تعليق قصير على مقالة منذر الأسود: شركات التأمين العراقية إلى أين؟
مصباح كمال
نشر الزميل المحامي منذر عباس الأسود في مدونة التأمين العراقي دراسة بعنوان "شركات التأمين العراقية إلى أين؟" http://misbahkamal.blogspot.com/2008_06_01_archive.html تناول فيها:
· اشتداد المنافسة بين الشركات.
· لجوء المؤمن لهم من الشركات والأفراد للتأمين خارج العراق.
· عدم طلب الوزارات والمؤسسات الرسمية من المتعاقدين معها التأمين لدى شركات تأمين عراقية.
وأشار إلى أن ما سهّل قيام هذه الأوضاع هو قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 "حيث أعطى الحرية للجهات أعلاه بإجراء التأمين لدى الشركات الأجنبية."
ثم أتى على ذكر ما قدمته شركات التأمين أوجَزَها بما يلي:
أدى ازدياد عدد الشركات إلى توفير الفرص لطالبي التأمين الحصول على أغطية تأمينية أفضل وبأسعار أفضل، وانخفاض الأسعار عموماً. وسجل تحفظه على هذا الوضع الذي من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف الشركات وتضعضع السوق. وفي تقييمه هذا ميَّز بين الشركات القديمة ذات الملاءة المالية الجيدة والخبرات والشركات الجديدة.
وكرّسَ القسم الأخير من مقالته لاحتمال دخول شركات التأمين الأجنبية، ودعى إلى اتخاذ جملة تدابير لصالح السوق (تكوين المجمعات، رفع مستوى الوعي التأميني، توسيع العلاقات مع الأسواق العربية والعالمية، دراسة مواطن الضعف، رفع كفاءة الأداء، تطوير تسويق المنتجات التأمينية، تقوية القاعدة المالية للشركات). واختتم بالقول: "إن الانفتاح قادم وسيكون البقاء للأفضل والأشطر."
ليس بالإمكان رسم توجهات سوق التأمين العراقي والكيانات العاملة فيه في المدى البعيد (فترة التحولات الكبرى من نظام اقتصادي-اجتماعي إلى آخر) أو المتوسط (فترة التنازع والاختلاف على المشروعات البديلة التي قد تمتد لعقد أو أكثر). وما ذكره الزميل الأسود وما سنأتي على ذكره في هذه المقالة يقتصر على المدى القصير (الفترة التي نعيش فيها ونجابه فيها متطلبات الواقع ونعمل على تغييره التدريجي السلمي).[1] التنبوء بالمستقبل البعيد ليس في متناول اليد لكن ذلك لا يمنع من رسم السياسات للمدى القصير. رسم السياسات يحتاج إلى رصد وتحليل أعمق وأوسع ومشاركة أكبر في مناقشة ما هو قائم من أطر قانونية وكيانات ومؤسسات عاملة ضمن النظام الاقتصادي السياسي. العرض والجواب الذي قدمه الزميل الأسود، وأعلق عليه هنا، ما هو إلا محاولة أولى في رصد الوقع القائم وتقديم توصيات وتمنيات بغية تجاوز سلبياته ووضعه في مسار أفضل، وهو، بالنسبة لنا، مسار بناء السوق الوطنية المشتركة للتأمين.
لقد أثار الزميل الأسود سؤالاً جوهرياًً يستحق منا جميعاً الشكر. وكنا نتوقع أن "يشتبك" مع سؤاله زملاء المهنة في العراق ومن موقف نقدي. وقد خاب توقعنا وها نحن ندلي برأي مع التحفظ إذ أننا لا نتعايش مع الواقع اليومي للنشاط التأميني. وغربتنا تحتم علينا قراءة الأوضاع عن بعد والاقتصار في معظم الأحيان على المقترب التصوري.
لقد عالجنا بعضاً من الأفكار التي تقدم بها الكاتب، قبل أن ينشر مقالته، في مقالات سابقة كموضوع لجوء المؤمن لهم من الشركات والأفراد للتأمين خارج العراق، وعدم طلب الوزارات والمؤسسات الرسمية من المتعاقدين معها التأمين لدى شركات تأمين عراقية. كما قمنا بتحليل قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 عندما كان مسودة مكتوبة باللغة الإنجليزية وفي صيغته النهائية غير مرة. ولسنا هنا بصدد استعادة ما كتبناه بقدر ما يهمنا الإشارة إلى بعض الفجوات في تغطيته لسؤاله الكبير. وللقارئ أن يرجع إلى مقالتنا "جدول أعمال: مسح سريع لبعض قضايا وهموم السوق العراقي للتأمين" المنشورة في هذه المدونة التي ترتبط بمقالة الزميل الأسود في بعض موضوعاتها. http://misbahkamal.blogspot.com/2008_04_01_archive.html
صحيح أن عنوان مقالة زميلنا يشير إلى مآل شركات التأمين إلا أن متنها ينصبّ على حالة سوق التأمين العراقي والممارسات الجارية فيه. كان من المفيد، استكمالاً للعرض الذي قدمه الكاتب، الإشارة لدور جمعية شركات التأمين وإعادة التأمين العراقية كما هو عليه الآن وكما يرجى له في المستقبل بعد إطلاق أرصدته المحتجزة من قبل الحكومة. تمثل الجمعية، في نظرنا، الوعي الجمعي والمصالح المشتركة للكيانات التأمينية في السوق. وهي المنبر الذي يجب أن يتولى تمثيل هذه المصالح أمام الحكومة ومؤسسات الدولة وليس مجرد تنظيم العلاقة مع ديوان التأمين العراقي. ويقع على عاتقها، في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ التأمين في العراق، مَهمة إعادة النظر بقانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 والضغط باتجاه تغيير أحكامه الضارة بمصالح الشركات العراقية وقطاع التأمين عموماً الآن وفي المستقبل المنظور.
وفي رأينا، فإن الجواب الرئيسي على سؤال الأسود يجد ضالته في ممارسة النقد الصارم لقانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 الذي وضع أصلاً لخدمة مصالح أجنبية وهو ما أبرزناه في أكثر من دراسة. نحن على يقين بأن أركان التأمين في السوق واعون لهذا الأمر ويعملون، ضمن المستطاع، على إعادة النظر بالبنود الضارة لهذا القانون، وإدخال بنود جديدة كالنص على تأمين الأصول والمسؤوليات العراقية لدى شركات تأمين مسجلة لدى ديوان التأمين العراقي.
وكان من المناسب أن يقف الكاتب عند ديوان التأمين العراقي للتأمل بدوره الحالي، فحضوره ضعيف رغم الجهد الذي يبذله كادره الصغير جداً. ترى من يقف وراء هذا الضعف؟ أهي وزارة المالية؟ لم ينل الديوان ما يستحقه من الدراسة للارتقاء بأدائه ودوره الرقابي وآمل أن يأخذ أحدنا على عاتقه معالجة هذا الموضوع في دراسة مستقلة.
ولن تكتمل الصورة عن بنية السوق دون الانتباه إلى دور شركة إعادة التأمين العراقية في الوقت الحاضر ودوره ومصيره في المستقبل القريب. لا علم لنا بالصعوبات التي تواجهها الشركة فيما يخص كوادرها الفنية ومؤهلات العاملين فيها ولا ما هو مخطط لها. وما كتبنا بشأنها في السابق لم يلق عناية كفاية وهو مصير معظم ما يُكتب. نحن مقتنعون بأهمية الدور الذي يمكن أن تضطلع بها الشركة متى ما توفرت لها الموارد المادية والبشرية ووضعت خطة لعملها للسنوات القادمة. من يا ترى سينهض بإذكاء النقاش عن شركة إعادة التأمين العراقية؟
موازنة العلاقة بين الشركات العامة والخاصة مسألة تعود لهذه الشركات إذ أن قانون تنظيم أعمال التأمين لا يفرق بينها. فلا يرد في القانون ما يوفر امتيازاً للشركات العامة في التعاطي مع تأمين الأعمال الحكومية مثلاً لا بل أن القانون يطلب مثل هذا التأمين عن طريق المناقصة. القدرات المالية والموارد الفنية المتوفرة لدى الشركات العامة تجعلها في موقف متميز مما يدفع بعض المؤسسات إلى حصر التعامل معها، وهذا لن يكون بالطبع لصالح أي من الشركات الخاصة. لذلك قد يكون من المناسب تنسيق وتجميع طاقات كل الشركات والاتفاق على شركة واحدة، بعد رسّو أمر التأمين عليها، لتكون القائدة مع مشاركة من الشركات الأخرى. مثل هذا الاتفاق يساهم في تعزيز الموارد المالية للشركات كما يوفر في الوقت نفسه قدرة استيعابية أفضل للشركات.
شركات التأمين كافة بضمنها شركة إعادة التأمين العراقية مدعوة لوضع برنامج زمني ينصب، بين أمور أخرى، على مراجعة رأس المال وبناء الكوادر الفنية كي تستطيع النهوض بالمهام الاكتتابية الكبيرة المتوقعة منها ومواجهة منافسة الشركات الأجنبية التي ستدخل السوق العراقي بفضل قانون تنظيم أعمال التأمين وعدم التفات الحكومة لاحتضان مصالح شركات التأمين العراقية وهذه مسألة تستحق وقفة خاصة.
في غياب برنامج واضح للارتقاء برأسمالها ومواردها الفنية والحماية الإعادية المتينة لمحافظها هناك خشية في أن تتحول شركات التأمين العراقية إلى "دكاكين" تبيع "خردة" التأمين وتقوم الشركات الأجنبية باصطفاء الأعمال الجيدة والكبيرة. لقد ساهم توفر السيولة النقدية وضعف فرص الاستثمار الصناعي في ظل الوضع الأمني الهش في ظهور ميل لدى بعض الأسر والبيوتات التجارية إلى تأسيس شركات تأمين خاصة بها تعتاش من الاكتتاب بأعمالها وتمول عملياتها من فوائد ودائعها المصرفية. لا يؤشر هذا الوضع على إمكانية قيام سوق وشركات قوية للتأمين.
وفي موازاة ذلك يجب العمل على توسيع دائرة التنسيق لتشمل إقليم كوردستان العراق كي يصار إلى تأسيس السوق الوطنية المشتركة ضمن النظام الفيدرالي الجديد قيد التشكل. المحاولات التي جرت، من قبل ديوان التأمين العراقي، لم تأتي بنتيجة ولم تترجم لحد الآن إلى موقف واضح من قبل حكومة الإقليم تجاه دور الديوان أو شركات التأمين العامة والخاصة في الإقليم. ولن نطيل في هذا الموضوع إذ سبق أن كتبنا عنه مطولاً: http://misbahkamal.blogspot.com/2008/02/blog-post_26.html
http://misbahkamal.blogspot.com/2008/02/blog-post_22.html
لا نستطيع لوحدنا أن نرسم معالم هذا السوق المرتجى وتحديد الآليات المناسبة للوصول إليه في ظل التشظي السياسي والاقتصادي الحالي بحيث ضعف التفكير بنتائج القرارات السياسية التي تمس النشاط التأميني. فعندما يصار إلى إهمال الإشارة في عقود الدولة إلى التأمين مع شركات تأمين عراقية لا يحسب أصحاب هذه العقود نتائج مثل هذا الإهمال، الجاهل الغافل، على قطاع التأمين العراقي ما لم يكن هذا الإهمال متقصداً لخدمة مصالح إيديولوجية أو مادية شخصية أو غيرها. أو عندما يتم المساواة في التأمين مع شركات تأمين أجنبية أو وطنية، كما هو الحال في قانون الاستثمار الصادر في إقليم كوردستان العراق، نعرف إلى من سيتجه المستثمر الأجنبي.
كيف يتأتى بعد ذلك أن يلعب قطاع التأمين دوره في التنمية الاقتصادية؟ ذلك هو السؤال الأكبر الغائب لدى أصحاب القرار السياسي في المركز والإقليم. ويظل السؤال الآني الذي طرحه الزميل منذر الأسود قائماً وبحاجة إلى مناقشة واسعة نأمل من زملاء المهنة والمعنيين بالشأن الاقتصادي العراقي المشاركة في إشباعه بالبحث لرسم السياسات المناسبة لسوق التأمين العراقي.
مصباح كمال
11 آب 2008
[1] المديات الزمنية مطاطية غير قابلة للتحديد الدقيق وحتى إذا حاولنا تحديدها فإن التغييرات المتوقعة وغير المقصودة التي تحصل في أرض الواقع قد لا تتسق مع المدى المرسوم لها. فالمدى البعيد (وقد وصفها الاقتصادي الإنجليزي جون مينارد كينز(1883-1946) بالفترة التي يطول انتظارها وعندها نكون، نحن أبناء وبنات جيلنا، قد متنا جميعاً) والمدى المتوسط والمدى القصير لا تعدو غير فترات زمنية اعتباطية متخيلة لحصول نتائج معينة في المستقبل الذي يكون منظوراً أو بعيداً. لاحظ هنا أيضاً القريب المنظور والبعيد وهما أبضاً غير محددان.
وبالطبع يمكن أن يتحدد المدى القصير بسنة كما هو الحال في الحسابات التجارية والاستثمارات والضرائب السنوية. وعلى العموم، فإن تحديد المدى الزمني مسألة تعتمد على سياق الموضوع. ففي النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة، ألفرد مارشال، 1842-1924، على سبيل المثال، يشرح كيف يستجيب السوق للتغيرات التي تحصل في العرض والطلب مع مرور الزمن من خلال التمييز بين ثلاث فترات زمنية. أولها، المدى الزمني الذي سماه فترة السوق وهي الفترة التي تتميز بثبات الكمية المعروضة من السلع. ثانيها، المدى القصير وهو الفترة التي يمكن فيها زيادة العرض بإضافة عناصر العمل ةغيرها من المدخلات باستثناء رأس المال. وثالثا، هو المدى البعيد وهو الفترة التي يستغرقها زيادة رأس المال (المكائن والعدد في مفهوم مارشال).
2008/08/11
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق