صناعة التأمين الصحي:
كيف يمكن لكارل ماركس أن يساعدنا في فهم أزمة الرعاية الصحية
يونا شين[1]
ترجمة: مصباح كمال
من أجل إعادة التفكير جذريا في الجدل الدائر حول إصلاح الرعاية الصحية، نحتاج أن نفهم أولا ما هو التأمين الصحي، وبالضبط ما يؤمن عليه. بالنسبة للأشياء الخارجية، مثل البيت والسيارة، أو القارب، نعرف بالضبط ما تؤمنه وثيقة التأمين: بيت، سيارة، قارب، على التوالي. فنحن نؤمّن من أجل استرداد المنتجات التي نشتريها في حالة وقوع أضرار أو خسائر لها سواء عن طريق الإصلاح أو الاستبدال.
ماذا عن التأمين الصحي الخاص بك؟
في حالة التأمين الصحي، إذا كنا محظوظين في الحصول عليه، فنحن قادرون بفضل التأمين على توفير التمويل لتغطية التكاليف اللازمة لاسترداد صحتنا من مرض فاجع. وبهذا المعنى، يبدو عدم وجود أي فرق بين وثيقة تأمين سيارة، على سبيل المثال، ووثيقة تأمين صحي. ومع ذلك، فإن هذا لا يبدو صحيحا تماما.
في حالة السيارة، نفهم من دون شك أنه شئ خارجي منفصل تماماً عنا. الأمر نفسه ينطبق على المنازل والقوارب، وغيرها من الأشياء. ولكن خلافا لهذه الأشياء، على أي حال، فإن صحتنا ليست خارجية. فهي التي تجعلنا نقوم بوظائفنا، وتمكننا من أن نحيا حياة منتجة وذات مغزى. إنها تسمح لنا أن نكون ما نحن عليه. وليس من المعقول أن نتصور أن صحتنا على نحو ما هي خارجية بالنسبة لنا. هل يمكن بعد ذلك أن نتحدث عن صناعة التأمين الصحي بنفس الطريقة التي نتحدث بها عن صناعة تأمين الممتلكات؟
كيف يكون التأمين الصحي ممكناً؟ هنا يدخل ماركس.
من أجل فهم هذه المشكلة، أقترحُ أن نستخدم المفهوم الماركسي عن "الاغتراب". يستخدم كارل ماركس هذا المفهوم لفهم علاقة العمل مع ما ينتجه في مخطوطات عام 1844. هذا المفهوم مفيد لمساعدتنا على فهم كيف أن صحتنا تخضع لنفس عملية "التغريب" من أنفسنا في عملية جدلية تجعل الصحة، على حد سواء، ملكاً لنا ولكن في نفس الوقت ليست لنا. اسمحوا لي أن أشرح.
دعونا نتفق أولاً على أن العمل هو صنو الطبيعة البشرية. فنحن نُعرّف كبشر بالعمل الذي نقوم به. في الواقع، نحن عملنا، وأسماؤنا كثيراً ما تكشف ذلك. فنحن حدادون، بناؤون، صناع براميل خشبية، صناع أحذية، طحانون، الخ.
ومع ذلك، في الوقت الذي تدخل فيه هذه المنتجات دورة الشراء والبيع من أجل الربح، فإن العلاقة بيننا وبين هذه المنتجات تخضع لعملية تغيير جذري، تصبح شيئاً غريباً عنا وتتخذ حياة خاصة بها، منفصلة بالكامل عنا. ولأنها تكتسب قيمة، فإن العمال الذين قاموا بإنتاجها يرون أن ملكيتهم فيها تتقلص وفي الوقت نفسه يرون أن القيمة الخاصة بهم تتقلص بما يتناسب مع قيمة منتجاتهم. ووفقا لماركس: كلما زاد نشاط العامل كلما قلّ ما يملك. وما يتجسد في نتاج عمله لا يعود له. ولذلك، كلما كان المُنتج أكبر كلما تضاءل العامل.
هذا هو على وجه التحديد كيف تبدأ عملية "التغريب" إذ تصبح علاقة العامل مع نتاج عمله علاقة مع شئ غريب. "اغتراب" العامل عن نتاجه لا يعني فقط أن "عمله يصبح شيئاً، يتخذ وجوداً خارجياً، ولكن موجودا بشكل مستقل، خارج نفسه، وغريباً عنه، ويقف معارضاً له كقوة مستقلة."
ومع العمل الذي يقوم به العامل، كلما أزداد إنتاجه من خلال عمله، كلما ازداد اغتراب نشاطه عن نفسه. فعمله يصبح "سلعة" إذ يدخل في علاقة مختلفة جوهرياً، علاقة تجارية، علاقة تبادل، علاقة بيع وشراء." وهكذا فإن عملنا، الذي يحدد لنا ما هو طبيعتنا، يصبح مصدرا للربح، ليس بالنسبة لنا، ولكن بالنسبة لأولئك الذين يسيطرون عليه.
لقد أصبحت صحتنا سلعة لصناعة بأكملها.
عملية "استلاب العمل" هذه تساعدنا على فهم كيف أن صناعة التأمين الصحي تعمل اليوم. فصحتنا، التي تمكننا من العمل، تصبح مُستلبة منا. ونحن نقوم بالتأمين على صحتنا كما لو كانت شيئاً خارجياً تماما مثل سيارة، أو منزل، أو زورق.
النظام الذي تقوم عليه "صناعة" التأمين الصحي في أميركا اليوم هو التأمين على صحتنا طالما أنها منتجة. فصحتنا انتزعت منا، وتم تحويلها إلى شئ خارجي، وبفضل ذلك يتم تحقيق أرباح هائلة، ليس لنا ولكن لأولئك الذين يسيطرون على "الصناعة " فصحتنا قد "استلبت" منا حرفيا بعد خضوعها لعملية التحول من شيء متأصل فينا إلى مُنتج خارجي. الصحة التي يُؤمن عليها على أي حال ليست كامل صحتنا، الجيدة والسيئة، ولكن فقط ذلك الجزء الإنتاجي منها؛ فقط ذلك الجزء الذي يدر الربح؛ فقط ذلك الجزء الذي يُولّد الربح.
كلمة "صناعة" في حد ذاتها صائبة في وصف نظامنا التأميني الحالي. فتحت عنوان "الصناعة" نفترض أن هناك شئ ملموس، خارجي مُنتج من خلال العمل الإنساني الذي يكون قابلاً للتأمين. الكلمة نفسها تشيع فكرة أن صحتنا هي رأسمال، والغريب أن الرأسمال هذا ليس لنا ولكن بالأحرى رأس المال الذي من خلاله تصبح الصناعة نفسها أكثر ثراء وثراء. الكشف مؤخرا على المرتبات غير المعهودة للمديرين التنفيذيين لشركات التأمين يعكس ذلك. ونحن نشعر، بطريقة ما، في قرارة أنفسنا بأن هذا ليس صحيحا، فصحتنا ليست سلعة. وهذا هو السبب في أن هناك غضبا كبيراً على هذه المرتبات الباهظة.
وعليه فإن المشكلة في هذا النموذج هو أن صحتنا، كما يشير النموذج الماركسي عن "الاغتراب،" ربما يمكن التأمين عليها، ولكننا لسنا مُؤمَنين. فحالما نصبح غير قادرين على إنتاج هذا الكائن الخارجي المرغوب، صحتنا، لا نعود بعدها موضوعاً يمكن التأمين عليه. ولم لا؟ لأننا لم نعد مالكين لصحتنا. شركات التأمين هي المالكة لها. أي أولئك الذين يربحون من امتلاك صحتنا. وبالتالي، كلما كُنا أصحاء كلما تدنى امتلاكنا لصحتنا. هذا هو الديالكتيك الماركسي في التطبيق.
هل يمكن حقا أن تكون مغترباً عن صحتك؟
في رأيي، من السخف التفكير في أن صحتنا هي شيء يمكن أن يُستلب منا، وأن تُحوّلَ إلى سلعة من قبل صناعة بأكملها لتحقيق أرباح لهذه الصناعة. السلع موجودة فقط لتحقيق أرباح لأصحابها. ومع ذلك، فإن تأمين صحتنا ليس مثل تأمين سيارة، أو منزل، أو زورق. ليس هناك حجة في كون هذه الأشياء خارجية إذا خسرناها فإننا لا نموت. من ناحية أخرى، إذا فقدنا صحتنا والتأمين لأننا لم نعد أصحاء، فإننا نموت لمجرد أننا لا نمتلك القدرة على شراء ما يلزم من العناية.
لقد حان الوقت لإعادة النظر في بنية الرعاية الصحية. أولا وقبل كل شيء، نحن بحاجة إلى الابتعاد عن فكرة أن صحتنا شيء يمكن التأمين عليه من قبل "صناعة." فكرة أن صحتنا جزء من صناعة ما خطأ جوهري. "صناعة التأمين الصحي" في حد ذاتها تسمية خاطئة. الصحة ليست سلعة. لا يمكن ولا ينبغي أن تكون سلعة. يجب أن لا تستخدم صحتنا من أجل الربح.
نحن بحاجة لاستعادة ملكية صحتنا. فلنعمل على إدخال العناية/الرعاية في "الرعاية الصحية" بدلا من إعطائها "لصناعة." حياتنا تعتمد على ذلك.
لندن تموز 2010
________________________________________
نص ماركس حول الاغتراب في مخطوطات عام 1844
وكل هذه النتائج يحويها التعريف القائل ان العامل يرتبط بناتج عمله كما يرتبط بموضوع [بشئ] غريب، لأنه من الواضح بحكم هذه المقدمة أنه كلما أنفق العامل نفسه زادت قوة عالم الأشياء الغريب الذي يخلقه ليقف فوق وضد نفسه وأصبح – عالمه الداخلي –أكثر فقراً، وقلّ ما يعود إليه كشيء مملوك له. ... إن العامل يضع حياته في الموضوع [الشئ]، لكن حياته الآن لا تعود تنتمي له وإنما للموضوع. ومن هنا فكلما زاد نشاط العامل، زاد افتقاره إلى الموضوعات [الأشياء]. وأياً كان ناتج عمله، فإنه لا يعود مُنتجاً لنفسه. ومن هنا فكلما زاد هذا الإنتاج أصبح هو ذاته أقل كينونة. ولا يعني اغتراب العامل في ناتجه أن عمله قد أصبح موضوعاً (شيئاً) – وجوداً خارجياً – فحسب وإنما يعني أن الموضوع يوجد خارجه، مستقلاً عنه، كشيء غريب عنه، وأنه يصبح قوة في ذاته تواجهه، إنه يعني أن الحياة التي منحها للموضوع تواجهه كأمر مُعادٍ غريب.
All these consequences are implied in the statement that the worker is related to the product of labor as to an alien object. For on this premise it is clear that the more the worker spends himself, the more powerful becomes the alien world of objects which he creates over and against himself, the poorer he himself – his inner world – becomes, the less belongs to him as his own. It is the same in religion. The more man puts into God, the less he retains in himself. The worker puts his life into the object; but now his life no longer belongs to him but to the object. Hence, the greater this activity, the more the worker lacks objects. Whatever the product of his labor is, he is not. Therefore, the greater this product, the less is he himself. The alienation of the worker in his product means not only that his labor becomes an object, an external existence, but that it exists outside him, independently, as something alien to him, and that it becomes a power on its own confronting him. It means that the life which he has conferred on the object confronts him as something hostile and alien.
[1] نشرت هذه المقالة في الصحيفة الإلكترونية الأمريكية The Huffington Post تحت عنوان:
“Health Insurance Industry: How Karl Marx Can Help Us Understand the Health Care Crisis”
http://www.huffingtonpost.com/
بتاريخ 14 تشرين الأول/أكتوبر 2009. وهذا هو الرابط لها:
http://webcache.googleusercontent.com/search?q=cache:Y9pJCTmJsIAJ:www.huffingtonpost.com/yuna-shin/health-insurance-industry_b_318340.html+karl+marx+and+insurance&cd=2&hl=en&ct=clnk&gl=uk
يرد تعريف بكاتبة المقالة، يونا شين، في الصحيفة الإلكترونية كالآتي: أم، زوجة، ابنة، وصديق في كل وقت. وهي أيضا مُدرسة، ومتطوعة، كاتبة، وحالمة لبعض الوقت. بينما يوفر لها التدريس في الكلية المحلية المشاركة في الأمور الأكاديمية، فإن ممارسة اليوغا تُذكرها بانتظام بالبساطة والامتنان التي تحاول بهما ملء حياتها. تعتبر نفسها محظوظة لامتلاكها للتوازن بين الحياة الأسرية والعمل والسعي لتحقيق السعادة.
وقد تعرفنا على هذه المقالة أثناء بحثنا لموضوع مكانة التأمين في كتابات آدم سمث و كارل ماركس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق