إحياء العشائرية
والتأمين: نموذج جديد للتحكيم؟
مصباح
كمال
الإعلان
عن التحكيم العشائري وغياب قطاع التأمين
نقلت وكالات الأنباء العراقية بياناً صادراً من وزارة
العدل بتاريخ 28 آذار 2018 بخصوص "انطلاق مشروع
التحكيم العشائري باشراف وزارة العدل وباعتماد محكمين عشائرين (عوارف) من جميع
المحافظات"، وجاء فيه أنها "اقامت احتفالية حضرها وزير العدل حيدر
الزاملي وعدد من الشخصيات السياسية والعشائرية."[1]
ترى هل استأنست وزارة العدل برأي قطاع التأمين العراقي
فيما أقدمت عليه؟ يبدو لي أنها لم تفعل
وإلا لكان ممثلو القطاع حاضرين في احتفالية الوزارة. ولكن هل لقطاع التأمين موقف من مشروع التأمين
العشائري؟ لا أظن ذلك إذ لم أقرأ شيئاً
صادراً من جمعية التأمين العراقية وحتى من أي من شركات التأمين العامة والخاصة
بشأن الموضوع (وهو ليس بالمستغرب إذ أن قطاع التأمين، لسبب أو لآخر، ينأى بنفسه من
الشأن العام.
سنهمل في
هذه الورقة مناقشة تعارض التحكيم العشائري مع ميثاق حقوق الإنسان، ولن نناقش إقحام
الدين في الموضوع من قبل لجنة العشائر في البرلمان، ومصادرتها للحق العام بالنقاش
بدعوى عدم جواز الإساءة للعشائر وأعرافها وكأنها بقرات مقدسة لا يجوز المس بها،
ولا الأبعاد السياسية المتعلقة بالانتخابات البرلمانية. نترك ذلك وغيره للمحللين السياسيين.[2] سنركز، قدر المستطاع، على البعد التأميني.
السير على خطى النظام الدكتاتوري
نظام المحاصصة في العراق ليس معنياً ببناء مؤسسات الدولة
الحديثة إلا شكلياً، كالديمقراطية المعطوبة التي يتعكز عليها. ولا يجد النظام غضاضة من إحياء النظم والقيم
العشائرية بحلة عصرية كي لا يقال عنه بأنه يسير على خطى النظام الدكتاتوري. لنقرأ بعض ما كتبه المرحوم د سليم الوردي للكشف
عما قام به النظام السابق، فهو يقول إن الدولة عندما تكون في أزمة ينحسر:
"دور القضاء في حل المنازعات المدنية
والجزائية لصالح "الفصل" العشائري. ووجد الكثير من الناس أن فض نزاعاتهم
بالأسلوب العشائري أجدى من تقديم شكاواهم إلى مركز الشرطة، التي ما أسهل أن يتحوّل
فيها المدّعي إلى متهم، والمتهم إلى بريء، حسب موازين التأثير المالي (الرشوة)
والنفوذ العشائري للأطراف المتنازعة. وتروى في هذا المجال قصص غريبة لا يكاد
يصدّقها العقل. ونشطت في مجال الفصل
العشائري مكاتب غير رسمية، لا تقل في حيوية نشاطها عن مكاتب المحامين، وظيفتها
التوسط لفض المنازعات بالأسلوب العشائري.
مقابل أتعاب (عمولة) تفوق نسبتها ما يحصل عليه كبار المحامين. وراح من يُبتلى بمنازعة مع طرف عشائري، يلوذ
بهذه المكاتب، بسبب جهله بتقنيات العرف العشائري، سياقاته وقواعده ومصطلحاته.
لم يقتصر
تشجيع السلطة للعلاقات العشائرية على دعمها مادياً ومعنوياً، بل وعلى إضعاف فاعلية
بعض القوانين المدنية المصممة لتسوية النـزاعات المدنية، مما فتح الباب على
مصراعيه لإحلال أسلوب الفصل العشائري بديلاً عنها. وكنت شاهداً على مثال حي يتعلق بتطبيقات قانون
التأمين الإلزامي من حوادث السيارات، بحكم عملي في شركة التأمين الوطنية."[3]
موقف معلن
لأكاديميين وأطباء ضد التهديد العشائري
وقد
تناولت بالنقاش تصاعد القيم والأعراف العشائرية بعد 2003 وتأثيرها على دور التأمين
في مقالة كتبتها عقب إصدار رابطة الأكاديميين العراقيين، والجمعية الطبية
العراقية-العالمية، والجمعية الطبية العراقية-بريطانيا "مذكرة إدانة لجرائم
اغتيال العلماء والأطباء وأساتذة الجامعات في العراق" موجهة إلى رئيس جمهورية
العراق، ورئيس مجلس الوزراء، ورئيس مجلس النواب.
ومما جاء في المذكرة:
تتصاعد من
حين لآخر ظاهرة مأساوية وكارثية تتعلق باغتيال العلماء والأطباء وأساتذة الجامعات
في العراق، لأسباب متعددة، بعضها يتعلق بطبيعة الصراع الداخلي بكل أبعاده، وبعضها
يعود لأجندات خارجية تهدف إلى استنزاف الكفاءات العلمية العراقية، لاسيما التركيز
على علماء الفيزياء والكيمياء والمهندسين وأساتذة الجامعات في كل الاختصاصات
المهمة. أما الأطباء فلهم نصيب وافر من التهديد بالقتل والاختطاف بحكم طبيعة عملهم
المباشر مع كل شرائح المجتمع، فهم في خطر حقيقي مهددين من عصابات الجريمة المنتشرة
بسبب ضعف القانون، ومن التهديد العشائري المتخلف الذي يريد فرض إرادته
نتيجة تحميل الطبيب المسؤولية عن أي عملية جراحية لم يكتب لها النجاح بسبب اعتقاد
ذوي المريض بأن الطبيب هو من تسبب في ذلك، وبالتالي مطالبته بالخضوع للقيم
العشائرية ودفع التعويضات. [التأكيد من عندي]
القيم
العشائرية وانزياح دور التأمين
وقد كتبت
التالي حول اغتيال الأطباء والقيم العشائرية وانزياح التأمين واقتبسه دون تعديل
لأنه يصبُّ في صلب موضوعنا: [4]
ليس بإمكان مؤسسة التأمين التخلص من القيم العشائرية
لكنها تساهم في التقليل من وقعها من خلال توفير آلية بديلة لهذه القيم متى ما
انتشرت ثقافة التأمين في المجتمع. يجب
الإقرار بأن التأمين لا يوفر علاجاً لجميع العلل التي ابتلي بها العراق خاصة وأن
مؤسسة التأمين العراقي ضعيفة.
ربما لا تشجع التجربة في زمن الدكتاتورية وزمن المحاصصة
(في مجال تسوية مطالبات التعويض بموجب التأمين الإلزامي من حوادث السيارات)
الاستفادة من آلية التأمين للتعويض عن الأخطاء المهنية للعاملين في المجال الطبي،
لكن ذلك يجب ألّا يكون عائقاً أمام إدخال وثائق تأمين المسؤولية المهنية للأطباء
قيد الاستعمال أو تأسيس صندوق تأميني من قبل النقابات المهنية. نقول هذا لأن القيم العشائرية لا تشكل مرجعية
للتعويض لدى كل شرائح المجتمع العراقي لا بل أنها مستهجنة لأنها علامة على التخلف
المرفوض على مستوى الفكر. وفي ظل الأوضاع القائمة يظل هاجس الخوف والقلق
النفسي مصاحباً للعاملين في المجال الطبي فلا أقل من أن يخففوا من هذا الحال
بالاعتماد على التأمين، فهو، في نظر البعض، آلية لتقليص عدم التأكد والقلق
إن العديد من الدراسات التأمينية تتحدث عن الدور، أو
الوظيفة، أو القيمة، الاقتصادية والاجتماعية للتأمين كونه آلية حماية للتخفيف من
الآثار المالية للحوادث الخارجية التي تحصل للأفراد (وأصحاب المعامل والمحلات
التجارية) وهي في مجملها حوادث خارج سيطرتهم كالمرض والوفاة والكوارث الطبيعية
والحوادث على أنواعها، من خلال التعويضات التي يحصلون عليها من شركة التأمين.[5] كما تبين هذه الدراسات أن التأمين يساهم في
الحفاظ على أنماط الاستهلاك ذلك لأن الفرد لا يُموّل تصليح الضرر اللاحق بأمواله
أو مواجهة تبعات مسؤولياته عن الضرر الذي يسببه تجاه الغير من دخله وإنما من
التعويض الذي تقدمه شركة التأمين.
لكن هذه الدراسات لا تشير إلى دور التأمين في التخفيف من
النزاع بين الأفراد عند وقوع حادث: من المسؤول عن الضرر الناتج. مثال، انتشار الحريق من دار تعرَّض للحريق إلى
دار أو دور الجيران، أو المسؤولية عن حادث سير، أو خطأ طبي أو أي خطأ مهني آخر.
في المجتمعات التي يُشكّل فيها التأمين عنصراً مهماً
لمواجهة آثار الأخطار التي تحيق بالناس فإن التنازع بين شخص وآخر في موضوع خاضع
للتأمين لا يتحول إلى وسيلة ابتزاز أو اعتداء جسدي إذ أن عبء الآثار المالية
لموضوع التأمين (الحريق، التصادم) يُحوّل على عاتق شركة التأمين. وقد لعبت مؤسسة التأمين العراقي هذا الدور
أيضاً. على سبيل المثل، فإن احتمال انتشار
الحريق من دار مؤمن عليها إلى دار مجاور يصبح موضوعاً للتعويض بموجب ملحق خاص
لوثيقة التأمين من الحريق (تأمين المسؤولية القانونية تجاه الجيران). وكذا الأمر بالنسبة لتصادم سيارتين (خاصة مع
تشريع قانون التأمين الإلزامي من المسؤولية المدنية الناشئة عن حوادث السيارات
لسنة 1964، وبعده قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات لسنة 1980).
لقد شكّلت
هذه القوانين نقلة نوعية مهمة في تنظيم جانب صغير من العلاقات بين الناس خارج قيم
النظام العشائري. لقد كانت خطوة محمودة في
حماية الناس من الآثار الاقتصادية السلبية وغيرها، التي تتركها حوادث السيارات على
مسببي الحوادث وضحاياها على حد سواء. وهي
في ذلك تقوم بوظيفة اجتماعية عصرية تتجاوز الأطر التقليدية في جبر الضرر من خلال
تحويل عبء الخلاف بين الضحية ومسببها إلى طرف آخر هي شركة التأمين للنظر في النزاع
بينهما بدلاً من الاعتماد على الفصل العشائري.
لم تندحر القيم العشائرية ذلك لأن العادات قاهرات، كما يقول المثل، إلا ان
القوانين الحديثة سجّلت بداية لتجاوزها.
ويمكن للتأمين أن يلعب نفس الدور فيما يخص أخطاء المهنة وتعويض المتضررين
منها.
يرد في
معظم وثائق التأمين العراقية شرطاً للتحكيم بمقتضى أحكام القانون المدني رقم 40
لسنة 1951 وتعديلاته (الفقرة 4 من المادة 958).[6]
فعندما
ينشأ خلاف بين المؤمن والمؤمن له حول مبلغ التعويض أو تفسير شروط التأمين قد يلجأ
الطرفان إلى المحاكم لإيجاد حل. وكإجراء
سهل، أقل بيروقراطيةً، وأوفر اقتصادياً، يمكن للطرفين الاتفاق على إحالة الخلاف
بينهما إلى محكم فرد يقوم بتقديم حلٍ للخلاف، وفي حالة عدم اتفاقهما على محكم فرد
يقوم كل من الطرفين بتعيين محكم، ويقوم هــــذان المحكمان بتعيين محكم ثالث،
المحكم الفيصل، يرأس الاجتماعات ويكون له القرار النهائي في حالة اختلاف وجهة نظر
المحكمين المعينين من قبل طرفي التحكيم.
ترى هل أن
شركات التأمين العراقية، جرياً وراء نظام التحكيم العشائري، ستتخلى عن شرط التحكيم
في وثائق التأمين التي تقوم بإصدارها؟ وهل
أن العارف العشائري يمتلك الإدراك التأميني الكافي للتحكيم في المنازعات
التأمينية؟ وهل ستكون قرارات التحكيم
العشائري ملزمة لشركة التأمين؟
بدلاً من تعزيز قوانين الدولة ومؤسساتها القضائية والمكانة الاجتماعية
للتأمين يتفتق الذهن المحاصصي عن فكرة جديدة/قديمة لتكريس التخلف الثقافي. إن اللجوء إلى إطلاق التحكيم العشائري دليل على
فشل الدولة في تطبيق قوانينها وتجاوز على مؤسسة القضاء.
14 نيسان 2018
[1] السومرية نيوز:
[2] لمزيد من التفاصيل، أنظر: مصطفى سعدون، "مشروع للتحكيم العشائريّ يقوّض سلطة
القانون في العراق،" المونيتور:
[3] د. سليم الوردي مقتربات
إلى المشروع السياسي العراقي، 1921-2003 (بغداد: د.ن، 2005)، ص 107. ترد تفاصيل إضافية بشأن اللجوء إلى التسوية
العشائرية لتعويضات التأمين الإلزامي من حوادث السيارات بع الهبوط الحاد في قيمة
الدينار العراقي.
[4] مصباح كمال، "اغتيال الأطباء في العراق
والتأمين من المسؤولية المهنية،" موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:
[5] John H. Magee, General
Insurance (Chicago: Richard D. Irwin, Inc., 1945),1st Ed 1936,
Chapter III: Social Value, pp 42-53.
[6] للتعرف على مضامين التحكيم في التأمين راجع:
وليد جاسم القيسي، "التحكيـــــم في
التأميــــــن وإعـــــــادة التأميــــن،" ومنذر عباس
الأسود، "التحكيم في القانون والتأمين،" مرصد التأمين العراقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق