قانون شركات الضمان (أي السيكورتاه)
دراسة تمهيدية
مصباح كمال
خلفية الدراسة
ترجع خلفية هذه الورقة إلى مراسلات مع الزميل منذر عباس الأسود المحامي خلال شهر نيسان 2009 وكان وقتها يعد العدة للسفر إلى الأردن للعلاج الطبي. ونقتبس منها مطولاً لأنها تضم معلومات ذات علاقة مباشرة بموضوع هذه الورقة. في رسالتي الأولى قلت:
"تعرف أن العديد منا عندما نبحث عن جذور تاريخ التأمين في العراق نذكر قانون السيكورتاه (أو السيكورته) العثماني؛ نذكره دون التوقف عنده إذ أن هذا القانون لم يحض بدراسة مستقلة تكشف عن خلفياته، علاقته بقوانين أخرى ومصادره المحتملة (ربما في مجلة الأحكام العدلية كإطار عام)، أهم الأحكام الواردة فيه .. الخ. كما أن نصه الكامل لم يخضع لقراءة نقدية.[1]
وأذكر أن السيد طالب المصرف، عندما كان يعمل في المؤسسة العامة للتأمين، أصدر كتاباً بجزأين في أوائل سبعينات القرن الماضي ضم أهم قوانين التأمين وما لها علاقة بالنشاط التأميني. وربما أدخل نص قانون السيكورتاه العثماني في الجزء الأول.
أتمنى عليك، إن توفر لديك الوقت والرغبة، كتابة ورقة عن هذا القانون ومن المنظور الذي تراه مناسباً. إن كان ذلك غير ممكناً هل لك أن تطلب من غيرك ممن يستطيع البحث في الموضوع الكتابة عنه؟ ويمكننا عندها نشر ما يكتب في مدونة مجلة التأمين العراقي أو نعرضه على التأمين العربي، المجلة الفصلية للاتحاد العام العربي للتأمين، وبذلك نسد بعض الفراغ في تاريخ التأمين العراقي ونمهد للمزيد من البحث من قبل المهتمين من المؤرخين رغم أنهم، حسب علمي، لم يعيروا حتى الآن أدنى انتباه للنشاط التأميني في العراق. وينطبق هذا على موقف الاقتصاديين العراقيين من التأمين فإشاراتهم له محدودة جداً وعابرة. اعتقد أن مهمة التعريف الأولي بتاريخ النشاط التأميني تقع، ابتداءً، على شركات التأمين وبعد ذلك يتولى المؤرخون البحث العلمي الموثق.
آمل أن أقرأ ردك بشأن مقترح الكتابة عن قانون السيكورتاه العثماني." (1 نيسان 2009)
كعادته رد علي الزميل منذر دون تأخير برسالة ذكر فيها:
"ان الكتابة عن قانون السيكورتاه العثماني بالفعل لم يحض بدراسة مستقلة تكشف عن خلفياته إلا ان هناك تعليق للأستاذ بديع السيفي في كتابه الوسيع في التأمين وإعادة التأمين علما وقانونا وعملا في الجزء الأول في الصفحة 243-244 وأرفق لكم تعليقه أملا ان يفيدك كما أرسل لكم نص قانون السيكورتاه العثماني المنشور في الجزء الأول من كتاب الأستاذ طالب المصرف لعام 1970 والذي لا يزال ساري المفعول لحد الآن. واعتقد ان الكتابة عن الموضوع يغنيه تعليق الأستاذ بديع السيفي." (2 نيسان 2009)
بعد أن شكرت الزميل منذر على رسالته كتبت له قائلاً:
"صحيح أن السيفي كتب عن القانون، وهو لا يزيد عن صفحة واحدة في كتابه، إلا أن البحث فيه والكتابة عنه ما زال مطلوباً من المنظور الأكاديمي التاريخي والعملي خاصة وأنت تؤكد على أن القانون لا يزال ساري المفعول – أي إن استمراريته حتى الوقت الحاضر قد يخلق بعض الإشكالية عند افتراق وتعارض بعض نصوصه مع قوانين أكثر حداثة. إضافة إلى ذلك، فإن دراسة مقارنة لهذا القانون مع قوانين تأمينية أخرى قد يكشف لنا التطور الذي حصل في صياغة القوانين المنظمة للنشاط التأميني في العراق.
كلانا وغيرنا أيضاً مستغرقون بالعمل اليومي، وأنت، خاصة، مثقل بهمِّ ما ألم بك، ولذلك أتمنى أن يقوم غيرنا بمهام البحث. لعل إحدى طالبات الدراسات العليا تتولى مثل هذا البحث." (3 نيسان 2009)
على إثر ذلك كتب لي الزميل منذر موضحاً:
"..على كل حال، نرجع لموضوع قانون السيكورتاه العثماني. أود إعلامكم أنه سبق وصدر قانون النقل لسنة 1983 ونشر في الوقائع العراقية بالعدد 2953 في 8-8-1983 واعتبر نافذ المفعول بعد ستة أشهر من تاريخ النشر، وتسري أحكامه على جميع أنواع النقل أياً كانت صفة الناقل مع مراعاة أحكام الاتفاقيات الدولية التي يكون العراق طرفاً فيها – حيث كانت الأسباب الموجبة لإصدار مثل هذا القانون في حينه هو وجوب وضع القواعد المنظمة لكل من النقل البحري والبري والنهري والجوي، وذلك لأهمية هذه المرافق في عملية التطور الاقتصادي والاجتماعي للعراق. ولذا صدر هذا القانون لغرض إيجاد التوازن العادل بين التزامات أشخاص عقد النقل وإلى تغليب صفة العلاقة القانونية على صفة العلاقة العقدية.
وجاء في الباب الثالث أحكام النقل الخاصة بالنقل البري وبالسيارات وبالسكك الحديد والجوي والبحري والنهري.
وحيث أن قانون السيكورتاه العثماني هو قانون خاص بالتأمين البحري/تأمين النقل وبناءاً على ذلك، وحسب اجتهادي، فإن قانون السيكورتاه يعتبر ملغياً بحكم المادة 157 من قانون النقل الذي ألغى الفصل السادس من الباب الثاني من قانون التجارة العراقي رقم 149 لسنة 1970: ’ويلغى كل نص يعارض مع أحكام هذا القانون.‘" (3 نيسان 2009)
بسبب مشاغلنا لم نستطع مواصلة المناقشة، وما إثارتنا للموضوع الآن إلا استمراراً لما انقطع، ومن أجل إثارة غيرنا للكتابة عن الموضوع.
تعليق الأستاذ بديع السيفي على قانون السيكورتاه
لنبدأ باقتباس التعليق الذي كتبه الأستاذ بديع السيفي. يذكر السيفي في كتابه الوسيع في التأمين، تحت عنوان "قوانينا والتأمين،" بعض القوانين ومنها "قانون (شركات) الضمان (السيكورتاه) العثماني الأصل لسنة 1905."[2]
"لقد جاء هذا القانون الصادر في 21 جمادى الآخرة عام 1323 هجري و 9 أغسطوس عام 1321 رومي 1905 ميلادي وهو قانون ساري المفعول لحد الآن قانوناً بخمسة وعشرين مادة ومادة أخيرة سماها القانون مادة مخصوصة نصت على (أن الأحكام المخصوصة الواردة في قانون التجارة البحرية تبقى مرعية الإجراء كما هو منصوص عليها)، فمواد هذا القانون (26) ستة وعشرون مادة.
ولقد جاءت تسمية القانون خاطئة إذ أنه ليس قانوناً لشركات الضمان بل قانون للتأمين أو الضمان أي السيكورتاه وهو التعبير المحرف عن التعبير الفرنسي (Securite)، ولقد نشر هذا القانون كملحق (ذيل) لقانون التجارة البرية، أما أحكامه فقد اقتبست من القانون البلجيكي للتأمين لعام 1874م، وشرع باللغة التركية طبعاً، وليس للقانون ترجمة رسمية صحيحة إلى اللغة العربية إذ ترجم هو الآخر إلى العربية ترجمة ركيكة غير صحيحة فيها الكثير من الأخطاء.
وهذا القانون خاص بالتأمين على الأموال النقدية وغير المنقولة وبضمن ذلك التأمين البحري/تأمين النقل، حيث نصت المادة (1) منه على أن (الضمان هو تعهد بالتعويض لقاء رسم معين عن الخسائر والإتلاف التي تحصل للأموال المنقولة وغير المنقولة من المهالك والأخطار من أي نوع كانت). ولقد اشترط قانون (شركات) الضمان كما فعل قانون التجارة البحرية أن تكون عقود التأمين مكتوبة إذ نصت المادة (2) على (ان تعهدات الضمان يجب أن تنظم كتابة ويجب أن يحتوي صك الضمان أي (البوليسة):
(1) اسم وشهرة وصنعة ومحل إقامة المضمون له (أي الذي يطلب ضمان أمواله) وكذلك اسم وشهرة وصنعة ومحل إقامة الضامن (أي الذي يضمن أموال الغير). (2) نوع وجنس الأموال المضمونة من الخسائر ونوع وجنس المخاطر والخسائر المضمونة منها الأموال المذكورة. (3) مقدار أجرة الضمان ومقدار قيمة التعويض الواجب دفعه لقاء الخسائر والأخطار. (4) بداية مدة الضمان ونهايتها. (5) تاريخ تنظيم الصك."
التوسع في التعليق والتحليل
يؤكد الأستاذ السيفي، عن حق، أن تسمية القانون [قانون شركات الضمان (أي السيكورتاه)] خاطئة. وكما يشرح لنا فهو قانون للتأمين أو الضمان مقتبس من القانون البلجيكي للتأمين لعام 1874 [قانون عقد التأمين، 11 حزيران 1874]. وهو بهذه الصفة يضم عناصر تدخل في صلب عقد التأمين وليس تنظيم شركات التأمين والرقابة عليها.
يكتب السيفي أن هذا القانون ساري المفعول لحد الآن (طبع كتابه سنة 2006) لكن منذر الأسود في مراسلاته معنا (3 نيسان 2009) استنتج أن هذا القانون أصبح لاغياً:
"وحيث أن قانون السيكورتاه العثماني هو قانون خاص بالتأمين البحري/تأمين النقل وبناءاً على ذلك، وحسب اجتهادي، فإن قانون السيكورتاه يعتبر ملغياً بحكم المادة 157 من قانون النقل الذي ألغى الفصل السادس من الباب الثاني من قانون التجارة العراقي رقم 149 لسنة 1970: ’ويلغى كل نص يعارض مع أحكام هذا القانون.‘"
ونعرف أن القانون الأساسي العراقي الصادر عام 1925 (الغي هذا القانون بموجب الدستور المؤقت الصادر عام 1958) وبموجب المادة 113 اعتبر:
"القوانين العثمانية التي كانت قد نشرت قبل تاريخ 5 تشرين الثاني سنة 1914 والقوانين التي نشرت في ذلك التاريخ أو بعده بقيت مرعية في العراق إلى حين نشر هذا القانون تبقى نافذة فيه بقدر ما تسمح به الظروف مع مراعات [هكذا] ما احدث فيها من التعديل أو الإلغاء بموجبه البيانات والنظامات [هكذا] والقوانين الوارد ذكرها في المادة الآتية وذلك إلى ان تبدلها أو تلغيها السلطة التشريعية أو إلى ان يصدر من المحكمة العليا قرار يجعلها ملغات [هكذا] بموجب أحكام المادة "86."
المادة 114
جميع البيانات والنظامات والقوانين التي أصدرها القائد العام للقوات البريطانية في العراق والحاكم الملكي العام والمندوب السامي والتي أصدرتها حكومة جلالة الملك فيصل في المدة التي مضت بين اليوم الخامس من تشرين الثاني سنة 1914 وتاريخ تنفيذ هذا القانون الأساسي تعتبر صحيحة من تاريخ تنفيذها وما لم يلغ منها إلى هذا التاريخ يبقي مرعيا إلى ان تبدله أو تلغيه السلطة التشريعية أو إلى ان يصدر من المحكمة العليا قرار يجعلها ملغاة بموجب أحكام المادة ."86
المادة 86
كل قرار يصدر من المحكمة العليا مبيناً مخالفة احد القوانين أو بعض أحكامه لأحكام هذا القانون الأساسي يجب ان يصدر بأكثرية ثلثي آراء المحكمة وإذا صدر قرار من هذا القبيل يكون ذلك القانون أو القسم المخالف منه لهذا القانون الأساسي ملغياً من الأصل."
يعني هذا أن قانون السيكورتاه ظل سائداً لفترة طويلة قبل صدور أول تشريع تأميني عراقي (مماثل له فقط من حيث العنوان): قانون شركات التأمين رقم 74 لسنة 1936 الذي صدر في 1 نيسان 1936. وهو، كما يدل عليه اسمه، أول محاولة جادة للإشراف على عمل شركات التأمين الأجنبية العاملة في العراق وتنظيم الملاءة المالية لها لضمان حقوق المؤمن لهم.[3] في ذلك الوقت لم تكن هناك شركات تأمين عراقية وطنية إذ أن أول شركة تأمين عراقية، شركة الرافدين للتأمين، تأسست سنة 1946 وحتى هذه الشركة لم يكن رأسمالها عراقياً صرفاً إذ كانت الحصة الأجنبية فيه 60%.[4]
لعل زميلنا الأسود يأخذ على عاتقه إتمام البحث في حسم السؤال عن سريان القانون من عدمه في الوقت الحاضر، والتوسع في التعليق على أول قانون عراقي خاص بعقد التأمين.
يقول السيفي أن التأمين أو الضمان، أي السيكورتاه، تعبير محرف عن التعبير الفرنسي (Securite) وربما يكون صائباً في هذا لكننا نميل إلى أن أصل التعبير إيطالي. لنقرأ ما يقوله كاتبان تركيان عن أصل كلمة التأمين/الضمان:
When seeking for the origins of insurance in the Ottoman Empire, we see that it arrived via trade across the Mediterranean. Following in the tracks of the Turkish word for insurance itself reveals that the borrowed Italian term sicurtà first became siguriye then sikorta, sikurta, sikurita, in turn followed by sigurita and sigurta before finally settling on sigorta.[5] [التأكيد من عندنا]
وما يعزز الميل إلى تفضيل الأصل الإيطالي هو عمق العلاقات التجارية والدبلوماسية الواسعة بين الإمبراطورية العثمانية والبندقية (فينيسيا) في القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، والجالية الكبيرة من نبلاء ومواطني هذه ’المدينة-الأمة‘ في الاستانة.[6]
ليست لدينا معلومات عن الشخص الذي قام بترجمة القانون إلى اللغة العربية ومتى وأين تمت الترجمة. لكن لنتذكر أن ركاكة وعدم صحة الترجمة التي ذكرها السيفي يجب أن توضع في سياق تاريخ النشاط التأميني في العراق بافتراض أن الترجمة تمت في العراق. فهذا النشاط كان جديداً في الحياة الاقتصادية وأقرب ما يكون إلى بدعة – كما سيقول أصحاب التفكير الديني التقليدي فيما بعد. وبسبب ذلك نرى تعريب وتحريف، وكذلك فوضى، العديد من مصطلحات التأمين. فتارة نقرأ عن الضمان والتأمين والسيغورته والسيكورتاه وسوگره أو صوگره وما يشهد عليه من صك أو بوليسة. وسيمضي وقت طويل قبل أن تستقر بعض المصطلحات على حال واحد. الدقة اللغوية مطلوبة لضمان الفهم المشترك بين الناس للمفاهيم والاقتصاد في التعبير لكن الخطأ الشائع، أي ما يصطلح عليه الناس في مجال معين، يظل مفهوماً بينهم ويمكن التفريق بين استعمالاتها. كلمة البوليسة، أو البوليصة في الشام وهي ما زالت قيد الاستعمال، تعني وثيقة التأمين ووثيقة الشحن (البحري أو الجوي) وسياق الاستخدام كفيل بالتفريق بينهما.
ويشرح لنا الأستاذ السيفي أن "هذا القانون خاص بالتأمين على الأموال النقدية وغير المنقولة وبضمن ذلك التأمين البحري/تأمين النقل." ويرد في القانون ذكر التأمين ضد خطر الحريق: "مقاولة الضمان ضد الحريق" (المادة 19) إضافة إلى تأمين أخطار النقل دون تحديد وسائط النقل (بحري، بري بضمنه النهري) والاكتفاء في المادة الأخيرة، "مادة مخصوصة"، غير المرقمة "أن الأحكام الواردة في حق الضمان البحري المذكورة في قانون التجارة البحرية تبقى مرعية الإجراء كما هو منصوص عليها."
نجد في المادة 1 من القانون تعريفاً لعقد التأمين:
"الضمان هو تعهد بالتعويض لقاء رسم معين عن الخسائر والإتلاف التي تحصل للأموال المنقولة وغير المنقولة من المهالك والأخطار من أي نوع كانت."
وهو ما سيجد تطويراً عصرياً شاملاً له في المادة 981—فقرة 1 من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951:
"التأمين، عقد به يلتزم المؤمن ان يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد مبلغاً من المال أو إيرادا مرتباً أو أي عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث المؤمن ضده، وذلك في مقابل إقساط آو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن."
يلاحظ القارئ الفرق بين الصياغتين وخاصة عدم الدقة في قانون السيكورتاه والصفة الإطلاقية لبعض العبارات: "المهالك والأخطار من أي نوع كانت" مقابل "الحادث المؤمن ضده." لسنا بصدد عقد مقارنة بل التنبيه إلى أن المقارنة يمكن أن تكون موضوعاً مستقلاً لبحث أكاديمي.
ونكتفي بالإشارة إلى بعض المواد الأخرى من قانون السيكورتاه: اقتران عقد التأمين بإصدار صك (وثيقة) التأمين كدليل على قيام العقد (المادة 2)؛ مبلغ التأمين يمثل الحد الأقصى لمسؤولية شركة التأمين (المادة 3)؛ المستفيد من عقد التأمين هو من صدرت وثيقة التأمين باسمه ما لم يسمى طرف ثالث صراحة ليكون المستفيد من التأمين (المادة 4)؛ المصلحة التأمينية كأساس للتأمين (المادتين 7 و8)؛ تأمين المحاصيل الزراعية (المادة 9 والمادة 23)؛[7] التأمين المزدوج وتكييف مبدأ مشاركة أكثر من مؤمن في التأمين (المادتين 5 و 10)؛ تكييف مبدأ حسن النية (المادة 11)؛ عدم نفاذ العقد لغياب محل التأمين (المادة12)؛ السهو في عدم إبلاغ الضامن بتعديل في مواصفات الخطر المؤمن عليه (المادة 13 وهي مثال على ركاكة الصياغة التي ذكرها الأستاذ السيفي)؛ تأمين مسؤولية المؤمن له تجاه الجيران بسبب حريق في ملك المؤمن له والأضرار التبعية الناشئة عن الحريق (المادة 20).
وهكذا نرى أن القانون ليس مُركزاً على موضوع معين فهو يضم مواد عن فروع للتأمين (نقل بحري، حريق وغيره)، ومبادئ تعاقدية، وقواعد تنظيمية لإصدار وثائق التأمين .. ألخ.
ربما كانت خلفية هذا القانون ترجع إلى ظهور وتنامي النشاط التأميني والحاجة إلى تنظيميه لمنع الفوضى في تنظيم عقود التأمين ولحماية حملة وثائق التأمين من سوء تصرف شركات التأمين أو وكالات التأمين الأجنبية العاملة في الإمبراطورة العثمانية. أو ربما كان هناك حقاً فراغاً قانونياً في مجال النشاط التأميني استوجب تدخل الدولة. ومثل هذا الإجراء يرتبط بتاريخ صناعة التأمين في العديد من دول العالم. بعبارة أخرى، فإن هذه القوانين هي استجابة لمشاكل آنية أو مؤقتة تشكل مع مرور الوقت قاعدة لوضع قوانين جديدة في المستقبل وتهذيب ما هو قائم منها.
ويمكن أيضاً القول إن إصدار القانون كان بمثابة الوسيلة لتدوين الممارسات الجيدة القائمة والتخلص من الممارسات السيئة. كما أن النظام القانوني للدولة العثمانية لم يكن قائماً على ما تقرره المحاكم case law، كما هو الحال في الدول التي تعتمد القانون العام common law حيث يلعب القضاة الدور الأكبر في صنع القانون من خلال أحكامهم التي تشكل مع مرور الوقت سابقة قد يعتمد عليها للحكم في حالات جديدة. ولم يكن هناك كتب لفطاحل القانونين أو القضاة للاستنارة بها في ضبط عقود التأمين ونشاط شركات التأمين كما كان الحال في إنجلترة. هذه تخمينات يراد منها التشجيع على البحث التاريخي الذي يوفر التفسير لتشريع مثل هذه القوانين.
قانون السيكورتاه مؤشر على نشاط تأميني في العراق
شركات التأمين الأجنبية ووكالاتها كانت تعمل في العراق عند صدور هذا القانون ربما مباشرة أو بصورة غير مباشرة. نقول هذا اعتماداً على تأسيس أول شركة (أجنبية) للتأمين في استانبول عام 1848 وحقيقة أن عدد شركات التأمين الأجنبية العاملة عام 1914 ضمن حدود الإمبراطورية العثمانية بلغ 170 شركة وكان لهذه الشركات 1971 وكالة، كما جاء في كتاب ما يؤلم المحفظة، يؤذي الروح: التأمين في الإمبراطورية العثمانية.[8]
ويذكر الكاتبان لهذه الدراسة أن أول تشريع لتنظيم صناعة التأمين في الإمبراطورية العثمانية كان في القرن التاسع عشر فالمادة 29 من القانون التجاري الذي صدر في 28 تموز 1850 أشارت إلى التأمين البحري في حين أن القانون التجاري البحري، الذي صدر في 21 آب 1863، كان مكرساً للتأمين البحري.[9] وكان قانون شركات الضمان (أي السيكورتاه) من جملة تشريعات التأمين في العهد العثماني.
لم يرد اسم العراق في هذا الكتاب الشيق المزدان بالصور لكننا نفترض أن شركات التأمين أو وكالاتها ربما كان لها حضوراً في العراق أو كانت تقوم بالتأمين على بضائع متجهة إلى العراق ومنه (تجارة التمور والحبوب على سبيل المثال) أو قامت بتأمين أخطار أجنبية معينة في بعض أنحاء العراق.
لا يكفي الحدس في هذا المجال بديلاً عن البحث التاريخي للنشاط التأميني في العراق وهو ما لسنا قادرين عليه. دراسة التاريخ الإمبريالي للتغلغل البريطاني في العراق يُعلمنا الكثير عن الآثار التي تركها. يكفي أن نقول إن شركة الهند الشرقية البريطانية (التي تأسست بمرسوم ملكي بريطاني سنة 1600) كانت تحتكر التجارة البريطانية في آسيا (الهند والصين) لفترة طويلة، ونعرف أن تجارة العراق مع الهند راسخة في القدم. وفيما بعد تأسست الشركة الإنجليزية المعروفة باسم بيت لينج ومؤسسها Henry Blosse Lynch الذي قام بمسح أنهار العراق قبل أن يتحول لتأسيس شركة للملاحة النهرية. وكان للشركة أسطول من الزوارق البخارية للنقل النهري عبر ميناء البصرة ونهري دجلة والفرات لنقل البضائع البريطانية إلى تركيا (من خلال دجلة) والشام (من خلال الفرات). وقد استعملت القوارب البخارية البريطانية في العراق لأول مرة عام 1836.[10] ونفترض أن بعضاً من هذا النشاط الاقتصادي كان موضوعاً للحماية التأمينية من أخطار النقل والحريق على الأقل.
التشريع العثماني جزء من تاريخ التشريع في العراق
تشكل التشريعات العثمانية، ومنها قوانين التأمين، جزءاً من تاريخ التشريع في العراق كما في غيره من البلدان العربية التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية. فمجلة الأحكام العدلية [11] ظلت نافذه في العراق حتى أوائل خمسينات القرن الماضي مثلما ظل قانون الضمان (السيكورتاه) نافذاً. وكان التشريع العثماني (سن "القوانين" تميزاً لها عن "أحكام" الشرع) في غالبه منصباً على تلك المجالات التي لم تكن موضوعاً للشريعة الإسلامية أو قل أن الشريعة لم تقترب منها بالتفصيل لكونها تمثل ظواهر حديثة كما هو الحال بالنسبة للنشاط التأميني.
ونلاحظ أن النشاط التأميني دخل إلى الإمبراطورية العثمانية في صيغته التجارية الغربية كمشروع تجاري قائم على تحقيق الربح. وبقي على تكوينه هذا حتى الوقت الحاضر حتى فيما يخص صياغة وثائق التأمين. وتعليل ذلك أن التأمين، كنشاط اقتصادي مميز، لم يكن معروفاً في الإمبراطورية والبلاد الخاضعة لها ومنها العراق، وظل محاكاة النموذج الغربي هو السائد.
تطبيقات عملية لقانون السيكورتاه؟
نظل تواقين إلى معرفة أمثلة حقيقية عن تطبيق قانون السيكورتاه في المحاكم العراقية للفصل في النزاعات بين المؤمن لهم وشركات التأمين.
نأمل من زملاء المهنة في العراق تقييم دراستنا التمهيدية، وتصحيح أية معلومات خاطئة فيها، وإكمال نواقصها فيما يخص السرد التاريخي والتحليل القانوني.
لندن تموز 2010
الهوامش
1. العنوان الرسمي لهذا القانون هو قانون شركات الضمان (أي السيكورتاه) نشر كملحق لقانون التجارة البرية العثماني. صدر قانون السيكورتاه في 21 جمادي الآخر 1323 (21 أب 1905)
2 بديع أحمد السيفي المحامي، الوسيع في التأمين وإعادة التأمين: علماً وقانوناً وعملاً (بغداد، د.ن.)، ج1، ص 243-244.
ويمكن مراجعة نص هذا القانون في كتاب طالب المصرف عن قوانين التأمين (بغداد 1970)، ص 4-7. واسم القانون هو قانون شركات الضمان (أي السيكورتاه)، ويذكر المصرف في هامش ص 4 أنه "نشر ذيلاً لقانون التجارة البرية."
ويرجع الفضل في توفير النص إلى الزميل منذر عباس الأسود المحامي في بغداد، في مراسلات إلكترونية خلال شهر نيسان 2009.
3 مصباح كمال "إطلالة على بواكير التأمين والرقابة على النشاط التأميني في العراق"، الثقافة الجديدة، بغداد، العدد 331، 2009، ص 44-52. يمكن قراءة المقالة في مجلة التأمين العراقي الإلكترونية باستخدام هذا الرابط:
http://misbahkamal.blogspot.com/2009/09/331-2009-44-52.html
4 بديع أحمد السيفي، التأمين علماً وعملاً (بغداد، د.ن.، ط1، 1972) ص26.
5 What Hurts the Purse, Hurts the Soul: Insurance in the Ottoman Empire (Istanbul: Ottoman Bank Archives and Research Centre, 2009), p12. From the introductory essay by Murat Koralturk and Fathi Kahya.
6 أنظر العرض النقدي التالي لكتاب أكاديمي عن العلاقة بين الاستانة والبندقية:
Early Modern Venetian-Ottoman Relations and the Mediterranean World
by Ebru Turan
Eric R. Dursteler. Venetians in Constantinople: Nation, Identity, and Coexistence in the Early Modern Mediterranean. The Johns Hopkins University Studies in Historical and Political Science Series. Baltimore: Johns Hopkins University Press, 2006.
http://mrzine.monthlyreview.org/2010/turan040710p.html
7 نص المادة 9 هو الآتي: "يجوز أيضاً ضمان الفائدة المنتظر حصولها من شئ ما كالمحاصيل [الزراعية] والأثمار التي لم تكن بعد قد بلغت النضج ويستثنى من ذلك ما هو مخالف للقانون." لاحظ أن الإشارة هي للقانون وليس للشرع.
يذكرنا هذا ببيع السَلَم، أي بيع الشيء المؤجل بالثمن المعجل، أي تعجيل أحد البدلين (تسديد قسط التأمين)، وتأجيل الآخر (التعويض). وهو ما لا يُجّوزه التقليديون في فقه المعاملات الإسلامي لأنه، في رأيهم، يرقى إلى بيع المعدوم. لقد كان المشرّع في أوائل القرن العشرين أكثر تسامحاً وأقرب إلى واقع المعطيات الاقتصادية والتأمين على المخاطر المترتبة على النشاط الاقتصادي من أقرانه في زماننا. وربما يكون تعليل جواز مثل هذا التأمين (البيع) قائماً على المواقف المتضمنة في مجلة الأحكام العدلية (1877). فقد نصت المادة 32 منها على أن "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامةً أو خاصةً. ومن هذا القبيل تجويز بيع الوفاء فإنه لما كثرت الديون على أهالي بخارى مست الحجة إلى ذلك فصار مرعياً." سليم رستم باز اللبناني، شرح المجلة (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 3، 1406/1986)، ص 33. وتُعرف المادة 123 السلم على أنه "بيع مؤَجل بمعجل." المصدر السابق، ص 69.
"بيع الوفاء" هو "أن يبيع السلعة للمشتري بما له من الدين على أنه متى قضاه الدين، عادت إليه السلعة." د. محمد رواس قلعجي، د. حامد صادق قنيبي، معجم لغة الفقهاء (بيروت: دار النفائس، 1985)، ص 507.
8 What Hurts the Purse, Hurts the Soul: Insurance in the Ottoman Empire, pp13-14. From the introductory essay by Murat Koralturk and Fathi Kahya
9 op. cit, p 12.
10 للتعرف على جوانب موضوع التجارة بين العراق ودول الخليج أنظر:
Hala Mundhir Fattah, The Politics of Regional Trade in Iraq, Arabia and the Gulf, 1745-1900 (New York: SUNY Press, 1997)
http://books.google.co.uk/books?id=g5MewSBHkG4C&dq=east+india+company+and+Iraq&source=gbs_navlinks_s
11 مجلة الأحكام العدلية أعدتها هيئة تحت إشراف أحمد جودت باشا في 16 كتاب (جزء) ضمت 1851 مادة ودخلت حيز التنفيذ سنة 1877. يبحث الكتاب الأول: في البيوع والكتاب السادس عشر: في القضاء. وتأثر منهج وبنية المجلة بتدوين القوانين في أوروبا. شملت المجلة معظم مناحي القانون المدني باستثناء الأحوال الشخصية (التي ظلت محكومة بالشرع).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق