رزقه.

وتسعى المؤسسات المهنية للحصول على الحماية التأمينية لأعضائها لأن أنشطتها تؤثر على الناس والممتلكات.

يمكن التكهن بأن الناتج المحلي الإجمالي سيعاني انخفاضاً في حالة عدم وجود تأمين، وبالتالي فإن غياب التأمين من المسؤولية المهنية (وفروع تأمينية أخرى) سيؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي.  هناك إذاً أثر سلبي، سواء أكان اجتماعياً أو اقتصادياً، في حالة عدم شراء التأمين أو عدم توفره أو عدم كفايته.

التكلفة الاقتصادية لغياب التأمين بوجه عام

إضافة إلى ما أوردناه أعلاه بشأن التأمين من المسؤولية المهنية، يمكن توسيع نطاق النظر في التكلفة الاقتصادية لغياب التأمين من مسؤوليات أخرى كالمسؤولية الناشئة من المنتجات والمسؤوليات البيئية.  فأنشطة الشركات، العامة أو الخاصة، لها تأثير على الناس والممتلكات والبيئة.  والمسألة هنا هي كيفية قياس التكلفة التي يتعين على الاقتصاد الوفاء بها في غياب التأمين.

إن الشركات الرأسمالية تشتري حماية التأمين لتمويل:

§       التلف أو الضرر المادي الذي قد تلحق بأصولها المادية
§       خسارة الدخل (توقف العمل) نتيجة حادث عرضي
§       المسؤولية القانونية تجاه الغير الناشئة من نشاط الشركة

وذلك لضمان البقاء كمؤسسة عاملة وضمان استمرارية الأعمال.  وفي غياب شركات التأمين، على الشركات أن توفر الوسائل المناسبة لتمويل الخسائر المحتملة.  وقد تشمل هذه الوسائل (1) إيرادات التشغيل، ولكن إذا كانت الخسارة كبيرة فإن هذه الإيرادات لن تكون كافية لتمويل أعمال تصليح واستبدال المكائن والمعدات والمباني لتحقيق هذا الهدف.  (2) بدلاً من ذلك، قد تلجأ الشركات إلى الاقتراض من المصارف ولكن القروض قد لا تكون متاحة بسهولة أو متاحة ولكن بشروط صارمة ومكلفة.  وعلى أي حال، فإن الشركة التي تعاني من خسارة جسيمة كبيرة في الممتلكات والدخل لن تكون عميلاً جذاباً للإقراض.  (3) ومن ناحية أخرى، يمكن تخصيص صندوق خاص لتغطية تكاليف تمويل الخسارة، أو اللجوء إلى التأمين الذاتي أو تأسيس شركة تأمين مقبوضة.

وقد تمَّت تجربة هذه الحلول كبديل للتأمين في دول عديدة ولكن من الأنسب، اقتصادياً ومن منظور التوفير في التكاليف، نقل عبء الخسارة إلى شركة تأمين مقابل دفع قسط (كلفة معلومة ابتداءً في معظم الحالات يمكن إدراجها في ميزانية الشركة).

إن شركات القطاع العام لا تختلف عن الشركات الخاصة في تعرّضها للخسائر والالتزامات التي تواجهها.  وهذا هو السبب في أنها تلجأ أيضاً إلى التأمين التجاري والتأمين الذاتي (من خلال شركة تأمين تبادلية لتأمين الممتلكات والمسؤوليات القانونية، كما هو الحال مع البلديات في بعض البلدان).



غياب التأمين وإمكانية تعرض الاقتصاد إلى تكاليف مختلفة

في حالة عدم وجود حماية تأمينية، يتعين على أولئك الذين يعانون من نتائج الخسارة (المنتجات المعيوبة، والأضرار البيئية وغيرها) اللجوء إلى المحاكم للمطالبة باسترداد تكاليف هذه الخسارة من مسببها.  ويمكن للشركات الخاصة أن تقوم بتسوية مطالبة الطرف المتضرر بالتراضي دون اللجوء إلى المحاكم، أو من خلال التحكيم، أو ينتهي الأمر، عند عدم توفر السيولة أو فائض في الدخل لتعويض المتضررين، إلى وضع الشركة تحت إدارة قيِّم أو التصفية.

في حين يتعين على المؤسسات والشركات العامة، عند غياب التأمين، أن تدفع التعويضات من ميزانياتها العادية أو أن تطلب من خزانة الدولة (وزارة المالية) تمويل التزاماتها تجاه أطراف ثالثة.  وفي الواقع، فإن هذا الوضع يستلزم تحويل الموارد المالية، التي ربما تكون شحيحة، التي تُنفق على الأشغال العامة، والرعاية الاجتماعية، والاستثمارات الإنتاجية الأخرى، لتعويض المتضررين.  وهذا شكل من أشكال الخسارة للاقتصاد.

وبالمثل، عندما لا يكون هناك تأمين، فإن الأخطار الطبيعية والبشرية التي تسبب أشكالاً مختلفة من الأضرار بالممتلكات العامة (المباني والمصانع الطرق والجسور وغيرها من المنشآت) تتطلب إعادة البناء أو الإصلاح التي يجب أن تُموّل تكاليفها من قبل السلطات المحلية أو المركزية.  وهذا استنزاف للمالية العامة يمكن الحد منه والتخفيف من آثاره من خلال التأمين.

وفي حالة عدم وجود تأمين (أي عندما لا يوجد طلب على منتجات التأمين)، تتقلص محفظة الاكتتاب لشركات التأمين، وبالتالي فإن الأموال (الأقساط المتراكمة) التي ستكون متاحة لأغراض الاستثمار تأخذ بالتقلص.  وبالتالي فإن دور شركات التأمين كوسيط مالي سيضعف أو يتوقف ومن ثم سيتأثر نمو الاقتصاد.

إضافة إلى ذلك، عندما يتقلص حجم أقساط التأمين لدى شركات التأمين، ستتقلص بالنتيجة الضرائب والرسوم (ضريبة الدخل، الضريبة المفروضة على أقساط التأمين، رسم الطابع) التي تقوم وزارة المالية بجبايتها من هذه الشركات.

ومن شأن انخفاض الطلب على التأمين وبالتالي تقلّص الإنتاج في شركات التأمين أن يؤدي إلى تقليص الطلب على عمالة جديدة لا بل التخلص من أي عمالة فائضة عن الحاجة في هذه الشركات.  هذا الوضع يزيد من تكلفة إعانات البطالة والرعاية الاجتماعية للمسرَّحين من العمل.

ومن أجل احتواء أوجه التكاليف الاجتماعية الخارجية external diseconomies الناشئة من النشاط الصناعي والتجاري، تتدخل الدولة لوضع حدود وضوابط، على سبيل المثال، على التلوث الذي تنتجه الشركات الصناعية وغيرها.  وتتدخل الدولة أيضاً في جعل بعض التأمينات إلزامياً بسبب هذه التكاليف الخارجية؛ يعني هذا تحويل عبء التعامل مع التلوث على المسبب.

ماذا يعني غياب التأمين للاقتصاد سؤال كبير بحاجة إلى من يبحث فيه على المستوى النظري، وتقدير تكاليف هذا الغياب على الاقتصاد الوطني.

20 أيلول 2017



[1] حاولت دراسة التأمين في الكتابات الاقتصادية العراقية وإبراز بعض الجوانب الاقتصادية لمؤسسة التأمين في كتابي التأمين في الكتابات الاقتصادية العراقية (مكتبة التأمين العراقي، 2014).  الكتاب متوفر في المكتبة الاقتصادية لشبكة الاقتصاديين العراقيين:

[3] هذا العرض السريع لا يستفد دور قطاع التأمين في الاقتصادات الغربية كوسيط مالي، وكممول غير مباشر للتقدم العلمي والتكنولوجي ويكفي أن نذكر كمثل تأمين مشاريع تطوير وإطلاق الأقمار الصناعية.
[4] Peter R. Haiss and Kjell Sümegi, The Relationship of Insurance and Economic Growth - A Theoretical and Empirical Analysis, Emprica, Journal of Applied Economics and Economic Policy, Vol. 35, No. 4, pp. 405-431, 2008

وقد تناولنا دور الأصول المالية والوساطة المالية لشركات التأمين في فصل من كتابنا التأمين في كوردستان العراق: دراسات نقدية (مكتبة التأمين العراقي، 2014)، ص 12-33.
[5] Haiss and Sümegi, op. cit.

[6] اختيار تأمين المسؤولية المهنية كان ضمن ما طلب مني التعليق عليه. يمكن تطبيق التحليل على فروع أخرى كالتأمين على مصنع من خطر الحريق.
[7] International Underwriting Association of London, London Company Market Statistical Report, October 2014.
الأرقام والنسب التي أوردناها لا تضم إحصائيات سوق لويدز.

ليست هناك تعليقات: