وصل القبض بديلاً
عن التأمين
مصباح كمال
ظاهرة غريبة في سوق التأمين العراقي
من الظواهر
الغريبة في سوق التأمين العراقي، وتحديداً في تأمين عقود الإنشاء العائدة للدولة
التي ظهرت بعد 2003 وبعد تزايد عدد شركات التأمين الخاصة، والتي يتحدث عنها بعض
ممارسي التأمين، ظاهرة اكتفاء المؤمن له (المقاول) ورب العمل (الوزارة أو المحافظة
أو الجهاز الحكومي المعني) بوصل القبض (لقاء قسط تأمين غير محتسب فنياً لمشروع
إنشائي هندسي) بديلاً لوثيقة أصولية للتأمين الهندسي. ويبدو أن استعمال كلمة الظاهرة صحيح بفضل
الحالات العديدة التي تندرج تحت هذه الممارسة.
هذا الوضع
يعكس تدني أصول ممارسة مهنة التأمين وتحول شركات التأمين العراقية التي تمارسها
إلى دكاكين خردة للتأمين. كما تعكس سيادة
الجهل في إدارة وظيفة التأمين لدى الأطراف الحكومية. ويمكن عَزو هذا الوضع، وبشكل عام، إلى
"الأمية التأمينية" أي عدم معرفة الحاجة إلى التأمين، وضعف أو انعدام
التثقيف بهذه الحاجة (عدم معرفة أي الأخطار قابلة للتأمين)، وعدم الاكتراث: الله
غالب، القضاء والقدر، التواكل، وهناك في الأعالي من يحميها. وما يشجع على قيام هذا الوضع هي الأوضاع العامة
المكتسية بالفساد وغياب المراقبة الحقيقية.
وصل القبض وبعض نتائجه
حسب
المعلومات التي ذُكرت لنا فإن وصل القبض في التأمينات الهندسية يُلجأ إليه في
الحالات التالية عندما يطلب رب العمل إبراز ما يؤيد قيام المقاول بإجراء التأمين
على أعمال المشروع:
-
رغبة المقاول في استلام سلفة
للبدء بأعمال المشروع.
-
أو اقتراب انتهاء المشروع
للحصول على سلفة (دفعة) أخيرة لإكمال المشروع.
-
أو بعد الانتهاء من أعمال
المشروع ورغبة المقاول في تصفية حساباته مع رب العمل واستلام ما تبقى له من مبالغ
بذمة رب العمل.
الغرابة في
الموضوع أن رب العمل بدلاً من مطالبة المقاول بإبراز وثيقة تأمين أصولية صادرة من
شركة تأمين مرخصة من قبل ديوان التأمين العراقي يقبل بوصل القبض الصادر من شركة
التأمين كمستند ودليل على وجود غطاء التأمين.
هذا جهل ما بعده جهل فيما يخص التأمين.
فلا المقاول ولا رب العمل يعرف تفاصيل ما هو مؤمن عليه، ونطاق التغطية،
ومدى توفر حماية إعادة التأمين لشركة التأمين التي تقوم بإصدار وصل القبض.
قد نفهم جهل
المؤمن له (المقاول) فربما يكون أمياً بالمعنى الضيق للكلمة، ولنا معرفة بمثل
هؤلاء المقاولين في سبعينيات القرن الماضي، وخاصة بالنسبة لعقود الانشاء المدنية
الصغيرة التي كانت ترسى على مقاولين أميين لا لأهليتهم وإنما لارتباطهم بالحزب
الحاكم أو لإرشائهم لبعض المسؤولين عن العقود.
أما أن يكون المسؤول الرسمي جاهلاً بالتأمين فهو مدعاة للقلق لأنه يلغي
الكفاءة البيروقراطية (بالمعنى الجيد) في إدارة جانب من الشأن الام والحفاظ على
مصالح الدولة. بعبارة أخرى، فإن هذا
الجهل، عل صغره، يؤشر على غياب بناء الدولة العصرية المحايدة.
النزوع نحو الاكتتاب
غير الفني بدافع الحصول على الأعمال، من تداعياته عدم الاستفادة من اتفاقيات إعادة
التأمين التي تديرها شركة إعادة التأمين العراقية (أي الإضرار بالمصالح الجماعية
لسوق التأمين العراقي وعدم المساهمة في تطويره).
وكذلك غياب، وفي أحسن الحالات، تدني مستوى الخدمات: خدمة وثيقة التأمين
أثناء سريانها، خدمة التعويض، تحسين نوعية الخطر من خلال الكشف الهندسي الميداني
وتقديم التوصيات لتحسين الخطر.
إن لم يكن
المقاول أمياً أبجدياً أو ثقافياً فإنه، وبدافع تحقيق أقصى الأرباح، يلجأ إلى
الاستفادة من الوضع التنافسي المنفلت القائم في سوق التأمين ليحصل على أقل الأسعار
لاستصدار وصل القبض ليهرول به للحصول على سلفة أو تسديد دفعة من قيمة المقاولة. ولا تجد شركات التأمين المتنافسة حرجاً
لقناعتها، القابلة للنقاش، أنها تُصدّر مجرد ورقة وليس وعداً بالتعويض عن احتمال
وقوع ضرر مادي.[1]
هكذا يُساء استخدام
المنافسة لمؤسسة التأمين وتفقد احترام
الناس لها (بعض شركات التأمين ترفض "الاكتتاب" من خلال وصل القبض). من حسن حظ شركات التأمين التي
"تكتتب" بالتأمين من خلال وصل القبض عدم حصول أضرار في المشاريع التي
تكتتب بها إذ لو حصلت الأضرار فعلاً فعندها كان الكثير من الإشكاليات القانونية
وغيرها ستظهر إلى العلن وتصبح موضوعاً للمساءلة وتبادل الاتهامات وإلقاء اللوم على
شركة التأمين لعدم توجيه المقاول لشراء وثيقة تأمين أصولية .. الخ.
وصل القبض
يقترن بعدم منح أي غطاء من خلال تعهد المقاول بعدم المطالبة بأي تعويض. عدم المطالبة ينطوي على مقامرة من قبل المقاول،
وكذلك إهمال صريح لمصالح الأطراف الأخرى في عقد المقاولة (رب العمل، المقاولون
الثانويون وغيرهم الذين يندرجون تحت مسمى "المؤمن له" في وثائق التأمين
الهندسي)، وتعريض مصالحهم للخطر. وقد يتخذ
هذا التعريض شكل عدم قدرة المقاول على إكمال أعمال المشروع أو قدرته على تمويل
التصليحات بعد وقوع ضرر أو خسارة تتجاوز إمكانياته المالية.
تذكرنا
ممارسة شركات التأمين لبيع التأمين من خلال وصل القبض بالباعة المتجولين غير
الخاضعين للرقابة (الرقابة على نوعية السلعة أو تسديد الضرائب والرسوم عنها)، فهي
تعمل في اقتصاد الظل. وهي ليست معنية
بالمعايير الفنية للاكتتاب أو بناء شركات متينة للتأمين، أو المساهمة في تثبيت أفضل
الممارسات لمزاولة التأمين بقدر اهتمامها بتحقيق دخل لها وأرباح للمساهمين.
ديوان التأمين ودوره في منع "الاكتتاب"
من خلال وصل القبض
قام الديوان
مؤخراً بإصدار كتابين مُهمّين. الأول برقم
316 مؤرخ في 9 كانون الأول 2012 يحرّم فيه التأمين خارج نظام الرقابة. الثاني برقم 360 مؤرخ في 24 كانون الأول 2012
يلزم فيه شركات التأمين بعدم إصدار وثائق تأمين الواجهة. ونتوقع من الديوان الكشف عن عدم قانونية وصل
القبض كبديل عن وثيقة التأمين، وإصدار كتاب لمنع الاكتتاب من خلال وصل القبض.
دعوتنا
للديوان تقوم على الصلاحيات التي يتمتع بها الديوان بموجب قانون تنظيم أعمال
التأمين لسنة 2005. ونقتبس هنا بعض الأحكام
ذات العلاقة بموضوع هذه الورقة.
المادة-37- أولا- يلتزم المؤمن
بتقديم أي بيانات أو معلومات يطلبها الديوان عنه أو عن أي مؤمن آخر يمتلك جزء منه
أو ينتسب إليه خلال المدة التي يحددها.
ثانيا- لرئيس
الديوان تكليف موظف أو أكثر من موظفي الديوان للتثبت أو للتدقيق في أوقات مناسبة
منتظمة أو غير منتظمة في أي من معاملات المؤمن أو سجلاته أو وثائقه، وعلى المؤمن
أن يضع أيا منها تحت تصرف الموظف المكلف والتعاون معه لتمكينه من القيام بأعماله
بشكل كامل، ولرئيس الديوان الاكتفاء بإجراءات وتقارير فاحصي مراقبي التأمين في بلد
المؤمن الأجنبي إذا كانوا ملتزمين بمعايير ومبادئ التأمين الدولية.
المادة-39- أولا- يزود المؤمن
الديوان بنماذج وثائق التأمين وملاحقها المعتمدة في أعماله والتي يجب أن تتضمن
شروط التأمين العامة والخاصة والأسس الفنية العامة لهذه الوثائق ومعدلات الأقساط
الملحقة بها، كما يزود المؤمن الديوان بجدول استرداد أقيام وثائق التأمين على
الحياة ومعدلات الأقساط الملحقة بها.
المادة- 47- أولا- لرئيس الديوان
اتخاذ أي من الاجراءات المنصوص عليها في البند (ثانيا) من هذه المادة في الحالات
الاتية:
أ-
تخلف المؤمن او عجزه عن الوفاء بالتزاماته أو احتمال
تخلفه او عجزه عن ذلك او عدم قدرته على الاستمرار بأعماله.
ب-
ارتكاب المؤمن مخالفة لأحكام هذا القانون أو الانظمة أو
التعليمات الصادرة بموجبه.
ج- عدم اتخاذ المؤمن الاجراءات اللازمة لإعادة
التأمين على المخاطر التي يتحملها او عدم كفايتها.
هذه المواد
وغيرها توفر للديوان الأرضية الصلبة لمعالجة ظاهرة وصل القبض الغريبة على ممارسة
التأمين في العراق والمسيئة لسمعة القطاع في الداخل والخارج.
أجور المِثلْ: مقارنة مع الماضي
كان هناك في
الماضي الذي خبرناه ما كان يعرف باسم أجور المثل، وكانت تصدر بشكل رسالة إلى جهة
حكومية أو إلى من يهمه الأمر. كانت
الرسالة الصادرة من شركة التأمين الوطنية (وقتها كانت الشركة الوحيدة التي تمارس
التأمين العام) أشبه ما يكون بمذكرة تغطية صغيرة (دون منح غطاء) يذكر فيها اسم
المقاول، واسم رب العمل، واسم المشروع ومبلغ التأمين، ونوع وثيقة التأمين، وأجر
المثل (قسط التأمين التي كانت الشركة ستطلبه لو أن المقاول قدم طلباً للتأمين قبل
بدء أعمال المشروع). ولم تكن شركة التأمين
تتقاضى قسطاً للتأمين أو رسماً لقاء إصدار رسالة أجر المثل. كانت وظيفة الرسالة تسهيل التحاسب بين المقاول
ورب العمل بعد إكمال المشروع وإبراء ذمة الطرفين، إذ كان رب العمل يستقطع أجر
المثل (قسط التأمين) من استحقاقات المقاول.
وهذا الاستقطاع يقوم على مبدأ تضمن سعر المقاولة لكلفة إجراء التأمين على
المشروع من قبل المقاول.[2]
ومن المفيد
هنا، ومن باب المقارنة أن نذكر الضوابط التي كانت معتمدة في الماضي عندما كانت الهيئة
التوجيهية لمجلس التخطيط توفر التعليمات الضرورية لإجراء التأمين الهندسي للمشاريع
الحكومية بالشكل الصحيح. "فقد أصدرت
الهيئة التوجيهية لمجلس التخطيط قرارها المرقم 4 في بتاريخ 23/11/1971 حيث أوصت
بما يلي:[3]
1- اعتماد
النص الموحد لشروط التأمين في كافة عقود المقاولات الهندسية المدنية التي تنفذ
لصالح القطاع العام.
2- عدم توقيع العقد مع المقاول (خاص أو عام)
بعد الإحالة ما لم يقدم استشهاداً من شركة التأمين بأن معاملة التأمين هي قيد
الإنجاز.
3- عدم صرف أية سلف أو مستحقات مالية إلى
المقاول ما لم يقدم وثيقة التأمين المطلوبة.
ويكون المدير المالي أو المحاسب مسؤولاً خلاف ذلك.
ألا يدعو هذا
إلى الحزن؟
ترى أليس
بالإمكان أن تتضافر الجهود للحد من ظاهرة وصل القبض؟ هذا ما نرجوه من جمعية التأمين العراقية. وقد يكون من المناسب أن تنسق الجمعية مع ديوان
التأمين بهذا الشأن. نأمل ذلك خاصة بعد
انكشاف الموضوع.
نأمل من
القراء تصحيح معلوماتنا خاصة وأننا لم نتوفر على إدلة وثائقية عن وصولات القبض،
وليس لدينا إلا القليل من المعرفة بحجم مبالغها واسماء الشركات التي تمارسها.
لندن 27 كانون الثاني 2013
[1] الشركات التي
تمارس "الاكتتاب" بوصل القبض ربما هي نفس الشركات التي تتنافس مع غيرها
بأسعار للتأمين غير اقتصادية ولا تتناسب مع حجم وحدة الخطر المؤمن عليه.
[2] هذه
القاعدة تنطبق على الحالات التي تناط فيها وظيفة التأمين على أعمال
المشروع، بموجب عقد المقاولة، على المقاول.
وبالطبع، فإن قيام رب العمل بالتأمين (وله حضور واسع في العديد من بلدان
العالم) يعني إعفاء المقاول من القيام بالتأمين، وبالتالي فإن مسألة أجر المثل
ووصل القبض تصبح غير قائمة.
[3] كما
أوردها بسام يوسف البنا في تقديم كتاب وثيقة تأمين كافة
أخطار المقاولين، ترجمة محمد الكبيسي، (أربيل: نسخة إلكترونية، توزيع خاص من
قبل المترجم، 2007)، ص 6-7.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق