إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2018/11/28

Philosophy and Insurance


ملاحظة حول الفلسفة والتأمين


نشرت في مجلة بين نهرين، العدد 100، 29 تشرين الثاني 2018.

مصباح كمال

عندما يُذكر التأمين فإن ذهن الإنسان العادي عادة ما ينصرف للتأمين على السيارات، وربما التأمين على المساكن، والتأمين على الحياة؛ وقد يمتد عند الإنسان المهني ليشمل فروعاً أخرى كالتأمين البحري على البضائع والتأمين الهندسي على المشاريع الإنشائية وغيرها.  وقد تأتي هذه المعرفة بفضل إلزامية التأمين على بعض المخاطر.  وقد يفكّر المختص بالدور الاقتصادي لمؤسسة التأمين في الحفاظ على الثروة الوطنية.  ولكن أين موقع الفلسفة من التأمين، وهل هناك فلسفة للتأمين؟  لا أعرف جواباً على هذا السؤال فلم أقرأ عنه، وليس هناك "فلسفة للتأمين" بالمعنى الضيق للفلسفة، لكن العديد من كيانات التأمين تعلن عن "فلسفتها" في التعامل مع طالبي التأمين وفي تقديم خدماتها، كما أن بعض الفلاسفة يهتمون بأمور لها علاقة بالتأمين كموضوع الاحتمالات والمصادفة.[1]

سأحاول في هذه الملاحظة أن أجد رابطاً بين الفلسفة، كتأمل في بعض جوانب وجود الإنسان، والتأمين دون الدخول في التفاصيل، وإهمال البعد الأخلاقي في مؤسسة التأمين الذي يمكن أن يعالج فلسفياً.

تقوم "فلسفة التأمين" على حقيقتين تكتنفان حياة الإنسان.  الحقيقة الأولى، هي أن الإنسان محاط بمختلف أنواع الأخطار، الطبيعية (كالفيضانات والزلازل) والبشرية (أي الأخطار التي يكون الإنسان سبباً في وقوعها كالحرائق وعيوب تشغيل المكائن).  وللتحوط من آثار هذه الأخطار يحتاج الإنسان إلى اعتماد وسائل مناسبة.  بعض هذه الوسائل يمكن للإنسان الفرد القيام بها كالوقاية من خطر السطو على المسكن، وبعضها الآخر يحتاج إلى تعاون اجتماعي (كالعونة العشائرية) أو مؤسسات الدولة لأن الموارد الفردية ليست كافية وفعّالة ضد خطر الفيضان، على سبيل المثل.

الحقيقة الثانية، هي حاجة الإنسان إلى السلامة، الأمان، من بين الحاجات الأخرى التي قام بدراستها أبراهام ماسلو (1943)[2] ضمن التسلسل الهرمي الذي ابتكره للحاجات، بدءاً من الحاجات الفسيولوجية، في المرتبة الأولى، وبعدها الحاجة إلى الأمان في المرتبة الثانية، والحاجات الاجتماعية، والحاجة للتقدير، والحاجة لتحقيق الذات.  وهذه الحاجات (الدوافع) تستدعي الإشباع والتحقيق.

لنتوقف قليلاً عند حاجات الأمان التي تضم عناصر عدّة ومنها: السلامة الجسدية من خطر الاعتداء والعنف، الأمان في الوظيفة وما يترتب عليه من أمان مالي متمثلاً باستمرار منتظم للدخل، الأمان النفسي والمعنوي، الأمان داخل الأسرة، الأمان الصحي، أمان الممتلكات الشخصية من الحوادث والجرائم.  في غياب هذه العناصر يتعرض الإنسان إلى المخاوف من المجهول واللايقين مما يحمله المستقبل.

معظم الناس لا تتأمل بما يحيطهم من أخطار وما قد يترتب عليها من أضرار بالإنسان والممتلكات، وإن تأملوا فإنهم قد يستهينون بالأخطار، أو ينظرون إليها على أنها حتمية (قضاء وقدر) ولا يمكن ردها.  وهذه النظرة تجد ما يسندها من الموروث الديني (على سبيل المثل، قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، وحتى في التفكير الشعبي (ربما تتذكرون أغنية فريد الأطرش "شوف شغلك والباقي على الله"، فالأخطار المرتبطة بالعمل وما يترتب عليها من أضرار وخسائر محتملة، طبيعية وبشرية، أمرها متروك لله).  هذا هو الموقف التقليدي الاتكالي (فلسفة تقليدية في التعامل مع الأخطار وحاجات الأمان)، ونجد له حضوراً في تاريخ التأمين في العديد من البلدان.[3]

إن تأمل الإنسان الفرد، أو الجماعات البشرية، أو الشركات أو الدوائر الرسمية، بهاتين الحقيقتين، بالارتباط مع مفاهيم إدارة الخطر (تشخيص الخطر، تقدير آثاره، إمكانية الحيلولة دون وقوعه وإن وقع التقليل من آثاره الضارّة) يجلب معه التفكير بتوفير الرصيد المناسب عند احتمال وقوع الخطر لتمويل تصليح ما أنتجه من ضرر، أو اللجوء إلى التأمين للتعويض من الضرر – وهو الحل الاقتصادي.

هذا التأمل هو جزء من ثقافة التأمين المعدومة، وفي أحسن الحالات ضعيفة، في العراق.  يرد في كتاب أمريكي أن قيماً معينة في المجتمع الأمريكي تؤثر على شراء الحماية التأمينية: الكرامة الفردية، الحرية الشخصية، الاعتماد على النفس، والاهتمام بالنجاح المادي.  وبما أن الوظيفة الأساسية للتأمين من المنظور السيكولوجي، هو تقليص حدة اللايقين، فإن التأمين يساعد الفرد الانشغال بنشاطات أخرى بقلق أقل.[4]

إن موضوع التأمين والفلسفة جديد في الكتابات التأمينية العراقية والعربية.  نتمنى لذلك أن يتصدى له من يمتلك المعرفة الفلسفية والتأمينية.

 21 تشرين الثاني 2018

[1] A. J. Ayer, “Chance,” in Risk & Chance: selected readings, edited by Jack Dowie and Paul Lefrere (Milton Keynes: The Open University Press, 1983), pp 33-52.
[2] A. H. Maslow, “A Theory of Human Motivation,” in Readings in Managerial Psychology, edited by Harold Leavitt and Louis R. Pondy (Chicago: The University of Chicago Press, 1964), pp 3-25.
[3] هذا الموقف له حضور في البلدان الغربية.  هناك دراسة رائدة في هذا المجال حول تطور تأمين الحياة في الولايات المتحدة:
Viviana A. Rotman Zelizer, Morals and Markets: The Development of Life Insurance in the United States (New York: Columbia University Press, 1979).
[4] Irving Pfeffer and David R. Klock, Perspectives on Insurance (Englewood Cliffs, New Jersey: Prentice-Hall, Inc, 1974), p 207.

ليست هناك تعليقات: