شركات التأمين العامة ودعوى احتكار تأمين
أعمال الوزارات والمحافظات والمؤسسات الرسمية الأخرى
مصباح كمال
في مقالتنا "كلام عن شركات
التأمين الخاصة" وتحت عنوان فرعي "احتكار تأمين الأعمال الحكومية: نقد
شركات التأمين العامة" ذكرنا أن شركات التأمين العامة تتعرض
إلى نقد، صريح أحياناً ومضمر أحياناً أخرى، من قبل
شركات التأمين الخاصة أو من أفراد [داخل قطاع التأمين ومن قبل بعض أعضاء النخبة
الجديدة الحاكمة]. وليس كل هذا النقد يجد طريقه
إلى النشر رغم تداوله بين العاملين في قطاع التأمين. ويتركز النقد الأساسي على احتكار الشركات
العامة لتأمين الأعمال الحكومية وبخاصة عقود التراخيص النفطية، وهذه، بفضل حجمها،
هي المنتج الأكبر لأقساط التأمين. ويستند
هذا النقد على أحكام قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005. [1] [المادة 81 من قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة
2005 المعروف بالأمر رقم 10]
وبالنسبة لعقود التراخيص
النفطية أوضحنا أن الوضع قد تغير
بعد ان تدخل ديوان التأمين بإصدار تعميم على
الشركات النفطية في تشرين الأول 2010، موجه إلى إحدى الشركات النفطية التابعة
لوزارة النفط، والتأكيد على الفقرة 3 من المادة 81. كما أن دائرة التراخيص النفطية أبلغت شركات
الوزارة أن يكون التعامل مع التأمين عن طريق المناقصة العلنية كما نص عليه القانون
[الفقرة 3 من المادة 81].
وذكرنا بأن
شركات التأمين العامة لم تضغط على الوزارات
والمؤسسات الحكومية للتأمين لديها لكنها ظلت ساكتة عندما توجهت لها الوزارات
والمؤسسات [بطلبات التأمين] ولم تنبهها لمتطلبات القانون. ولا نعرف إن كانت هناك تصرفات أخرى تُلام عليها
شركات التأمين العامة.
نحاول في هذه الورقة الصغيرة الوقوف مجدداً أمام مدى صحة
دعوى احتكار شركات التأمين العامة لأعمال الوزارات والمحافظات والمؤسسات الرسمية
الأخرى، نعرض فيها بعضاً من الأفكار التي ضمّناها في مقالات سابقة. لنتعرف أولاً بشكل سريع على هذه الشركات.
يضم قطاع التأمين العراقي شركتين عامتين للتأمين
المباشر، شركة التأمين الوطنية (تأسست سنة 1950 كشركة حكومية) وشركة التأمين
العراقية (تأسست سنة 1959 كشركة خاصة)، وشركة واحدة متخصصة بإعادة التأمين
هي شركة إعادة التأمين العراقية (تأسست سنة 1960 كشركة حكومية)[2]. وتكتتب شركة التأمين الوطنية ببعض أعمال إعادة
التأمين الاختياري وخاصة الأعمال الواردة من شركات التأمين الخاصة. وفقدت الإعادة العراقية امتياز الحصول على
إسناد إلزامي لأعمال التأمين لها من قبل شركات التأمين سنة 1988. دعوى الاحتكار لا تنطبق على الإعادة العراقية، ولولا وجودها لما كان باستطاعة
معظم شركات التأمين الخاصة توفير اتفاقيات إعادة تأمين خاصة بها نظراً لصغر حجم
إيراداتها.
إنتاج شركات التأمين العامة فيما يخص تأمين أعمال الوزارات
ومنشآت القطاع العام ذو طابع ريعي، بمعنى أن الجهد المبذول في الإنتاج إما أن يكون
معدوماً أو صغيراً. وقد أشرنا إلى ذلك في
مقالة سابقة:
يمكن النظر إلى الشركات العامة على أنها تتمتع بريع
بفضل موقعها. فرغم وجود شركات تأمين خاصة منذ
سنة 2000 فإن الموقع الريعي للشركات العامة هو من إرث الماضي ونعني به إرث رأسمالية
الدولة. فبحكم العادة تلجأ منشآت القطاع العام
إلى الشركات العامة لشراء وثائق التأمين. هذا
رغم أن قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 (المادة 81) ينص على استدراج العروض في
تأمين الأصول العامة.[3]
وقد
تجد مؤسسات القطاع العام ما يبرر تصرفها في مجال شراء السلع والخدمات (ومنها
الحماية التأمينية) ما يقضي به قانون الموازنة العامة الاتحادية لجمهورية
العراق للسنة المالية 2012. فالمادة 29
– أولاً تنص على التزام "الوزارات الاتحادية والمحافظات والجهات غير المرتبطة
بوزارة في شراء احتياجاتها من منتجات الوزارات الاتحادية على ان لا تقل القيمة
المضافة لهذه المنتجات المجمعة والمصنعة عن(25%) من الكلفة الاستيرادية لها وعلى
ان لا تكون اسعار المنتجات المحلية اعلى من مثيلتها المستوردة بنسبة تزيد عن
(10%)، مع مراعاة مواصفات النوعية والجودة."
التأمين وإعادة التأمين هو أحد منتجات وزارة المالية
الاتحادية. وهكذا فإن "الوزارات
الاتحادية والمحافظات والجهات غير المرتبطة بوزارة" قادرة على "شراء
احتياجاتها [التأمين وإعادة التأمين] من منتجات الوزارات الاتحادية [شركات التأمين
وإعادة التأمين التابعة لوزارة المالية الاتحادية]."
ويعزز هذا الوضع ما ورد في المادتين 38 و 39:
المادة ـ38ـ اولاً:
لا يعمل بأي قرار مخالف لهذا القانون ولا تتحمل
الخزينة العامة الاتحادية اي اعباء مالية لهذا القرار مالم يكتسب الشرعية
القانونية ويصادق عليه في مجلس النواب.
المادة -39
على الوزراء ورؤساء الجهات غير المرتبطة بوزارة
والمحافظين ورؤساء المجالس المحلية والبلديات والجهات المعنية تنفيذ هذا القانون.
لكن فاعلية هذه الأحكام تحتاج إلى إصدار تعليمات تنفيذية
مفصلة كما تقضي بذلك المادة التالية:
المادة -51-
على وزير المالية الاتحادي بالتنسيق مع وزير
التخطيط الاتحادي اصدار التعليمات اللازمة لتسهيل تنفيذ احكام هذا القانون.
وحسب علمنا لم تصدر، حتى كتابة هذه الورقة، ما يفيد
إصدار التعليمات اللازمة بخصوص شراء التأمين وإعادة التأمين من شركات التأمين
العامة. إصدار مثل هذه التعليمات ضرورية
نظراً لأن تعليمات
تنفيذ موازنة عام 2012 لا تتضمن أحكاماً بشأن التأمين وإعادة
التأمين فالمادة 3 - أحكام عامة: صلاحيات الشراء،
القسم الثاني، تعليمات تنفيذ الموازنة العامة الاتحادية لسنة 2010 تنصب
على شراء السلع المصنعة محلياً "من القطاع الخاص أو القطاع المختلط إذا اعتذر
القطاع العام عن ذلك خلال مدة سبعة أيام .."[4] ونلاحظ هنا أن النص هو عن "سلع
مصنعة" وهي ليست، بالمعنى الضيق للكلمة، مطابقة للخدمات ومنها خدمات التأمين
وإعادة التأمين.
من مصلحة شركات التأمين العامة والخاصة، على حد سواء،
وكذلك ديوان التأمين، الاهتمام بهذا الموضوع كي لا تضام الحقوق المنصوص عليها في
القوانين، وكي تتأسس الممارسات الخاصة بشراء التأمين وإعادة التأمين على قواعد
قانونية سليمة واضحة.
وضمن معايير إدارة الخطر (تشخيص مصادر الخطر، وتقييمها
والسيطرة عليها بوسائل هندسية وغيرها، والتفكير بعد ذلك بتحويل العبء المالي
للأخطار عند تحققها لشركات التأمين) فإن شركات التأمين العامة، وضمن المعايير
السائدة في قطاع التأمين العراقي، بالنسبة للوزارات الاتحادية والمحافظات
والجهات غير المرتبطة بوزارة، هي الأفضل والأكفأ مالياً بين شركات التأمين
العراقية. الشركات العامة، ككيانات
اقتصادية، أثبتت فعاليتها كمؤسسات ذات تمويل ذاتي
بموجب قانون الشركات العامة رقم 22 لسنة 1997.
فلم تتعرض طوال تاريخها الذي يزيد عن نصف لعجز مالي، ولم تتعكز على خزينة
الدولة لتمويل نشاطاتها، ولم تقترض من وزارة المالية، أو من المصارف، لتسديد
رواتب العاملين فيها. وهي في ذلك تختلف عن
معظم الشركات العامة كتلك التي تعمل في قطاع الصناعة. وكذلك هي الأفضل في تطبيق الأسس الفنية في الاكتتاب وخاصة في شركة التأمين الوطنية. ولها احتياطيات مالية كبيرة لا ترقى إليها
شركات التأمين الخاصة في الوقت الحاضر.
ربما ان ما يدفع الوزارات الاتحادية والمحافظات
والجهات غير المرتبطة بوزارة إلى شراء احتياجاتها من التأمين من الشركات العامة هو ، كما ذكرنا، توارث الممارسة بهذا الشأن في
التوجه تلقائياً نحو لهذه الشركات. لكن
هذا الدافع لم يخضع للدراسة. ولعله من
المفيد هنا أن نشير إلى أن وظيفة شراء
التأمين في الوزرات والمحافظات، في أحسن حالاتها، تترك للقسم القانوني أو المحاسبي
أو تناط بأحد المدراء أو المهندسين - كما هو الحال بالنسبة للعقود الإنشائية. فالوزارات العراقية والمحافظات وشركات القطاع
العام وغيرها من المؤسسات الرسمية لا تمتلك قسماً مختصاً بإدارة الخطر والتأمين يقوم،
بين أمور أخرى، بالمقارنة بين شركات التأمين فيما يخص أسعار التأمين ونوعية
الخدمات. ولا يختلف الوضع بالنسبة لشركات
القطاع الخاص. الأسلوب العصري في شراء
الحماية التأمينية، من خلال استدراج العروض التنافسية مثلاً، لا يجد له حضوراً لدى
جميع الشركات الكبيرة، العامة والخاصة.
وبما ان "العادات قاهرات" فإن معظم الشركات تلجأ إلى شركة
التأمين التي تعاملت معها في وقت سابق وبدوافع لم تلق اهتمام الدارسين.
ومن منظور تطوير قطاع التأمين العراقي فإن شركات التأمين
العامة، وبخاصة شركة التأمين الوطنية، تحاول زيادة الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من
الأقساط المكتتبة رغم أن جهودها لا يقترن بالنجاح دائماً. فهناك حالة الشركات النفطية العالمية التي
تشترط على أدنى احتفاظ، وعلى عدم الاستفادة من طاقة اتفاقيات إعادة التأمين التي
تديرها شركة إعادة التأمين العراقية، يضاف إلى ذلك استثناء التأمين على أعمال
الطاقة (النفط والغاز) من هذه الاتفاقيات.
لكننا لا نعرف على وجه الدقة إن كان هناك تصور تضامني واضح من لدن الوزارات
الاتحادية والمحافظات والجهات غير المرتبطة بوزارة في تنظيم سياسة لشراء التأمين تصبُّ
في تطوير الاقتصاد العراقي من خلال تعظيم مكانة قطاع التأمين، وبالأخص سياسة تميل
إلى تقليل الاعتماد على الريع النفطي.
حسب المعطيات الاحصائية المتوفرة فإن شركات التأمين
العامة هي الأكثر نمواً بين شركات التأمين. وكما ذكرنا في مقالة سابقة فإن ربط التطور البطيء
لشركات التأمين الخاصة بوجود شركتي التأمين العامتين ليس صحيحاً. فهل ان ضعف الشركات الخاصة هو حقاً بسبب وجود
الشركات العامة؟ ترى "لو اختفت
الشركتان بصفتهما الحالية وتحولتا إلى شركات مخصخصة هل سيتغير وضع شركات التأمين
الخاصة؟ لا نعتقد ذلك إذ أن الخصخصة ربما
تعزز من مكانتهما من حيث الإنتاجية، وتقليص التكاليف (التخلص من العمالة الفائضة)،
وإدخال تقنيات جديدة لإدارة الأعمال والتسويق والبيع. العائق أمام شركات التأمين الخاصة ليس وجود
هاتين الشركتين، ومن الضروري لذلك التعمق في البحث لاكتشاف مكامن الخلل أو القصور."[5]
عندما أصدر ديوان التأمين العراقي التعليمات رقم (15)
لتحديد رأس المال المقرر بخمسة مليارات دينار (بالنسبة لشركات التأمين القائمة)
وخمسة عشر مليار دينار (بالنسبة للشركات التي تؤسس بعد تاريخ نفاذ هذه التعليمات)
بغض النظر عن ملكية هذه الشركات، أكانت التعليمات تقويضاً لمكانة الشركات الخاصة
أم الدفع باتجاه تكوين كيانات تأمينية قوية مالياً؟
نفترض، اعتماداً
على الممارسات في أسواق التأمين القائمة على التنافس، أن يهتم طالب التأمين، فرداً
كان أو شركة خاصة أو عامة أو مؤسسة حكومية، بكلفة التأمين، ونوعية الخدمة التي
تقدمها شركات التأمين، ودور هذه الشركات في تحسين نوعية الخطر المؤمن عليه (التوسع
في الخدمة التأمينية، ومن منظور إدارة الخطر، ليشمل تقديم الاستشارة للمؤمن له في
منع وقوع الخسارة أو التخفيف من حدتها – وهو الذي يأتي من خلال الكشف الموقعي على
الأصول المؤمن عليها مثلاً أو من خلال وضع اشتراطات معينة)، وكذلك توفير منتجات
تأمينية مبتكرة (وثائق تأمين) لمواجهة أخطار مستجدة.
من هي الأوفر حظاً
في خدمة طالب التأمين في هذا المجال ضمن الواقع الحالي لقطاع التأمين العراقي؟ شركات التأمين الخاصة أم شركات التأمين العامة؟ إن كانت الشركات لا تمتلك الأدوات المهنية
المناسبة للاستجابة وإن كان طالبي التأمين غير آبهين لما تقدمه الشركات من خدمات
(ونحن نعتقد بأن الطرفين متخلفان) فإننا إزاء معضلة حقيقة – كيف ومتى نستطيع إذاً تطوير
قطاع التأمين العراقي؟ سؤال مطروح على
ممارسي التأمين في العراق.
لندن 19 تشرين الأول 2012
iraqinsurance.wordpress.com/2012/09/18/362/
[2] ضم
مؤسسي الشركة وزير المالية نيابة عن الحكومة العراقية، مدير عام مصلحة الموانئ
العراقية، مدير عام شركة التأمين الوطنية، مدير عام مصرف الرافدين، مدير السكك
الحديدة العام. أنظر: د. عبدالباقي عنبر
فالح، فاروق حبيب الملاك، عبدالرحمن مصطفى طه، إدارة التأمين (جامعة
البصرة، 1990) ص 61.
[3] مصباح
كمال، "هل هناك مشروع لإعادة هيكلة شركات التأمين العامة؟ تمهيد لمناقشة
موسعة،" مجلة الثقافة الجديدة، العدد
346، 2011.
وكذلك مجلة التأمين العراقي
http://misbahkamal.blogspot.co.uk/2012/01/restructuring-state-owned-insurance.html
http://iraqinsurance.wordpress.com/2012/09/18/362/