ملامح من محنة قطاع التأمين العراقي
مصباح كمال
يؤكد الكاتب أن هذه المقالة تعكس موقفاً شخصياً بحتاً ولا علاقة لها البتة بشركة وساطة التأمين التي يعمل فيها. ويؤكد الكاتب أيضاً بأنه يفصل قناعاته الشخصية عن متطلبات عمله المهني.
توطئة
يرد في لسان العرب هذا التعريف للمحنة: "المِحْنة: الخِبْرة. والمِحْنة واحدة المِحَنِ التي يُمتَحَنُ بها الإِنسانُ من بلية، نستجير بكرم الله منها." وبعضٌ من هذا المعنى هو الذي نعتمده في هذه الورقة ولكننا نستخدم عبارة "المحنة" أيضاً لوصف ذلك الوضع الذي يستدعي الاختيار بين خيارات، بدائل، تبدو غير مواتية أو متنافية أو أن نتائجها غير مرضية. أي أن الوضع ذو طابع إشكالي يستوجب التفكيك والتفكير بتداعيات القرارات. استخدامنا لعبارة المحنة هنا قد ينطوي على شيء من التطرف والاستفزاز، وربما هو كذلك لكنه يخدم قضية إبراز بعض المفارقات والقضايا العقدية لقطاع التأمين العراقي. وهذا ما نرجوه.
سنأتي على المفارقات والمحن بسرعة دون التوسع في العرض والشرح والتعليل كي يبقى حجم المقالة مقبولاً إضافة إلى أن المحن تتطلب دراسات مستقلة. ربما أخطأنا في الانتقاء، وربما فاتنا أن نرصد بعض المظاهر، وربما قصّرنا في التحليل ولذا نتوجه برجاء إلى القارئ والقارئة لتنبيهنا إلى ذلك وغيره من عناصر القصور.
نزعم أن قطاع التأمين العراقي يمر بمحنة بعضٌ من آثارها هي امتداد لسنوات العقوبات الدولية (1990-2003) والبعض الآخر من إفرازات الاحتلال الأمريكي (تغيير القوانين) وموقف، أو لا موقف، الحكومات المُعينة والمنتخبة (إهمال قطاع التأمين). سنحاول في هذه الورقة إبراز بعض مظاهر المحنة التي تشكل في مجموعها ما أسميناه سابقاً بحالة حصار غير معلنة لقطاع التأمين. ففي ختام مقالتنا "ركود سوق التأمين العراقي: مناقشة لرأي اقتصادي" ذكرنا التالي:
لا نأتي بجديد في القول ان الاقتصاد وكذلك النشاط التأميني المرتبط به يخضع للتغير إلا أنه في المرحلة الحالية لا يتمتع بالدينامية الكافية لتحقيق نقلة نوعية كتجاوز طبيعته الريعية ليحتل القطاع المالي (المصرفي والتأميني كمثال) مكانة أكبر في التنمية الاقتصادية. هذا الوضع يعكس غياب الرؤية الاقتصادية والسياسات الموجهة مثلما يعكس حالة "الحصار" غير المعلنة على نشاط القطاع: قوانين وعقود غير ملائمة (قوانين التأمين والاستثمار وشروط التأمين في عقود الدولة)، ضعف الحماية الإعادية، غياب سياسة تأمينية وطنية، يضاف لها هشاشة الثقافة التأمينية على المستوى المؤسسي والشعبي. [1]
سنحاول الاستفادة من هذا القول بقدر ما يتعلق بموضوعها تاركين مسألة "هشاشة الثقافة التأمينية على المستوى المؤسسي والشعبي" إذ أنها موضوع مستقل يستحق دراسة خاصة.
محنة قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005
المحنة هنا هي البلية التي وردت في لسان العرب. فالقانون من صنع أمريكي، مقتبس من قانون التأمين الأردني، دون الاعتراف بالمصدر، وهكذا تكون النزاهة الفكرية وحقوق الملكية الفكرية على الضد مما يروج لها. ويهمل القانون تاريخ التشريع العراقي في التأمين. وقد كتبنا، كما كتب غيرنا، دراسات نقدية عنه منشورة في مجلة التأمين العراقي الإلكترونية. المفارقة هي أن القانون فيه جوانب سلبية تكاد أن تلغي الإيجابي فيه، وربما عن قصد لإبقاء النشاط التأميني العراقي في حدوده الدنيا وفسح المجال أمام طالبي التأمين من الشركات الأجنبية العاملة في العراق التأمين خارج العراق. وبذلك فإن المستفيد الحقيقي هي هذه الشركات وشركات التأمين الأجنبية. عندما تتسرب أقساط التأمين خارج العراق بفضل سكوت القانون عن التأمين لدى شركات تأمين عراقية (وهذه هي البلية العظمى) فإن القيمة الاقتصادية للقانون، بسبب هذه البلية، يعادل نهباً منظماً لهذه الأقساط خارج رقابة ديوان التأمين العراقي الذي بدوره لم يتحرك إلا قليلاً (التأكيد على عدم إغفال الوزارات والمنشآت العامة لشركات التأمين الخاصة). وفيما يخص البلية فإن الديوان لم يتقدم حتى بورقة موقف تجاه سلبيات القانون.
رغم مناشدة ديوان التأمين العراقي (وزارة المالية) والكتابات المتعددة عن الآثار الضارة للقانون لم تتحرك الوزارة ولا مستشارو مجلس الوزراء ولا البرلمان لإعادة النظر بهذا القانون (الأمر رقم 10) الذي صاغته سلطة التحالف المؤقتة.
الابتلاء بهذا القانون هو من إفرازات الاحتلال الأمريكي. هي محنة "تلدُ أخرى" فالقانون فيه عيب أساسي (تجاوز إجراء التأمين مع شركات تأمين عراقية) يُقوض من مكانة قطاع التأمين العراقي،[2] ولن يتغير ما لم تتوفر الإرادة السياسية خارج المصالح الضيقة لإعادة النظر ببعض أحكامه. وهو القانون الذي تأسس ديوان التأمين العراقي بموجبه لكن الديوان لا يزال ضعيفاً، مستضعفاً، لا يستطيع تنفيذ وظيفته الرقابية كما يجب. أملنا أن لا يرتبط تعديل القانون بتخليص العراق من العبء الثقيل للبند السابع من قرارات مجلس الأمن أولاً!
محنة التأمين في إقليم كردستان العراق
المحنة على المستوى الاتحادي ومستوى الإقليم (غياب لغة تأمين كردية، غياب كتب تأمين باللغة الكردية، ضعف الإلمام باللغة العربية واللغة الإنجليزية للتطوير التأميني المهني في الإقليم، ضعف المشاركة في تأمينات النفط وغيره).
التأمين بين لغتين. الاهتمام باللغة العربية يقرّب قطاع التأمين في الإقليم من قطاع التأمين العراقي، وكذا الأمر في اعتماد قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005، وقانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات (القانون رقم 52 لسنة 1980 وتعديلاته)، وهكذا. مثل هذا التقرب يقوّي التوجه نحو الفيدرالية قيد التشكل وهو توجه ربما لا يشغل حيزاً في التفكير القومي الكردي الميّال إلى المزيد من الاستقلال عن التوجهات الاتحادية مثلما لا يشغل مكاناً في تفكير أصحاب القرار على المستوى الاتحادي. إضافة إلى ذلك، عندما يكون حضور اللغة العربية بين سكان الإقليم ضعيفاً فإن الحاجة إليها تصبح غير مطلوبة إن لم تكن ملغية.
على الجانب الاتحادي هناك قصور واضح في الاهتمام باللغة الكردية. ينص الدستور العراقي، المادة 4 على ان "اللغة العربية واللغة الكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق ..." دون أن يعني ذلك اعتماد هاتين اللغتين للأغراض التجارية غير الرسمية بين الأفراد والمؤسسات. ونحن نميل إلى اعتماد اللغتين في المجالات غير الرسمية لأنه يعزز من النظام الاتحادي. ألم يحن الوقت لإنشاء موقع الديوان بالكردية إلى جانب العربية والإنجليزية؟
وهكذا يراوح قطاع التأمين في الإقليم في مكانه وبدلاً من أن يكون العراق الاتحادي فناءه الخلفي يبقى متقوقعاً على حاله، لا هو بقادر على الخروج من أسر التوجه القومي ولا هو يتشجع للانطلاق في الفضاء الاتحادي. وتبقى الكوادر القديمة الهرمة التي تعلمت في بغداد، وهي قليلة، تقوم بالأعباء الإدارية والفنية لشركات التأمين في الإقليم. وسوف يمضي وقت، نرجوه أن لا يكون طويلا، قبل أن نشهد نقلة نوعية في قدرات الشباب العامل في هذه الشركات (الذي لا يمتلك معظمه معرفة كافية باللغة العربية والإنجليزية وبالتالي يظل محروماً من مواصلة التطوير الفني اعتماداً على هاتين اللغتين).
وخارج دائرة اللغة تباحث ممثلو ديوان التأمين العراقي غير مرة مع وزارة مالية الإقليم، المشرفة على عمل شركات التأمين في الإقليم، للسماح لفروع شركات التأمين من أعضاء الديوان للعمل في الإقليم وغيرها من شؤون التأمين، دون أن يترجم هذا التباحث إلى قرارات لتغيير ما هو قائم.
الرقابة على النشاط التأميني في الإقليم. وهناك تجاذب غير معلن بشأن الرقابة على النشاط التأميني: أن يكون اتحادياً (أي خاضعاً لديوان التأمين العراقي) أم إقليمياً (أي خاضعاً لقانون يشرعه برلمان الإقليم). فقد جرت محاولة لوضع مسودة قانون رقابة على التأمين في الإقليم من قبل وزارة مالية الإقليم إلا أنه لم يخضع للتشريع. وكان ذلك سنة 2006 عندما قامت الوزارة بتشكيل لجنة تنظيم أعمال التأمين في إقليم كوردستان العراق، للنظر في تنظيم أعمال التأمين في الإقليم. وقد قامت اللجنة بصياغة قانون مستقل لتنظيم النشاط التأميني في الإقليم. وهذه المحاولة هي أيضاً جزء من النزوع القومي للاستقلال في قطاع التأمين.[3] وفي تعليقي على المحاولة قلت ان هناك قانوناً اتحادياً (فيدرالياً) للتأمين، هو الأمر رقم (10) قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005، لا يفرق بين مركز وإقليم. ورغم المآخذ عليه، وقد عرضنا لها في أكثر من ورقة، فإن بالإمكان تقويم وإعادة صياغة ما لا يتناسب من أحكامه مع هدف خلق سوق وطني اتحادي للتأمين، أو لا يتفق مع السياسة الاقتصادية لحكومة الإقليم. أي انه ليست هناك ضرورة اقتصادية أو قانونية لوضع قانون رقابة على النشاط التأميني خاص بالإقليم. وقد قام الزميل فؤاد شمقار بالتوسع في التحليل القانوني وقدم دراسة موضوعية مهمة، ضمن أحكام الدستور العراقي، حول تنظيم قطاع التأمين في الإقليم يستحق القراءة الدقيقة.[4] ولعل دراسته تلقى أذناً صاغية من أصحاب القرار في المركز والإقليم.
وليست لدينا معلومات آنية عن محاولة تنظيم النشاط التأميني في الإقليم. واقع الحال هو عدم تطور سوق تأمين وطني اتحادي. وقد أشيع مؤخراً أن وزارة مالية الإقليم لن ترخص لشركات تأمين جديدة لمزاولة العمل في الإقليم ما لم يكن رأسمالها بحدود 25 مليون دولار، وهو مطلب يكاد أن يكون تعجيزياً[5] يستوجب الكشف عن الأسباب التي تختفي وراءه. وهو لا يستقيم مع متطلبات الحد الأدنى للضمان كما جاء في تعليمات المبلغ الادنى للضمان، المادة 2 الصادرة من ديوان التأمين العراقي.[6]
شركات التأمين الكردية وتأمينات النفط. مثلما يشهد قطاع النفط تجاذباً بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم (مسودة قانون النفط والغاز، العقود النفطية مع الشركات الأجنبية) فإن قطاع التأمين يحاكيه في التجاذب إلا أنه غير معلن وذلك لأن النشاط التأميني لا يستحوذ على تفكير صانعي القرار ولا يظهر في وسائل الإعلام ما يفيد وجود مشكلة في الرقابة على هذا النشاط على المستوى الاتحادي ومستوى الإقليم. فقد وقعت حكومة الإقليم على عشرات العقود النفطية مع شركات نفطية أجنبية بلغت أقيامها المليارات إلا أن حصة شركات التأمين الكردية من تأمين الموجودات النفطية والعقود النفطية لحكومة الإقليم ضئيلة جداً ولا يتجاوز القيام بتوفير ترتيبات الواجهة (إصدار وثيقة التأمين لقاء أجر دون الاحتفاظ بأي جزء من الخطر المؤمن عليه). الوضع هنا شبيه بالوضع على المستوى الاتحادي.
حل القضايا التأمينية المعلقة المرتبطة بشركات التأمين العامة. وهذه هي أحد مظاهر المحنة أيضاً متمثلة بعدم قدرة شركات التأمين على مزاولة العمل في إقليم كوردستان لأسباب يعود بعضها إلى تركة النظام الديكتاتوري وبعضها إلى النزوع القومي للتمايز وتقليل الارتباط الرسمي بقطاع التأمين العراقي. ولنا ملاحظات وأفكار عن هذا الموضوع منشورة في مدونة مجلة التأمين العراقي.
محنة إعادة التأمين الاتفاقي ودور شركة إعادة التأمين العراقية
تكمن بعض مظاهر المحنة في استمرار معيدي التأمين الاتفاقي على اعتبار الحالة الأمنية عنصراً مؤثراً على الاكتتاب، ولهذا فهم ينظرون بعين الشك إلى الاكتتاب بأخطار معينة كخطر الشغب والإضراب والاضطرابات المدنية، أو الغطاء الموسع الذي يندرج تحت عنوان العنف السياسي، أو أخطار المنشآت النفطية أو المخازن وغيرها. معيدو التأمين الاتفاقي في واقع الأمر يقيّمون حالة العراق وليس حالة الأخطار المؤمن عليها فقط – أي انهم يقيمون بيئة هذه الأخطار. وقد قلنا في مقالة لنا مؤخراً:
أن سوء الأوضاع الأمنية يُصعّبُ على شركات التأمين شراء حماية إعادة التأمين من الشركات الإعادية العالمية ويقلّص ويُضعف من نطاق هذه الحماية، إذ لا تتوفر هذه الحماية إلا بأسعار وشروط مُكلفة. وبالتالي، فإن ضعف الحماية الإعادية يؤثر سلباً على القدرات الاكتتابية واحتفاظ شركات التأمين بالأقساط.[7]
ربما لا ينتبه معيدو التأمين إلى النزوع القوي لدى الناس للاستمرار في عملهم وتدبير شؤونهم الحياتية، واستمرار العاملين في شركات التأمين على العمل رغم الأعمال الإرهابية التي خفت كثيراً مقارنة بسنة 2006. ولكن يبدو أن منطق ربط الاكتتاب الفني بالوضع الأمني يظل قائماً في خلفية تفكير المعيدين مما يؤثر على عملية الاكتتاب. وهكذا نرى أن أسعار تأمين الأخطار العراقية، مقارنة بمثيلاتها في دول الجوار، عالية مما يعني أن هذه الأسعار تنطوي على تحميل سعر إضافي عن خطر الحالة الأمنية الكامنة في ذهن المعيدين.
المظهر الآخر للمحنة الإعادية هو الشكوى المتبادلة بين المعيدين وقطاع التأمين العراقي. يؤكد المعيدون على التطور البطيء لدخل أقساط التأمين فيما يؤكد ممثلو قطاع التأمين أن قيود واشتراطات اتفاقيات إعادة التأمين تلجم ارتفاع دخل الأقساط. هناك، كما نرى، خوفٌ مُبطن، غير مُعلن، لدى المعيدين من عدم كفاية القدرات الاكتتابية العراقية في تقييم وتسعير الأخطار وبالتالي يصبح وضع القيود على حدود المسؤوليات واشتراط إلجاء شركات التأمين، من خلال شركة إعادة التأمين العراقية، إلى المعيدين ضرورياً من باب السيطرة على العملية الاكتتابية.
ونعرف أن صغر حجم دخل الأقساط لا يكمن في الوضع الأمني وإنما في أسباب أخرى عرضناها سابقاً ويمكن الرجوع إلى واحدة من مقالاتنا بهذا الشأن ونقتبس منها الآتي:
أن طالب التأمين وشركة التأمين يتعرضان لأسعار وشروط إعادية هي في أحسن الأحوال ذات طابع عقابي لأنها لا تعكس الخصائص الفنية لموضوع التأمين بقدر ما هي تقييم اكتتابي للعراق. يتفهم المرء ثقل الوضع الأمني وكلفة إدارة الاكتتاب والسيطرة على الخطر وتسوية المطالبات لكن تسعير هذه الكلفة وشروطها تصل في وطأتها حد دفع المؤمن له للتخلي عن إجراء التأمين خاصة في تلك الحالات التي لا يطلب منه فيها إبراز شهادة تأمين لرب العمل. مقابل ذلك، لو كان طالب التأمين شركة غير عراقية صار موقف المعيد، الذي يكتتب بالخطر خارج القوانين الرقابية non-admitted insurance، أكثر مرونة. وهكذا تتسرب أقساط التأمين خارج سوق التأمين العراقي. [8]
وهذا الحال لا يزال قائماً في إعادة التأمين الاختياري وفي تجاوز شركات التأمين، وبالتخصيص الشركات الخاصة، لاتفاقيات إعادة التأمين التي تديرها شركة إعادة التأمين العراقية. ولنا أن نضيف: إذا كان حجم الموازنة لسنة 2012 سيكون 125 ترليون دينار، بعد تخفيضه من 132 ترليون دينار، استجابة لإملاءات صندوق النقد الدولي لتمكين، أو قل لتكبيل، العراق للاقتراض من الصندوق عند الضرورة،[9] ما هي حصة قطاع التأمين العراقي من هذه الموازنة - أي دخل أقساط التأمين الذي يستطيع القطاع الاكتتاب به؟
نعرف من الماضي أن هذه الحصة ضئيلة جداً على مستوى شركات التأمين الاتحادية وشركات إقليم كوردستان. وإذا كانت شركة التأمين الوطنية، شركة عامة، هي الأقدم والأغنى بين شركات التأمين العراقية الأخرى العامة والخاصة قد حققت دخلا بلغ 60,561,538 ألف دينار عراقي سنة 2010 [10] (ما يعادل 51,761,998 دولار أمريكي، بضمنه 11,030,013 دولار يمثل صندوق التأمين الإلزامي، والبحري-هياكل، والطيران، والسيارات التكميلي، والزراعي، والحياة، فردي وجماعي، وترانزيت وإعادة تأمين وارد) فالدخل المتحقق لدى الشركات الأخرى أقل بكثير منه. فقد بلغ مجموع دخل أقساط إحدى شركات التأمين الخاصة، النشطة، سنة 2010، ما يزيد قليلاً عن مليار ونصف المليار دينار عراقي.[11] وحسب معطيات شركة إعادة التأمين العراقية بلغ دخل الأقساط المكتتبة سنة 2010 للشركات 8,463,031,129 دينار (ما يعادل 7,233,356 دولار أمريكي) في فروع الحريق، والحوادث العامة، والهندسي والبحري-بضائع، في حين اكتتبت شركة التأمين الوطنية لوحدها في تلك السنة ٍ16,047,835 دولار. وهكذا نرى كم هي ضئيلة نسبة دخل التأمين إلى الموازنة فهي بحدود 0.022%.
الخروج من أسار المحنة ليس سهلاً فالمحنة هي استمرار لحالة قائمة منذ الغزو الأمريكي. قدمتُ قبل أكثر من سنتين[12] عدداً من المقترحات لاستعادة ثقة معيدي التأمين بسوق التأمين العراقي التي ستنسحب آثارها على الوسطاء وغيرهم من بيوت الخبرة التأمينية. وقلت إن هذه المقترحات لا تستنفد الأدوات التي يمكن الاستعانة بها في مجالات تطوير العلاقات المهنية، وزيادة حجم الإنتاج، وتحسين مستوى الأداء لدى شركات التأمين العراقية. قد يساعد وسطاء التأمين والمستشارون توجهات شركات التأمين في بعض جوانب هذه المجالات إلا أن تحقيقها يقع على عاتق شركات التأمين.
"ابتداءً نرى أن يكون الإطار العام لتنظيم العلاقة مع المعيدين قائماً على أساس التعاون وليس الخصومة أو المواقف العاطفية، أو التعكز على الشكوى منهم، أو استدعاء زمن العلاقات القديمة "الجميلة." ويقتضي التعاون التحرك بهدف تعزيز الأرضية المشتركة للعمل بدلاً من توتير غير مقصود للعلاقة. يعني ذلك أن يحاول الطرفان فهم أوضاع كل منهما وإيجاد الحلول التأمينية العادلة.
هناك مقترحات أخرى في الورقة ومنها: العمل تدريجياً للتعامل المباشر مع المعيدين دون المرور بوسطاء التأمين بالنسبة لعقود إعادة التأمين النسبية، زيارة مراكز شركات الإعادة الأوربية والاجتماع بالمكتتبين في أوطانهم وعدم الاكتفاء بلقائهم في دول الجوار، توجيه دعوات مكتوبة للمكتتبين لزيارة العراق وتشجيعهم عليها ورصد الإجابة التي ترد منهم للتعرف على ما يؤرقهم بهذا الشأن، تثقيف طالبي التأمين بأهمية تقديم معلومات وتوضيحات دقيقة بدلاً من الاكتفاء بالعموميات لمساعدة شركات التأمين في التفاوض على أسعار وشروط الإعادة، العمل على إقناع المعيد أو توليد قناعة لديه أن الوضع الأمني مسألة ثانوية فيما يخص السيطرة على الخطر، وتحليل الأخطار لزيادة الاحتفاظ لدى شركة التأمين وشركة إعادة التأمين العراقية." [13]
منافذ لاحتواء بعض مظاهر المحنة الإعادية؟
الإعادة الإلزامية لمحافظ الأخطار بنسبة معينة لدى شركة إعادة التأمين العراقية. مثل هذا النظام كان موجوداً حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي وكان التراجع عنه بإلغائه خطوة عملت على إضعاف الإعادة العراقية. فكرة الإلزام، ضمن إطار إيديولوجية السوق المفتوح، ينظر إليها شزراً وبالرفض رغم أن القواعد الرقابية في العديد من أسواق التأمين المتقدمة لها ضوابط يعتبر الخروج عنها موضوعاً لعقوبة كأن تمارس شركة تأمين أو وساطة التأمين العمل في دولة أوروبية دون أن يكون لها وجودٌ ثابت في الدولة – أي ممارسة العمل من وراء الحدود (حالة إيطاليا على سبيل المثال)
زيادة رأسمال شركات التأمين. وهذه ضرورية لخلق سوق تأمين وطني قوي من خلال تعزيز القاعدة المالية للشركات. ومن المناسب القيام بها على مراحل لمساعدة الشركات الصغيرة للوفاء بمتطلبات الزيادة من الداخل (دعوة المساهمين لزيادة رأس المال) أو الاندماج مع شركات تأمين أخرى. ومن يدري ماذا سيكون مصير هذه الشركات. قد يكون بعضها موضوعاً للاستحواذ من قبل رأس المال الخليجي، وقد لا يمضي وقت طويل، بعد انحسار الأزمة المالية العالمية القائمة، لأن يكون بعضها الآخر موضوعاً لاستحواذ شركات تأمين عالمية.
إلزامية التأمين على أخطار معينة كالتأمين على الحريق. فكرة الإلزامية مخيفة لحَمَلة إيديولوجيا الليبرالية الجديدة بين أصحاب القرار في العراق دون معرفة بتطورها التاريخي واستعمالها في الدول الرأسمالية المتقدمة. يجب التفكير بهذا الموضوع على مستوى السوق لأنه يمس حماية ثروات الوطن الخاصة والعامة. [14]
نوافذ التأمين التكافلي. من شأن تأسيس نافذة للتأمين التكافلي، وخاصة في تأمينات الحياة، زيادة الطلب على المنتجات التأمينية التي تقع في دائرة الحظر لدى بعض مفسري الشريعة الإسلامية.
خصخصة شركات التأمين العامة. لن تؤثر الخصخصة على حجم الأقساط المكتتبة أو نمط التنظيم الداخلي للشركة. ربما تؤدي الخصخصة إلي تقليص عدد العاملين في الشركة. [15]
وقف لجوء شركات التأمين الخاصة إلى إعادة التأمين خارج العراق بدلاً من الاستفادة من اتفاقيات إعادة التأمين التي تديرها شركة إعادة التأمين العراقية. هذه الشركات تنتقي ما تريد إمراره من خلال الإعادة العراقية أو إعادة التأمين في الخارج. حرية تصرف هذه الشركات تجد ما يدعمها في الأمر رقم 10 إذ تجيز المادة 27 – أولاً "للمؤمِن [شركة التأمين] اعادة التامين داخل العراق او خارجه."
إلغاء شركة إعادة التأمين العراقية. كتبنا التالي في دراستنا "هل هناك مشروع لإعادة هيكلة شركات التأمين العامة؟ تمهيد لمناقشة موسعة"
"حالياً تقوم شركة إعادة التأمين العراقية بدور المدير للاتفاقيات الإعادية لمعظم شركات التأمين العاملة في العراق العامة والخاصة. إلغاء الإعادة العراقية سيؤثر أساساً على شركات التأمين الخاصة والصغيرة منها من حيث حجم الأعمال ورأس المال على وجه التخصيص. فهذه الشركات لن تكون قادرة لوحدها منفردة على شراء إعادة التأمين الاتفاقي. إن كان الإلغاء هو مصير الإعادة العراقية فإنه قد يوفر فرصة لمثل هذه الشركات للتشارك فيما بينها لشراء إعادة التأمين على نمط ما كانت تقوم به الإعادة العراقية. ويتطلب هذا الترتيب قيام واحدة من الشركات الخاصة بوظيفة التنسيق لشراء الحماية لحين تحسن أوضاع هذه الشركات (زيادة رأسمالها وحجم أقساط التأمين التي تكتتب بها أو اندماجها مع بعضها) بحيث تستطيع معه ترتيب اتفاقياتها بانفراد."
تحصر شركات التأمين العراقية، العامة والخاصة، اسناد الأعمال التي تكتتب بها بشركة إعادة التأمين العراقية، وهي تفعل ذلك ليس بحكم الاختيار وإنما من باب الضرورة، وهو "تقليد" يستمد بعضاً من مبرراته من الماضي عندما كانت شركات التأمين تسند جزءاً من محافظها لشركة إعادة التأمين العراقية (ألغي الإسناد الإلزامي في ثمانينيات القرن الماضي)، وكذلك سنوات الحصار الدولي (1990-2003) عندما تكاتفت الشركات فيما بينها لضمان استمرار النشاط التأميني بحدوده الدنيا بعد أن توقف غطاء إعادة التأمين بسبب قرارات الحظر.[16]
من مزايا شركة إعادة التأمين العراقية، وهي مملوكة للدولة، أنها تقف محايدة، وعلى مسافة واحدة، بين الشركات العامة والخاصة. وهي بهذا الموقف تلتزم المعايير الفنية وتعمل، بوعي أو بدونه، على تطوير سوق التأمين العراقي رغم أن بعض شركات التأمين الخاصة والعامة تتخطى الإعادة العراقية في إعادة تأمين الأعمال الاختيارية – وهو ما حصل بالنسبة للعديد من التأمينات النفطية امتثالاً لشروط شركات النفط الأجنبية.
إلغاء شركة إعادة التأمين العراقية قد يكون موضوعاً للترحيب من قبل بعض الأطراف، وخاصة إيديولوجي الليبرالية الجديدة ممن يعتبر وجود شركة إعادة تأمين وطنية قيداً على حرية التجارة. محنة الإعادة ليست محصورة بالتناطح مع مثل هذه الدعاوى المضمرة، وهي لا تقوم بذلك، بل في ضمان قبول شركات التأمين العامة والخاصة بوجودها. فالشركات العامة ترى أنها تتحمل أعباء ونتائج سوء سلوك الشركات الخاصة بالاكتتاب بأسعار واطئة جداً وبعدم تغذية الاتفاقية بالأعمال وفي ذات الوقت تنتج مطالبات بالتعويض تؤثر على نتائج الاتفاقيات التي تديرها الإعادة العراقية. ولهذا فإن الشركات العامة تلوح بالخروج من هذه الاتفاقيات.
مقابل ذلك تلجأ شركات التأمين الخاصة إلى إسناد القليل من أعمالها للاتفاقيات التي تديرها الإعادة العراقية، أي انها تسرب أقساط التأمين خارج السوق الوطنية ولصالح شركات عربية وأجنبية، وبذلك تضعف من حجم أقساط التأمين المسندة إلى الإعادة العراقية.
محنة شركات التأمين الخاصة
الفرق الكبير بين شركات التأمين العامة والخاصة يمتد من دخل أقساط التأمين إلى حجم رأس المال وعدد الموظفين، والكفة تميل عموماً لصالح الشركات العامة، بفضل متانتها المالية أساساً، لكننا لا نعدم كفاءة متميزة لدى عدد قليل من الشركات الخاصة.
ولعل المنافسة في تقديم الخدمات، وليس الأسعار، كفيلة بالكشف عن هشاشة شركات تأمين خاصة لا تتوفر فيها عناصر القدرة على النماء الحقيقي ودورها لا يتعدى تشويه مسار نضوج سوق التأمين العراقي.
تتشكى الشركات الخاصة من الرسوم والضرائب وغياب الرعاية الحكومية لتعزيز مكانتها وهو ما تناوله الزميل سعدون الربيعي في عدد من مقالاته.[17] كما تتشكى من حصر تأمين منشآت الدولة، وكذلك عقود جولات التراخيص النفطية، لدى شركات التأمين العامة، وهو غير مقبول لأنه يتعارض مع أحكام المادة 81 – ثالثاً من قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 التي نصت على ما يلي:
"يجري التامين على الاموال العامة والاخطار التي ترغب الوزارات او دوائر الدولة في التامين ضدها بالمناقصة العلنية وفقا لأحكام القانون ولجميع المؤمنين المجازين في العراق حق الاشتراك فيها."
لكن هذه الشكوى إن كانت موجودة قد زالت الآن بعد تدخل ديوان التأمين العراقي من خلال مخاطبة شركات النفط العراقية الشريكة لشركات النفط الأجنبية لضمان التزامها بأحكام قانون تنظيم أعمال التأمين.
محنة معظم شركات الـتأمين الخاصة تكمن في ضعف قاعدة رأسمالها واحتياطياتها الفنية وكذلك عدم توفر العدد الكافي من الكوادر المدربة لديها. وهذا يفسر ميلها الحثيث نحو المنافسة السعرية، والاكتتاب بأوطأ الأسعار، لضمان الحصول على الأعمال دون الاهتمام بالاعتبارات الفنية ومنها توفير خدمات رفيعة للمؤمن لهم. هي تريد تنمية محفظتها لكنها مقيدة. وقد يكشف التطور اللاحق عن وسائل لتحقيق النماء من خلال زيادة رأس المال أو الاندماج مع شركات تأمين أكبر وطنية أو أجنبية .. الخ كما ذكرنا أعلاه.
محنة تأمين قطاع النفط
الموارد النفطية هي العنصر الأساس للاقتصاد العراقي، وهذه الموارد تغطي عيوب هذا الاقتصاد إذ ليس هناك إنتاج صناعي وزراعي حقيقي. ورغم هذه الأهمية الاستثنائية للقطاع النفطي فإن ما يشتريه القطاع من حماية تأمينية ضئيل جداً مقارنة بحجم الموارد. ويبدو لنا أن القطاع يكاد أن يستغني عن تأمين ما يتعرض له من أضرار مادية لامتلاكه ما يكفي من موارد داخلية لتمويل أعمال تصليح الأضرار بدلاً من تحويل كلفة التمويل، لقاء قسط سنوي معلوم مسبقاً يمكن إدخاله في موازنة وزارة النفط والشركات التابعة لها، إلى شركات التأمين العراقية.
بدلاً من تمويل جبر الأضرار من الموارد الداخلية يمكن الاستفادة من هذه الموارد في استثمارات جديدة وفي تنمية القدرات البشرية.
وحتى لو سلمنا جدلاً بأن قطاع النفط قادر على تمويل خسائره المادية إلا أنه يفتقر إلى سياسة في هذا المجال. بمعنى أنه يستجيب للضرورات عند قيامها (وقوع الضرر الذي يستوجب التصليح) بدلاً من أن يكون له سياسة واضحة في إدارة الخطر من منظور تحويل عبء تحقق الخطر على شركة التأمين أو من خلال تكوين صندوق ذاتي للتأمين هو بمثابة شركة التأمين إذ ترصد له سنوياً مبالغ محددة (ربما تعادل قسط التأمين السنوي الذي تدفعه لو لجأت إلى شركة تأمين) تتراكم على مر السنين لتشكل احتياطياً كبيراً ربما يكفي لتمويل الخسائر المادية ذات الطبيعة الكارثية. وربما يمكن لهذا الصندوق أن يكون نواة لتأسيس شركة تأمين مقبوضة. ومن المؤسف أن مثل هذه السياسة غائبة عن التفكير لدى المعنيين في قطاع النفط.[18]
شركات التأمين العراقية محشورة في زاوية ضيقة فيما يخص التأمين على جولة التراخيص النفطية. كانت البداية في عدم إشراك شركات التأمين الخاصة وبعد ضغط من هذه الشركات وتدخل ديوان التأمين العراقي صارت المنافسة على تقديم خدمات التأمين للشركات النفطية الأجنبية مفتوحة للشركات العامة والخاصة على حد سواء – وهو ما تقضي به المادة 81 من قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005.
بعد تجاوز محنة شركات التأمين الخاصة صار "عصر" شركات التأمين من قبل الشركات النفطية الأجنبية أمراً قائما لم تستطع شركات التأمين العراقية الوقوف ضده. اتخذ العصر شكل الضغط على أجور ترتيبات الواجهة[19] لتكون في حدودها الدنيا، والتقليل من حدود الاحتفاظ إلى أدنى المستويات، والحرمان من ممارسة الاكتتاب: فكل شيء مجهز من قبل شركة النفط الأجنبية أو شركة التأمين المقبوضة أو وسيطها المعتمد أو مستشارها (كنص وثيقة التأمين، إجراءات المطالبة، شرط الاختراق فيما يخص تسديد أقساط التأمين والتعويضات بتجاوز دور شركة التأمين) لينحصر دور شركة التأمين-الواجهة بإصدار وثيقة التأمين.
وقد تم ذلك بالانتقاء بين شركات التأمين من خلال إجراء المناقصات التنافسية بينها بعد تأهيل تلك الشركات التي تتماثل مع اعتبارات التقييم التي تعتمدها شركات النفط الأجنبية. ونفس نظام المناقصات طُبق على انتقاء وسطاء ومستشاري التأمين. ويعتبر الخروج على أي بند من شروط المناقصات كافياً لإلغاء عطاء شركة التأمين.
الدافع الأساسي لموقف الشركات النفطية الأجنبية هو تقليص حجم الانفاق على التأمين مثلما هو الحال على شراء الخدمات الأخرى وذلك لتعظيم هامش الأرباح، وضمان الحصول على التعويضات لأن شركات التأمين المحلية لا تمتلك موارد مالية كافية تستجيب للمطالبات الكبيرة (خاصة وهي محرومة من الاستفادة من اتفاقياتها الإعادية). والدافع الآخر تدوير أقساط إعادة التأمين لتستقر عند شركات التأمين المقبوضة لها بفضل الاشتراط على شركة التأمين القبول بشرط الاختراق Cut Through Clause فيما يخص تسديد أقساط التأمين والمطالبات – أي تأسيس علاقة مباشرة بين المؤمن له (شركة النفط الأجنبية) ومعيد التأمين (الحصة الكبرى تستقر لدى شركة التأمين المقبوضة لشركة النفط) تجاوزاً لدور شركة التأمين العراقية التي تقزّم دورها إلى واجهة لإصدار وثيقة التأمين.
بالنسبة للشركات النفطية فإن تمويل أقساط التأمين يتم من خلال تكاليف انتاج البترول petroleum cost recovery ، أي إن الطرف العراقي يشارك في تمويل أقساط التأمين إلا أن دور الطرف العراقي في إدارة التأمين مفقود أو ضعيف جداً.
سلوك الشركات النفطية يكاد أن يكون نظاماً عاماً تطبقه في العديد من دول "العالم الثالث" (دول "الجنوب") التي تعمل فيها هذه الشركات، أي أنها ليست خاصة بالعراق. مثل هذا النظام يسري لأن هذه الدول، ومنها العراق، سمحت لنفسها الخضوع لسلطة الشركات النفطية العالمية، وضعف الشريك المحلي (شركات النفط الوطنية) وضعف السوق الوطنية للتأمين، وغياب دعم الدولة لقطاع التأمين، وغياب رؤية (سياسة) واضحة تجاه النشاط التأميني الوطني، وموقف شركات إعادة التأمين العالمية بعدم منح شروط مناسبة لشركات التأمين المحلية بالاكتتاب والاحتفاظ بالأخطار النفطية. وهكذا يعمل قطاع التأمين العراقي في ظل هذا الحصار غير المعلن – المحنة التي لا يجد في الوقت الحاضر من يستجير به منها.
بعض عقود الدولة، ومنها ما يسمى بعقود التراخيص النفطية، هي التي تشترط التأمين بصيغة محددة مع شركات تأمين محلية – لو توفر الغطاء التأميني المطلوب محلياً. وهنا يبدو أن الشركات النفطية الأجنبية تتصرف من موقف يُحسب لصالحها في استدراج عطاءات التأمين من شركات تأمين محلية، وهي حقاً كذلك بعد أن تعلمت الدرس من سوء التصرف في أسواق أخرى في العالم. لكن تصرفها قابل للمناقشة والنقد كما أشرنا أعلاه.
وقد اختتمنا دراسة قصيرة لنا حول المادة 24 من جولة التراخيص التي صيغت لصالح الشركات النفطية، التي تذكرنا بصياغة بعض بنود الدستور العراقي الملتبسة، "أن التزام شركات النفط العالمية العاملة في العراق بمتطلبات التأمين مع شركات تأمين عراقية ليس متساوياً، ولا سيما في إقليم كوردستان، فليست كل الشركات تمتثل بصرامة لقوانين التأمين في العراق أو الالتزامات التعاقدية." [20]
وحسب المادة 24-6 من عقود جولة التراخيص، ونترجمه بتصرف، فإن "خطة التأمين تتطلب من المقاول والمشغل [شركة النفط الأجنبية] الحصول على تأمينات من شركة تأمين عراقية أو أجنبية عاملة في جمهورية العراق لتغطية الأخطار ذات العلاقة بالعمليات النفطية وأي نشاطات أخرى ذات صلة بها وكما قد يقضي به القانون خلال فترة العقد، بما في ذلك مسؤولية الطرف الثالث والضرر البيئي والضرر [البدني] إذا كانت مثل هذه التغطية متوفرة في جمهورية العراق بشروط معقولة تجاريا. إذا كانت مثل هذه التغطية غير متوفرة في جمهورية العراق، يجب الحصول على التأمين من شركة تأمين أجنبية. وتقوم شركة التأمين بالتعاون مع المقاول والمشغل، واعتماداً على مدى الحاجة، بترتيب إعادة التأمين للتغطيات في السوق الدولية لذلك الجزء من الخطر الذي يفيض عن صافي احتفاظ شركة التأمين." [التأكيد من عندنا]
ترى هل حصل تعاون حقيقي بين شركة النفط الأجنبية وشركة التأمين العراقية الفائزة بمناقصة التأمين؟ سؤال ليس من السهل الإجابة عليه بسبب السرية التي تكتنف المناقصات والمشاركة فيها والتي يتوجب على جميع الأطراف المشاركة الالتزام بها.
محنة شركات التأمين تكمن في أن عدم المشاركة في المناقصات التأمينية هو نوع من "الانتحار الاقتصادي" لكن المشاركة تعني الخضوع لمنطق السوق الذي كرسه قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 وأحكام العقود النفطية – أي القبول بالمنافسة ولكن بشروط الشركات النفطية. بعض شركات التأمين العراقية تفضل عدم الاشتراك في مناقصات الشركات الأجنبية، ومنها النفطية، ربما لقناعة أن المناقصة شكلية وأنها سترسي على واحدة من الشركات العامة، أو لأن الشركة الأجنبية تبحث عن أوطأ الأسعار وتعمل على تقييد حرية شركة التأمين العراقية في الاحتفاظ بحصة من تأمين العقد وفي المساهمة في إدارة المطالبات بالتعويض وفي حقها باستلام أقساط التأمين أولاً وليس تجاوزها لصالح العلاقة المباشرة بين الشركة الأجنبية وشركات إعادة التأمين ومنها شركات التأمين المقبوضة.
استخلاص المزيد من المنافع للشركات النفطية يهدد في النهاية حيوية سوق التأمين العراقي وتطوره فنياً (اكتتابياً) ومالياً إلا بالحدود الدنيا – أي القيام بوظيفة الشركة الواجهة الصرفة (بعض شركات التأمين تقوم بهذه الوظيفة مع تخليها المطلق عن المسؤولية، وهو ما ترغب به الشركات النفطية).
في سبعينيات القرن الماضي عندما لم يكن غطاء التأمين المطلوب من قبل طالب التأمين الأجنبي متوفراً في العراق كانت شركة التأمين الوطنية، وقتها كانت الوحيدة التي تزاول أعمال التأمينات العامة عدا الحياة، هي التي تتولى البحث عن الغطاء في أسواق التأمين العالمية.
كان المبرر لهذا الموقف قانونياً باعتبار أن جميع الأصول العراقية وما يترتب عليها من مسؤوليات قانونية تجاه الطرف الثالث يجب أن يجري التأمين عليها مع شركة تأمين عراقية مرخصة. أما المبرر الاقتصادي، غير المعلن، فهو ان الطرف العراقي، ممثلاً بإحدى مؤسسات الدولة وهي المستثمر الأكبر آنذاك، صاحب المشروع (رب العمل) هو الذي يتحمل كلفة عقد استيراد المواد والمعدات وكلفة الإنشاء والتركيب بضمنها كلفة شراء الحماية التأمينية وكذلك هامش ربح المقاول. صار الآن من حق المؤمن له المباشر أن يتعامل، ضمن آلياته، مع سوق إعادة التأمين وفرض شروط هذا السوق على شركة التأمين العراقية الفائزة في المناقصة.
عمومية المحنة
ليس صحيحاً إعفاء شركات التأمين وجمعية التأمين العراقية وديوان التأمين العراقي من المسؤولية تجاه الوضع القائم. شركات التأمين، مثلاً، لا تطبق تعليمات جمعية التأمين العراقية رغم "تأكيد ديوان التامين على ذلك بكتابه ذي العدد 139 في 21/11/2011 وضرورة التقيد بالأسعار"[21] بخصوص الالتزام بتعريفة التسعير، أي بالحدود الدنيا لأسعار التأمين على أخطار معينة كالتأمين الهندسي. ويجد هذا الموقف تبريره أحياناً بقيم المنافسة باعتبارها أعلى شأناً من قيم تطوير سوق وطني متماسك للتأمين. ولكن خرق التعليمات، رغم علم الجمعية والديوان، لا يقابله، كما يقول الزميل المحامي منذر الأسود، أي شكل من أشكال الردع.[22]
شركات التأمين مهتمة اساساً بمصالحها الخاصة وليس بمصالح إعادة تشكيل سوق التأمين العراقي (على أساس وطني اتحادي)، ولم تطور بعد "جبهة" للضغط على صانعي القرار لإيلاء قطاع التأمين ما يستحقه من عناية وتأييد.
الرؤية الضيقة لشركات التأمين ذاتها في الاهتمام بمصالحها الخاصة بدلاً من توسيع دائرة الاهتمام لصالح سوق التأمين بأجمعه جعل من منطق المنافسة غير المقيدة أسلوباً لتسريب أقساط التأمين خارج العراق وبفضل الغطاء القانوني الذي يوفره قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 الساكت، عن قصد، عن التأمين خارج العراق، أي خارج رقابة الديوان. فالقانون لا يفرض على طالبي التأمين، عراقيين وأجانب، أفراداً وشركات، إجراء التأمين حصراً مع شركات تأمين عراقية.
تتظلم شركات التأمين الخاصة من هيمنة شركتي التأمين العامتين (تنتجان 80% من أقساط التأمين) وتطلب دعماً من الحكومة لتعزيز مكانتها في السوق – أي تطلب من الحكومة أن تحتضنها كي تنجح في المنافسة السوقية! لم يقترن تشكي البعض منها من الحالة القائمة بدراسات معمقة، بجهد جماعي ضاغط على صانعي القرار، وبفضح ممارسات ضارة لدى طالبي التأمين ولدى شركات التأمين ذاتها، ولم تعمل سوية، إلا لماماً، لتطوير سياسة (رؤية) للقطاع.
ربما يقول البعض ما الفائدة من كل ذلك وأصحاب القرار منشغلون في تزوير الشهادات والتغطية عليها، وفي الكسب غير المشروع (الفساد المالي) والنهب والزبائنية، وحتى أن وزيراً لا يكلف نفسه بالرد على رسالة لشركة تأمين لعقد لقاء معه أو مع من يمثله. نعم هو مشغول بقضايا كبرى! كأعضاء البرلمان الذين لا يلتقون بناخبيهم!
هل استسلمت شركات التأمين العراقية لمنطق ما هو قائم والقبول بموقف الحكومات في إهمال القطاع؟ لا نعتقد ذلك، فهذه الشركات التي ربما لم تشهد فساداً في إدارة أعمالها تثابر، رغم كل السلبيات، لتطوير النشاط التأميني كل على طريقته في ظل غياب سياسة تأمينية واضحة.
الحكومة تكاد أن تكون غائبة إلا من خلال تعيين رئيس بالوكالة لديوان التأمين العراقي. سنوات عدة مضت على تأسيس الديوان وما يزال موقع الرئيس بالوكالة! يتساءل المرء لماذا لا يثير قطاع التأمين اهتماماً حقيقياً من الحكومة. أترى أن الإهمال سببه عدم فهم هذا القطاع أو التقليل من شأنه أم هو انعكاس لحالة عامة تتمثل بغياب الاقتصاديين، رغم أن الذين يسيطرون على صنع القرار في العراق ناس عقلانيون يكرسون انفسهم لخدمة مشروع إقحام الليبرالية في الاقتصاد العراقي.
التمسك بالأمل
نحن على قناعة أن "محنة" سوق التأمين العراقي آيلة إلى الانفراج ولكن يصعب الآن التكهن بما سيسفر عنه من حلول (في ظل بارانويا المحاصصة)،[23] ومدى نجاعة أي حل في إحداث نقلة نوعية - في بنية السوق وأهميته في الاقتصاد الوطني، وفي تكوين السوق الاتحادي، ومكانته بين شركات التأمين العربية، ومقارنته الكمية والنوعية بتاريخ القطاع في الماضي لرصد التطور الحقيقي الحاصل. لكن المؤشرات، اعتماداً على ما يجري في بلدان أخرى متقدمة ونامية وفي العراق أيضاً، هي أن النموذج التأميني، وهو مرتبط تماماً بالنموذج الاقتصادي، لن يبقى على حاله بل سيشهد تحولاً. وما التعددية الحالية، في ملكية الشركات وفي توزيعها الجغرافي والتجاذب في الشأن الرقابي وفي محاولة الخروج من أسار القوانين والممارسات القائمة وقيود إعادة التأمين الاتفاقي إلا إشارات قوية لما قد سيكون عليه الحال في العقد القادم. وهذا التحول ليس آلياً وقد يتعثر ما لم يقترن بقوة الإرادات الدافعة نحو التغيير. نحن نحلم بالتعددية داخل الإطار الاتحادي.
لندن 28 كانون الأول 2011
[1] نشر في مرصد التأمين العراقي
http://iraqinsurance.wordpress.com/2011/11/10/stagnation-of-iraqs-insurance-market/
[2] لمن يرغب في قراءة آراء نقدية عن قانون 2005 الرجوع إلى مدونتي مجلة التأمين العراقي و مرصد التأمين العراقي. وقد قمنا بجمع عدد من دراساتنا النقدية عن القانون مع مقدمة في كتاب من المؤمل أن ينشر في بغداد سنة 2012.
[3] أنظر مصباح كمال: "ضوابط تنظيم أعمال التأمين في إقليم كوردستان العراق: ملاحظات نقدية" مجلة التأمين العراقي
http://misbahkamal.blogspot.com/2008/02/blog-post_22.html#!/2008/02/blog-post_22.html
[4] فؤاد شمقار: "دستور جمهورية العراق وقانون تنظيم أعمال التأمين ورغبة سلطات إقليم كوردستان في تنظيم القطاع والإشراف عليه" مرصد التأمين العراقي
[5] منذ سنة 1991 بدأ تدريجياً بروز مجموعات رأسمالية كردية لها قدرات مالية كبيرة، وهذه قادرة على تأسيس شركات تأمين في الإقليم برأسمال يزيد عن 25 مليون دولار. إن تأسست مثل هذه الشركات فسيكون لها تأثيرٌ كبيرٌ على بنية السوق في الإقليم وعلى المستوى الاتحادي إن رغبت في العمل في جميع أنحاء العراق.
[6] "الغيت هذه المادة بموجب المادة (1) من تعليمات التعديل الاول لتعليمات المبلغ الادنى للضمان رقم (4) لسنة 2006، رقمه 14 لسنة 2010، واستبدلت بالنص الاتي:
لا يقل المبلغ الادنى للضمان عما يأتي: اولا- (1500000000) مليار وخمسمائة مليون دينار للمؤمن المجاز لممارسة اعمال التامين العام ثانيا- (2000000000) ملياران دينار للمؤمن المجاز لممارسة اعمال التامين على الحياة ثالثا- (3000000000) ثلاثة مليارات ينار للمؤمن المجاز لممارسة اعمال اعادة التامين حصرا رابعا - (2000000000) ملياران دينار للمؤمن المجاز لممارسة اعمال التأمينات العامة والتامين على الحياة من المشمولين بالاستثناء المنصوص عليه في البند (اولا) من المادة (16) من (قانون تنظيم اعمال التامين) الصادر بالأمر رقم (10) لسنة 2005."
[7] لإلقاء المزيد من الضوء على حالة الأمن والنشاط التأميني راجع مصباح كمال: "ركود سوق التأمين العراقي: مناقشة لرأي اقتصادي،" مرصد التأمين العراقي
[8] مصباح كمال: "التأمين في العراق: قصور في التفكير الاستراتيجي؟"
http://misbahkamal.blogspot.com/search?updated-min=2011-01-01T00%3A00%3A00Z&updated-max=2012-01-01T00%3A00%3A00Z&max-results=9#!/2010/02/458-2010-568.html
[9] حسب وكالة كردستان للأنباء (آكانيوز)، أربيل 2 كانون الأول/ديسمبر نقلاً عن أحمد جاوشين، نائب رئيس اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي.
من المناسب أن نشير إلى أن المؤسسات المالية الدولية تساهم في خلق المديونية. لمتابعة إثقال مديونية دول "العالم الثالث" يمكن الرجوع إلى
Eric Toussaint and Damien Millet, Debt, the IMF and the World Bank (New York: Monthly Review Press, 2010).
[10] شركة التأمين الوطنية، قسم التخطيط والتسويق، تقرير مجلس الإدارة كما في 31/12/2010، ص 15.
[11] الشركة المعنية هي شركة الحمراء للتأمين (رسالة من منذر الأسود المحامي في 18/12/2011 كتبها بعد قراءته لمسودة المقالة).
[12] مصباح كمال: "مُذكرة: عن معيدي التأمين وشركات التأمين العراقية" مجلة التأمين العراقي الإلكترونية
[13] مصباح كمال: "مذكرة ..." مصدر سابق.
[14] أدخل التأمين الإلزامي ضد خطر الحريق والزلازل في الأردن بعد صدور نظام التأمين الإلزامي ضد خطر الحريق والزلازل الذي سيكون نافذاً سنة 2012. ويلزم النظام صاحب الملك بتأمين البناء والمستأجر أو مشغل المنشأة بتأمين الموجودات بموجب نموذج عقد التأمين الإلزامي. راجع مجلة البيان الاقتصادية، العدد 476، تموز (يوليو) 2011، ص 188.http://www.albayanmagazine.com/Archive/2011/Issue%20476%20July%202011.pdf
[15] مصباح كمال: "هل هناك مشروع لإعادة هيكلة شركات التأمين العامة؟ تمهيد لمناقشة موسعة" الثقافة الجديدة، العدد 346، 2011.
[16] مصباح كمال: "التأمين في العراق: قصور في التفكير الاستراتيجي؟" مصدر سابق.
[17] سعدون الربيعي: "شركات التأمين الخاصة تشارك في اجتماعات هيئة المستشارين لتطوير القطاع المصرفي والتأميني" مرصد التأمين العراقي
وكذلك "برنامج مستقبلي لجمعية التأمين العراقية" مرصد التأمين العراقي
[18] للتعريف بجوانب أخرى يمكن الرجوع إلى مصباح كمال: "وزارة النفط وقطاع التأمين العراقي والتأمين على المنشآت النفطية" مجلة التأمين العراقي.
[19] لمزيد من التحليل راجع مصباح كمال: "ترتيبات الواجهة: محاولة أولية لتقييم نقدي" مجلة التأمين العربي، العدد 95، 2007، ص 25-32 وكذلك مرصد التأمين العراقي
[20] مصباح كمال: "شروط التأمين والتعويض النموذجية في عقود النفط العراقية: ملاحظات عن بعض مفردات هذه الشروط" مجلة التأمين العراقي http://misbahkamal.blogspot.com/2010/12/24.html#!/2010/12/24.html
[21] أشكر الزميل منذر الأسود المحامي على هذه المعلومة التي أرسلها لي بتاريخ 11/12/2011.
[22] رسالة الزميل الأسود المؤرخة 11/12/2011.
[23] "البارانويا مرض غريب، له - كما جانوس آلهة الأبواب في الأساطير الإغريقية - أكثرُ من وجه. في وجهه الاول جنون عظمة، وافتتان بالذات، كما بالجبروت، وفي وجهه الثاني جنون اضطهاد وارتياب، يتوجس فيه الممسوس ان كل الكائنات تريد به شراً." نقلاً عن فالح عبد الجبار، "بارانويا السلطة في العراق" جريدة الحياة، 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق