مؤيد الصفار
مكتتب ومدير في شركة تأمين عامة
مصباح كمال
نشرت هذه الورقة أصلاً في الثقافة الجديدة، العدد
380، كانون الثاني 2016، ص 57-66
تمهيد
طالما أن الذكريات الشخصية قد بهُتت، وما تبقى منها صار
صعباً على الاسترجاع، بسبب تقدم العمر وعدم توفر الوثائق التي يمكن أن تغني
الاسترجاع، فإنني سأحاول في هذه الورقة الكتابة عن جانب من عمل مؤيد الصفار كمدير
لقسم التأمين الهندسي في شركة التأمين الوطنية وكمكتتب لأخطار التأمين
الهندسي. ربما ألِجُ من خلال هذه المحاولة
مجالاً لم يلقَ عناية زملائي في الكتابة عن الشخصيات التأمينية العراقية. آمل أن تلقى هذه المحاولة ما تستحقه من نقد
وتقويم.
حسب المعلومات التي أرسلها لي الزميل عبد الكريم حسن
شافي فإن مؤيد جواد الصفار (1 تموز 1939 – 9 نيسان 1992) أكمل دراسته في الاقتصاد،
كلية الآداب، جامعة بغداد عام 1963. بدأ
حياته الوظيفية في شركة التأمين الوطنية قسم الدراسات والأبحاث (1964)، وأعيرت
خدماته إلى المؤسسة العامة للتأمين لفترة وجيزة (1964-1965)، وعمل لبعض الوقت في
قسم الحريق والحوادث (1965) ونقل في نفس العام إلى قسم السيارات. ثم نقل إلى قسم التأمين الهندسي في 26 أيلول
1965.[1]
وبقي يعمل فيها لفترة طويلة. عند وفاته
كان مديراً لفرع التأمين الهندسي في شركة التأمين الوطنية.
ذكر الزميلان عبد الكريم الشافي وباقر المنشئ[2] ملامح من حياة وعمل مؤيد
الصفار. وآمل أن يساهم الغير في إغناء
الصورة من جوانبها المختلفة. قد يعرف
البعض بأن الصفار قد تحزّب في أول شبابه، وأدخله الحزب القومي الذي كان منتظماً
فيه إلى السجن لبعض الوقت وعرّضه لصنوف من التعذيب[3]
لأن خطه الفكري لم يكن متوافقاً مع الخط السائد في الحزب. لكنه ترك التنظيم الحزبي وصار مستقلاً في
تفكيره السياسي.
التقيته آخر مرة في أوائل ثمانينيات القرن الماضي في
لندن عندما جاء برفقة زميليه سعد البيروتي، المهندس في شعبة الهندسة، وضياء مصطفى،
مسؤول شعبة إعادة التأمين في قسم التأمين الهندسي، للحصول والتفاوض على أسعار
وشروط تأمين بعض المشاريع الإنشائية الكبيرة، ومنها مشاريع الطرق الدولية السريعة
ومحطة كهرباء حرارية.
كانت شركة التأمين الوطنية آنذاك هي الوحيدة التي تكتتب
بأعمال التأمين الهندسي إذ أن شركة التأمين العراقية كانت تكتتب فقط بأعمال
التأمين على الحياة (لحين إلغاء تخصص الشركتين عام 1988). وكان قسم التأمين الهندسي يتكون، في أوائل
سبعينيات القرن الماضي، من شعبة الإصدار، شعبة الهندسي، شعبة التعويضات، شعبة
إعادة التأمين (الخاص بالتأمين الهندسي حصراً).
إن لم تخنّي الذاكرة كان عدد العاملين في القسم ثلاثة عشر، بضمنهم أربعة
مهندسين وأربعة سيدات، تحت إدارة مؤيد الصفار.
طبيعة الطلب على التأمين الهندسي
وصلت محفظة التأمين الهندسي في الشركة أوجها بفضل
المشاريع التي ارتبطت بما سمي "الخطة الانفجارية" أوائل سبعينيات القرن
الماضي، وربما كانت هي الثانية من حيث الحجم بعد محفظة التأمين البحري-بضائع (من
المؤسف أن الإحصائيات ليست متوفرة لعقد مقارنات مجدية).
كان الطلب على التأمين الهندسي قائماً بقوة تعليمات
الدولة، ولم يكن الطلب الفردي، خارج العقود الإنشائية للدولة، يُشكّل عنصراً مهماً
في محفظة التأمين الهندسي. يعني هذا أنه
لم تكن هناك حاجة حقيقية لإنتاج أعمال التأمين الهندسي، كما كان عليه الحال
بالنسبة لبعض فروع التأمين الأخرى كالحريق أو التأمين على الحياة (بالنسبة لشركة
التأمين العراقية) التي كانت تعتمد على طاقم من المنتجين في الشركة وعدد من وكالات
التأمين الخاصة النشطة. كانت الهيئة التوجيهية لمجلس التخطيط توفر التعليمات الضرورية لإجراء
التأمين الهندسي للمشاريع الحكومية بالشكل الصحيح. "فقد أصدرت الهيئة التوجيهية قرارها
المرقم 4 في بتاريخ 23/11/1971 وأوصت بما يلي:[4]
1- اعتماد النص
الموحد لشروط التأمين في كافة عقود المقاولات الهندسية المدنية التي تنفذ لصالح
القطاع العام.
2- عدم توقيع العقد
مع المقاول (خاص أو عام) بعد الإحالة ما لم يقدم استشهاداً من شركة التأمين بأن
معاملة التأمين هي قيد الإنجاز.
3- عدم صرف أية سلف
أو مستحقات مالية إلى المقاول ما لم يقدم وثيقة التأمين المطلوبة. ويكون المدير المالي أو المحاسب مسؤولاً خلاف
ذلك.
وصدرت بعدها تعليمات أخرى لا أتوفر على نصوصها ومنها
توحيد شروط عقود المقاولات الكيمياوية وغيرها.
العملية الاكتتابية
لم يكن تطبيق الأسعار والشروط على تأمين المشاريع آلياً
إلا في حدود ضيقة تنحصر بالمشاريع الصغيرة غير المعقدة في التصميم والإنشاء، بعد تصنيف
المشروع، من حيث حجمه وخطورته وتعقيداته، بموجب دليل التسعير (دليل اكتتابي مُعَدّ
من قبل معيد التأمين القائد آنذاك، شركة ميونخ لإعادة التأمين) وتطبيق سعر التأمين
المقابل له.
لنتذكر أن العملية الاكتتابية كانت تتم من قبل مهندسين
لا يكتفون بتطبيق الأسعار والشروط الجاهزة في الدليل، بل كانوا يستفيدون من
معرفتهم الهندسية لتشخيص مصادر مسببات الضرر، ورسم صورة لمشهد أكبر خسارة محتملة maximum probable loss (MPL) بسبب عوامل الطبيعة (فيضان، أمطار) أو بسبب حادث حريق أو انفجار خاصة
مع قرب إكمال أعمال المشروع أو عند بدء الاختبار والتشغيل التجريبي. هذا إضافة إلى معرفتهم بطوبوغرافية العراق،
والمهندسين والمقاولين العراقيين الكبار والأوضاع المحلية بوجه عام.
كانت تسعيرات المهندسين تخضع لموافقة مدير القسم، أو يُستعان
في تحديدها ، بالنسبة للمشاريع الكبيرة، بمعيد التأمين الاتفاقي أو معيد التأمين
الاختياري في أسواق التأمين العالمية، أو المزاوجة بين التسعيرات المختلفة بهدف
التوصل إلى سعر "عادل."
العملية الاكتتابية وعدم القدرة على رفض طلب التأمين
تتمثل العملية الاكتتابية بتقييم المكتتب
لمواصفات الخطر (محل التأمين) ومواصفات صاحبه (لتقييم ما يعرف بالخطر المعنوي)
والقبول بالتأمين على الخطر وتحديد السعر والشروط المناسبة له، وذلك ضمن
"فلسفة" الاكتتاب التي تتبعها شركة التأمين.
ترى ما هي الوسائل المتوفرة للمكتتب عندما يكون موضوع
التأمين وصفات طالب التأمين دون المستوى المطلوب substandard أو لنقل، من باب الاختصار، رديئاً ضمن المعايير المستخدمة
لمواصفات الخطر الجيد وطالب التأمين صاحب الخبرة الجيدة.
كما ذكرنا فإن مصادر الطلب الأساسية على التأمين الهندسي
هي عقود مقاولات الدولة، ولا يشكل الطلب الخاص إلا نسبة ضئيلة جداً في محفظة
التأمين الهندسي. لم يكن بوسع مؤيد رفض
طلبات التأمين على عقود التأمين لأن شركة التأمين الوطنية كانت هي الشركة الوحيدة
التي تمارس التأمينات العامة، أي بلغة الاقتصاد احتكار العرض.
المساحة المفتوحة أمامه، في مثل هذه الحالات، لم تتعدَ
في تقديري وضع شروط إضافية، أو فقرة تحمُّل (خسارة مهدرة) أعلى، أو فرض سعر تأمين
أعلى قليلاً مما يرد في دليل التسعير كتعويض عن رداءة الخطر التأميني.
لقد كان اكتتاب أعمال التأمين الهندسي يسير على النمط
الأوروبي، تمييزاً له عن عملية الاكتتاب في سوق لندن، وتحديداً النمط الذي كان
متبعاً في شركة ميونيخ لإعادة التأمين والشركة السويسرية لإعادة التأمين، وكانت
كلتا الشركتين من معيدي التأمين القادة لاتفاقيات شركة التأمين الوطنية. وهذا النمط هو الذي كان سائداً. فقد كان دور المهندس أساسياً في هذا النمط في
تسعير وثائق التأمين. وكان دور الآخرين من
غير المهندسين، كمدير شعبة الإصدار أو مدير القسم، يفرض نفسه لأغراض تجارية (أخذ
واقع المنافسة بنظر الاعتبار) عندما تتطلب المنافسة التدخل لتخفيف الشروط أو منح
خصم لأسعار التأمين.
لذلك كان يُنظر إلى العملية الاكتتابية في ألمانيا وسويسرا
بصرامة علمية بفضل الدور المباشر للمهندسين المختصين كمكتتبين في هذه العملية.
ونعرف بأن مؤيداً أمضى فترة أسبوعين متدرباً في شركة
ميونيخ لإعادة التأمين وغيرها من شركات إعادة التأمين، تعرّف خلالها على هذا النمط
من الاكتتاب واستوعب مضامينه وتطبيقه.
لم يكن مبتدعاً لهذا الأسلوب في الاكتتاب لأنه كان
موجوداً قبل أن يعمل في قسم التأمين الهندسي عندما كان أصلان باليان رئيساً للقسم
ويعمل معه المهندس المدني د. نائل بني، الذي كان يجمع بين العمل في الشركة
والتدريس في جامعة الحكمة.[5]
هو نمط مستورد للاكتتاب يختلف عن نظيره في سوق لندن
للتأمين حيث كان المهندس يحتل موقعاً استشارياً ولا يشارك في التسعير ووضع الشروط،
وإنما يساعد المكتتب في فهمٍ أفضلَ للعناصر الكامنة في موضوع التأمين.
كان الاكتتاب في قسم التأمين الهندسي في شركة التأمين
الوطنية يعتمد على دليل التسعير الذي كان موضوعاً من قبل المعيد القائد، وهو كما
مرَّ بنا دليل يضم الحدود الدنيا للأسعار والشروط الأساسية الواجب تطبيقها على جلّ
أخطار التأمين الهندسي باستثناء الأخطار المرتبطة بالمشاريع الكبيرة التي كان
تسعيرها يتم في خارج العراق إما من قبل المعيد القائد (الشركة التي تقود اتفاقية
التأمين الهندسي) أو من خلال وسطاء إعادة التأمين الدوليين في سوق لندن. أي أن إطار التسعير كان موضوعاً مسبقاً. وكانت عملية التسعير تبدأ من المهندسين وتنتهي
بقرار نهائي لمدير القسم.
فيما يخص التسعير خارج العراق، بالنسبة لعقود إعادة
التأمين الاختياري، كانت السياسة التي يطبقها مؤيد الصفار تقوم على الاستعانة في
معظم الحالات بوسيطين عالميين لإعادة التأمين مع تعليمات لاستدراج الأسعار والشروط
على أساس تنافسي من معيدي التأمين الاختياري.
كان مؤيد يضع سوق لندن من خلال وسطاء إعادة التأمين (حيث يتواجد معيدو
التأمين الاختياري) في مواجهة معيد التأمين الاتفاقي في ميونيخ الذي كان يُستدرج أيضاً
لتقديم أسعاره وشروطه للعقود الاختيارية.
تسوية المطالبات بالتعويض كانت أيضاً تبدأ من
المهندسين، بعد الكشف الموقعي على الأضرار، واقتراح مبلغ التسوية في تقرير يقدم
لمدير القسم الذي يكون القرار النهائي محصوراً به ولحدود معينة. كانت بعض التسويات ضمن صلاحية المدير العام
للشركة، وغيرها من التسويات الكبيرة كانت تعرض على مجلس إدارة الشركة للبت
بها. وهذه التعويضات الكبيرة كانت أيضاً
موضوعاً لموافقة المعيد القائد.
وهكذا كانت عملية الاكتتاب وتسوية المطالبات تخضع
لصلاحيات ذات طابع هرمي، يحتل فيها الصفار موقعاً مهماً كمكتتب وكمدير.
العملية الاكتتابية في شركة تأمين عامة تتمتع باحتكار
العرض
لم يكن بمقدور طالب التأمين طلب اسعار من شركة تأمين
أخرى على أساس تنافسي لحين إلغاء تخصص شركة التأمين الوطنية في التأمينات العامة
وبروز بدايات "منافسة" مع شركة التأمين العراقية. ولن تتطور هذه المنافسة إلا مع تأسيس شركات
التأمين الخاصة بعد صدور قانون الشركات رقم 21 لسنة 1997 (تأسست أول شركة تأمين
خاصة سنة 2000).
مع ذلك يمكن المحاجّة بأن التسعير لم يكن قائماً على "ابتزاز"
طالب التأمين. وهذا الرأي يقوم، من جانب،
على وجود دليل التسعير الموضوع من قبل شركة عالمية لإعادة التأمين، شركة ميونخ
لإعادة التأمين، تتمتع بسمعة احترافية عالية.
جدول الأسعار في الدليل هو استخلاص لخبرة طويلة وواسعة، وهو، أي الجدول،
يضم أسعاراً توصف بأنها فنية — بمعنى أنها تستجيب لمواصفات محل التأمين ومكامن
الخطر فيه وتضم هامشاً للربح.
ومن جانب آخر، كان التسعير يقوم على التشارك في تطبيق
الدليل من قبل شعبة الإصدار وشعبة الهندسة ومدير القسم. وقد ينشأ الخلاف بينهما بسبب اختلاف في تقييم
مخاطر المشروع المعروض للتأمين. وقد كان
هذا أمراً واقعاً في قسم التأمين الهندسي، ولم يكن هناك تواطؤ بين مدير القسم
والمهندسين على تطبيق سعر معين.
قائد فريق العمل
يجرّنا موضوع العملية الاكتتابية إلى ما أراه صفة مهنية وإدارية
مهمة لدى مؤيد، وهي عدم احتكار العمل، وإيمانه بتفويض المهام وكأن همه هو تشكيل
فريق لإنجاز مهام القسم الفنية.
لم يكن مؤيد يعمل لوحده. صحيح أن كل القرارات تنتهي عنده، كونه مديراً
للقسم، وكون التركيب الإداري هرمياً، إلا أن تصرفه كان ينطوي على عدم احتكار
العمل. كان يعمل وكأنه عضو في فريق وبألفة
مع العاملين معه، ويفوض زملاءه العديد من المهام في الاكتتاب وتسوية التعويضات
وإدارة ملف إعادة التأمين الخاص بقسم التأمين الهندسي. خير شاهد على ذلك هو سفره إلى مراكز التأمين
العالمية لأغراض العمل فقد كان زملاء آخرون يرافقونه: مهندس للاهتمام بالجوانب
الهندسية والمسؤول عن إعادة التأمين للاهتمام بتفاصيل ومتطلبات إعادة التأمين.
ومن المفيد أن أذكر هنا أن مؤيد الصفار عندما كان يجابه
مسألة تأمينية ذات بعد قانوني خارج علمه يستشير الزملاء والزميلات العاملات في قسم
الشؤون القانونية. كان هذا دأبه حتى في التعامل
مع أسس وتطبيقات مفاهيم تأمينية معينة.
ولي تجربة معه في دراسة مفهوم "استعادة الوضع السابق" بعد وقوع
خسارة من بين أمور أخرى.
وكانت علاقته مع المدير العام، الأستاذ عبد الباقي رضا،[6] تتميز بالود والانسجام،
فكلاهما كانا يلتقيان على مبدأ وطنية النشاط التأميني العراقي والذود عنه في
الداخل والخارج، وخدمة الاقتصاد العراقي، وعلى الالتزام بحرفية العمل.[7]
مهارات تفاوضية ومعرفة بالتقنيات العملية في الأسواق
العالمية للتأمين
كان الصفار مثقفاً وقارئاً جيداً وله معرفة جيدة باللغة
الإنجليزية أعانته على إدارة التفاوض على أسعار وشروط التأمين مع طالبي التأمين من
المقاولين الأجانب، مثلما أعانته في التفاوض مع معيدي التأمين والوسطاء الدوليين لتحقيق
أفضل الصفقات للشركة دون الحاجة إلى من يترجم له.
يذكر باقر المنشئ في مقالته "ذكريات سنواتي مع مؤيد
الصفار" أن
"المرحوم مؤيد أدخل أسلوباً جديداً في
التعامل مع معيدي التأمين من ناحية والمقاولين من ناحية أخرى، إذ كان يتفق مع
المعيدين على أن تكون إعادة التأمين الاختيارية وفق السعر الصافي، في حين انه يقوم
بتحميل السعر بعمولة مرتفعة في اتفاقه مع المقاولين وبذلك كان يحقق عائداً كبيراً
للشركة."[8]
لم يكن الدافع وراء هذه الممارسة grossing up الانتفاع الشخصي بل تعظيم دخل الشركة. هذه الممارسة كانت معروفة في معظم أسواق
التأمين الغربية وتتم، بالطبع، دون علم المؤمن له من الأفراد والشركات؛ أي أنها
تتم سراً. وقد توقف العمل بها بفضل اتساع
الرقابة والتأكيد المتعاظم على الشفافية في إجراءات التأمين من قبل الوسطاء وشركات
التأمين، وفرض السلطات الرقابية للغرامات والعقوبات على ممارسيها.
في
العادة، يضمُّ سعر التأمين الإجمالي gross rate العمولة التي يمنحها مكتتب عقد إعادة
التأمين الاختياري (عمولة الشركة المسندة وعمولة وسيط التأمين) ما لم يحدد المكتتب
نسبة توزيع العمولة بين الشركة المسندة ووسيط التأمين. في الماضي، عندما كانت القواعد الرقابية ومستوى
الشفافية في العلاقات ضعيفة، كانت فرص "التلاعب" بالعمولة سارية. كتب أحد المحامين أن
العمولة التي يستحقها الوسيط هي العمولة
التي يجيزها المكتتب [ويكتبها بخط اليد في قسيمة الوسيط]. ولذلك لا يحق للوسيط تحميل قسط التأمين
بالزيادة ليوفر لنفسه مكافأة إضافية ما لم يقترن ذلك بالموافقة القائمة على معرفة
المؤمن له والمكتتبين.
وجود شرط المعادل الصافي (ما يعادل
المبلغ الصافي) net
equivalent clause في القسيمة يسمح للوسيط أن يعدل القسط
الإجمالي وفي ذات الوقت يعطي المكتتب نفس القسط الصافي الذي يريده المكتتب. لو اُستخدم هذا الشرط بشكل يسمح للوسيط أن يزيد
من حجم القسط الإجمالي فإن الشرط يتحول ببساطة الى وسيلة بديلة لزيادة السعر
بالتحميل .... استعمال مثل هذا الشروط لزيادة العمولة لا يستقيم مع واجب الوسيط
تجاه المؤمن له ما لم يقترن ذلك بالموافقة القائمة على معرفة المؤمن له informed
consent. ولذلك فقد تم إعلام مكتب
توقيع الوثائق في لويدز (LPSO) برفض القسائم slips
حيثما يُعّبر عن العمولة على أنه المعادل الصافي ما لم يُوَضّح أن المعادل الصافي
هو للتخفيض net
equivalent downwards أي أن المراد من المعادل الصافي هو تخفيض
القسط الإجمالي فقط.[9]
كان
مؤيد مُلماً بممارسات وسطاء التأمين هذه وغيرها وكذلك ممارسات المقاولين الدوليين،
وكان يعتبر البعض منها، بفضل ثقافته السياسية، تعبيراً عن مواقف كولونيالية تستصغر
كل ما هو غير غربي. وكان هذا الأسلوب الذي
ذكره باقر المنشئ هو وسيلة الصفار "للنيل" من بعض المقاولين الأجانب،
ففي نهاية الأمر كان مصدر قسط التأمين لتأمين المشروع الإنشائي هو رب العمل
العراقي (إحدى الوزارات العراقية). وكأنه
بذلك أراد أن يحمي مصالح العراق.
تميز مؤيد بقدرات تفاوضية عالية مع عملاء الشركة من
الشركات الأجنبية المنفذة لعقود الدولة، ومع وسطاء إعادة التأمين في الأسواق
الدولية، وكذلك مع معيدي التأمين الاتفاقي وبخاصة معيدي التأمين الاختياري للأعمال
الهندسية.
وقد أشار باقر المنشئ إلى ذلك، في سياق تعامله مع مؤيد، بالقول:
"المرحلة الثانية
كانت بعد نقلي إلى قسم إعادة التأمين لأكون مساعداً للمرحوم أنطوان سليم إيليا،
ومن بعدها ترقيتي لأشغل إدارة فرع تأمين السفن والطيران وإعادة التأمين. بذلك
أصبحت في مستوى إداري واحد مع المرحوم مؤيد الصفار. إلا أنه حافظ على مكانته
المميزة في الشركة، وأحتفظ بمسؤولية ترتيب إعادة التأمين الاختيارية للمشاريع
العملاقة على الرغم من مركزية إعادة التأمين في الفرع المتخصص.
شخصياً لم أجد غضاضة في ذلك لثقتي بأن المرحوم
مؤيد بقدراته الخارقة في التعامل مع المقاولين الأجانب ومعيدي التأمين العالميين
كان قادراً على تحقيق أفضل الشروط لإعادة تأمين المشاريع العملاقة."[10]
وكتب عنه المرحوم جاد قبّان:
كان مؤيد الصفار يحمل شهادة جامعية وكان يتمتع بخبرة
كبيرة في مجال التأمين الهندسي. لم يكن محترماً
من قبل زملائه ورؤساء الأقسام الأخرى بل أيضاً من قبل العملاء [المقاولين الأجانب]
الذين كانوا يخشونه إلى حد كبير بفضل معرفته الواسعة في صناعة [التأمين على
المشاريع الإنشائية] والتكتيكات المستخدمة من قبل المقاولين الدوليين. إذ أن هؤلاء كانوا غالباً ما يقومون بإجراء غطاء
تأمين الاختلاف في الشروط/الضمان الآمن Difference in Conditions/Security خارج العراق بأقساط للتأمين كان من رأي مؤيد أنها يجب أن تقرر ويحتفظ
بها في سوق التأمين العراقي، وبالتالي تساهم في نمو قطاع التأمين في العراق
واقتصاد البلاد بشكل عام.[11]
ما يذكره المرحوم جاد قبّان يؤكد الحس الوطني الكامن في
السلوك الفني لمؤيد في التعامل مع الأجنبي.
كان المقاول الأجنبي يأتي إلى شركة التأمين الوطنية ومعه
وسيط التأمين من موطنه في أوروبا أو من سوق لندن، مُحملاً بأسعار وشروط جاهزة
لإعادة التأمين الاختياري، في محاولة لإقناع مؤيد الصفار بها. لكنه لم يكن يقبل بها. لماذا؟
لأن هذه الأسعار كانت متدنية بشكل مفرط، مع فقرة تحمل (خسارة مهدرة) عالية
جداً، وشروط ضيقة للتأمين. كل ذلك مرتب من
أجل تسديد أقل الأقساط لشراء وثيقة التأمين في العراق، وإجراء التأمين الحقيقي في
الخارج على أساس الاختلاف في
الشروط/الضمان الآمن الذي ذكره جاد قبان.
تعليلي لموقف مؤيد هو أن هذه الترتيبات فيها تجاوز على
شرط التأمين مع شركة التأمين الوطنية، وفيها إضرار للمصالح العراقية من حيث أن القسط
الحقيقي للتأمين يسدد لشركة تأمين أجنبية بدلاً من أن تسدد للتأمين الوطنية. وعدا ذلك فإن مصدر القسط هو رب العمل
العراقي. فمن المعروف، خاصة لدى الشركات
الإنشائية الأجنبية، أن كلفة التأمين تدخل في سعر المقاول[12] التي يجري الاتفاق عليه
مع رب العمل. لذلك كان يعمل على ضمان بقاء
اكتتاب وثائق تأمين عقود الإنشاء تحت إدارة شركة التأمين الوطنية.
عندما كانت تنشأ الحاجة لإعادة التأمين الاختياري، وهو
الحال بالنسبة لمعظم المشاريع الهندسية الكبيرة، كانت السياسة هو خلق حالة من
التنافس: فمن جهة تطلب الشركة مباشرة من معيد التأمين الاتفاقي، أو معيد آخر في
أوروبا، تقديم عروض الأسعار والشروط لتأمين المشروع، ومن جهة أخرى تطلب من وسطاء
إعادة التأمين في سوق لندن تقديم العروض.
كان تنظيم هذه المنافسة بين سوقين لإعادة التأمين مثار إعجاب لأنه كان
قائماً على انتقاء دقيق لوسطاء التأمين في سوق لندن وقصر عددهم إلى اثنين في معظم
الحالات بحيث لا تنشأ حالة من الفوضى التنافسية بين الوسطاء وبين معيدي التأمين
أنفسهم؛ وهو ما يمكن تسميته بالمنافسة المقيدة، غير المفتوحة لمن هبَّ ودبًّ. وبالطبع، كان الفائز هو من يقدم أفضل
العروض. وبموجب هذه العروض كان يجري تسعير
تأمين المشاريع الكبيرة بانتقاء الأفضل منها.
كان موقفه من المقاول العراقي، المتخلف عن شراء وثيقة
تأمين كافة أخطار المقاولين أو وثيقة كافة أخطار النصب التي يتطلبها عقد الإنشاء
منه، لا يحيد عن تطبيق سعر التأمين الذي كان سيطبق أصلاً لو تقدم المقاول بطلب
التأمين قبل البدء بأعمال الإنشاء. كانت
آلية تحديد السعر في هذه الحالة تعرف باسم أجور المِثلْ،[13]
تصدر بصيغة رسالة إلى جهة حكومية أو إلى من يهمه الأمر. كانت الرسالة الصادرة من قسم التأمين الهندسي أشبه
ما يكون بمذكرة تغطية مختصرة (دون منح غطاء حقيقي نافذ) يذكر فيها اسم المقاول،
واسم رب العمل، واسم المشروع ومبلغ التأمين، ونوع وثيقة التأمين، وأجر المثل (قسط
التأمين التي كانت الشركة ستطلبه لو أن المقاول قدم طلباً للتأمين قبل بدء أعمال
المشروع). ولم تكن شركة التأمين تتقاضى
قسطاً للتأمين أو رسماً لقاء إصدار رسالة أجر المثل. كانت وظيفة الرسالة تسهيل التحاسب بين المقاول
ورب العمل بعد إكمال المشروع وإبراء ذمة الطرفين، إذ كان رب العمل يستقطع أجر
المثل (قسط التأمين) من استحقاقات المقاول.
وهذا الاستقطاع يقوم على مبدأ تضمن سعر المقاولة لكلفة إجراء التأمين على
المشروع من قبل المقاول.[14]
بوفاته فقدت شركة التأمين الوطنية مكتتباً متميزاً في
مجال التأمين الهندسي ربما لم يبزّه قبله سوى أصلان باليان[15] الذي شهد تأسيس قسم
التأمين الهندسي (آب 1966) في الشركة وكان أول مدير للقسم. وقد أخذ بسام يوسف البناء مهمة إدارة التأمين
الهندسي فيما بعد.[16]
2 تشرين الثاني 2015
[1] رسالة إلكترونية للكاتب من عبد الكريم حسن شافي،
مدير فرع التأمين على الحياة، شركة التأمين الوطنية، مؤرخة في 4 آب 2015.
وكذلك: باقر المنشئ، “ذكريات سنواتي مع مؤيد الصفار،" مرصد
التأمين العراقي:
[3] أكتشف معذبوه نقطة ضعف عنده: عدم تحمله
الدغدغة. كانوا يمارسونها عليه لحد
اختناقه. كان مصاباً بالربو مما فاقم من
تعذيبه. لم يتحدث عن تجربته القاسية هذه
وحسب علمي لم يُشّهر بأحد ممن وشوا به أو تسببوا في سجنه.
[4] كما أوردها بسام يوسف البناء في تقديم كتاب وثيقة تأمين كافة
أخطار المقاولين، ترجمة محمد الكبيسي، (أربيل: طبعة إلكترونية، توزيع خاص
ومحدود من قبل المترجم، 2007)، ص 6-7.
[5] فيما بعد، وبعد مغادرته للعراق، سيصبح د. بنّي حجة في عقود الإنشاء وتصبح
كتبه عنها مرجعاً عملياً وأكاديمياً إضافة لعمله كأستاذ في جامعة دبلن.
[6] شغل
الأستاذ عبد الباقي رضا موقع رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لشركة التأمين
الوطنية في الفترة من 1 شباط 1966 لغاية 4 آذار 1978.
"اختم هذه الرسالة وقد تذكرت من الراحلين الذين عملت أنت معهم مؤيد
الصفار. في لقاء التوديع في مكتبي صبيحة
4/3/1978 والترحيب بالمدير العام الجديد بديع السيفي ضم عدداً من المدراء قال لي
الصفار: كلمة قصيرة أقولها وهي اني لم اندم لحظة واحدة من العمل معك مديراً عاماً
لنا. انني شديد الاعتزاز بهذه الجملة
البليغة الصادرة من شخص تعرفه أنت خير المعرفة." من المؤمل إصدار رسائل الأستاذ عبد الباقي
للكاتب بصيغة كتاب، بعد موافقته، بعنوان مقترح رسائل في السيرة الذاتية
والتأمين (أعدت المسودة سنة 2013).
[8] باقر المنشئ، "ذكريات سنواتي مع مؤيد
الصفار،" مرصد التأمين العراقي:
[9]
محاضرة ألقاها كلايف براون Clive Brown، واحد من كبير المشاركين في شركة التضامن الحقوقية كاميرون
مَكّينه، لندن، في مؤتمر رابطة وسطاء التأمين والاستثمار البريطانية في
نيسان/أبريل 1998. وكان المحاضر قد نشر
مقالة في نفس مضمون محاضرته تحت عنوان “Broker
remuneration: the regulatory issues” في جريدة
Lloyd’s List Insurance Day, Tuesday April 1998
[10] باقر المنشئ، مصدر سابق.
[11] Jad G. Kabban, Memoirs of a Pioneer
Arab Insurance Broker (Beirut: n.p., 2004), p 114. هذه الفقرة من ترجمة مصباح كمال.
[12]
إن معظم المقاولين يلجؤون إلى تقدير كلفة شراء الحماية التأمينية
للمشروع، وإدخال هذه الكلفة في مناقصاتهم.
وبذلك تكون كلفة التأمين داخلة بشكل آلي في سعر المقاول.
[14] هذه القاعدة تنطبق على الحالات التي تناط فيها وظيفة التأمين على أعمال المشروع،
بموجب عقد المقاولة، إلى المقاول.
وبالطبع، فإن قيام رب العمل بالتأمين (وله حضور واسع في العديد من بلدان
العالم) يعني إعفاء المقاول من القيام بالتأمين، وبالتالي فإن مسألة أجر المثل
تصبح غير قائمة.
[16] تقييم دور بسام يوسف البناء، الذي خدم شركة التأمين الوطنية 47
سنة، يحتاج إلى معالجة مستقلة، ويكفي القول هنا أنه شهد العصر الذهبي للشركة، عهد
إدارة الأستاذ عبد الباقي رضا (1966-1978)، وعمل في ظروف الحصار الدولي على العراق
(1990-2003) ومن ثم الاحتلال الأمريكي، أي في فترات شهدت تراجع وتدهور قطاع
التأمين العراقي. ظل يعمل في إدارة فرع
التأمين الهندسي، إضافة إلى مسؤولياته الأخرى في الإشراف على فروع أخرى، لحين
انتهاء عقده مع الشركة في أيار 2015.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق