إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2008/07/04

نظرات تاريخية في التأمين تأليف: إيرفنغ فيفّر و ديفيد كللوك ترجمة وتقديم: مصباح كمال مقدمة: موقع شريعة حمورابي في تاريخ التأمين
النص التالي، بعد هذه المقدمة، هو ترجمة للصفحات 3-6 من الجزء الأول المعنون نظرات تاريخية من كتاب: نظرات في التأمين Irving Pfeffer & David R. Klock, Perspectives on Insurance (Prentice-Hall, Inc, Englewood Cliffs, N.J., 1974) لقد أقدمنا على ترجمة هذا النص لأنه بين أيدينا، وفيه فائدة للتعرف على بواكير فكرة التأمين كما وردت في شريعة حمورابي، وللتذكير بالعمق الحضاري للعراق.* لسنا ندعي معرفة تاريخية وما نذكره في هذه المقدمة القصيرة ليس إلا إشارات أولية واقتباس لبعض النصوص المتوفرة لدينا دون الغوص في التحليل والتعليق.[1] لعل المتمرسين في البحث التاريخي لحضارة العراق القديم يقومون بدراسة الإرث القديم لإظهار جذور فكرة التأمين وخاصة في التعامل التجاري الخارجي الذي أنشأ الحاجة لأشكال أولية من إدارة الخطر توزيعاً وتحويلاً له من خلال المشاركة. لقد كان لنا اهتمام سابق بموضوع هذه المادة. ترجع معرفتي الأولية بالموضوع إلى أوائل سبعينات القرن الماضي عندما كنت أعمل في قسم التأمين الهندسي في شركة التأمين الوطنية. وقتها تعرفت على د. سليم الوردي، قسم التخطيط والمتابعة، ونشأت بيننا ألفة فكرية واهتماماً بالأشكال التي يمكن أن تتخذها آلية التأمين في التشكيلات الاقتصادية القديمة والحديثة. وكان الزميل الوردي يحدثني عن كاتب روسي، اسمه رايخر Raikher، تناول موضوع الأشكال الاجتماعية للتأمين في كتاب صدر بالروسية في أواسط أربعينيات القرن العشرين وكان يفكر بترجمته للعربية.[2] وقتها قرأت دراسة لزهير العطية في رسالة التأمين (مجلة المؤسسة العامة للتأمين، لا أتوفر على نسخة منها ولا أتذكر مضمون المعالجة) عن الأصول الأولية للتأمين في مسلة حمورابي بقيت فكرتها العامة عالقة في ذاكرتي[3] لم أكن آنذاك قد تعرفت على بعض العناصر الشعبية المرتبطة بآلية التأمين كالتخفيف من آثار ما يلحق الإنسان من أذى وأضرار مادية من خلال صندوق العشيرة. كما لم أتعرف على الصيغة التكافلية للتأمين، التي أخذت بالشيوع منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود، رغم أن هذه الصيغة كانت موضوعاً للتعليق عن مدى مشروعية التأمين التجاري في الشريعة الإسلامية. وكانت معرفتي بها لا تتجاوز ما يمكن إدراجه، مع شئ من التصرف، تحت عنوان التكافل الاجتماعي كالزكاة والصدقات والأوقاف والبر بالوالدين وكلها في رأي تجنح صوب تحقيق نمط من التوازن الاجتماعي والتخفيف من آثار التفاوت الطبقي بين الناس دون المساس بالبناء الاجتماعي. وهذه، كغيرها، ليست صيغ تأمينية خالصة تقوم على نظرية للاحتمالات واتفاق واضح بين طرفين متعاقدين وقسط لقاء الحماية المالية من آثار الأضرار التي تصيب الإنسان وأمواله رغم وجود صندوق مالي (واصطلاحاً صندوق أقساط التأمين) يستفاد منه في التعويض وتنظيم شبه مؤسسي (للنشاط التأميني) يقوم بإدارة عملية توزيع عبء الخسارة التي تلحق بالبعض على عدد أكبر من أعضاء الجماعة.[4] وهكذا فإن هذه الأشكال الأولية للتأمين، رغم غياب العناصر التي تنتظم التأمين التجاري، الرأسمالي، الحديث لم تكن إلا محاولات أولى لإدارة الخسارة والتعويض وتحويل عبء الخطر والتعاضد، وشكلت الخطوات الأولى في التطور اللاحق للتأمين كمؤسسة تجارية تقوم بوظيفة التعويض عن الأموال الهالكة وبالتالي تساهم في ديمومة الإنتاج. âââ نلاحظ في النصوص القديمة سيادة مبدأ القصاص لمن يتسبب بضرر أو خسارة تلحق بالغير لكننا لا نعدم استبداله بالتعويض المالي في بعض الحالات. ونلاحظ أيضاً إن معظم من يقتبس النصوص القديمة، الدنيوية والدينية منها، يركز على ما له علاقة بالشأن المادي ولا يرد لديهم ذكر تلك النصوص التي تمس جسم وحياة الإنسان ضمن منظومة العقوبات في غاية القسوة. لنستعرض بعضاً من هذه النصوص: "لا تشفق عينك نفس بنفس عين بعين سن بسن يد بيد رجل برجل." العهد القديم، سفر التثنية، الإصحاح 21:19 "وإن حصلت أذية تعطي نفسا بنفس وعينا بعين وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل وكيّا بكي وجرحا بجرح ورضّا برضّ." العهد القديم، سفر الخروج، الإصحاح 21: 23, 24, 25 وقد سبق ذلك القصاص قانون أورنامو (2111-2094 ق.م.) السومري إذ ورد في المادة الأولى منه: " .... إذا اقترف رجل جريمة قتل فإن ذلك الرجل يجب أن يقتل."[5] والنصوص الدينية هذه مستقاة من الشرائع العراقية القديمة ووجدت طريقها إلى الأديان التوحيدية الأخرى. قطعاً لم تؤسس هذه النصوص البدائية الفظيعة في أحكامها أشكالاً أولية من التأمين على الحوادث الشخصية إلا فيما ندر إذ نجد في القوانين العراقية القديمة بعض المواد عن مبدأ تعويض الأضرار البدنية بالمال بدلاً من العقاب البدني. كما نجد إشارة لتحمل المسؤولية نيابة عن الغير vicarious liability ففي قانون إشنونا يرد ما يلي: المادة السادسة والخمسون إذا كان (هناك) كلب مسعور، وأعلمت السلطات صاحبه بذلك، لكن هذا لم يحرس (ينتبه إلى) كلبه وعض (الكلب) إنساناً وسبَّبَ موته، فعلى صاحب الكلب أن يدفع ثلثي مينة فضة.[6] حكم هذه المادة ينصب على "كلب مسعور" (لاحظ مستوى التنظيم الدقيق في قيام السلطات بإعلام صاحب الكلب بأن كلبه مسعور) ولكن المبدأ الذي ينتظم هذه المادة ينطبق على المسؤولية المدنية (القانونية أو التعاقدية) المعاصرة لرب البيت عن أفراد أسرته، وعن حيواناته التي قد تسبب ضرراً للطرف الثالث، ومسؤولية رب العمل عن أفعال مستخدميه وآخرين عن وكلائهم ومن يتصرفون باسمهم ونيابة عنهم. ولعلنا نستطيع الكتابة عن هذا الموضوع في المستقبل. ونلاحظ هنا أن التعويض لا يقوم على القصاص من صاحب الكلب المسعور بل التعويض النقدي. âââ تتألف شريعة حمورابي من 282 مادة. لم يقتبس المؤلفان، الذي نترجم لهما، ما يكفي من موادها للتوسع في توضيح أهميتها في تشكيل العناصر البدائية لفكرة التأمين خاصة وأنها أكثر ثراءً من نصوص العهد القديم الفقيرة من هذه الناحية وتميل إلى الجانب الديني والعلاقة الضيقة بين العبرانيين والأقوام الأخرى. إضافة إلى أن هذه النصوص العبرية تالية لشريعة حمورابي. وكما يؤكد الباحثون فإن بعضاً من مفردات العهد القديم مأخوذة من هذه وغيرها من الشرائع القديمة في العراق. اقتصر المؤلفان، في تجاوز أهمية شريعة حمورابي، على القول: "ويمكن إرجاع أصول بعض أشكال القرض البحري، أو التأمين البحري، لشريعة حمورابي أيضاً." ونقتبس فيما يلي بعض مواد شريعة حمورابي ذات العلاقة بتطور مؤسسة التأمين في جانبه البحري وغير البحري لإكمال ما أهمله المؤلفان دون إضافة تعليقات عليها. المادة مائة واثنتان إذا أعطى تاجر فضة إلى بائع متجول كسلفة للتجارة بدون فائدة، وتعرض حيثما ذهب للخسارة، يجب عليه أن يعيد رأس المال فقط إلى التاجر. المادة مائتان واثنتان وثلاثون إذا أتلف ممتلكات (حاجات وأشياء) فعليه (أي البنّاء) أن يعوض كل ما أتلف ولأن البيت الذي لم يكن محكماً وسقط، عليه أن يبني البيت المتهدم على حسابه الخاص. المادة مائتان وثلاث وثلاثون إذا بنى بنّاء بيتاً ولم ينفذ عمله بإتقان وتصدع الجدار، فعلى هذا البنّاء أن يدعم الجدار على حسابه الخاص. المادة مائتان وسبع وثلاثون إذا استأجر إنسان ملاحاً وسفينة وحمّلها حبوباً أو صوفاً أو زيتاً أو بلحاً أو أي حمولة أخرى، وأغرق هذا الملاح السفينة نتيجة الإهمال، وضاع ما عليها، فعلى الملاح أن يعوض السفينة التي أغرقها مع كل ما كان عليها وفقد. المادة مائتان وأربعون إذا صدمت سفينة ذات مجاديف (سفينة تبحر مع التيار) سفينة شراعية (سفينة تبحر عكس التيار) وأغرقتها، فعلى صاحب السفينة الذي سفينته غرقت أن يذكر أمام الإله كل ما فقد في سفينته، وعلى صاحب السفينة ذات المجاديف (سفينة تبحر مع التيار) الذي أغرق السفينة الشراعية (سفينة تبحر عكس التيار) أن يعوضه سفينة وكل ما فقد. âââ يعتبر عقد القرض البحري bottomry أول صيغة للتأمين البحري، وهو أقدم أنواع التأمين. وبموجب هذا العقد، في أحد صوره، يتحمل المدين (ربان السفينة أو صاحب السفينة الناقلة للبضائع) مسؤولية تسديد الدين والفائدة في حالة وصول البضائع المشحونة سليمة إلى المكان المتفق عليه. وإن غرقت السفينة أو تعرضت للقرصنة وهلكت وما عليها من بضائع فإن المدين لن يكون مطالباً بإرجاع قيمة القرض أو الفائدة المتفقة عليها مع ربان السفينة أو صاحبها. والقرض البحري بهذه الصفة هو اتفاق بين طرفين يقوم على المجازفة (وفيها عنصر الاحتمال بالتعرض لخسارة أو عدمها) وعلى تحويل عبء المجازفة (عبء الخطر) من طرف إلى آخر لقاء فائدة (قسط التأمين)، إذ يقوم أحد الطرفين بتمويل رحلة تجاريــــــــــة بحرية في شكل قرض بضمان السفينة bottom أو البضاعة cargo (وعندها يعرف العقد باسم respondentia) أو كليهما bottomry bond ، فإذا انتهت الرحلة البحرية بسلام استرد الدائن قيمة القرض مع الفائدة المحددة قبل قيام الرحلة وإن فشل ربان السفينة بسداد الدين في الموعد المحدد له فإن سفينته تصادر كسداد للدين.[7] وقبل شريعة حمورابي كان هناك قانون ليبيت عشتار (1934-1924 ق.م.)، الذي تناول بعض مخاطر التجارة والنقل. فقد جاء في المادة الخامسة: إذا استلم رجل سفينة وحُددت له المسافة المتفق على قطعها، لكن الملاّح غيرَّ الطريق وسُرقت السفينة، فعلى الذي استلم السفينة أن يدفع تعويضاً عنها."[8] وكان هناك قانون إشنونا الذي دوّن في عهد الملك دادوشا (نحو 1800 ق.م.)[9]نقتبس منها الآتي والذي يتناول الفعل البشري (الإهمال) المؤدي إلى الخسارة وليس أعمال القوة القاهرة: المادة الخامسة إذا أغرق الملاح السفينة نتيجة الإهمال، فعليه أن يدفع كل ما أغرق كاملاً. المادة السادسة إذا استولى إنسان بطريقة غير شرعية على سفينة ليست له فعليه أن يدفع 10 شيقيل فضة. ومن باب التوسع نقتبس مادتين من قانون إشنونا لهما علاقة بالضرر المادي الذي يستوجب التعويض: المادة السادسة والثلاثون إذا أعطى رجل ماله (حرفياً: أملاكه) كأمانة إلى (رجل) موثوق، وعلى الرغم من أن البيت (بيت الرجل الموثوق) لم يُقتحم والباب لم يُخلع والنافذة لم تُكسر، فُقد المال الذي أعطاه إياه (الرجل)، فعليه أن يعوَّضه عن ماله. المادة السابعة والثلاثون إذا نهب (سُرق) بيت الرجل، وفقد صاحب البيت شيئاً من أمواله مع المال المودَع الذي أعطاه إياه، فعلى صاحب البيت أن يقسم له بالإله عند بوابة معبد تيشباك (قائلاً): "مع مالك فقدت أمولاً أيضاً، لم أقترف غشاً أو كذباً" هكذا يجب أن يحلف له، بعد ذلك ليس لهذا أية مطالب عليه. âââ ختاماً لهذه المقدمة نورد ترجمة لأطروحة د. ترينيري Trenerry عن عقد القرض البحري. يقول في تلخيصه لنظريته ما يلي: "1 إن صيغة العقد للقرض يعود إلى ما قبل 2250 ق.م. أنشأها البابليون اللذين قاموا بتطويرها اعتماداً على عرف تجاري شبيه لما يعرف بالـ Commenda of Islam [اتفاق تجاري كالقراض والمضاربة تشبه شركة التضامن]. 2 إن البابليين ومن خلال تجارتهم عرّفوا الفينيقيين والهندوس على العقد، وقام هؤلاء بتغيير وتحوير العقد ليتماشى مع متطلباتهم. 3 إن الفينيقيين نقلوا العقد المحور من قبلهم إلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط شاملاً الإغريق والروديين وغيرهم ... 4 إن الرومان اكتسبوا معرفتهم بالعقد من الإغريق أو، وهذا احتمال ضعيف، من الروديين. 5 إن العقد كما كان معروفاً ومستعملاً في العصور الوسطى قد جاء أساساً كمحصلة للعقد في صيغته الرومانية لكن مصدره في آخر الأمر يعود للبابليين."[10] إن فكرة التعويض أو الضمان أو المشاركة في الخطر بحد ذاتها، كما ترد في شريعة حمورابي أو الكتب الدينية، ما هي إلا محاولات بدائية تضم عناصر تطورت فيما بعد لتشكّل آلية التأمين ويجب أن تقرأ في هذا السياق دون أن تُحمّل بما ليس فيها. ونعني بذلك الهوس الإيديولوجي في اكتشاف المؤسسات الحديثة في العالم القديم كمؤسسة التأمين والسوق والرأسمالية ..الخ. شريعة حمورابي تحتل مكانة مميزة في تاريخ التشريعات القانونية لشموليتها ووضوح الأحكام الواردة فيها، وهي تستحق مزيداً من الدراسة لإغناء تواصل العراقيين بجذورهم الحضارية والوقوف على سبق البابليين القدماء في إدخال قواعد معينة لإدارة العلاقات بين الناس وصارت تشكّل مع مرور الزمن أحد مصادر ابتداع آلية التأمين. نأمل أن يقوم زملاؤنا المعنيين بهذا الدرس. مصباح كمال 4 تموز 2008
النص المترجم: نظرات تاريخية في التأمين بواكير تاريخ التأمين ارتبط تطور التأمين مع بداية التاريخ الاقتصادي كآلية لتقليل الخوف والقلق الذي يلازم الناس في حياتهم المليئة بعدم التأكد. ورغم أن الآلية كانت تفتقر للنقاء الذي يتصف به التأمين المعاصر فإن المشاركة في الخطر وآليات تحويله موجودة في كل الحضارات القديمة. فقد تنبه الناس إلى الحاجة للتخفيف من وطأة الأخطار في حياتهم اليومية وتقليص عدم التأكد من المجهول بهدف تعظيم الأمان لأنفسهم. إن كل الحضارات التي درستها العلوم الاجتماعية ابتدعت آلية للتأمين بشكل أو آخر. فكلما كان القلق حاضراً في الشأن الاقتصادي ظهر التأمين كوسيلة لتحرير الفرد من بعض نتائج المثبطات أو الفوضى الاقتصادية. فكرة التأمين يبحث المؤرخ عن تعريف للتأمين يتصف بعمومية ليشمل الممارسات المؤسسية المختلفة في أكثر من مكان. واعتماداً على ذلك يكون التعريف العام التالي مناسباً: التأمين آلية لتخفيض عدم التأكد لدى طرف، يسمى المؤمن له، من خلال تحويل أخطار معينة لطرف آخر، يسمى المؤمِن [بكسر الجيم]، الذي يوفر استرداداً، جزئياً على الأقل، للخسائر الاقتصادية التي تعرض لها المؤمن له.[11] المفاهيم الأساسية في هذا التعريف هي: "تخفيض عدم التأكد" وهو إنقاص قلق المؤمن له الفرد؛ "تحويل أخطار معينة" الذي يدل ضمناً على عدم قابلية تحويل جميع مصادر الخسارة؛ "استرداد الخسائر الاقتصادية" يعني أن كل أنواع الخسائر التي يتعرض لها المؤمن الفرد ليست قابلة للتعويض، فليس هناك مؤمن يستطيع أن يأمل باستعادة حب من رحل عن الدنيا أو استعادة القيمة الجمالية لعمل فني أصيل. كل ما يأمله المؤمن هو التعويض الجزئي للخسارة الاقتصادية. هذا هو كل ما يقوم به التأمين اليوم، وهو كل ما يستطيع التأمين القيام به تقريباً.[12] ولادة التأمين تخبرنا الأساطير أن التجار الصينيين الذين كانوا يسيّرون رحلاتهم في نهر يانغتزي الغادر كانوا يوزعون شحن بضائعهم على قوارب مختلفة بدلاً من حصرها في قارب واحد. وهكذا فإن القارب الواحد كان يحمل بضائع تعود لأكثر من تاجر. فإذا أنقلب القارب فإن خسارة كل تاجر كانت محددة بجزء صغير من مجمل بضاعته. ويفترض هنا أن قانون المعدل law of average يلعب دوره في الحفاظ على القسم الأعظم من البضائع المشحونة بهذه الطريقة. النسخة العربية لهذه الحكاية تتعلق بالقوافل التي تجوب الصحراء وتقع ضحية لقطاع الطرق واللصوص والقراصنة. فمن خلال توزيع بضاعته على عدة قوافل وبين أكثر من جمل في القافلة الواحدة يمكن للتاجر أن يكون متأكداً بما يكفي إن وقعت مصيبة وذلك لأن جزءاً يسيراً من بضاعته تتعرض للخسارة. وفي نسخة أخرى من هذه الحكاية تكون الإشارة إلى الإبحار قرب الشواطئ في آسيا الوسطى حيث كانت الخسائر الناتجة عن أعمال القرصنة أو الأنواء البحرية تقلل بنفس الطريقة – أي توزيع البضاعة. ربما كان أول ذكر لمفهوم التحويل التأميني هو ذلك المتعلق بالضمان suretyship إذ يقوم طرف بضمان أداء العقود من قبل طرف آخر. ويضم العهد القديم العديد من الملاحظات عن ممارسة مثل هذا الضمان. يَا ابْنِي، إِنْ ضَمِنْتَ صَاحِبَكَ، إِنْ صَفَّقْتَ كَفَّكَ لِغَرِيبٍ، إِنْ عَلِقْتَ فِي كَلاَمِ فَمِكَ، إِنْ أُخِذْتَ بِكَلاَمِ فِيكَ، إِذًا فَافْعَلْ هذَا يَا ابْنِي، وَنَجِّ نَفْسَكَ إِذَا صِرْتَ فِي يَدِ صَاحِبِكَ، اذْهَبْ تَرَامَ وَأَلِحَّ عَلَى صَاحِبِكَ. ضَرَرًا يُضَرُّ مَنْ يَضْمَنُ غَرِيبًا، وَمَنْ يُبْغِضُ صَفْقَ الأَيْدِي مُطْمَئِنٌّ. اَلإِنْسَانُ النَّاقِصُ الْفَهْمِ يَصْفِقُ كَفًّا وَيَضْمَنُ صَاحِبَهُ ضَمَانًا. خُذْ ثَوْبَهُ لأَنَّهُ ضَمِنَ غَرِيبًا، وَلأَجْلِ الأَجَانِبِ ارْتَهِنْ مِنْهُ. لاَ تَكُنْ مِنْ صَافِقِي الْكَفِّ، وَلاَ مِنْ ضَامِنِي الدُّيُونِ. كُنْ ضَامِنِي عِنْدَ نَفْسِكَ. مَنْ هُوَ الَّذِي يُصَفِّقُ يَدِي؟ قد أفسد الضمان العديد من أصحاب الأموال وهزهم كموج البحر؛ وأخرج العظام من الرجال من بيوتهم وانتهوا يجوبون في أراضي غريبة. [13] اتخذت أقدم العقود التأمينية، في معناها الاصطلاحي، شكل ترتيبات قانونية، قبل قرون عديدة من التاريخ الميلادي، تضمنت عناصر لما أصبح يعرف فيما بعد بالتأمين الاجتماعي والتأمين البحري. والدليل الرئيسي لهذه الرؤية هو شريعة حمورابي (حوالي 1750-1750 ق.م.) التي نصت:[14] المادة الثالثة والعشرون إذا لم يُضبط السارق يذكر الرجل المسروق أشيائه المفقودة أمام الإله، ويجب على المدينة والوالي، الذي حدثت السرقة في أرضهم ومنطقتهم، أن يعوضوه عن مسروقاته.[15] إن أحكام "التأمين" في القوانين البابلية تستحق اهتماماً خاصاً من مؤرخي التأمين. والأحكام ذات العلاقة هي: المادة الرابعة والعشرون إذا (كانت هناك) ضحية (حرفياً: نفس – حياة) فيجب على المدينة والوالي أم يدفعا إلى أهلها (أهل الضحية) مينة واحدة من الفضة. المادة الخامسة والعشرون إذا شبت نار في بيت إنسان، وذهب إنسان للإطفاء، ورفع عينيه على أغراض صاحب البيت، وأخذ أغراض صاحب البيت، (فإن) هذا الإنسان يُلقى في هذه النار. المادة الخامسة والأربعون إذا أعطى إنسان حقله مقابل أجرة إلى مزارع (حرفياً: حارث)، واستلم أجرة حقله. فيما بعد أغرق أدد[16] الحقل أو أخذه فيضان فالخسارة يتحملها المزارع. المادة الثامنة والأربعون إذا كان على إنسان دين، وأغرق أدد حقله أو أخذه فيضان، أو بسبب عدم وجود الماء لم تنبت حبوب في الحقل، فإنه في هذه السنة لا يسدد دائنه حبوباً، وتغير وثيقته (حرفياً تطرى لتغييرها كونها مصنوعة من الطين)، ولا يدفع فائدة عن هذه السنة. المادة مائة وسبعة عشرة إذا تراكمت ديون على إنسان (ما)، وأعطى زوجته أو ابنه أو ابنته مقابل الفضة (أي الدين) أو أعطاهم إلى عبودية الدين (أي وضعهم تحت تصرف دائنه)، فعليهم أن يعملوا في بيت مشتريهم أو مستعبدهم مدة ثلاث سنوات، وفي السنة الرابعة يجب أن يطلق سراحهم. المادة مائة وخمسة وعشرون إذا أعطى إنسان شيئاً ما للحفظ، وحيث أعطى، نتيجة ثغرة (في البيت) أو تسلق (جدار) فقُد الشيء مع شيء يعود إلى صاحب البيت، فعلى صاحب البيت الذي أهمل، وجعل ما أُعطي إليه للحفظ يضيع، أن يعوض صاحب الشيء الخسارة كاملة، وعلى صاحب البيت أن يبحث عما فقده ويأخذه من سارقه.[17] ويمكن إرجاع أصول بعض أشكال القرض البحري bottomry loan، أو التأمين البحري، لشريعة حمورابي أيضاً. * الهوامش الهوامش المطبوعة باللون الأزرق من وضع المترجم. [1] للتعريف بشريعة حمورابي راجع: قانون حمورابي (مشروع كتاب)، إعداد وتجميع د.إسراء جاسم العمران. يمكن قراءة هذه الدراسة باستخدام الرابط التالي: http://www.ao-academy.org/docs/hamorabi%20law.doc [2] أثناء دراستي لنيل الماجستير في لندن (1977-1978) تعرفت على عنوان الكتاب V. K. Raikher, Obshchestvenno-istoricheskie tipy strakhovania (Social Types of Insurance in History), Moscow – Leningrad, 1947. وملخصاً لأفكار مؤلفه في كتاب: Bernard Rudden, Soviet Insurance Law (Leyden: A. W. Sijthoff, 1966) [3] عندما كنت طالباً للماجستير تعرفت على كتاب عن الأصول التاريخية للتأمين في كتاب كان أصلاً أطروحة للدكتوراه:C. F. Trenerry, The Origin and Early History of Insurance (London: P. S. King & Son, 1926) يعرض المؤلف في الفصول الأولى منه بعض الأشكال الأولية للنشاط التأميني المتمثل بتحويل عبء الخطر من طرف إلى آخر ويكرس جزءاً من أطروحته لعقد القرض البحري في العراق القديم. وتعرفت فيما بعد على نصوص شريعة حمورابي بشكل أفضل في كتاب قوانين بلاد ما بين النهرين، تعريب: عيد مرعي (دمشق: دار الينابيع، 1995). [4] هذه المقاطع مستلة بتصرف من ورقة غير منشورة كتبتها عن تجربتي في شركة التأمين الوطنية 1968-1977. [5] عيد مرعي، مرجع سابق، ص 16. [6] مرعي، مصدر سابق، ص 43. [7] تعرف دائرة المعارف البريطانية (طبعة سنة 1911) عقد القرض البحري كما يلي: “BOTTOMRY, a maritime contract by which a ship (or bottom) is hypothecated in security for money borrowed for expenses incurred in the course of her voyage, under the condition that if she arrive at her destination the ship shall be liable for repayment of the loan, together with such premium thereon as may have been agreed for; but that if the ship be lost, the lender shall have no claim against the borrower either for the sum advanced or for the premium . The freight may be pledged as well as the ship, and, if necessary, the cargo also . In some cases the personal obligation of the shipmaster is also included . When money is borrowed on the security of the cargo alone, it is said to be taken up at respondentia; but it is now only in rare and exceptional cases that it could be competent to the shipmaster to pledge the cargo, except under a general bottomry obligation, along with the ship and freight . In consideration of the risks assumed by the lender, the bottomry premium (sometimes termed maritime interest) is usually high, varying of course with the nature of the risk and the difficulty of procuring funds.” http://encyclopedia.jrank.org/BOS_BRI/BOTTOMRY.html للمزيد من الشرح والتوثيق راجع: C. F. Trenerry, The Origin and Early History of Insurance including the Contract of Bottomry (London: P. S. King & Son, 1926) الذي يقتبس التعريف أعلاه في ص 45 من كتابه. [8] عيد مرعي، مصدر سابق، ص 25. ويعلق د. مرعي على قانون ليبيت عشتار بالقول: "ويقوم قانون ليبيت عشتار على مبدأ تعويض الخسارة بالمال، وليس كقانون حمورابي على مبدأ العين بالعين والسن بالسن. وعقوبة الموت التي ترد كثيراً في قانون حمورابي لا تذكرها المواد المكتشفة من قانون ليبيت عشتار." ص 23. [9] كل هذه المعلومات والنصوص مستقاة من مرعي، مصدر سابق، ص 34. [10] Trennery، مصدر سابق، ص 46. [11] Irving Pfeffer, Insurance and Economic Theory (Homewood, Ill.: Richard D. Irwin, Inc., 1956), p 53. [12] يختلف باحثو التأمين في تحديد أصول مؤسسة التأمين اعتماداً على التعريفات التي يستخدموها. فالبعض يعتبر وجود "عقود التأمين" أساسياً، ويجادل آخرون بأهمية "العلوم الإكتوارية" أو ابتداع "قانون الأعداد الكبيرة" وكونها أساسية. فكرة التحويل مشتركة في معظم تعريفات التأمين. للإطلاع على مناقشة مستفيضة لهذا الموضوع راجع Pfeffer ، مصدر سابق، ص 12 وما بعدها، وكذلك: Herbert S. Denenberg “The Legal Definition of Insurance,” The Journal of Insurance, Vol. 30, No. 3 (Se[t. 1963), pp 319ff. [13] العهد القديم، الأمثال،6: 1-2؛ 11: 15؛ 17: 18؛ 20: 16. العهد القديم، أيوب، 17: 3. العهد القديم، الجامعة، 29: 18 الترجمة العربية لنصوص الكتاب المقدس مقتبسة من الإنترنيت باستثناء النص المقتبس من سفر الجامعة، 29: 18 الذي لم نستطع الوصول إليه ولم نجده في النسخة العربية المطبوعة من الكتاب المقدس (نسخة جمعيات الكتاب المقدس المتحدة، 1966) وقمنا بترجمته. لا ترقى هذه الإشارات إلى مستوى التشريع الذي نجده في شريعة حمورابي حتى أن كتاباً مكرساً للموقف من التأمين لدى الأحبار لا يعتمد على مثل هذه النصوص ولا يذكر الكتاب المقدس عند عرض الخلفيات اليهودية وغير اليهودية للتأمين. راجع: S, M. Passmaneck, Insurance in Rabbinic Law (Edinburgh: Edinburgh University Press, 1974), pp 1-32. وفكرة الضمان والرهن موجودة أيضاً في قوانين العصر الآشوري الوسيط (1363-973 ق.م.). أنظر: مرعي، مصدر سابق، المادة الثالثة والمادة الرابعة والمادة السابعة، ص 133 و 134. [14] اقتبسنا الترجمة العربية لهذه النصوص من عيد مرعي، قوانين بلاد ما بين النهرين (دمشق: دار الينابيع، 1995). [15] C.H.W. Johns, Babylonia and Assyrian Laws, Contracts and Letters (New York: Charles Scribner’s Sons, 1904), p. 5. يحدد معظم الكتاب تاريخ شريعة حمورابي حوالي 2250 قبل الميلاد بحسب ما ذكره C.H.W. Johns، مصدر سابق. ويختلف علماء الآثار بشأن تحديد تاريخ دقيق إلا أن إحدى المدارس الرئيسية المعاصرة تحدد تاريخ حكم حمورابي قبل 2067-2025 قبل الميلاد. أنظر G.R.Driver and John C. Miles, The Babylonian Laws, Vol. 1 (London: Oxford University Press, 1952) pp. xxiv-xxvi; W.F.Leemans, Foreign Trade in the Old Babylonian Period (Leiden, Holland: E.J.Brill, 1960) p. 3 الذي يعتمد الفترة 1792-1750 قبل الميلاد كتاريخ لحكم حمورابي. شريعة حمورابي محفورة في مسلة من الحجر البركاني الأسود بارتفاع 2.25 متر ويستدق طرفها من 1.95 متر إلى 1.65 متر في محيطه. وقد وجدها دي مورغان De Morgan [1857-1924] في سوسة، بيرسيبولس القديمة، في ديسمبر 1901 و يناير 1902 متناثرة وتم تجميعها بعدئذ. وقامت وزارة التعليم الفرنسية بنشر بصماتها ككليشيهات في الجزء الرابع من Mèmores de la Dèlègation en Perse. وتضم المسلة خمس وأربعون عموداً وحوالي ثلاثة آلاف وستمائة خط. [16] أدد (بالأكادية) وإشكور (بالسومرية) وهدد (بالآرامية): إله المطر والريح والعاصفة، سلاحه البرق والرعد. شاعت عبادته ليس فقط في بلاد الرافدين بل في سورية أيضاً. من مراكز عبادته المشهورة آشور وحلب. راجع: عيد مرعي، مصدر سابق. [17] Johns, op. cit, Ch. 11.