قطاع التأمين العراقي والانتخابات العامة القادمة
حاول ثلاثة من زملاء أعزاء في العراق (إثنان يعملان في شركات تأمين وواحد يعمل أستاذاً أكاديمياً في إحدى الجامعات في بغداد) نشر هذه المقالة في صحف عراقية. لحد الآن لم تثمر جهودهم. هذا دليل آخر على عدم جدية الصحافة العراقية في التعامل مع الشأن التأميني.
مصباح كمال
يجري الآن في العراق نقاش حامي عن الانتخابات العامة التي ستجري في 16 كانون الثاني/يناير 2010 وما يتعلق بها من إعادة النظر في قانون الانتخابات وتشكيل التحالفات السياسية وهلم جرا. ويُدلي العديد من الأطراف، سياسية وحزبية وغيرها، مواقف تجاه جوانب مختلفة لهذه الانتخابات إلا أن قطاع التأمين ليس معنياً بها. موقف السكوت وعدم الاهتمام ليس بالمستغرب فالقطاع ظل دائماً، في رأينا، في الماضي كما في الحاضر، ساكتاً عن الشأن السياسي العام ونعني به تحديداً المخططات السياسية والاقتصادية للحكومات والأحزاب. ربما يكون هذا التقييم مجحفاً، ولعل القارئ الحصيف ينبهنا على غير ذلك، لكننا لا نتذكر مواقف متميزة معلنة للقطاع، ولا أطروحات واضحة مكتوبة في هذا المجال، ويبدو القطاع وكأنه يعمل في عزلة عن الفضاء الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. فلم نقرأ يوماً رأياً تأمينياً تجاه إعداد ميزانية الدولة ووجوه الإنفاق فيها وتأثيرها على الطلب على التأمين، أو موقفاً تجاه عقود الدولة، أو نظام التقاعد، أو النظام الصحي، أو نظام الضرائب .. الخ. هذه وغيرها لها انعكاسات على النشاط التأميني. كما لم ينجح القطاع في بلورة دوره غير التجاري كقوة اقتصادية مجتمعية ضاغطة في إحداث تغييرات تصب في المصالح العامة وربما يكون لها آثار تجارية إيجابية على نشاطه (سيكون لنا وقفة أخرى تجاه الموضوع ضمن مشروع كتابة مقالة عن إخفاقات قطاع التأمين العراقي، نأمل أن يتوفر لنا الوقت لإنجازه).
لا يعني هذا أن العاملين في القطاع ليسوا معنيين بالانتخابات فهم، كغيرهم، لهم مواقفهم السياسية العامة والحزبية وربما الطائفية والعشائرية والقومية تجاه تشكيل قوائم المرشحين والتحالفات، ولهم تفضيلاتهم التصويتية. لكننا لا نتوقع توجيه القطاع على أساس سياسي حزبي طائفي لا بل نقف ضد هذا المسعى لأنه يقوّض معنويات العاملين في القطاع. وكما كان يقال في السابق، وفي سياق مختلف، فإن القطاع يجب أن يكون "فوق الميول والاتجاهات" إذ أنه بعكس ذلك سيساهم في إضعاف دوره الاقتصادي والاجتماعي وتقويض مشروع بناء دولة المؤسسات الديمقراطية.
قد يرى البعض في إثارتنا لهذا الموضوع ترفاً فكرياً فنحن نُصنفُ ضمن من لم يكتوي مباشرة بوطأة أوضاع العراق العامة، ومن لم يعاني من عسف النظام السابق وحروبه والغزو والاحتلال فيما بعد. وقد يكون هؤلاء مُحقين في تقييمهم.1 ولكن، بالنسبة لنا، فإن إثارة الموضوع هو من باب الدعوة لإخراج القطاع من انغلاقه في محيطه التجاري الصرف وولوج فضاء الحياة العامة فنشاطه رهن بالوضع العام السائد - كلما ساء هذا الوضع أزداد تدهور النشاط التأميني. ولنا في حقبة العقوبات الدولية (1990-2003) خير مثال على ما آل إليه قطاع التأمين وما زال لم ينهض إلى الوضع الذي كان عليه قبل ذلك من حيث حجم أقساط التأمين، والكوادر البشرية المدربة، والعلاقات مع أسواق إعادة التأمين العالمية. خروج القطاع من تمترسه التجاري (بيع الحماية التأمينية) نحو الحياة العامة سيساهم في تطوير المنهج الديمقراطي قيد التشكل في العراق، أي إدارة الخلافات والتعارضات بالوسائل المتاحة للضغط السلمي على صناع القرار وفي ذات الوقت تكوين رأي محدد تجاه مسائل لها مساس بقطاع التأمين مثلما لها مساس بحياة الناس.
ولعله من المفيد التذكير هنا بأن الصحافة التأمينية في بلد مثل المملكة المتحدة تكرس الصفحات عن مواقف الأحزاب السياسية أثناء انعقاد مؤتمراتها السنوية أو بعد تشكيل الحزب الفائز للحكومة وعند تشريع القوانين التي تؤثر على النشاط التأميني. أكثيرٌ أن نطلبَ من أركان التأمين المساهمة في مثل هذا العمل، والتأثير على الأحزاب وعلى الحكومة من خلال الصحافة أو الاتصال المباشر؟
إن الانتخابات العامة هي مناسبة لدعوة الأحزاب السياسية لتطوير مواقفها تجاه التأمين في صيغته الاجتماعية والتجارية.2 نحن نرى أن الديمقراطية في العراق ما زالت هشة إذ أن البعض لا يتصورها إلا كأداة للوصول إلى الحكم وليس فلسفة ومنهجاً عاماً في الحياة وفي العمل والثقافة ونظاماً للدولة يعمل من خلال مؤسسات محايدة لا تدين بالولاء للحكومة أو لحزب معين إذ أنها لجميع المواطنين. ونرى أيضاً أن مبادرة قطاع التأمين للدخول في معترك الجدل الانتخابي، لتمثيل وعرض المصالح التأمينية، خطوة نحو تعزيز العمل الديمقراطي المؤسسي الذي يتجاوز الهوس، أو قل التعصب، السياسي الطائفي والحزبي الضيق منه. وقد تحضى مثل هذه المبادرة باهتمام أحد الأحزاب أو المرشحين أو مجموعة منهم. وإن تحقق ذلك يكون القطاع وكأنه قد وجد صوتاً له داخل الحزب أو الحكومة التي ستتشكل أو داخل السلطة التشريعية.
يتمثل قطاع التأمين العراقي بشركات التأمين وإعادة التأمين منفردة، ومجتمعة في جمعيتها، وفي ديوان التأمين. لم نقرأ ما يفيد قيام أي من هذه الأطراف الثلاثة بتقييم أداء الحكومة الحالية تجاه قطاع التأمين، وما تتمناه هذه الأطراف على الحكومة التي ستتشكل بعد الانتخابات من سياسات خاصة بالنشاط التأميني. لم نقرأ ورقة موقف position paper تجاه قضية تأمينية يمكن أن تكون موضوعاً للاتصال مع البرلمان أو الحكومة، وما وصل إلينا في الماضي، ولا علاقة له بالحملة الانتخابية الحالية، قليل جداً ولم يكن موضوعاً للمتابعة إضافة إلى افتقاره إلى التحليل والمحاجة. وبالطبع فإن الجهل العام بالأهمية الاقتصادية للتأمين لدى معظم أعضاء الحكومة وكذلك نواب البرلمان يعني أن قطاع التأمين مُطالب بتقديم مقترحات إلى المرشحين وعلى حكومة المستقبل. أي أن القطاع عليه أن يقود عملية الاتصال بهذه الأطراف. ومن باب توسيع هذه الدائرة نرى أن يقوم القطاع صياغة وبلورة مواقف تجاه قضايا لها مساس بعمله، ومساءلة المرشحين عنها الآن وحتى إجراء الانتخابات، واكتشاف من يقف من هؤلاء مع القطاع، ومن يحاول إغفال دوره ويسكت عن السياسات والقوانين التي تكبل نشاطه وهلم جرا. إن الانتخابات البرلمانية هي أيضاً فرصة للقطاع لإعادة تقييم وضعه وأدائه الحالي وما يرجوه للمستقبل.
نعتقد أن هناك مطالب عديدة يمكن لقطاع التأمين أن يتقدم بها ويقحمها في الجدل الانتخابي، وقد قمنا بعرض ودراسة العديد من هذه المطالب في مدونة مجلة التأمين العراقي (http://misbahkamal.blogspot.com/) يمكن الرجوع إليها لمن يرغب في الإطلاع عليها. ويأتي على رأس هذه المطالب إعادة النظر في بعض مواد قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 والتي لا تخدم مصالح شركات التأمين العراقية، والقرارات التوجيهية لوزارة التخطيط والتعاون الإنمائي. ويتبع ذلك تحديد موقف القطاع من:
1. عقود النفط وغيرها من عقود الدولة التي تغفل مسألة التأمين على الموجودات والمسؤوليات القانونية والتعاقدية، والعمل على تبني صياغة موحدة للعقود الإنشائية للدولة.
2. تأمين الاستيرادات العراقية بحرً وبراً وجواً لدى شركات التأمين العراقية كلما كان ذلك ممكناً.
3. عقود الاستثمار الأجنبي العيني والتوجه نحو الاستفادة من طاقة شركات التأمين العراقية في توفير التأمين لها.
4. التكافؤ في التعامل مع شركات التأمين العامة والشركات الخاصة في تأمين الموجودات المادية للدولة - كما يقضي بذلك قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005.
5. الضرائب والرسوم المفروضة على شركات التأمين والآثار الاقتصادية الإيجابية لتقليصها في تكثيف الطلب على الحماية التأمينية.
6. فيدرالية التأمين ونعني بها رجوع شركات التأمين إلى ممارسة النشاط في إقليم كوردستان العراق والرقابة الاتحادية عليه لتشكيل سوق وطني عراقي مشترك للتأمين.
7. إشاعة الطلب على التأمين وجعل فروع معينة إلزامياً من باب حماية ثروات الوطن (التأمين ضد خطر الحريق ).3
8. حقوق الإنسان وإبراز علاقتها مع النشاط التأميني.4
هناك قضايا أخرى تتعلق بتفعيل دور الإشراف والرقابة (ديوان التأمين العراقي الذي أصبح، تعيين رئيسه، مع الأسف، موضوعاً للمحاصصة الطائفية)، وإدارة التنافس بين الشركات العامة والخاصة (والحيف الذي وقع، كما يبدو، على شركات التأمين الخاصة)، وقانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات لسنة 1980 .. الخ.
نعرف أن العديد من هذه المطالب والمقترحات ذا طبيعة إشكالية وقد لا تحضى لذلك بتوافق جميع أطراف القطاع. قد يكون الإجماع صعباً بسبب وجود مصالح متعارضة لكن ذلك لا يعفي أياً من هذه الأطراف من طرح وجهة نظرها. فمن خلال الجدل والحوار البيني، الذي يفترض القبول بالرأي المغاير، يمكن التوصل إلى الحدود الدنيا للاتفاق على سياسات معينة.
إثارتنا للموضوع ليس من باب العتب أو الانتقاص من أي طرف بل التحفيز على تطوير وتعزيز فهم مشترك للتأمين ودوره في المجتمع وفي الاقتصاد وكونه حاجة أساسية للتقدم.
نطمح أن نقرأ ما سيقوم به قطاع التأمين (شركات التأمين منفردة، جمعية شركات التأمين وإعادة التأمين وديوان التأمين) تجاه الموضوع المثار في هذه المقالة.
نود التنبيه إلا أن مقاربة الانتخابات من موقف تأميني لم يكن في الماضي أو الحاضر موضوعاً للمناقشة، وقد نكون أول من بادر إلى طرقها. لذلك، نتوقع أن يتصدى المعنيون والقراء المهتمين بما أوردناه في هذه المقالة وإغناءه مختلف جوانب الموضوع لصالح قطاع التأمين العراقي.
مصباح كمال
لندن، 20 تشرين الأول 2009
1 ربما كنا الآن في العراق لولا أن النظام الدكتاتوري اعتبرنا سنة 1977 مستقيلين من الخدمة في شركة التأمين الوطنية ونحن نتابع دراستنا العليا إذ لم يوافق مجلس قيادة الثورة، لا غيره، على إكمال دراستنا في الخارج وعلى حسابنا الشخصي! وكان قبلها قد حرمنا من بعثاته الدراسية فدفع بنا إلى اختيار المنفى.
كانت سياسات النظام الدكتاتوري الشمولية (التوتاليتيرية) تقوم على "بعثنة" الحياة العامة ومؤسسات الدولة، وفيما يخص موضوعنا، حصر الحصول على الشهادات العلمية العالية بأعضاء الحزب والموالين له وأزلامه والمتزلفين له. وهي ذات السياسة التي طبقت في السيطرة على النقابات العمالية والمهنية لتكون واجهات للحزب الحاكم. وبالطبع بدأ مثل هذا الاحتكار، والمكارم الملازمة له، في الجيش والشرطة .. الخ.
ويلاحظ أن بعضاً من هذا التوجه، ذو البعد الواحد القائم على العصبية الطائفية والحزبية، يجد ترجمته لدى الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كوردستان العراق. حصر المنافع وشراء ولاء بعض المواطنين يتم على حساب غالبية المواطنات والمواطنين وينافي النهج الديمقراطي ومبادئ العدالة وحقوق الإنسان. يبدو أن "العادات قاهرات" كما قيل قديماً، وهي، بالطبع، أكثر من عادة وليس هذا بالمجال المناسب للكتابة عنه.
2 انتهينا مؤخراً من كتابة دراسة قصيرة عن أحد الأحزاب السياسية العراقية العريقة وموقفه من التأمين الاجتماعي كما يرد في برنامجه. ونأمل أن نستطيع نشر هذه الدراسة قريباً.
3 دبجنا بعض الملاحظات بشأن التأمين الإلزامي ضد خطر الحريق على المستوى الوطني ونأمل أن يسنح الوقت تحويلها إلى موضوع لمقالة قصيرة كمدخل لمناقشة الموضوع بين العاملين في القطاع.
4 قد يكون موضوع حقوق الإنسان والتأمين بعيداً عن اهتمامات قطاع التأمين العراقي إلا أنه، وكما ذكرنا في رسالة لنا لمدير إحدى شركات التأمين الخاصة في بغداد، فإنه وبمرور الوقت، سينال اهتماماً من قبل البعض.
وبعض جوانب الموضوع يضم إلغاء التمييز بين طالبي التأمين مما يفرض على شركات التأمين عبء تبرير اعتماد معايير تمييزية في التأمين بسبب العمر، أو الجنس، أو الحالة الزوجية أو العجز البدني. ويظهر ذلك التمييز في عقود التأمين على الحياة وتأمين المركبات. وقد يكون من المناسب لشركات التأمين العراقية التفكير جدياً بالتمييز، في المرحلة الحالية، لصالح المرأة فقد أزداد عدد النساء الأرامل وهن بحاجة إلى دعم للحفاظ على نسيج العائلة وسلامة النسيج الاجتماعي عموماً.
وضمن نفس التوجه، يجب التفكير بملايين العراقيين الذين يعيشون تحت خط الفقر، وسبل توفير الحماية الاجتماعية لهم من خلال مؤسسات الدولة ذات العلاقة، وربما تستطيع شركات التأمين المساهمة من خلال توفير فرص عمل مجزية ضمن مشاريع استثمارية، أو صندوق إعانات لبنات وأبناء الفقراء المتميزين لمتابعة دراستهم. ونأمل أم يتفتق ذهن العاملين في شركات التأمين بمقترحات ذات جدوى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق