جاد قبان
مذكرات وسيط تأمين عربي رائد
(Jad G Kabban, Memoirs of a Pioneer Arab Insurance Broker Beirut: n. p., 2004)
قليلة هي المذكرات التي يصدرها رجال الأعمال العرب وأقلها في ميدان التأمين عموماً ووساطة التأمين بشكل خاص.[1] ويكاد موضوع التأمين أن يكون محصوراً بالعاملين فيه وأصحاب العلاقة من جمهور المؤمن لهم. ربما كان هذا أحد الدوافع المضمرة التي حدت بجاد قبان، صاحب هذه المذكرات، ليتوجه إلى جمهور أوسع ويسجل لنا تجربته الرائدة في حقل وساطة التأمين في العالم العربي. ففي مقدمته ذكر بأنه كتب مذكراته للتعريف بطموحات شاب من بلد صغير، لبنان، وكيف أقدم على ريادة وساطة التأمين في هذه البقعة من العالم وقاد الشركة التي أسسها بمساعدة من عائلته وزملائه في العمل لترتقي إلى المكانة العالمية التي صارت تحتلها. وكان الشباب نصب عينيه فقد خاطبهم في مقدمته بالقول: "لا تيئسوا أبداً، غذّوا إيمانكم، تحمسوا للمهنة التي تختارونها ونفذوا أهدافكم بقناعة وبأمانة."
تبدأ السيرة الشخصية لصاحب المذكرات بولادته في القدس في 9 تموز 1931 مروراً بالنكبة الفلسطينية سنة 1948 وانتقاله إلى بيروت ومن ثم عمله، وهو فتى يافع، في أرامكو السعودية وعودته إلى بيروت سنة 1956 والعمل مع شركة وساطة تأمين أمريكية. تطويره لهذه الشركة أهلته ليدخل في شراكة مع عملاق وساطة التأمين في العالم، مجموعة مارش ومكلينان الأمريكية، مع شقيقه ميشيل قبان. وارتبط اسم قبان بهذا العملاق في شركة تأسست اواسط ستينات القرن الماضي في بيروت لتنتقل إلى أثينا بسبب الحرب الأهلية سنة 1975 والانتقال بعد ذلك بفترة قصيرة إلى لندن وانفراط العلاقة مع الشريك الأمريكي في نهاية 1986 مع تأسيس جاد قبان وزملائه شركة جديدة باسمUnited Insurance Brokers Ltd (UIB) عرّبها بعض الزبائن لتصبح "الوسطاء المتحدون." وذلك كان إنجازه الأعظم. ويختلط في هذه المذكرات الشخصي مع ما هو عام وله علاقة بالشركة وكأنه يحاول أن يعرض على القارئ الخلفية التي تلف تأسيس هذه الشركة أو قل إنه التاريخ غير الرسمي لها. ولهذا نقرأ السرد تارة بضمير الأنا وتارة بضمير الجماعة.
ربما لا نغالي إن قلنا أن هذا الكتاب يحتل مكانة فريدة في سياق الكتابات، العامة والاكاديمية، عن بعض جوانب التأمين في العالم العربي. فلم تصدر، حسب علمنا، مذكرات كهذه، بالعربية أو الإنجليزية، لأحد ممارسي التأمين العرب. وتساهم مذكرات جاد قبان كإضافة متواضعة غير مباشرة للدراسات عن تاريخ التأمين في العالم العربي، وهي شحيحة، وخاصة في حقل وساطة التأمين. وتوثيق هذا التاريخ يحتاج إلى المزيد من هذه المذكرات والكثير من البحث الأكاديمي.
بقيامه بنشر مذكراته أسدى الكاتب خدمة كبيرة للمهتمين بالخلفية التاريخية للتأمين في العالم العربي في أوائل خمسينات القرن الماضي. كما قدم نموذجاً لجيل الشباب من ممارسي التأمين للاستفادة من تجربته. فعند قراءة هذه المذكرات يكتشف المرء فكرة أساسية مضمرة في ثناياها وهي: كيف أن الربط العقلاني بين الالتزام الشخصي والمثابرة في العمل من جهة والمهارات الفنية الخاصة بوساطة التأمين وما يصاحبها من بناء العلاقات من جهة أخرى تترجم نفسها إلى تعظيم مصالح المؤمن لهم والجودة في خدمة هذه المصالح.
هناك أهمية أخرى في النموذج تكمن في سردية هذا الوسيط العربي للتأمين وإعادة التأمين: النشوء والبدايات في لبنان والعالم العربي والتحول لممارسة مهنة الوساطة في أحد أعرق أسواق التأمين في العالم، سوق لندن الذي ارتبط اسمه ولما يزل مع سوق لويدز الذي يمتد عمره لأكثر من ثلاثمائة سنة، وكيف استطاع بحماسه وقناعته ورؤيته للمستقبل أن ينجح بدعم من زملائه كي تكون الشركة التي أسسها وسيطاً معتمداً لدى لويدز رغم أصولها العربية، وكانت الأولى في ولوج هذا السوق العريق.
السرد شخصي وسلسل ويخلو من المصطلحات التأمينية والفنية المتخصصة غير المعروفة لدى القارئ العادي، فالرجل يحكي لنا روايته الشخصية وأحياناً يربطها بأفراد عائلته وفي أحيان أخرى يزاوج كل ذلك بالاندفاع الجارف صوب تحقيق ما هو في صالح الزبون في العالم العربي ابتداءً وبعدها في مختلف البلدان. والسرد هذا يكشف عن حيوية وحركة وحماس في التفكير وفي العمل وفي بناء العلاقات والإنجاز الحرفي للمَهَمّة، لما يطلبه الزبون أو يستدعيه مكتتب التأمين. بناء العلاقات وإنجاز المطلوب سمتان مرتبطتان بتقديم خدمات وساطة التأمين ـ وهي باختصار القدرة على تحقيق ما يبتغيه الزبون. وكان صاحب المذكرات بارعاً فيهما كما يظهر من خلال الحكايات الصغيرة التي انتظمت بعض فصول المذكرات، وقد سماها، كمثال، بالعلاقة اليابانية والعلاقة الليبية أو التجربة العراقية[2] وغيرها. وفي كل ذلك كان انتقائياً في رصد محطات اعتبرها مهمة في حياته الشخصية والعملية التي امتدت لما يقرب من نصف قرن.
يعجب المرء من الهدوء الذي انطوى عليه الفصل التاسع عشر من المذكرات وفيها يعرض الكاتب تجربته القاسية، بالنسبة لإنسان بريء، عندما أصدرت السلطات البريطانية قراراً في 18 كانون الثاني 1991 بترحيله من المملكة المتحدة ومن ثم احتجازه في سجن بينتونفيل في لندن وتخلية سبيله بعدها دون تقديم أي مبرر للقرار أو سبب لاحتجازه. ويظل القارئ مشدوهاً إزاء مثل هذا التصرف الذي طال العديد من المقيمين في المملكة المتحدة ففيها بعض من ممارسات الدولة القمعية.
وذات الهدوء يجد تعبيراً له عندما يسرد الكاتب في الفصل الثامن والعشرين المرض العضال الذي ألم به والذي استهلكه ليترك عالمنا مطمئناً على أهله والشركة التي أسسها وعمل بتفاني لتمتين مكانتها في سوق لندن.
صاحب هذه المذكرات متحمس لموضوعه وللناس الذين عمل معهم ولهم بمعية فريق من زملائه. التمتع بالحياة وبمباهجها والاستغراق في العمل والتفاني في تقديم الأفضل للزبائن يقدمها جاد قبان في لوحات قلمية سريعة. وفيها نشهد مرح الاستكشاف وإغواء الطفولة كما في مشهد الطيارة الورقية في حدائق هايد بارك. أو التوقد الشبابي لما هو وطني كما يبرزها في امتلاكه لبندقية في فلسطين ما قبل النكبة.
كتب جاد قبان مذكراته باللغة الإنجليزية لاتقانه لها وكان الأمل أن يصدر تعريباً لها لولا أنه رحل عن عالمنا في 12 كانون الأول 2004 بعد بضعة شهور من صدور الكتاب. ولعل أحد أفراد أسرته يتولى هذا الموضوع إذ أن مكتبة التأمين العربية تفتقر إلى مثل هذه الكتابات.
مصباح كمال
لندن، كانون الأول/ديسمبر 2006
[1] كانت النية معقودة على تشر هذا العرض للكتاب من قبل إحدى كريماته في صحيفة يومية في لبنان إلا أن ذلك لم يتحقق.
[2] عنوان الفصل الخامس هو "التجربة العراقية" وسأحاول في وقت لاحق إدخاله في هذه المدونة.
2008/03/12
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق