وجهة نظر تاريخية عن التأمينية
جيفري كلارك
أستاذ التاريخ
كلية جامعة ولاية نيويورك في بوتسدام
An Historical Viewpoint on Insurability
Geoffrey Clark
Professor of History
State University of New York College at Potsdam, USA
ترجمة
مصباح كمال
قدم الكاتب هذه الورقة في مؤتمر بعنوان تحدي التأمينية: إدارة الفيضانات وتنظيم التأمين، عقده مجلس البحوث الاقتصادية والاجتماعية، مركز تحليل الأخطار والتنظيم في كلية لندن للاقتصاد، 4-5 كانون الأول 2003.
يمكن للقارئ الحصول على النسخة الإنجليزية لهذه الورقة باستخدام هذا الرابط:
http://www.lse.ac.uk/collections/CARR/events/previousConferencesWorkshops/aon/Clark.rtf
وللكاتب بحث تاريخي عن التأمين على الحياة في إنجلتره:
Geoffrey Clark, Betting on Lives: The Culture of Life Insurance in England, 1695-1775, Manchester University Press, 1999.
تمت هذه الترجمة بعد الحصول على الإذن من كاتبها البروفيسور جيفري كلارك.
I have translated this paper after obtaining the permission of Professor Geoffrey Clark.
لقد قمنا بترجمة هذه الورقة لسببين. أولا، لأنها تلقي ضوءاً تاريخياً على نشوء مفهوم التأمينية، وهي معالجة فريدة للموضوع. وثانياً، لتعريف القارئ بنمط من البحث التاريخي عن النشاط التأميني ومفاهيمه نفتقده في العراق وفي العالم العربي عموماً. ونأمل أن يقوم ممارسو التأمين أو الأكاديميين بالاستفادة من هذا النموذج للبحث التاريخي في نشوء وتطور أعمال التأمين في العراق.
ليس لنا في اللغة العربية مقابل واضح وسهل للمفردة الإنجليزية insurability ولذلك استخدمنا كلمة "التأمينيّة" (بدلاً من قابلية الخطر للتأمين من عدمه) كمصدر صناعي (ياء مشددة وتاء تأنيث في آخر الكلمة). والقارئ اللبيب يعرف كيف يُفرّق بين استعمال هذه المفردة حسب السياق الذي ترد فيه كمصدر صناعي وكاسم منسوب (صفة) كما في قولنا الحماية التأمينية. وأتمنى على من هو ضليع باللغة العربية أن يسعفنا في بيان صحة هذا الاستخدام أو تقديم بديل مناسب.
تفيد أدبيات التأمين أن مؤسسة التأمين الحديثة والمعايير التي يعتمدها المؤمن، وبعضها اكتوارية، لإقرار تأمينية الأخطار تقوم على جملة اعتبارات متداخلة ومنها:
أن يكون احتمال قيام الخطر المعنوي متدنيا.
أن تكون الخسارة عرضية وغير مقصودة
أن تكون الخسارة كبيرة بما فيه الكفاية ويمكن قياسها.
أن يكون حساب احتمال وقوع الخطر المؤمن ضده قابلاً للقياس.
أن يكون قسط التأمين معقولاً من الناحية الاقتصادية بالنسبة لطرفي عقد التأمين: المؤمن والمؤمن له.
أن يكون هناك عدد كبير من الوحدات المتجانسة تتعرض لنفس مسببات الخطر.
تعرض هذه الوحدات إلى الخسائر عشوائي.
تغطية المخاطر لا تنافي مع السياسة العامة.
القدرة على تجميع الأخطار، أي عدد كافٍ من الوحدات المستقلة المعرضة للخطر (قانون الأعداد الكبيرة).
المتوسط الزمني بين وقوع خسارة وأخرى قصير، أي أن هناك تكرارية في وقوع الخسائر.
محدودية أقصى خسارة محتملة.
يسمح القانون بتوفير غطاء التأمين.
يمكن للقارئ أن يرجع إلى دراسات معمقة عن التأمينية منشورة باللغة الإنجليزية وقد أطلعنا على بعضها ومنها:
Baruch Berliner, Limits of Insurability of Risks (Englewood Cliffs, N.J: Prentice-Hall, 1982).
The Geneva Papers on Risk and Insurance, 11 (N0. 39), April 1986.
Walter Karten, How to Expand the Limits of Insurability, FAIR Review, No. 102, December 1996.
المعلومات المحصورة بين قوسين مربعين من وضع المترجم وكذلك الملحق، ومعظمها مستقاة من القواميس أو الإنترنيت.
________________________________________
وجهة نظر تاريخية عن التأمينية
جيفري كلارك
وتعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض، فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء. خمس عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه، فتغطت الجبال. فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكل الزحافات التي كانت تزحف على الأرض، وجميع الناس. كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات. فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض: الناس، والبهائم، والدبابات، وطيور السماء. فانمحت من الأرض. وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط.سفر التكوين 7: 19-23 [الترجمة من الإنترنيت]
مما لا شك فيه أن الفيضان، من بين جميع الكوارث في العالم، يمثل النموذج الأصلي للكوارث. فالتهديد الذي يمثله الفيضان أساسي إلى درجة أن إدارة المياه غالبا ما يعتبر حجر الزاوية للحضارة. على سبيل المثال، فإن سيغموند فرويد، عند مناقشته لسمات الحضارات عالية المستوى، ذكر أولاً، من بين هذه السمات، تنظيم "الأنهار التي تهدد بإغراق الأرض، .. كي يتم توجيه المياه من خلال القنوات إلى أماكن تفتقر إليها." و نيقولا مكيافيلي، الأكثر شهرة، رفع من مكانة الفيضان إلى مجاز لغوي: كسباق بين آلهة الحظ Fortuna الذي لا يرد وقوة التحوط الإنساني لمنع أو على الأقل الحد من الكارثة. فقد قارن مكيافيلي الحظ [البخت، النصيب] مع "نهر متهور يغرق عند هيجانه السهول، ويقلع الأشجار والأبنية، ويزيل هذا الجانب من الأرض ويضعه في جانب أخر؛ وكل إنسان يفرّ منه، وكل شيء يخضع لغضبه دون التمكن من معارضته؛ وعلى الرغم من صفته هذه فإنه عندما يكون هادئاً يستطيع الناس اتخاذ الاحتياطات ضده من خلال السدود والتحكم في تدفقه، وعند ارتفاع منسوبه فإن مياهه تتدفق إلى القنوات أو إن تدفقه لن يكون وحشياً وخطيراً."
هذا الطموح لترويض النصيب الهائج يقع على نحو ما في صلب التأمين الذي عمل توسعه المستمر على مدى السنوات السبعمائة الماضية على تحويل عدد متزايد باطراد من الأخطار الطبيعية والبشرية إلى أخطار يمكن التحكم بها.
هذا الخلق العجيب لعالم منخفض المخاطر تحقق بفضل التأمين لمليار من مترفي الأرض هو، بالطبع، أكليل مجد للحداثة. لكن هذا النجاح يتوقف على استمرار بقاء استراتيجيات تفتيت المخاطر في ظروف، ربما تكون معادية، متمثلة بالمزيد من الترابط الاقتصادي العالمي والمصير البيئي المشترك. وبعبارة أخرى، حتى ونحن نبني السدود ونحفر القنوات، فإننا قد نجد أنفسنا خاضعين بنفس الطريقة للفيضان والانغمار الذي يتصف بالـ "عالمية" حتى عندما لا يكون منتشراً تماما في جميع أنحاء العالم. هذه هي الورطة التي نتقاسمها مع الأجيال السابقة التي كانت تنظر إلى ضعفها تجاه "الفيضانات" كواحدة من أكبر العقبات لاستخدام التأمين على نطاق أوسع. إذ ما هو الحريق الكبير غير طوفان من اللهب؟ وما هو الطاعون غير طوفان من الوفيات؟ وما هو الحرب غير طوفان من التدمير المتعمد والعنف؟ وبالنسبة للسكان المتضررين من هذه الكوارث فإنها تلحق بهم الخسارة الفادحة؛ وبالنسبة لشركات التأمين فإن تراكم المخاطر تهدد استراتيجياتها لتوزيع الخطر إلى الإفشال، وتعرضها إلى كارثة مالية إضافية. وبينما نحن اليوم قادرون على تحليل أنواع معينة من المخاطر بدقة كبيرة، تظل هناك أخطار أخرى تجابهنا في الوقت الحاضر لكنها غير محسوسة بدقة وأقل قبولاً للاحتساب -- مثل خطر الإرهاب. لذلك ربما نستطيع استبصار ظروفنا الحالية من خلال دراسة العديد من العقبات التي واجهها مكتتبو التأمين، في القرون الماضية، في التأمين على الأخطار الجديدة، فضلا عن الاستراتيجيات المختلفة التي استخدموها للتغلب على تلك العقبات وزيادة حجم وأنواع الأعمال المكتتبة (أو الحد من الاكتتاب فيها بشكل انتقائي). والمراد بهذا هو كيف أن فهم التأمينية insurability أثرَ في تاريخ التأمين؟
ابتداءً من أواخر القرن السابع عشر، فإن انتشار خدمات التأمين خارج المخاطر البحرية المعروفة بطبيعتها المتشتتة، كما لاحظ ذلك المعلقين في أحيان كثيرة، اعتمدَ على الرخاء المتزايد للدول الأوروبية حيث مدت ممارسة التأمين جذورها في تلك السنوات. فقد وفرَ التأمين وسيلة حاسمة للحفاظ على هذه الثروة الجديدة، وكان يمثل في الوقت نفسه زيادة تدريجية في حرية الاستهلاك المرتبط بهذا الثراء. ولا يقل أهمية عن هذا في ولادة صناعة التأمين الحديثة ظهور بيئة إنسانية تقلصت فيها وقوع الكوارث، مما سمح لبعض الاستقرار في التوقعات التي صار معها من الممكن التوصل إلى توقعات موثوق بها.
وشهد القرن السابع عشر والثامن عشر في وقت لاحق خطوات صغيرة لكنها هامة في هذا الاتجاه. ومنها الاستبدال التدريجي للأخشاب والقش بالطوب والقرميد التي جعلت المباني أقل عرضة للحريق، وانخفاض تأثير الحشرات الناقلة للأمراض، وتراجع خطر الطاعون الدُمّلي على السكان في أوروبا، واعتماد إجراءات حجر صحي أكثر فعالية، فضلا عن انتشار ممارسة التلقيح، ثم التطعيم ضد الجدري، بالإضافة إلى نظام غذائي أفضل عموما، ساهم في الحد من الأمراض الوبائية. كما أن فرص تعرُض المسافرين وراء البحار لخطر احتجازهم كرهائن للحصول على فدية من قبل القراصنة قد تقلص أيضاً. وأصبحت الاتصالات والنقل بصورة عامة أكثر انتظاما وموثوق بها.
وفرت هذه الشروط المسبقة أساساً مادياً لتوسيع خدمات التأمين إذ أصبح معها ممكنا التنبؤ بالحالات التي يمكن أن يُسفر عنها المستقبل بثقة أكبر قليلا. ومع مرور الوقت، على أي حال، أصبحت صناعة التأمين في حد ذاتها عاملا مهما في الحد من الخطر عند محاولة القضاء على الخطر المعنوي وزيادة الأرباح في كل مكان من خلال محاولة تخفيف التهديدات التي تتعرض لها السلع المؤمن عليها. ولم تكن السلطات المدنية أول من قام بالتنظيم الفعال لمحطات مكافحة الحرائق بل مكاتب التأمين ضد الحريق في محاولة منها لحماية تلك المنازل المؤمن لديها والتي تحمل العلامة الخاصة بكل شركة تأمين. وبالمثل، حاولت شركات التأمين البحري الحد من مخاطر الحرب على السفن المؤمن عليها من خلال تقديم الحسومات على قسط التأمين لأصحاب السفن الذين يوافقون على الإبحار في قوافل تحت حماية البحرية الملكية [البريطانية]. وكان لشركات التأمين دور أقل مباشرة فيما يخص المخاطرة الاقتصادية من خلال التمييز بشكل منهجي ضد الصناعات الخطرة على وجه الخصوص. فشركات التأمين ضد الحريق في القرن الثامن عشر، على سبيل المثال، كانت تفرض على مصافي السكر، بصورة روتينية، أقساطاً باهظة، وكانت ترفض أحيانا بيع التأمين لهذه المصافي. باتباع هذا النظام الفردي لمراقبة التكاليف والسيطرة عليها، فإن شركات التأمين قامت بتحديد معالم الخطر بهمة أكبر من أي وقت مضى. وفي قيامها بذلك كان لها دوراً فعالاً في هندسة مجتمعات معزولة ضد المخاطر حيث يعيش المستفيدين من ثقافة التأمين – أي سكان الدول الغربية الصناعية – بهدوء ذهني أكبر من غيرهم ممن عاشوا في أي وقت مضى.
المكاسب الحقيقية، رغم تواضعها، في مجال الأمن الاجتماعي والاقتصادي والقدرة على التنبؤ فيما يخص الحياة والتي تحققت خلال أوائل القرن التاسع عشر لم تترافق، مع ذلك، بالاعتماد كثيراً على البيانات الإحصائية والاستفادة منها. في الواقع، كانت شركات التأمين بطيئة بشكل ملحوظ في تنظيم أعمالها على أساس إحصائي، وهذه حقيقة مستغربة في ضوء الأرباح الضخمة التي تنتظر أولئك الذين ربما كانوا قادرين على قياس مسؤولياتهم ومعايرة أقساطهم بدقة. شركات التأمين على الحريق في القرن الثامن عشر كانت تميز بين الممتلكات "العادية" و"الخطرة" و"الخطرة بصورة مضاعفة" على أساس الحدس أكثر من الاعتماد على البيانات الصارمة. وشركات التأمين البحري كانت تعتمد بالمثل، ولقرون عديدة، على قواعد الخبرة في تقييم مخاطر رحلات معينة، ولم تلجأ إلى التراكم المنهجي والمعلومات الرقمية عن المخاطر النسبية لمختلف الطرق البحرية. وعلى ما يبدو فإن شركات التأمين البحري كانت تأخذ التجربة في الحسبان إلا أن الحساب لم يؤخذ بنظر الاعتبار. وبالمثل، فإن مكتتبي التأمين على الحياة كانوا يُسعّرون وثائق التأمين الفردية بمعدلات تقليدية للسعر (أعلى بكثير من مستواها الإكتواري الحقيقي)، ويحددون أجل التغطية لبضعة شهور من أجل التحوط ضد التقلبات في عدد الوفيات. هذا رغم أن ادموند هالي Edmond Halley [عالم فلكي ورياضي إنجليزي، 1656-1742] كان قد نشر سنة 1693 جدولاً للوفيات (بين فيه متوسط توقعات الحياة في فئات عمرية مختلفة) لمدينة بريسلاو [البولندية]، وهو انجاز قام به في وقت لاحق جيمس دودسون James Dodson [عالم رياضي واكتواري إنجليزي، 1705-1757] لمدينة لندن في خمسينات القرن الثامن عشر، وريتشارد برايس Richard Price [فيلسوف وواعظ راديكالي بريطاني، 1723-1791] لمدينة نورثهامبتون حوالي 1780. ولكن لم تستفد أية شركة تأمين على الحياة من هذه البيانات التفصيلية عن الوفيات حتى تأسيس جمعية أكويتَبِل للتأمين على الحياة Equitable Life Assurance Society سنة 1762 عندما قامت بتطبيق أقساط تأمين متدرجة وفقا لسن طالب التأمين عند الشراء. ومع ذلك استمرت الجمعية، وبتحفظ، في تسعير وثائق التأمين التي تصدرها بما يفوق قيمتها الاكتوارية. أما بالنسبة لأقدم شركتين للتأمين، شركة رويال إكسجينج Royal Exchange Assurance ولندن أشورنس London Assurance فإن رويال لم تطبق التدرج في أقساط التأمين وفقا للسن حتى سنة 1783، في حين أن لندن أشورنس لم تفعل ذلك حتى 1809.
وكانت أسباب هذا التردد من قبل شركات التأمين لتبني الإحصاءات ترجع جزئيا، كما بينت لُورين داستون[1] Lorraine Daston إلى المفاهيم الفلسفية والقانونية المعاصرة للخطر على أنه أمر حقيقي [قائم لا يمكن رده] وعدم اليقين به غير قابل للعلاج، وليس شيئاً قابلاً للتوقع من خلال تحليل الاحتمالات. وهنا أود أن أقول إن التردد لم يكن قائماً على مجرد الحساسية العقلية تجاه التفكير في الاحتمالات بقدر ما كان قائماً على التقدير الذكي لأهمية وموثوقية جداول الوفيات أو الأنواع الأخرى من الإحصاءات لتحديد مسؤولية المؤمنين. وفي حين أن المعرفة الإحصائية أقل إلحاحا بالنسبة لشركات التأمين البحري، إذ كانت المخاطر التي يؤمنون عليها تمتد لفترة قصيرة وهي مشتتة في مختلف الطرق البحرية، فإن مؤمني الحريق ومؤمني التأمين على الحياة كانوا يواجهون تحديات هائلة لتوفير التغطية على المدى الطويل ضد طوارئ يكون وقوعها في بعض الأحيان كارثياً – وما كان على المؤمنين الإنجليز سوى تذكر طاعون عام 1665 وحريق لندن الكبير في العام التالي ليمتقع وجوههم خوفاً من المخاطر المتراكمة. ونتيجة لذلك، بقي التأمين البحري محصوراً بشكل ساحق على المكتتبين الأفراد أو في إطار شراكات، حتى ولو كانوا ينتظمون أيضا في بعض الأحيان في تجمعات أكبر مثل لويدز، في حين أن الاكتتاب في الحريق والتأمين على مدى الحياة صارا يُلزمان هيكلاً في صيغة شركة أو تنظيم تبادلي من أجل ضمان دفع المطالبات على المدى الطويل.
لقد كانت معظم الشركات الأولى للتأمين على الحريق والحياة جمعيات تبادلية قائمة على أساس مساهمة الأعضاء وقت الحاجة [أي عند قيام المطالبة بالتعويض]، ونتيجة لذلك فإن تكلفة العضوية أو مبلغ التعويض عن الخسائر كانت عرضة للتغير. والسبب وراء هذا الترتيب كان عدم وجود بيانات إحصائية موثوقة يمكن الاعتماد عليها لاحتساب المسؤوليات عن الخسائر المترتبة على تأمين مخاطر الحريق أو الحياة.
لكن هذا لا يعني أن شركات التأمين كانت جاهلة بنتائج الدراسات الديموغرافية الجديدة القائمة على الاحتمال التي قام بها الرواد: جون غرونت John Graunt [يعتبره البعض مؤسس الديمغرافيا رغم أنه كان بائع خردوات، 1620-1674] في ستينات القرن السابع عشر وفي وقت لاحق وليام ﭙيتي William Petty [اقتصادي وفيلسوف إنجليزي، 1623-1687] وإدموند هالي اللذين توسعا في دراسة الاحتمالات. وفي الواقع، فإن مؤسسي جمعيات التأمين كانوا يدخلون في مشروعاتهم بانتظام، ضمنا أو صراحة، على أساس تقدير الوفيات التي من المتوقع أن تحدث بين أعضاء الجمعية. وعلى الرغم من أن معدل الوفيات لم يؤثر من الناحية النظرية على التونتاين الموتي mortuary tontine [راجع الملحق في نهاية الورقة] أو المساهمة contributorship (وهي واحدة من مزاياها الرئيسة)، فإن جدوى هذه الشركات كمشروعات تجارية عملية كان يتوقف كثيرا على المعرفة التقريبية للزبائن المحتملين لمقدار الكلفة السنوية للعضوية في مثل هذه الجمعيات (بالنسبة للجمعيات القائمة على المساهمة contributorships) أو معرفة كم سيكون حجم الفائدة المتوقعة مقابل الرسوم السنوية (بالنسبة للمساهمة في التونتاين الموتي). معظم الجمعيات الأولى للتأمين على الحياة كانت تتوقع أن تتراوح معدلات الوفيات السنوية بين أعضائها ما بين 2٪ و 5٪، مقترنة مع توقع، يقوم على تحيز إيجابي نوعما (Pollyannas)، أن تكون معدلات الوفيات منخفضة بشكل غير واقعي ما بين 1٪ أو 1.5٪ (على الرغم من أنها كانت أيضا قادرة على زعم بعض الأدلة لدعم توقعاتها).
[مبدأ بولي آنا (البولي آنيه Pollyannaism أو التحيز الإيجابي) يصف ميل الناس إلى الاتفاق مع التصريحات الايجابية التي تصفهم. تشير الأبحاث إلى أنه على مستوى اللاوعي، فإن عقلنا يميل إلى التركيز على ما هو تفاؤلي في حين، على المستوى الواعي، لدينا ميل إلى التركيز على ما هو سلبي. هذا التحيز غير الواعي نحو الايجابي هو الذي يوصف بمبدأ بولي آنا.]
وكانت جمعيات التأمين على الحياة، وعلى وجه العموم، تُثبّت معدلات الوفيات المتوقعة اعتماداً على تقديرات كانت تبدو في ذلك الوقت معقولة. ففي مقالاته عن الحساب السياسي political arithmetic، غالباً ما كان وليم ﭙيتي، على سبيل المثال، يقوم ببعض التقديرات للمعدل العام للوفيات السائدة بين السكان، سواء في بريطانيا أو خارجها. وعادة ما كان يتبنى نسبة 3.3٪ سنويا، أو 1 في 30. في أوقات أخرى، قدّر معدل الوفيات البشرية بنسبة 1 في 50 ، أو 1 في 40 ، أو حوالي 1 في 32. جميع هذه الحسابات لم تتعدى التخمين إذ أن استخدام أساليب مختلفة لتحديد معدل الوفيات أسفرَ عن نتائج مختلفة. ومع ذلك، فإن النتائج التي توصّلَ إليها هالي في وقت لاحق هو أن ما يقرب من 1 في 30 من سكان بريسلاو توفوا سنوياً بدا وكأنه يؤكد الدقة العامة لحسابات ﭙيتي، لأن تقديرات هذا الأخير تضمن أيضاً الرقم 1 في 30 لمعدل الوفيات السنوي في مدينة لندن.
الجمعيات الأولى للتأمين على الحياة أخذت هذه الأرقام محمل الجد في تصميم أعمالها والترويج لها، كما أنها شاركت أيضا مع رواد نظرية الاحتمالات في ذلك العصر افتراض أن احتمالات الوفاة، آخذين بنظر الاعتبار بقاء العوامل الأخرى ثابتة دون تغيير، تظل ثابتة تقريبا بالنسبة للأشخاص الموزعين على فئات واسعة من الأعمار، من المراهقة إلى أواخر منتصف العمر. وقد تم توثيق هذا الاعتقاد جيدا بالنسبة لـغرونت Graunt ، يوهان دي ويت De Witt [عالم رياضي ورجل دولة هولندي، 1625-1672]، يوهانيس هَدْ Hudde [عالم رياضي هولندي]، وغوتفرد لايبنتز Leibniz [فيلسوف وعالم رياضي ألماني، 1646-1716]. وحتى بالنسبة لـ أبراهام دي مواﭬر De Moivre [عالم رياضي فرنسي، 1667-1754]، وريث هالي، وجد أن افتراض الاحتمال الدائم للموت مقنعاً. وفي اتفاقها مع وجهة النظر هذه، فإن معظم جمعيات التأمين على الحياة حصرت إصدار وثائق التأمين للأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 12 حتى 20 سنة في الطرف الأدنى وبين 45 إلى 60 في الطرف الأعلى. وضمن هذه الحدود، أوصى تشارلز براند Charles Brand، أحد كبار المدراء لجمعية آميكيبل Amicable Society، أن الاختلاف في قيمة الحياة المؤمن عليها يكون أقل مع التقدم في العمر مما هو عليه عند المقارنة مع "جودة" الحياة أي مع سلامة بنية المؤمن عليه وعاداته. إذا افترضنا مع براند بأن تأثير العمر على احتمال الوفاة في منتصف العمر كان خاضعاً لعوامل أكثر حسما، فإن الأقساط المقطوعة flat premiums التي كانت آميكيبل تتقاضاها وشقيقاتها من جمعيات التأمين على الحياة لم تشكل حقا إجحافاً لحملة وثائق التأمين الأصغر سنا. وبما أن العمر لم يكن بالتأكيد المتغير الوحيد، ولا حتى، ربما، الأكثر أهمية، في تقييم فرصة وفاة الفرد، فإنه لا معنى لتدريج الأقساط وفقا لمجموعات عمرية ضيقة كما هو الحال في جداول الوفيات.
وبالنظر إلى الافتراض السائد بثبات معدل الوفيات وفي غياب الكثير من البيانات ذات المغزى بشأن الوفيات، فإن التقنية الأكثر بساطة لتوزيع الأقساط بالتناسب بين الأفراد كان يتألف من تسطيح خطر الوفاة قدْر الإمكان من خلال تجميع الناس وفقا لميزة حاسمة أو مجموعة من المميزات. وقد تشمل هذه المميزات السن، ولا سيما عندما يكون المؤمن له صغيرا جدا أو كبيراً جدا، ولكن من المرجح أن تضم مميزات أخرى، مثل مكان الإقامة أو المهنة. في نهاية القرن السابع عشر عندما فكر دانيال ديفو بالاستخدامات المحتملة للتأمين، فإنه تخيل إنشاء جمعيات موازية عديدة كل واحدة منها تخدم شريحة متجانسة من السكان ممن يمكن معادلة تعرضهم لخطر معين. وأوضح مشروعه كالتالي:
لا يمكن قبول أي فرد إلا أولئك الذين تتشابه أحوالهم، إلى حد ما، وهكذا يجب فرز الناس إلى طبقات، وبما أن شروطهم المعيشية contingences (كذا) مختلفة فكل واحدة منها تشكل مجموعة متجانسة في شروطها؛ إذ أن ظروف الناس، فيما يخص المعيش، يختلف كثيراً بفضل السن والبنية البدنية، والاختلاف في المهن؛ مثلما يختلف الشخص الذي يعيش في البر عن الشخص الذي يكسب عيشه من البحر، أو الشاب عن العجوز؛ أو مثلما لا يتساوى صاحب متجر مع جندي .... بحيث يصبح ضرورياً تصنيف الناس في فئات، البحارة مع البحارة والجنود مع الجنود، وما شابه ذلك.
جمعيات التأمين لم تحقق هذا المستوى من التمييز بين الأخطار، لكن قواعدها للقبول بالتأمين تعكس هدفاً مماثلاَ من حيث مطابقة كل عضو مع مستوى قياسي للخطر. وبما أن الرسوم والمنافع المتساوية كانت ترتكز على إمكانية متساوية تقريبا لتعرض كل عضو للوفاة، فإنها عادة لم تسمح بقبول الفئات الأكثر تعرضاً للخطر كالجنود أو البحارة، مع تضييق المسؤولية بصيغ مختلفة فيما يتعلق بأي من الأعضاء الذين قد يموتون في الخارج. ولم تكتفي الجمعيات بالتدابير اللازمة لرفض طلبات التأمين من أولئك "سيئي المزاج، أو المتحيرين، وتحت العلاج"، بل رفضت أيضا في بعض الأحيان النظر في طلبات التأمين على الحياة الواردة من "المناطق السبخة وغير الصحية في انجلترا." وظلت على الدوام ثاقبة العين تجاه أشخاص تعرضوا لعدوى مرض الجدري والسُكاري سيئي السمعة.
ونشأت ممارسة المجانسة بين الأخطار homogenizing risks نتيجة للاقتناع السائد بأن فائدة الأساليب الكمية محدودة للغاية في التمييز بين الأخطار، وحتى في مجال الديموغرافيا حيث تم جمع البيانات على نطاق واسع. وقد تعززت عملية التجانس بين المخاطر من قبل جمعيات التأمين على الحياة، بطبيعة الحال، من خلال افتراض أن تكرارية الوفاة كان إلى هذا الحد أو ذاك ثابتاً خلال سنوات منتصف العمر، وبالتالي تقليل أهمية العمر واعتبارها مسألة ثانوية، ودفع مجموعة من العوامل لا يمكن قياسها كميا بسهولة إلى الصدارة. وهنا نرى أثر أحد عناصر التوجه المضاد للمنهج الإحصائي الذي كان يميز أعمال التأمين في مراحله الأولى: التركيز على سمات خاصة للخطر على حساب رؤية أنماط عامة مستقرة تمكن المرء أن يستنتج منها الاحتمالات الإحصائية.
وتتجلى عقلانية هذا التوجه ضد الإحصاء في مجال التأمين البحري في القرن الثامن عشر كما يتوضح من جدول منشور في كتاب ملاخي ﭙوستيلثويت Malachy Postlethwayte القاموس العالمي للتجارة الذي أدرج فيه الأقساط المفروضة على السفن التي تبحر مع حراسة أو من دون حراسة بحرية في طريقين عبر المحيط الأطلسي (الجدول 1).
________________________________________
الجدول 1: أقساط التأمين (في المائة) المفروضة زمن الحرب على الرحلات عبر المحيط الأطلسي حوالي سنة 1750.
مع الحراسة بدون الحراسة
ساق المثلث [في تجارة العبيد]
(أفريقيا إلى أمريكا) 7 باون و 6 بنس 26 باون و 11 شلنغ و 4 بنس
رحلة الإياب [لإكمال مثلث تجارة العبيد]
(أمريكا إلى أوروبا) 13 باون و 8 بنس 49 باون و 10 شلنغ و 8 بنس
Source: Malachy Postlethwayt, The Universal Dictionary of Trade and Commerce (London, 1751, 1774), 1: 142.
________________________________________
من خلال مقارنة معدلات التأمين بين عمودي الحراسة يمكن للمرء قياس تقييمات المكتتب للمخاطر الإضافية المفترضة في زمن الحرب من قبل قباطنة السفن الذين يختارون التخلي عن حماية البحرية الملكية وبالتالي ترك أنفسهم عرضة تماما لسلب القراصنة وسفن العدو على خط الرحلة. ويمكن مقارنة هذه مع التفاوت في معدلات الأقساط بين الصفوف التي تعكس ارتفاع المخاطر الطبيعية المرتبطة بالعواصف في الخط الملاحي شمال الأطلسي. ففي حين أن الإبحار شمال الأطلسي ضاعفَ الأقساط تقريبا، فإن التعرض للمخاطر السياسية للحرب زاد الأقساط إلى ما يقرب من أربعة أضعاف. في عالم تتوقف فيه مخاطر رحلة معينة إلى حد كبير جدا على تقلبات الشؤون الإنسانية، هل أن رسم خرائط للمخاطر الطبيعية يبدو أمراً إجبارياً أو مصدراً غنيا للمعلومات؟ وهل كانت الحركة من ميناء إلى ميناء أو من مبنى إلى آخر أكثر صلة بتقييم المخاطر؟
نظرا لهذا الخليط المشوش للظواهر البشرية والطبيعية التي كانت تؤثر على المخاطر البحرية والبرية وعلى الحياة، قد تبدو التقييمات الرقمية للخطر مجردة، بسيطة التخطيط وعديمة الفائدة للمراقب المحنك. إزاء هذا الوضع، كيف كان يتم اختيار المخاطر، وبناءً على سلطة من؟ من الملفت للنظر أن شركات التأمين على الحياة الأولى كانت تعتمد بدرجة أقل على فحص طبي لخبير في تقييم التأمين على الحياة إذ كانت تركز على الفحص الشخصي السريع من قبل مديري الشركات (غير المتخصصين)، والاعتماد على التقارير المقدمة من الهيئات الاجتماعية المعترف بها خصوصا أعضاء طبقة ملاك الأراضي الكبار ورجال الدين. فحتى 1838 لم يكن هناك حاجة لشهادة طبية، على سبيل المثال، للحصول على بوليصة التأمين على الحياة من شركة رويال إكسجينج أشورنس، كما أن رويال إكسجينج أشورنس وشركة لندن أشورنس لم تستخدما مأموراً طبياً خاصاً بهما حتى 1842 و 1846 على التوالي. بدلا من ذلك، اعتمدت شركات التأمين على حدسها الخاص بها وانحيازها الاجتماعي، وسعيها للحصول على شهادة شخصيات محترمة يمكن الوثوق بها. وكما بيّن روبن بيرسون Robin Pearson [2]، فإن الأحكام حول التأمينية insurability، مثل الجدارة الائتمانية، كانت تستند على سلوك طالب التأمين، وملامحه ومظهره الخارجي، وسمعته كشخصية جيدة أو سيئة، أو القوالب النمطية العنصرية والإثنية. ويشير بيرسون بشكل خاص إلى وضع الخطوط الحمراء redlining [ممارسة اكتتابيه لمنع التغطية التأمينية في مناطق جغرافية محددة لافتراض وجود احتمال كبير للخسارة في هذه المناطق في حين أن الدافع لها يقوم على تمييز غير قانوني] من قبل شركات التأمين في لندن بالنسبة للمجموعات اليهودية الإشكنازية من الطبقات الدنيا في أواخر القرن الثامن عشر، وإلى انسحاب عدد من شركات التأمين الإنجليزية على الحياة من سوق التأمين على الحياة في ايرلندة في النصف الأول من القرن التاسع عشر بسبب المخاوف بشأن الآثار المالية المترتبة على الإفراط الايرلندي في معاقرة الخمر والانتشار المفترض هناك لوثائق التأمين القائمة على المقامرة.
إن ممارسة لعب القمار عن طريق التأمين على الحياة كان قد أثار في واقع الأمر انتباه شركات التأمين الإنجليزية في القرن الثامن عشر. والملاحظ أن المقامرة عن طريق التأمين حتى الثلث الأخير من القرن أثارت القليل من الإدانة الأخلاقية أو استهجان جمعيات وشركات التأمين. وفي حين أن العديد كانوا يعترضون على المراهنة على حياة الناس إن كان هذا يؤدي إلى ارتكاب الجريمة، لا يوجد سوى القليل من الأدلة تشير إلى أن مثل هذه الرهانات في تلك الفترة كانت تعتبر الخطأ متأصلاً فيها. ومن المؤكد أن الاكتتاب في بوالص التأمين على الحياة على سبيل المضاربة من قبل شركات التأمين الخاصة، وتملك مثل هذه البوالص من جانب أعضاء جمعيات التأمين كان شائعاً جدا، مثلما كان التساهل بشأنها قائماً على نطاق واسع ما دام المقامرين لم يحاولوا إغراق شركات التأمين بمبالغ مفرطة للخطر. أحد أعضاء جمعية آميكيبل للتأمين، جون ريتشاردسون، كان أقل قلقاً من المخططات القاتلة لعديمي الضمير مقارنة بقلقه من المشكلة المزمنة للمقامرين المتمثلة في استغلالهم للتأمين على "حيوات سيئة" لدى الجمعية، فلكونها تونتاين موتي mortuary tontine يجري بموجبها التأمين على الأعضاء في الصندوق، فإنها أسفرت عن عدد أكبر من المطالبات السنوية للمستفيدين من وفاة الأعضاء ومن ثم دفع مبالغ اصغر للمستفيدين من الأعضاء الأحياء. ووافقه عضو آخر في الجمعية، وليام ويستون، الراديكالي الديني وخَلَفْ اسحق نيوتن في جامعة كامبردج، على أن الأشخاص المؤمن عليهم من قبل الجمعية قد شهدوا معدلاً للوفيات أعلى بكثير من المستوى "المتوقع طبيعيا" نتيجة لانتقاء متعمد لحيوات غير صحية من قبل المضاربين في التأمين.
وعلى الرغم من قلقهم، على أي حال، فإن ويستون و ريتشاردسون لم يؤيدا القضاء على امتلاك وثائق تأمين على حياة أطراف ثالثة لأغراض المضاربة. ورغم أن ريتشاردسون اقترح أن من يرغب بشراء وثيقة تأمين على حياة أي شخص يجب أن يبرهن لماذا يريد ضمان هذا الحياة، ولكن ليس هناك ما يدل على أن أيا منهما كان يعتقد أن المراهنة على حياة الغير خطأ في حد ذاته. وبالنسبة لهما، فإن القضية المركزية هو الاحتيال، أي إخفاء المرض أو العجز البدني، مما يؤدي إلى الإضرار بوضع حملة وثائق التأمين الأسوياء والضغط باتجاه تقليص قيمة جميع المطالبات. في الواقع، وبعيدا عن محاولة قمع الرهان، اقترح ويستون كعلاج لاستغلال التأمين على حيوات سيئة أن تختار الجمعية مائتان أو ثلاثمائة من الأشخاص الأصحاء تتراوح أعمارهم بين 12 و 70 سنة يعيشون في المناطق القريبة من مكاتب الجمعية، وتطلبُ من أولئك الذين يريدون شراء التأمين لأغراض المضاربة اختيار شخص من هذه المجموعة المنتقاة للتأمين على حياته. وهكذا فإن خطة ويستون لم تكن محاولة لاجتثاث المقامرة، ولكن بدلا من ذلك هَدفت إلى تنظيمها بحيث أن كل حياة يؤمن عليها من قبل الجمعية لها نفس الفرصة في الوفاة.
الخطر المعنوي الذي يشكله التأمين لغرض المقامرة أدى في نهاية المطاف إلى الحد من خلق أخطار للتأمين بهدف المضاربة من خلال فرض معيار جديد للتأمينية insurability: المصلحة التأمينية، أي مصلحة مالية ملموسة في الخطر المؤمن عليه والذي ينتظم قيام الخسارة. لقد أصرّ قاضي القضاة في انكلترا، اللورد هاردويك Hardwicke، على أن تكون المصلحة التأمينية قابلة للبرهان: "ينطوي التأمين على مصلحة، على صفة في الشيء المؤمن عليه؛ -- وأنه [التأمين] ليس لتغطية ربح متخيل، ولكن لضمان مصلحة حقيقية." وتم فرض المصلحة التأمينية أولا سنة 1746 فيما يتعلق بالمخاطر البحرية ومن ثم سنة 1774 فيما يتعلق بالتأمين على الحياة وغيرها من المخاطر (قانون التأمين على الحياة 1774 المعروف باسم قانون المقامرة Gambling Act)، وهذا التشريع حصر المخاطرة ضمن حدود أخلاقية وقانونية معينة. ومع تأسيس هذا المنطق [بشأن المصلحة التأمينية]، حصّلت المحاكم وشركات التأمين على حد سواء، على ما يبدو، الوسائل القانونية والصريحة لفصل ممارسات التأمين القائمة "المشروعة" عن الممارسات "غير المشروعة" على النحو المحدد في الحساب الأخلاقي والعقلاني الناشئ للسلوك الاقتصادي.
ولكن بعد تشريع هذه القوانين واجهت المحاكم الإنكليزية المَهمّة التي لا تُحسد عليها لتمييز المصالح الاقتصادية المشروعة من مجرد الرهانات في الدعاوى الأكثر التباساً. وقد وضع منطق قانون المقامرة لاختبار رائع في قضية ماري سبنسر أمام اللوردات مانسفيلد، دانينغ، ووالاس في مقر بلدية لندن سنة 1777. كان زوج ماري سبنسر يمتلك عقارا كبيرا، وكانت أخته وريثته، عندما شرع بالرحيل إلى جزر الهند الغربية للانضمام إلى كتيبة عسكرية. قبل رحيله، قام السيد سبنسر بترتيب معاش سنوي من تركته بمبلغ 500 جنيه إسترليني لزوجته في حال وفاته في الخارج. ولكن، وبمبادرتها الخاصة، قامت ماري سبنسر أيضا بشراء وثيقة تأمين على حياة زوجها لقاء مبلغ كبير جدا 5,000 جنيه. وانتهى الأمر فعلاً بوفاة السيد سبنسر في الخارج إلا أن مكتتبي التأمين رفضوا المطالبة بالتعويض عن الوفاة بحجة أن السيد سبنسر سبق وأن رتب لأرملته معاشاً يتناسب مع مكانتها، وانه ليس لديها مصلحة اقتصادية إضافية في حياته تستطيع بموجبه التأمين عليها من الناحية القانونية. بيّن محامي المكتتبين المشكلة العامة التي تثيرها هذه القضية بالصيغة التالية:
إذا كانت زوجة أو غيرها من الأقارب تستطيع ضمان حياة الزوج، وهكذا دواليك [من الأقرباء] دون الاضطرار إلى إثبات "مبلغ، أو قيمة" معينة محددة خسرها المؤمن له، واعتماداً على حالة الشخص المتوفي، ففي مثل هذه الحالة لا يمكن أن يكون هناك أي قاعدة أخرى لتقدير "مبلغ أو قيمة المصلحة"، كما هو مطلوب بموجب القانون [قانون المقامرة]، غير مبلغ التأمين في الوثيقة؛ الذي قد يكون 100,000 جنيه؛ والذي لا يمكن الاعتراض عليه مثلما لو كان 5,000 جنيه، ومع ذلك فإن ذلك سيكون بالتأكيد مقامرة.
في تصديهم لقضية تثير التساؤل عن مدى الانطباق العام للمعيار الاقتصادي بموجب قانون المقامرة، انقسم اللوردات في آرائهم. ردد والاس موقف هاردويك بالإصرار على أن "المصلحة المذكورة في القانون [قانون المقامرة]، كموضوع للتأمين، يجب أن يكون قابلا للتقدير والتأكد، وليس مصلحة متخيلة، كتلك التي في هذه القضية". دانينغ من ناحية أخرى أكد أن العقد كان صالحا لأنه، من الناحية القانونية، لا يمكن إنكار مصلحة امرأة في حياة زوجها وشرعية تلك ألمصلحه. رد المؤمنين على هذا الرأي من خلال التذرع ضمنا بقانون الضروريات، بحجة أن توفير السيد سبنسر لمعاش سنوي لزوجته بمبلغ يتناسب مع وضعها الاجتماعي قد أزال أي "مصلحة طبيعية" متبقية لها في حياته. ولكن مانسفيلد وقف مع دانينغ في كون العقد صالحاً، وتبعاً لذلك قضت المحكمة لصالح السيدة سبنسر.
وكشفت نتائج قضية ماري سبنسر المشاكل المستعصية التي واجهتها المحاكم في التمييز المفهوم بين مصلحة تأمينية مشروعة ومقامرة غير مشروعة عندما يتم إدخال خسارة غير اقتصادية (أو "متخيلة") في المعادلة. في حين أن قانون المقامرة كان ناجحا إلى حد ما في قمع الرهانات الصريحة فإنه لم يَفصِل بشكل موحد الدوافع الصحيحة للتأمين بهدف التعويض عن العواطف الجامحة التي تغذي المضاربة.
قضية ماري سبنسر، مثل يهود لندن الذين وضعت خطوط حمراء حولهم أو المدمنون الأيرلنديون، تُذكّرنا أنه في حين أن تقييم المخاطر والخسائر قد تعتمد التحليل العلمي، فإن هذا التحليل يظل بالضرورة مترسخاً ضمن منظورات اجتماعية وثقافية مختلفة عن وقوع الخطر والتعرض له. في مقالة تعتبر الآن مرحة في قتامتها، كُتبت قبل خمسين عاما، حول طريقة وضع نظام شامل للتأمين من شأنه تقليل الخسائر في الممتلكات الأمريكية نتيجة لحرب نووية، لاحظ جاك هيرشلايفر Hirshleifer [اقتصادي أمريكي، 1925-2005 ترجمنا له مقالة منشورة في المدونة http://misbahkamal.blogspot.com/2010/04/2008.html] بشكل عام على أن "أسعار التأمين التفاضلية نسبة إلى الخطر لا تخلق غبناً قد يكون موجودا، إنها [أسعار التأمين] مجرد انعكاس له [للغبن، لعدم الإنصاف]." ونظرا للدور الذي تضطلع به اليوم مؤسسات التأمين في كل مكان، كحراس ماليين وقانونين، فإن وجهة النظر هذه تبدو ساذجة. إن توزيع التأمين في جميع أنحاء العالم لا يعكس فحسب بل يعزز أيضا القوة الاقتصادية والسياسية. وفي القيام بهذا الدور فإن مقدمي خدمات التأمين وهيئات الرقابة هي أيضا عرضة للانخداع بقبول الوضع الراهن حسب افتراضات قائمة على الرضى بالنفس، وتفشل في الوقوف ضد الهجمة القادمة. وإذا كان التاريخ يعلمنا شيئا فهو أنه لا يمكن أن ينبئنا بالمستقبل، ولكن إن لمْ يكن هناك غير هذا فإن أمثلة التاريخ تبقينا في حالة تأهب لمفاجآت غير مرغوب فيها مخزونة في الأقدار.
[1] مؤرخة أمريكية لتاريخ العلوم. لم يبين الكاتب في أي كتاب شرحت فيه الكاتبة هذه المفاهيم. ربما هو كتابها الذي وجدنا ذكراً له في الإنترنيت Classical Probability and the Enlightenment (1988)
[2] أستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة هَلّ البريطانية. لم يرد ذكر المصدر الذي استقى منه الكاتب. ولروبن بيرسون دراسات عديدة ومنها:
Insuring the Industrial Revolution: Fire Insurance in Great Britain 1700-1850 (Ashgate: Aldershot, 2004)
ملحق – التونتاين
شهدت الأسواق المالية في الفترة 1600-1850 تحولاً كبيراً تمثل بإدخال الابتكارات ومنها الشركات المساهمة، والسندات الحكومية القابلة للتداول، وفهم أفضل للسياسة النقدية، وترويج استخدام العملة، وإنشاء البنوك المركزية وما تبعه من استخدام العملة الورقية إلى جانب إدخال الأدوات الرياضية الهامة مثل اللوغاريتمات ونظرية الاحتمالات والجداول الاكتوارية.
وشهدت هذه الفترة بيع مجموعة واسعة من منتجات التأمين على الحياة والبعض منها لم يعد متداولاً. اثنين من هذه المنتجات هما التونتاين tontine (صندوق التأمين) والتونتاين الموتي mortuary tontine [الموتي المتعلق بالموت. نرجو من القارئ المساهمة في تقديم ترجمة مناسبة]. والاسم مشتق من صاحبهما الإيطالي لورنزو تونتي Lorenzo Tonti الذي اقترحهما في البداية على الكاردينال مازارين (الوزير الأول في الحكومة الفرنسية) Mazarin (1602-1661) عام 1652.
ويتكون الصندوق من مجموعة من أصحاب بوالص التأمين يدفع كل واحد منهم مبلغاً مقطوعاً لصندوق مغلق، وكل وثيقة تكون خاصة بحياة مستفيد مسمى (الذي قد يكون هو نفسه حامل الوثيقة أو قد يكون طرفاً ثالثاً). وفي نهاية كل سنة تدفع الفائدة المتحققة على المبلغ إلى المستفيدين الذين لا يزالون على قيد الحياة: ومع وفاة عدد من أعضاء الصندوق فإن المبلغ المدفوع لكل عضو على قيد الحياة يبدأ بالارتفاع حتى يظل عضو واحد فقط يستلم كل الفائدة. وعندما يتوفى آخر عضو يتوقف دفع الفائدة. في أبسط الحالات فإن المبلغ الأصلي لا يسدد أبداً، لأن الغرض من التونتاين هو جمع المال.
تم استخدام نظام التونتاين من قبل الحكومة الفرنسية ففي الفترة 1689 و 1759 أصدرت عشر تونتاين نجحت بفضلها في تجميع الأموال التي خطط لها. وخلافاً لذلك فإن الحكومة البريطانية عندما لجأت إلي استخدام التونتاين فإنها لم تستطع أن تجمع سوى 10% من مبلغ المليون جنيه استرليني الذي خططت له.
إحدى مشاكل التونتاين الملموسة هو الحافز المبطن لحملة وثائق التأمين لتسريع وفاة المستفيدين الآخرين للحصول على حصة أكبر من الفائدة المدفوعة.
وهناك فكرة مماثلة لصندوق التونتاين سوى أن الدفعات السنوية لا تسدد للمستفدين (حملة الوثائق أو أطراف ثالثة مسماة) الذين يبقون على قيد الحياة بل تسدد للمستفيدين. ولذلك فهي شكل من أشكال التأمين على الحياة تقوم على المبدأ التبادلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق