إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2021/04/04

A Perspective on the Insurance Policy

 

وثيقة التأمين من منظور مختلف


مصباح كمال


نشر المقال أصلًا في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2021/04/Misbah-Kamal-Policy-Forms-Reflections-IEN.pdf

 مصباح كمال*: وثيقة التأمين من منظور مختلف – شبكة الاقتصاديين العراقيين (iraqieconomists.net)

 

 

(1)

يُورد المحامي بهاء بهيج شكري تعريفًا طويلًا لوثيقة التأمين Policy نقتبس منه ما يلي:

 

يشير هذا المصطلح إلى الوثيقة التحريرية المثبتة لقيام عقد التأمين بين طرفيه، والمتضمنة كافة شروطه.  فمن المتفق عليه بين شرّاح عقد التأمين، أن هذا العقد لا يمكن إثباته بالقرائن أو البينة الشخصية، وأن الكتابة هي الوسيلة الوحيدة لإثباته.  وقد أكدت أغلب التشريعات المتعلقة بعقد التأمين وجوب تنظيم هذا العقد كتابة.  فنصت المادة الثانية من قانون شركات الضمان (السيكورتا العثماني-العراقي) على أن (تعهدات الضمان يقتضي أن تكون خطية على كل حال، ويجب أن يحتوي صك الضمان (أي البوليصة) على ...)[1]

 

إن الفهم السائد لوثيقة التأمين، أو البوليصة أو بوليصة التأمين، هو أنه عقد contract، عقدٌ للتأمين، أو بالأحرى دليل أو إثبات على عقد التأمين evidence of contract من وجهة النظر القانونية الصرفة باعتبار وجود عناصر أخرى تدخل في تكوين العقد كاقتران الإيجاب بالقبول وما يرافق ذلك من كشف للمعلومات الجوهرية من قبل طرفي العقد، ونية الطرفين من التعاقد وتوقعات كل منهما من الآخر، وهذه تساهم في تكوين العقد التأميني.  هذه هي النظرة الكلاسيكية لعقد التأمين: اتفاق بين طرفين تجد ترجمتها في نص وثيقة التأمين دون اعتبار لمؤثرات أو قيود على التأمين ليس أقلها الإشراف والرقابة.[2]

 

إن الملاحظ على وثيقة التأمين أنه يفصح عن عقد ذو طابع فني technical وفيه شيء من التعقيد، ولهذا السبب بالذات تنشأ ضرورة تدخل الرقابة، مُنظم نشاط التأمين لسببين.  الأول، ضمان عدم الإساءة إلى جمهور المؤمن لهم المرتقبين من خلال شروط تعاقدية غير منصفة (شروط تعسفية) إذ أن نصوص وثائق التأمين القياسية standard policies مُعدّة سلفًا من قبل شركة التأمين، ولذلك يوصف عقد التأمين بإنه عقد إذعان.[3]  والثاني، لضمان الملاءة المالية لشركات التأمين للحيلولة دون تورطها في الاكتتاب بأخطار الممتلكات والمسؤوليات، تحت ضغط المنافسة، التي تتجاوز أقيامها طاقتها الاكتتابية (رأس المال، الاحتياطيات، إعادة التأمين) وبالتالي فشلها في تعويض المؤمن لهم.[4]

 

ويأخذ هذا التدخل الرقابي شكل موافقة الرقيب على نصوص وثائق التأمين قبل قيام شركات التأمين بوضعها قيد الاستعمال.

 

يضم قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 (الأمر رقم 10) جملة من الأحكام الخاصة بالوظيفة الرقابية على نشاط شركات التأمين في العراق.  وقد وردت الأحكام الخاصة بتزويد شركات التأمين بنماذج من وثائق التأمين وملاحقها في المادتين التاليتين:

 

المادة-12-        يصدر رئيس الديوان خلال (90) تسعين يوما من تاريخ تعيينه تعليمات تنظم:

تاسعا- السجلات التي يلتزم المؤمن بتنظيمها والاحتفاظ بها والبيانات والوثائق التي يتوجب عليه تزويد الديوان بها.

 

منذ نشر نص القانون في جريدة الوقائع العراقية لم يقم الديوان بإصدار التعليمات المناسبة كما تقضي هذه المادة.

 

               المادة-39-         أولا- يزود المؤمن الديوان بنماذج وثائق التأمين وملاحقها المعتمدة في أعماله والتي يجب أن تتضمن شروط التأمين العامة والخاصة والأسس الفنية العامة لهذه الوثائق ومعدلات الأقساط الملحقة بها، كما يزود المؤمن الديوان بجدول استرداد أقيام وثائق التأمين على الحياة ومعدلات الأقساط الملحقة بها.

                         ثانيا- إذا وجد رئيس الديوان خلل رئيسي في نماذج وثائق التأمين وملاحقها أو إذا تطلبت المصلحة العامة فعليه أن يطلب من المؤمن إجراء تعديل على هذه النماذج وخلال المدة التي يحددها.

                         ثالثا- على المؤمن تزويد المؤمن لهم أو المستفيدين إذا تمت تسميتهم صراحة في وثيقة التأمين بنسخة من هذه الوثائق والبيانات المتعلقة بها.

 

إن الفشل وفي أحسن الحالات الضعف في أداء الوظيفة الإشرافية للديوان يفسر الارتباك وعدم الدقة في نصوص العديد من وثائق التأمين المستخدمة في العراق.[5]  إن عدم الدقة يؤدي إلى حصول اختلاف بين المؤمِن والمؤمَن له في تفسير النص قد ينتهي إلى التحكيم أو إلى دعوى أمام المحاكم.  لم يعرف عن ديوان التأمين أنه قام بفحص وثائق التأمين الصادرة في العراق.

 

(2)

تلعب المحاكم دورًا مهمًا في تفسير عقد التأمين/وثيقة التأمين، والمثل الأشهر في الوقت الحاضر هو التفسير الذي خرجت به المحكمة العليا في بريطانيا للغطاء الذي توفره شركات التأمين بموجب وثائق تأمين خسارة الأرباح الصادرة منها للشركات الصغرى ومتوسطة الحجم.  فبعد رفض بعض شركات التأمين بإقرار مسؤوليتها عن الخسائر المالية المترتبة على توقف نشاط هذه الشركات بسبب القيود المفروضة لاحتواء وباء كورونا، تقدمت هيئة السلوك المالي (هيئة الرقابة Financial Conduct Authority) بطلب للمحكمة العليا لبيان الموقف بشأن تغطية وثائق تأمين خسارة الأرباح بسبب الوباء.  وهكذا كان إذ كان حكم المحكمة العليا قيام مسؤولية شركات التأمين، وأصدرت قرارها في كانون الثاني 2021 الذي يشكل دليلًا لتسوية مطالبات هذه الشركات، تناول الشروط التالية في وثائق تأمين خسارة الأرباح لهذه الشركات، وهي باختصار:

 

§   نصوص الأحكام التي توفر غطاءً لتوقف الأعمال Disease wordings كنتيجة أو ناشئة عن أي مرض يجب الإبلاغ عنه داخل دائرة نصف قطرها محددة (على سبيل المثال بـ 25 ميلاً أو ميلاً واحداً) من المنطقة المجاورة للمباني المؤمن عليها.

§   نصوص الأحكام المتعلقة بمنع الوصول إلى موقع العمل/أحكام قرارات السلطة العامة Prevention of access/public authority wordings وهي الأحكام التي توفر غطاءً في حالة وجود منع أو إعاقة للوصول إلى أو استخدام المبنى نتيجة لإجراءات أو قيود صادرة من الحكومة أو سلطة عامة أخرى (السلطة المحلية أو الشرطة) بسبب حالة طوارئ.

§   نصوص الأحكام الهجينة Hybrid wordings، وهي الأحكام المرتبطة بالقيود المفروضة على المبنى المؤمن عليه فيما يتعلق بمرض يمكن الإبلاغ عنه، أي التي تجمع بين مطلب تفشي المرض وقرار السلطة العامة بمنع الوصول إلى المباني.[6]  بعبارة أخرى، التوقف عن العمل بسبب عدم القدرة على استخدام المبنى بسبب القيود التي تفرضها السلطة العامة بعد حدوث المرض.

 

يحتوي كل بند من هذه البنود على سلسلة من العناصر السببية المتسلسلة التي يجب أن تفي بها حالات التوقف عن العمل لإطلاق التزام شركة التأمين بتعويض حامل الوثيقة.

 

لقد كان لجوء هيئة السلوك المالي إلى المحكمة متماشيًا مع وظيفتها الأساسية في حماية حقوق المؤمن لهم، وجاء تفسير المحكمة العليا لشروط التأمين لصالحهم.  ومن المعروف أن المحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية هي الأكثر انشغالًا بقضايا التأمين ومن خلال قرارتها تعمل على توسيع نطاق التغطية التي تقدمها عقود التأمين.

 

نقرأ في كتاب بعنوان اقتصاد التأمين[7] أن التغيير في المعايير القانونية، كما تتمثل في قرارات المحاكم، تمثل تحديًا كبيرًا لشركات التأمين.  لكن هناك ثوابت في عقود التأمين تتلخص بالآتي:

 

-وجود المصلحة التأمينية

-تحريم الإفراط في التغطية التأمينية منعًا للخطر المعنوي الذي قد ينتهي بالغش

-مبدأ حسن النية [ليس مجرد حسن النية كما في العديد من العقود بل مبدأ منتهى حسن النية]

-استثناء الأفعال العمدية

 

المضمر في هذا التقييم أن المحاكم مقيدة بهذه الثوابت والخروج عليها من قبل المؤمن له يسقط حقه في التعويض.

 

(3)

هناك بُعد آخر لوثيقة التأمين عند النظر إليها على أنها مُنتج تأميني، وهو ربما لم يلقَ الاهتمام الكافي وهو أن وثيقة التأمين يمكن أن ينظر إليها، ليس كمجرد عقد قانوني، بل كأداة اجتماعية اقتصادية تلعب دورًا مهمًا في المجتمع.  إن عرضًا سريعًا لدور هذا المُنتج يكشف في ذات الوقت عن مكانة مؤسسة التأمين، كونها جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاقتصادي الاجتماعي وخاصة في البلدان المتقدمة.  فهناك نشاطات ذات طابع اقتصادي لا يمكن أن تتم دون شراء وثيقة للتأمين.

 

قد يقول القارئ اللبيب إن بيان الخطوط العريضة لأهمية منتجات التأمين، أو قل بعض منتجات التأمين، هو بيان للوظائف المرتبطة بمؤسسة التأمين أو دورها الاقتصادي والاجتماعي.  وبالفعل هو كذلك.  ومع ذلك، فإن التركيز على وثيقة التأمين كمُنتَج يقرّبها من مضامين اقتصادية واجتماعية خارج القراءة الضيقة للتأمين كعقد قانوني، كما سيظهر من استعراض موجز وسريع فيما بعد لما يرد في بعض وثائق/منتجات التأمين.

 

(4)

العرض التالي السريع والقصير لبعض المضامين الاقتصادية والاجتماعية يقتصر على منتجات تأمينية معينة.

 

قروض شراء المساكن تشترط وجود وثيقة للتأمين على البناء وأخرى للتأمين على حياة المقترض وبقيمة لا تقل عن كلفة إعادة البناء في حال تعرضه لدمار كلي نتيجة حادث حريق أو انفجار أو زلزال أو القيمة المعادلة لمبلغ القرض.

 

تأمين السيارات من المسؤولية المدنية تجاه الغير، وهو تأمين تطور ليكون إلزاميًا بحيث لا يمكن استعمال السيارة في الطرقات العامة دون وجود تأمين من المسؤولية من حوادث السيارات وما يترتب عليها من إصابات بدنية بضمنها الوفاة تجاه الغير أو من أضرار مادية للغير.

 

تأمين مسؤولية رب العمل وهو أيضًا إلزامي بقوة القانون في العديد من الدول.  وهو تأمين يقضي بقيام رب العمل توفير بيئة صحية مناسبة للعاملين في موقع العمل وأدوات ومعدات سليمة للعمل، وهو ما يصنف ضمن منهج إدارة الخطر في موقع العمل.  في حال وقوع حادث يؤدي إلى إصابة أو وفاة أحد العاملين فإن وثيقة التأمين تتولى تغطية التعويض المالي للإصابة أو الوفاة نيابة عن رب العمل.

 

تأمين المشاريع الهندسية لإنشاء المصانع والمستشفيات والجسور والطرق ومجاري الصرف وغيرها.  لا يمكن تنفيذ هذه المشاريع بدون توفير وثائق تأمين أساسية لتأمين المسؤولية المهنية للمهندس الاستشاري، وتأمين المشروع من الأخطار المادية والمسؤولية المدنية التي قد يتعرض لها أثناء فترة الإنشاء والصيانة والتشغيل التجريبي (كوثيقة التأمين من كافة أخطار المقاولين ووثيقة التأمين من كافة أخطار النصب)، وكذلك تأمين المسؤولية العشرية للمقاول أو المهندس الاستشاري (خلال السنوات العشر التالية لاستلام المنشأة من مخاطر الانهيار الجزئي أو الكلي بسبب عيب في البناء أو الأرض)، كما هو الحال في العديد من الدول، وتأمين بعض المشاريع بعد إكمالها من أخطار الحريق والانفجار وأخطار الطبيعة وخسارة الأرباح نتيجة لحادث وغيرها.  وليس هذا فقط، فعندما يكون المشروع ممولًا بقرض من مصرف أو مجموعة مصارف أو مؤسسات مالية دولية فإن المقرضين يشترطون على المقترض أن يلتزم بما يعرف بالحد الأدنى من متطلبات التأمين Minimum Insurance Requirements (MIR) التي تضم عددًا من وثائق التأمين.

 

وهناك طيف واسع من المسؤوليات يتوجب على الشركات الصناعية والخدمية (الصحية مثلًا) والمؤسسات العامة والإدارات المحلية وغيرها التأمين منها، كتأمين المسؤولية الناشئة من المنتجات المعيوبة (كالأدوية التي تؤدي إلى تشوهات خلقية)، والمسؤولية الناشئة من فشل الإدارة المحلية في توفير رصيف آمن لسير المارة، على سبيل المثل.

 

وعلى نفس المنوال، يشترط على ممارسي بعض المهن كالمحامين والمحاسبين ووسطاء التأمين والأطباء والمهندسين الاستشاريين التأمين من المسؤوليات المهنية المترتبة على الخطأ أو الإهمال تجاه عملائهم، وبدونها لا يمكنهم مزاولة المهنة.

 

إن هذه الأمثلة من وثائق التأمين لا تستنفد القائمة الطويلة للوثائق في المجالات المختلفة للنشاط الاقتصادي.

 

(5)

تضم وثيقة التأمين بعض المتطلبات أو الاشتراطات تفرضها شركة التأمين على حامل الوثيقة.  إن المتطلبات التي تفرضها شركات التأمين على حاملي وثائق التأمين تساهم في تشكيل المواقف وتوفير حلول لبعض الظواهر.  على سبيل المثل، الفحص السنوي للمراجل والأجهزة القابلة للانفجار من قبل مهندسين متخصصين وتقديم شهادة بسلامة تشغيلها لأن الانفجار يؤدي إلى إصابات وأضرار مادية داخل وخارج أماكن وجود هذه الأجهزة.  وهو إجراء تزامن مع قيام الثورة الصناعية في بريطانيا وتخصصت شركات تأمين بتوفيره من خلال الجمع بين الفحص السنوي والتأمين.[8]

 

في زمننا شهدنا التأمين متناهي الصغر microinsurance في العديد من بلدان "الجنوب" ولكن لنا في الممارسة الطويلة للتأمين الشعبي على الحياة Industrial Life Insurance ابتكارًا سابقًا في نشر المنتج التأميني بين أفراد الطبقة العاملة في المملكة المتحدة.  وقد نشأ هذا التأمين في بريطانيا في القرن التاسع عشر عقب الثورة الصناعية.  تتميز وثيقة التأمين الشعبي بصفتين: صغر مبلغ التأمين الذي يتناسب مع الدخل المنخفض للعمال، وجمع الأقساط أسبوعيًا أو شهريًا من محل سكنى المؤمن عليهم من قبل رجال البيع.[9]

 

لنأخذ مثالًا آخرًا في مجال الاكتتاب بوثائق للتأمين على الصناعات المرتبطة بالفحم الحجري والتي تعتبر أحد مصادر التلوث البيئي.  إن العديد من شركات التأمين أعلنت أنها ستتوقف عن إصدار وثائق لتأمين هذه الصناعات خلال كذا من السنوات (الفترة تختلف من شركة تأمين إلى أخرى)[10] وبعضها وتأكيدًا على مصداقيتها بدأت بتصفية استثماراتها في هذه الصناعات وغيرها من الصناعات المنتجة للتلوث.

 

هذا الموقف لشركات التأمين يبين التأثير الذي سيتركه على صناعات معينة وعلى نظرة المجتمع تجاهها وعلى التغير المرتقب في نمط بعض الاستثمارات.

 

(6)

إن وثائق التأمين ليست مجرد عقود قانونية للتأمين بل تضم أدوات لأداء وظائف معينة من قبل المؤمن له نجمل بعضها بالآتي:

 

-إدارة المخاطر من قبل المؤمن له (اتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع وقوع الضرر أو الخسارة، كاشتراط أقفال بمواصفات معينة للباب الرئيسي للمنزل).

 

-الردع (امتناع المؤمن له عن استخدام محل التأمين لغير الغرض المصمم له، وغيرها من استثناءات للأموال ولمسببات الخسارة).

 

-تقدير القيمة الاستبدالية للممتلكات المؤمن عليها[11] (لضمان الحصول على تعويض كامل، وخلاف ذلك يخضع التعويض إلى تطبيق قاعدة النسبية average clause).

 

-والاستجابة للتوصيات التي يقدمها الخبير الهندسي لشركة التأمين للمؤمن له لتحسين إدارة الخطر Risk Improvement Recommendations، بعد مناقشتها، ورصد المبالغ اللازمة لها من قبل المؤمن له ووضعها قيد التطبيق خلال فترة زمنية محددة.

 

(7)

إن المضمر في وجود وثائق التأمين هو الوظيفة العامة التي تقوم بها لإسناد نمط معين من الاقتصاد والاجتماع البشري.  فهي تشكل جزءًا من البنية التحتية لممارسة بعض الأنشطة الاقتصادية كقروض بناء المساكن، والنقل البحري والجوي والبري، استكشاف وإنتاج النفط، وتشغيل المصافي، وإنشاء المشاريع الهندسية، ونشاطات أخرى كالطب والمحاماة وتأمين المسؤوليات الخ.

 

من باب التعميم، يمكن القول إنه ما من شركة صناعية أو تجارية في الغرب تستطيع مزاولة أعمالها بدون مروحة من منتجات التأمين كالتأمين على السيارات والشاحنات العائدة لها، والمسؤولية المدنية، والمسؤولية عن سلامة المنتجات، ومسؤولية رب العمل، والتأمين على مباني الشركة من خطر الحريق والانفجار وتوقف الأعمال (خسارة الأرباح) الخ.

 

إن هذه المروحة الواسعة من وثائق التأمين (بعضها ضرورية بحكم القانون) التي تتبارى شركات التأمين في تقديمها وإقبال الشركات على شرائها، لأنها تلبي الحاجة إلى الحماية المالية من مصادر الخطر والمسؤوليات العديدة التي تتعرض لها، تؤكد على مكانة هذه الوثائق في تشكيل النظام الصناعي والتجاري.

 

وتفيد التجربة انه عندما يتوقف نفاذ وثيقة التأمين لأن حاملها غير قادر على تسديد قسط التأمين، أو أن كلفة التأمين عالية جدًا، فإن بعض الشركات تضطر إلى غلق أبوابها والتوقف عن الإنتاج، وفي أحسن الحالات تقليص نشاطها مؤقتًا لحين انفراج الأزمة التي أدت إلى زيادة أسعار التأمين (كما هو الحال في أعقاب الخسائر الكبيرة التي تتكبدها شركات التأمين وإعادة التأمين)،[12] أو توقف شركات التأمين عن توفير غطاء التأمين (كما حصل لبعض الوقت في الولايات المتحدة بالنسبة لتأمين المسؤولية المهنية للأطباء والجراحين، أو تأمين أخطار الإرهاب بدون توفر دعم من الدولة كملاذ تأميني أخير).

 

(8)

إن منتجات التأمين على الحياة ليست متاحة لجميع الناس وإلى حدٍ ما منتجات التأمين على العجز، أو قل إن الناس لا يستشعرون الحاجة إليهما، لكن وثائق التأمين عليهما توفر حماية للمستفيدين منها: المؤمن عليه، أسرة المؤمن عليه في حال وفاته، أي طرف آخر مسمى في وثيقة التأمين، أو ضمان تدفق الدخل في حال العجز.

 

كلاهما لهما آثار اجتماعية واقتصادية فهما من نمط الوثائق التي تساهم في التوزيع[13] الاجتماعي لبعض المخاطر بين الأفراد (تحمل العبء المالي لضمان رفاه الأسرة بعد وفاة المعيل من خلال عنصر الادخار في بعض وثائق التأمين على الحياة أو مبلغ التأمين المقرر في وثيقة التأمين) والدولة (التي تصبح بفضل وثائق التأمين على الحياة وتأمين العجز أقل مسؤولية تجاه المُعالين).

 

بدلًا من تعزيز المسؤولية المجتمعية يجري العمل باستمرار في الأنظمة التي تتبع إيديولوجية الليبرالية الجديدة على تحويل عبء هذه المسؤولية على الأفراد وتحجيم دور الدولة في الاقتصاد وتقليص دورها في توفير الخدمات الاجتماعية.  ويجري هذا بالتوازي مع ابتكار المزيد من المنتجات التأمينية التي تتنافس شركات التأمين على بيعها لمن يستطيع تسديد أثمانها، وبالنتيجة استبعاد أولئك الذين لا يملكون ما يكفي من مال لشراء هذه المنتجات.  وبديهي أن شركات التأمين تعمل من أجل تحقيق الربح، فهي ليست مؤسسات إحسانيه، وهي بذلك تعزز من حضور المنطق الرأسمالي في النسيج الاجتماعي.

 

بفضل هذا المنطق فإن التأمين الخاص يصبح وسيلة لإشاعة نمط من السلوك الاجتماعي والاقتصادي يفترض تسليع حياة الإنسان وصحته القابل للحماية من خلال منتجات تأمينية في سوق التأمين التجاري.[14]

 

(9)

يلاحظ في أسواق التأمين الغربية ميلًا لتطوير منتجات تأمينية جديدة أو إعادة صياغة منتجات قائمة والبحث عن قنوات جديدة لتوزيعها.  من نتائج جائحة كورونا تعزيز العمل من المنزل لعدد أكبر من العاملين الذي سيستمر حتى بعد تراجع الوباء وهو ما يدفع بوسطاء وشركات التأمين التفكير بتوفير وثيقة تأمين تتناسب مع هذا التطور أو تكييف الوثائق القائمة.  وهو ما سيستجيب لمطلب الشركات، وخاصة في مجال الخدمات المالية ومنها التأمينية، للحماية من أخطار العمل في المنزل.[15]  وهذا مثال حديث على دور وثائق التأمين كلبنات مكملة لظهور نمط يكاد أن يكون جديدًا ومختلفًا للعمل.

 

(10)

إن ما عرضناه في هذه الورقة ما هو إلا محاولة أولية للاقتراب من وثيقة التأمين من منظور مختلف، غير المنظور القانوني الذي اعتدنا عليه.  لم نتوسع في الشرح وفي عرض الأمثلة كي لا نثقل مضمون الورقة.  ربما تكون قراءتنا قاصرة ولذلك نتمنى على الممارسين والباحثين في التأمين تنبيهنا إلى مكامن القصور، ونقد المنظور المختلف إن لم يمكن صالحًا.

 

آذار 2021



[1] بهاء بهيج شكري، المعجم الوسيط في مصطلحات وشروط التأمين-إنجليزي عربي، الجزء الثاني (عمان: دار الثقافة، 2016)، 348-350.

 

[2] ترجع خلفية هذه الورقة إلى قراءتي للورقة التالية:

Stempel, Jeffrey W., "The Insurance Policy As Social Instrument and Social Institution" (2010). Scholarly Works. Paper 6. http://scholars.law.unlv.edu/facpub/6

وقد استلهمت بعض أفكارها في كتابة ورقتي.

 

[3] إن هذا التوصيف لا ينطبق على نص وثيقة التأمين التي تتقدم بها الشركات الصناعية والتجارية الكبيرة مباشرة أو من خلال وسطاءها للتفاوض على شروط وأسعار التأمين مع مكتتبي شركات التأمين، وهي التي تعرف بوثائق التأمين المخطوطة manuscript insurance policy، ويمكن وصف مثل هذه العلاقة بأنها قائمة على صفقة bargaining بين طرفي العقد. أنظر:

David L. Bickelhaupt, General Insurance, (Homewood, Illinois: Richard D. Irwin, 1983), p 102-103.

 

[4] إيرنست بالتينسبيغر، بيتر بومبيرغر، أليساندرو لوبا، بينو كيللر، اقتصاديات التأمين، ترجمة: تيسير التريكي ومصباح كمال (بيروت: منتدى المعارف، 2014)، وخاصة الفصل الخامس: الرقابة الخاصة بالملاءة المالية، ص 75-118.

[6] للاطلاع على آخر مطبوع صدر بتاريخ 3 آذار 2021 عن هيئة السلوك المالي البريطاني (هيئة الرقابة على القطاع المالي بضمنه التأمين) راجع:

“Final guidance: Business interruption insurance test case -

proving the presence of coronavirus (Covid-19)”

https://www.fca.org.uk/publication/finalised-guidance/final-guidance-bi-insurance-test-case-proving-presence-covid-19.pdf

 

[7] Peter Zweifel, Roland Eisen, Insurance Economics (Springer, 2012), p 405-406.

[8] للتعريف بتاريخ هذا التأمين وتطوره اللاحق راجع:

https://www.swissre.com/dam/jcr:3af81051-50db-4ea7-9e07-c0398a9145f9/pub_engineering_insurance_and_reinsurance_en.pdf

 

[9] Dermot Morrah, A History of Industrial Life Assurance (London: George Allen and Unwin Ltd, 1955).

وقد تقلص حجم هذا النوع من التأمين على الحياة في تسعينيات القرن العشرين، وتوقفت شركات التأمين المتخصصة به من الاكتتاب به. راجع:

Robert L. Carter and Peter Falush, The British Insurance Industry Since 1900 (London: Palgrave Macmillan, 2009), P 178.

[10] على سبيل المثل شركة التأمين البريطانية العملاقة أفيفا.

https://www.insurancebusinessmag.com/uk/business-news/aviva-reveals-netzero-carbon-emission-target-247823.aspx?utm_source=GA&utm_medium=20210301&utm_campaign=IBUKW-Breaking-20210301&utm_content=B358951F-9940-4FF5-AE14-7565483E598C&tu=B358951F-9940-4FF5-AE14-7565483E598C

“Aviva is a member of the Net-Zero Asset Owner Alliance, which was convened by the United Nations and counts many of the world’s biggest pension and insurance funds among its members. The Alliance has set a minimum net-zero target for no later than 2050.”

 

[11] للتعريف بأهمية تقييم الموجودات، راجع: مصباح كمال، "تقييم الممتلكات لأغراض التأمين،" مجلة التأمين العراقي.http://misbahkamal.blogspot.co.uk/2011/06/blog-post.html

 

[12] على إثر حادثين كبيرين في الولايات المتحدة أواخر ستينيات القرن الماضي (انفجار مصفى للنفط (1967) وتسرب نفطي نتيجة لانفجار بئر نفطي بحري (1960))، عمدت النقابات الاكتتابية في لويدز وشركات التأمين، المتخصصة بتأمين الأخطار النفطية والبتروكيمياوية، إلى تقليص نطاق الغطاء التأميني للشركات النفطية ورفع أسعار التأمين.  إزاء هذا الوضع قامت 16 شركة نفطية بتأسيس شركة تأمين، شركة تأمين النفط المحدودة Oil Insurance Limited (OIL)، للتأمين على أخطارها للتغلب على عدم كفاية الغطاء من سوق التأمين وزيادة الأسعار.  وفي وقت لاحق استعانت شركة تأمين النفط من سوق التأمين التجاري المفتوح للحصول على حماية إعادة التأمين منها.

 

للتعريف بتاريخ شركة تأمين النفط المحدودة أضغط على هذا الرابط:

https://www.oil.bm/history/

 

[13] في الاصطلاح التأميني فإن التوزيع هو ما ينتظم آلية التأمين التي تقوم على مبدأ تجميع أقساط التأمين من عدد كبير من المؤمن لهم لتسديد الخسائر المتوقعة اكتواريًا التي تحصل للقلة منهم.

 

[14] "صناعة التأمين الصحي: كيف يمكن لكارل ماركس أن يساعدنا في فهم أزمة الرعاية الصحية،" الفصل الخامس من كتاب مقالات ومراجعات حول الخطر والتأمين، ترجمة وإعداد مصباح كمال، (بيروت: منتدى المعارف، 2019)، ص 91-105.

 

[15] ونقرأ في الصحافة التأمينية أن شركات التأمين بدأت بالعمل على تقليص حجم مكاتبها مع تعاظم الميل للعمل من المنزل.

https://www.insurancebusinessmag.com/uk/business-news/aviva-seeking-new-city-of-london-hq--report-248403.aspx?utm_source=GA&utm_medium=20210305&utm_campaign=IBUKW-MorningBriefing-20210305&utm_content=B358951F-9940-4FF5-AE14-7565483E598C&tu=B358951F-9940-4FF5-AE14-7565483E598C

 

ليست هناك تعليقات: