إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2010/08/22

Social Insurance in Iraq: the Position of the Iraqi Communist Party


التأمينات الاجتماعية في العراق: قراءة لموقف الحزب الشيوعي العراقي

نشرت هذه الدراسة في الثقافة الجديدة (العدد 338، 2010) ص 56-65

مصباح كمال

نزعم أن التأمين كنشاط اقتصادي متميز، عام أو خاص أو تعاوني، لا يلقى اهتماماً من الأحزاب السياسية العراقية، وإن جاء ذكرٌ له فإنه ينحصر بشبكات الأمن الاجتماعي: التأمينات والمساعدات الاجتماعية التي تقدمها الدولة. ولا نرغب هنا تفسير هذا الوضع وقد نعود إليه في مقالة لاحقة إذ أن شحة الاهتمام بموضوع التأمين حالة عامة تنسحب على أطراف أخرى، فالكل مستغرق بالشأن السياسي. هناك حقاً "فائض سياسي" متخندق وغير منتج لا يعير المسألة الاقتصادية ما تستحقه من اهتمام.

اخترنا الحزب الشيوعي العراقي نموذجاً للتعليق على الموقف من نمط معين من التأمين غير التجاري لتوفرنا على بعض المواد المطبوعة الصادرة منه. قد تكون الأحزاب العراقية الأخرى مهتمة أيضاً بموضوع التأمينات والمساعدات الاجتماعية لكننا لم نستطع الاطلاع على ما لديها من مواقف بهذا الشأن. ومن المفيد قبل عرض موقفنا الإشارة إلى أننا كنا قد تناولنا موضوع التأمين، كنشاط اقتصادي، ضمن إطار الوساطة المالية، ودوره في تجميع الأموال لحماية الثروات الوطنية، البشرية والمادية، والمساهمة في تكوين رأس المال الحقيقي. ولمتابعة الموضوع يمكن الرجوع إلى ورقتنا "هل هناك دور اقتصادي للتأمين في كوردستان العراق؟"[1] ويكفي هنا أن نميز بين الوظيفة الاستثمارية لقطاع التأمين في دعم الفعاليات المالية المحفزة للنشاط الاقتصادي في الدولة وبين الوظيفة التقليدية "الإنتاجية" في توفير الحماية من الأضرار والخسائر المادية والمالية (ومنها خسارة الدخل) التي تلحق بالأفراد والشركات وسبل معالجتها من خلال التأمين التجاري بأنواعه المختلفة أو من خلال الضمانات (التأمينات) الاجتماعية. والمعروف أن التأمين التجاري يلعب دوراً موازياً أو مكملاً لأنظمة الضمان الاجتماعي التي تديرها الدولة في حالات العجز والإصابات المهنية والتقاعد والمرض. ولنا أن نضيف إلى ذلك التعاضد الأسري التقليدي، البر بالوالدين، وربما صندوق العشيرة وغيرها من أشكال التكافل الاجتماعي. ويمكن أن نلخص الموضوع بالقول أن الضمان الاجتماعي والتأمين، سواء أكان تجارياً أو تبادلياً أو تعاونياً، يشتركان في توفير مستويات متباينة من الحماية للأفراد في حياتهم وصحتهم ودخلٍ لورثتهم مع الفارق في وسيلة التمويل المستخدمة من قبلهما.

ونسارع إلى القول إن هذا العرض ينطوي على تبسيط لآلية التأمين ولا يأخذ بعين الاعتبار القدرة على تمويل شراء الحماية التأمينية (القدرة على تسديد قسط التأمين) أو توفير الموارد اللازمة للضمان الاجتماعي بما فيه الضمان الصحي. إن تحليلاً اقتصادياً للتأمينات الفردية، تمييزاً عن التأمينات التي تبرمها الشركات، يكشف الكثير عن البعد الطبقي لها. فبسبب ضآلة الدخل الفردي في العديد من البلدان النامية فإن الإقبال على شراء الحماية التأمينية يظلّ ضعيفاً. ولذلك نرى أن بعض المؤسسات في هذه البلدان تلجأ إلى ترتيب عقود التأمين الجماعي على الحوادث الشخصية التي قد تلحق بمنتسبيها أو على حياتهم.

ونرى أن الحزب الشيوعي يبدي اهتماماً، مع بعض التفصيل، بموضوع التأمين ولكن ليس في صيغته التجارية في حماية الأفراد والشركات ضد الخسائر التي تصيبها، وليس أيضاً كآلية تمويلية للنشاط الاقتصادي الاستثماري، وإنما من منظور الأشكال المختلفة للضمان الاجتماعي التي يحصرها بالدولة إذ لا يرد أي دور للسوق بهذا الشأن. ويجد هذا الاهتمام ترجمة موسعة له بعض الشئ في وثيقة أساسية هي برنامج الحزب الشيوعي العراقي.[2]  ونقتبس فيما يلي مقاطع مطولة مما ورد فيه ليتوضح السياق الذي يرد فيه ذكر الضمان الاجتماعي. (التأكيد في النصوص المقتبسة أدناه للكاتب. لكي لا نثقل متن المقالة بالتعليقات على النصوص المقتبسة آثرنا تحويلها إلى هوامش في نهاية المقالة لفائدة من يود المتابعة).

يرد في البرنامج تحت باب سياستنا الاقتصادية والاجتماعية ما يلي:
"12 توفير ضمانات العيش الكريم للمواطنين وحمايتهم من الفقر والعوز[3] بالاستخدام العادل لثروات البلاد وعوائد التنمية،[4] وذلك من خلال:

أ‌- استكمال بناء نظام الضمان الاجتماعي عبر تعزيز الشبكة الحالية وتطويرها لتشمل إنشاء صناديق تقدم الإعانات المالية في حالات البطالة والعجز عن العمل والشيخوخة[5] بما يؤمن حداً أدنى معقولاً من الدخل، وإيجاد نظام فعال لتمويل هذه الصناديق."


ويتكرر ذكر الضمان الاجتماعي في الأبواب التالية من البرنامج:

"الزراعة
لكي يحقق هذا القطاع الهام أهدافه ويضمن الأمن الغذائي لابد من:
7- تطوير القوى المنتجة في الريف عن طريق تشجيع الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة، الخاصة والمختلطة والحكومية، وحماية العمال الزراعيين عن طريق التشريع والتنظيم النقابي والضمان الاجتماعي والصحي.[7]

الصحة
أدت سياسات النظام المباد وممارساته في هذا الميدان، والسياسة الصحية اللامنهجية بعد زواله، إلى تردي الوضع الصحي لعموم الشعب. ولمعالجة ذلك لا بد من:

1 - ضمان تقديم خدمات الرعاية الصحية المجانية، الوقائية والعلاجية، إلى المواطنين والعمل على إيصالها إلى كافة المناطق، والارتقاء بمستواها.

2-  توسيع شبكة المستشفيات والمستوصفات الحكومية في المدينة والريف وتامين كل الفعاليات ذات الصلة كالتحصين والصحة المدرسية وصحة الأسرة والرقابة الصحية وغيرها.

3 - ضمان حق التأمين الصحي للسكان، جميعاً، كجزء من منظومة الضمان الاجتماعي، واعتماد نظام عادل لتمويله.

الإعلام
على هذا الصعيد [9] يضع حزبنا في الصدارة الأهداف التالية:

3 - حث السلطات على مواجهة موجة العنف والإرهاب ضد الإعلاميين ووسائل الإعلام بحزم، واتخاذ التدابير اللازمة، على المستويات كافة، لقطع دابرها ومعاقبة المتورطين فيها، وتوفير الحماية الممكنة للعاملين في ميدان الإعلام، والضمان الاجتماعي لعائلات الضحايا.
7-  تشريع قانون جديد، ديمقراطي، لنقابة الصحفيين العراقيين ينسجم مع الواقع الجديد للحياة والعمل الإعلامي في البلاد، ويعبر عن إرادة الصحفيين وعامة العاملين في ميدان الإعلام، ويضمن نشوء كيان يدافع بأمانة عن حقوقهم ومصالحهم المشروعة في الظروف الاقتصادية الاجتماعية الجديدة، وبضمنها تحسين مستواهم المعيشي وضمان تمتعهم بالضمان الاجتماعي والحقوق التقاعدية.

شؤون العمال والشغيلة
على هذا الصعيد [10] يناضل حزبنا من اجل:
1- إلغاء القرار 150 لسنة 1987 وإصدار قانون جديد للعمل وتشريعات خاصة بالتنظيم النقابي والمهني، بما يحمي حقوق العمال ومصالحهم الاقتصادية والاجتماعية ويحول دون تعرضهم إلى الفصل الكيفي، ورفع مستوى معيشتهم ويضمن حياة لائقة للمتقاعدين منهم وكبار السن.

5- إقامة منظومة شاملة للضمان الاجتماعي ضد البطالة والعوز والإضرار الناجمة عن العمل.

حقوق الطفل
في خصوص الطفل [11] نسعى إلى:

1. سن قوانين وتشريعات تهدف إلى حماية الطفولة ورعايتها وتوفير الظروف المناسبة لتنمية قدراتها ومواهبها، وحمايتها من العنف والتعسف في العائلة وفي المدرسة والمجتمع، وحظر جميع أشكال الاستغلال التي تمارس بحقهم.

2. تأمين الضمان الصحي والاجتماعي والتعليم للأطفال اليتامى وأبناء [وبنات] العوائل المعدمة، ولأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة والمشردين الذين يتوجب قبل هذا توفير المأوى المناسب لهم.

3. توفير دور الحضانة ورياض الأطفال، خاصة لأطفال الأمهات العاملات."


نلاحظ أولاً أن مشروع بناء نظام اشتراكي (المفترض فيه توفير أكبر قدر ممكن من الأمن الاجتماعي المجاني أو لقاء قسط بسيط) في العراق في الوقت الحاضر ليس مطروحاً في هذا البرنامج رغم الإشارة إليه، وهذا الموقف مفهوم في ظل المتغيرات العالمية والعراقية. وحتى بدون هذه المتغيرات فإن ما يطرحه الحزب، في رأينا وفيما يخص موضوعنا، هو استمرار لما كان ينادي به الحزب منذ تأسيسه [12]. ونعني تحديداً الدعوة والعمل على التحسين المستمر للأوضاع القائمة في العراق من خلال الوسائل المتاحة له لصالح أغلبية الناس، وهو في هذا يسير على نهج مماثل لنهج الحزب الاجتماعي الديمقراطي في ألمانيا، مثلاً، أيام ما كان النقاش محتداً في العقد الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن الماضي بين أورثودكسية كارل كاوتسكي (1854-1938) وما صار يعرف بتحريفية إدوارد برنشتين (1850-1932).

وقبل ذلك كان الأمير أوتو فون بسمارك (1815-1898) مستشار ألمانيا قد دشن إدخال الأشكال الأولى للضمان الاجتماعي سنة 1884. وكان ذلك بعد انتخاب عدد من أعضاء الحزب الاجتماعي الديمقراطي كنواب في الرايخشتاغ الألماني وشيوع الأفكار الاشتراكية والتزايد المستمر في عضوية الحزب. كانت سياسة الإصلاح الاجتماعي الذي تبعه بسمارك، بعد فترة قمع قانوني شرس للحركة الاشتراكية سنة 1878، محاولة ناجحة لإرضاء بعض مطالب الطبقة العاملة وكبح تطور الفكر والحركة الاشتراكية. وما ساعده في ذلك وجود مدرسة "اشتراكية الدولة" التي كانت تنادي بدور اجتماعي موسع للدولة وخاصة تجاه الطبقة العاملة والفئات الفقيرة والمحتاجة ومن مفكريها الاقتصادي يوهان كارل رودبيرتس (1805-1875). وقد شمل نظام التأمين الاجتماعي الألماني التأمين ضد المرض والتأمين ضد حوادث العمل، والتأمين ضد العجز والشيخوخة. وأدخلت تشريعات لاحقة للتأمين الطبي الخاص بالأمومة، والتأمين ضد البطالة (1929).

ويمكن القول إن الخلفية التاريخية للتأمينات الاجتماعية تكمن في التحول نحو الاقتصاد الرأسمالي الحديث القائم على الصناعة في العالم الغربي والذي خلق نمطاً جديداً من فقدان الأمن الاجتماعي والتقسيم الطبقي انتبهت الفئات الحاكمة بسببها إلى ضرورة مواجهة واحتواء عناصر اللاتوازن في البنية الاقتصادية والاجتماعية، ومقارعة الفكر الاشتراكي الناهض. لا يعني هذا أن المجتمعات غير الرأسمالية لم تمارس أشكالاً مختلفة من الأمن الاجتماعي من خلال الادخار، والمساعدات الأسرية (البر بالوالدين) والجماعية (الإحسان من منظور ديني، الطوائف المهنية، صندوق العشيرة).

وفيما يخص موضوعنا نستطيع اختزال النقاش بين أطروحة انتظار "حتمية" انهيار النظام الرأسمالي أو العمل من داخله، من خلال الوسائل السلمية والمؤسسات السياسية المتاحة، ومنها البرلمان، للتحول نحو نظام اشتراكي. وقد كان الحزب، في تقديرنا، وفياً في تطبيق نهج التعامل الواقعي مع ما هو قائم وعدم انتظار سقوط الأنظمة القائمة ليقدم أطروحاته في التغيير. وقد شهدت الفترة منذ سقوط النظام الدكتاتوري سنة 2003 تكثيفاً لهذا النهج من خلال المشاركة في الحكومة وفي البرلمان والإعلام والعمل بين الناس.

على المستوى النظري يصنف الحزب كتنظيم ثوري يعمل من أجل تحقيق طموحات إنسانية مُستلْهَمة من تراث البشرية المتنوع ومنه الفكر الماركسي، لكنه لم ينادي بتحطيم مؤسسات الدولة ولم يُقْصِر عمله على الدفاع عن حقوق العمال والفلاحين بل ظل حزباً وطنياً عراقياً لعموم العراقيين. فبياناته لم تخاطب العمال والفلاحين فقط بل "الشعب العراقي العظيم" أو "الجماهير." وهو بهذه الصيغة كأنه الممثل العام لتكوين اجتماعي جديد قيد التشكل يقوم على رؤية أو فرضية مفادها أن تحرير الإنسان من الاستغلال لم يعد رهناً للفعل الجماعي لطبقة اجتماعية واحدة. إن مجمل ما يقدمه الحزب من سياسات هو لأجل حل الأزمة العامة المتولدة من التركة الثقيلة للنظام الديكتاتوري الشمولي السابق وإفرازات الاحتلال السياسية والاقتصادية وهشاشة الوضع الأمني وإدغام الدين في المجتمع وفي السياسة .. الخ. وهو في ذلك لم يتوقف عن تقديم مطالب الطبقة العاملة والفئات الاجتماعية المسحوقة والمضطهدة فهي الأكثر تضرراً وحرماناً من المنافع.

الحزب في نظرنا، وخاصة في الوقت الحاضر، يعمل لتحقيق برنامجه من خلال البرلمان، أي تشريع قوانين تصب لصالح مجموع العراقيين. وفي ذات الوقت العمل على تصفية آثار الدكتاتورية والغزو واستعادة النشاط الاقتصادي في ظل نظام ديمقراطي إذ أن الاقتصاد لا يزدهر في ظل الفوضى وانعدام الأمن، وهذا أمر بديهي. وإذا جاز لنا أن نوسع من مفهوم رأس المال، فإن العراق يعاني فقراً في رأسماله المادي والبشري والمؤسسي بسبب الحروب وسياسات النظام الدكتاتوري والاحتلال والإفرازات الطائفية والقبلية والإثنية بعد 2003. ولا يرد الآن مشروع تحويل الاقتصاد صوب الاشتراكية بل التركيز على بلوغ هذا الهدف، في المدى البعيد، من خلال المنهج الديمقراطي ومن خلال إحلال الديمقراطية في جسم المجتمع. وهو ما يذكرنا بأطروحات كارل كاوتسكي.[13] وهذا ما يدعونا إلى تصنيف الحزب الشيوعي العراقي كحزب اشتراكي ديمقراطي. وهو بهذا الوصف يجعل دور الدولة رئيسياً وتأسيسياً في انتظام المجتمع والاقتصاد ـ أي ما يتجاوز أطار اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يحصر تدخل الدولة في قضايا التعليم والبيئة وإدارة نظام العدل - ليعمل، من خلال الإرادة السياسية المتمثلة بالبرلمان والحكومة، على إعادة تشكيل الدولة الريعية القائمة على قياس المحاصصات الطائفية والقبلية والإثنية لتقوم بوظيفة التنمية الاقتصادية بتوجيه مركزي.

ما يطرحه الحزب من مهام وأهداف ودعوات، فيما يخص موضوع التعامل مع خطر الأمن الاجتماعي، تصب في مخطط بناء دولة الرفاهية welfare state، رغم توزعها في أبواب مختلفة في البرنامج: استكمال بناء نظام الضمان الاجتماعي عبر تعزيز الشبكة الحالية وتطويرها لتشمل إنشاء صناديق تقدم الإعانات المالية في حالات البطالة والعجز عن العمل والشيخوخة، الزراعة، الصحة، الإعلام، شؤون العمال والشغيلة، حقوق الطفل. وفي تقديرنا، فإن المخطط العام لدولة الرفاهية المرجوة في العراق يحاكي تحقيق أفضل الخدمات الاجتماعية الحمائية في النموذج الغربي. ولنا في نظام الضمان الاجتماعي في بريطانيا وغيرها من الديمقراطيات الغربية مثالاً جيداً لما يعمل من أجله الحزب.

لقد كان من المناسب أن يدعم الحزب أطروحته عن الأشكال المختلفة للضمان الاجتماعي باستدعاء المواثيق الدولية التي صادقت عليها الدولة العراقية. ونعني بها العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) (حق في العمل، حق التمتع بالراحة، حق التمتع بمستوى معيشي لائق، حق التعليم)، والعهد الدولي لإزالة جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979)، والعهد الخاص بحقوق الطفل (1989)، والعهد الصادرة من منظمة العمل الدولية سنة 1982 (الرعاية الصحية، تقديم المنافع أثناء المرض، والبطالة، والشيخوخة، وإصابات العمل، وتلك المرتبطة بالأسرة والأمومة وغيرها).
ونلاحظ أيضاً أن تأكيد الحزب هو على الجانب العملي وليس مجرد رفع الشعار والاستغراق في البحث النظري والأخير بالطبع يستحق الاهتمام لذاته ومن أجل توضيح المفاهيم والأسس الفلسفية لمشروع بناء دولة الرفاهية.[14] وغالباً ما يضم المشروع إبراز دور محدد للدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وإيجاد شبكة من الضمانات الاجتماعية. وخير ترجمة لهذا التوجه العملي هو عدم الاكتفاء برفع شعار "توفير ضمانات العيش الكريم للمواطنين وحمايتهم من الفقر والعوز" بل النص على وسائل تحقيق ذلك ومنها "الاستخدام العادل لثروات البلاد وعوائد التنمية."

ولكن من المؤسف أن عرض السياسات المختلفة التي تندرج تحت عنوان الضمان (التأمين) الاجتماعي والمساعدة الاجتماعية، بقيت منفصلة وفيها تكرار. ربما كان من المناسب تخصيص باب مستقل في البرنامج للتأمينات الاجتماعية. فالدعوة للاستخدام العادل لثروات البلاد (وهي كانت وما تزال محصورة أساساً بالثروة النفطية) من جهة وإيجاد نظام فعال لتمويل صناديق الإعانات المالية في حالات البطالة والعجز عن العمل والشيخوخة بما يؤمن حداً أدنى معقولاً من الدخل لمستحقيها من جهة أخرى يجب أن لا تبقى منفصلة مثلما يجب عدم فصل حالات الضمان الصحي وحقوق الأطفال والأمومة .. الخ. ولعل بعض الأبواب، ومنها ما يتعلق بالطفولة والأمومة، كمثال، يمكن أن تُخصَّ بميثاق يضم سياسة الحزب ومشروعه من أجل الطفولة والأمومة. لذلك، بدلاً من التأكيد على الضمان الاجتماعي لكل فئة من الفئات المختلفة يفضل أن يكون هذا الضمان أحد ركائز بناء دولة الرفاهية حيث يكون الضمان، بأشكاله المختلفة، مطلباً أساسياً لضمان حياة كريمة للمواطنين والمواطنات كافة.

ويظل موضوع تمويل نظام الضمان الاجتماعي، في مختلف أشكاله، مسألة تستحق الكثير من البحث كي لا يظل الاعتماد على الريع النفطي عنصر التمويل الوحيد للنظام إذ أن الإشارة العامة في البرنامج لعوائد التنمية فضفاضة وتحتاج إلى تفكيك العناصر المكونة لها والتي يمكن أن تساهم في تغذية صناديق الضمان الاجتماعي (تطبيق وجباية الضرائب، مثلاً، بضوابط العدل على دخول الشركات والأفراد لا تكبح المبادرة الاقتصادية الضرورية للتنمية الاقتصادية). وتزداد أهمية الموضوع في ظل الدعوات الحثيثة، داخل وخارج العراق، إلى تحجيم دور الدولة وتقليص دورها الاقتصادي والاجتماعي من خلال خصخصة مؤسسات القطاع العام، وهو موضوع يستحق المناقشة إن جُرّدَ من إطاره الإيديولوجي، وكذلك خصخصة الخدمات العامة كالضمان الصحي. لقد أصبح موضوع تخلص الدولة من تقديم الرعاية الصحية الوطنية الشاملة مشروعاً اقتصادياً مقبولاً في العديد من دول العالم ومنها الدول العربية مما يعطي زخماً خارجياً لهذه الدعوات. كما أن هناك شركات تأمين تجارية، وكذلك شركات مصنعة للعقاقير الطبية وشركات استثمار في مؤسسات الطب والاستشفاء، تدفع بهذا الاتجاه لأغراض تجارية بحتة. وهذا وما يماثله توجهٌ سياسي عام لتسليع الخدمات وتحويل مصادر تمويلها على عاتق الأفراد. البعد الطبقي لمثل هذه السياسات يطال الفئات الفقيرة في المجتمع.

كما ذكرنا فإن التأمين في البرنامج حاضر في صيغته الاجتماعية، أي المرتبطة بالوظيفة الاجتماعية للدولة الحديثة. وضمن هذا المقترب فإن التأمين التجاري، أو التبادلي، لا يجد له ذكراً رغم أن السياسة الاقتصادية للحزب تحدد الأشخاص الاقتصاديين بالقطاع الخاص القائم على الملكية الفردية، والقطاع المختلط، والقطاع العام. أي أن الحزب يقبل بالتعددية في أشكال الملكية كما في السياسة. لكن هذا لا يعفيه من بلورة موقف واضح تجاه التطورات المحتملة في عرض الخدمات الاجتماعية ومنها الرعاية الصحية والضمانات الاجتماعية. لذلك من المفيد مراجعة الأساليب الممكنة لمعالجة خطر الأمن الاجتماعي والتي يمكن حصرها بالتأمين الاجتماعي، والتأمين التعاوني (التبادلي) والتأمين التجاري.

ما نريد التأكيد عليه من هذا العرض ليس نقد سياسة الحزب الشيوعي العراقي، أو غيره من الأحزاب العراقية فيما يخص شبكات الأمن الاجتماعي، بل الإشارة إلى أهمية التأمين في صيغته الاجتماعية والتعاونية والتجارية والذي لم يلق بعد الاهتمام النظري والعملي المناسب. فجميع مقترحات برنامج الحزب بشأن هذه المسألة تفترض قيام الدولة لوحدها بتقديم خدمات التأمينات الاجتماعية وتمويلها أيضاً. وهنا يتوجب القول إن إشكالية الاعتماد على الريع النفطي في تمويل شبكات الأمان والتأمينات بحاجة إلى تحليل وتقييم نقدي مثلما هو الأمر بالنسبة لأنظمة التقاعد والتأمينات الصحية. التمويل قضية إشكالية في غاية الأهمية صارت تشغل حيزاً كبيراً في برامج الأحزاب في الدول الغربية المتقدمة بسبب التغير في البنية الديمغرافية، وازدياد الحاجة لخدمات المسنين، ومحاولات الانتقاص من أهمية الخدمات الصحية العامة، ومحاربة من ينوي إشاعة مثل هذه الخدمات .. الخ. ومشروع الرئيس الأمريكي باراك أوباما لسن قانون يهدف إلى توفير رعاية صحية شاملة للمواطن الأمريكي مثال جيد لمسألة اجتماعية-اقتصادية تستفز المصالح والمشاعر معاً لدى أطراف متباينة المصالح، وبعضها يحارب المشروع من موقف إيديولوجي متوارث من أيام الحرب الباردة باعتبار المشروع بدعة شيوعية!

وباختصار، طالما أن الدولة العراقية ريعية بامتياز، ومؤسسات الرعاية الاجتماعية غير مكتملة، ويميل السياسيون العراقيون، لقناعات شخصية أو امتثالاً لمؤثرات خارجية كتلك التي يفرضها صندوق النقد الدولي، نحو محاكاة نموذج الدولة الرأسمالية، يصبح موضوع دراسة التأمينات الاجتماعية، بأنواعها المختلفة، وطرق تمويلها، أساسية في رسم سياسات الأمن الاجتماعي. وضمن هذه الرؤية تنهض الحاجة لتقييم دور شركات التأمين العراقية، العامة والخاصة، وما يمكن أن تقوم به في مجال الضمان الاجتماعي والصحي والتقاعدي. وبالطبع فإن هذه السياسات يجب أن توضع ضمن رؤية واضحة للاقتصاد العراقي من حيث توصيفه وتحديد معالم تطويره بعيداً عن الاعتماد المطلق على الريع النفطي.[15] ومن المناسب التأكيد هنا أن الاهتمام بالتأمينات الاجتماعية ليس بديلاً عن التركيز على التنمية والنمو الاقتصادي وخلق فرص التشغيل والعمل على توزيع أفضل للدخول. وهذا يتطلب إعادة لتوزيع المهام بين السوق والدولة.

لقد أتينا على ذكر بعض التقييمات للحزب الشيوعي العراقي وقدمنا فهمنا لبعض سياساته، نأمل أن يقوم غيرنا بتقويم ما أعوج في عرضنا للوصول إلى وضوح أفضل.

مصباح كمال
لندن 8 تشرين الأول 2009
تم تعديل الورقة في 24 تشرين الثاني 2009


الهوامش

[1] منشور في المدونة الإلكترونية مجلة التأمين العراقي http://misbahkamal.blogspot.com/2008/08/blog-post.html


[2] لقراءة نص البرنامج استخدم الرابط التالي: http://www.iraqcp.org/members4/0070606wa1.htm

أقر هذا البرنامج في المؤتمر الوطني الثامن للحزب الشيوعي العراقي المنعقد في أيام 10-13 أيار 2007 تحت شعار"لنعزز صفوف الحزب ونعمل على توحيد قوى الشعب الوطنية لإحلال الأمن والاستقرار واستكمال السيادة الوطنية وبناء العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد." نلاحظ في هذا الشعار التأكيد على السياسي وغياب الإشارة إلى البعد الاقتصادي والاجتماعي.

[3] "العيش الكريم للمواطنين وحمايتهم من الفقر والعوز" يقوم على قيم أخلاقية معيارية لم يجري بعد تحديدها على المستوى الوطني في العراق. فليس لدينا تعريفاً رسمياً للفقر والعوز كي يمكن في ضوئه رسم سياسات مناسبة تتماشى مع الدعوة الأخلاقية للعيش الكريم.

[4] "الاستخدام العادل لثروات البلاد وعوائد التنمية." في سياق هذا الموضوع يفهم من هذه العبارة استخدام الثروات والعوائد بين طبقات الشعب المختلفة، ويتطلب التحديد وإيجاد الوسائل المناسبة لتحقيقه من خلال السياسة الضريبية أو الإعفاءات أو الإعانات وغيرها. إن كان هذا الفهم خاطئاً فهل أن فكرة الاستخدام معنية بالتوزيع بين قطاعات الاقتصاد المختلفة؟ الموضوع يستوجب التدقيق.


[5] "البطالة والعجز عن العمل والشيخوخة." يبدو لنا أن هذه الحالات لم تلقى عناية المشرع العراقي ومن هنا فإن الدعوة لها أمر ينسجم مع إدارة الاقتصاد الحديث من حيث إيلاء المواطنين لحقوقهم الإنسانية وفي ذات الوقت الحفاظ عل الحدود الدنيا من الطلب الفعال على السلع والخدمات من قبل الفئات الاجتماعية المعرضة للحالات المذكورة.

[6] "إيجاد نظام فعّال لتمويل هذه الصناديق." حسناً فعل فريق كتابة البرنامج في النص على نظام لتمويل صناديق "البطالة والعجز عن العمل والشيخوخة." ففي غياب نظام فعال لا تستطيع هذه الصناديق أن تبقي على ملاءتها وتعين الأشخاص المعنيين. إيجاد هذا النظام يحتاج إلى جهد جماعي واستئناس برأي المنظمات النقابية والمدنية. وعموماً، فإن تمويل شبكات الأمان الاجتماعي إشكالي يحتاج إلى موازنة المصالح ضمن مشروع تنمية الاقتصاد العراقي ورفع قيمة الإنسان العراقي.

[7] استهل كاتبوا البرنامج باب الزراعة بذكر موضوع "الأمن الغذائي" وهو أمر مهم في ظل انهيار الإنتاج الزراعي بحيث بات العراق مستورداً لمعظم احتياجاته من المواد الغذائية، وزاد من سوء الوضع النقص الكبير في حصة العراق من المياه الدولية بات معه الأمن الغذائي رهينة لسياسات دول الجوار ووسيلة ضغط على الحكومات العراقية. الأمن الغذائي يعني "التأمين" على مستقبل الأجيال الشابة.

ولضمان الأمن يدعو البرنامج إلى "تطوير القوى المنتجة في الريف عن طريق تشجيع الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة، الخاصة والمختلطة والحكومية، وحماية العمال الزراعيين عن طريق التشريع والتنظيم النقابي والضمان الاجتماعي والصحي." تبدو هذه المقترحات وكأنها حزمة متكاملة تخفف من وطأة وتفاقم الأمن الغذائي. وبالطبع يمكن لخبراء الزراعة تقديم مقترحات إضافية فيما يخص استصلاح الأراضي والبزل والبذور والقروض وغيرها. راجع د. هاشم نعمة "مشكلة التصحر وأبعادها البيئية والاجتماعية في العراق" الثقافة الجديدة (بغداد، العدد331، 2009) ص 31-43، لمتابعة بعض جوانب الموضوع.

وفيما يخص موضوع التأمين نذكر أهمية تطوير التأمين الزراعي (وهو تأمين يشمل التأمين على المحاصيل الزراعية والمواشي والدواجن) الذي يلعب دوراً مهماً في التعويض المالي عن آثار الآفات على المحاصيل الزراعية ونفوق الحيوانات لأسباب محددة. هذا التأمين من شأنه المساهمة في تجديد الإنتاج والاستمرار به.

[8] يقدم البرنامج المقترحات التالية لمعالجة الوضع الصحي المتدهور:

1 ضمان تقديم خدمات الرعاية الصحية المجانية.

2 توسيع شبكة المستشفيات والمستوصفات الحكومية في المدينة والريف.

3 ضمان حق التأمين الصحي للسكان، جميعاً، كجزء من منظومة الضمان الاجتماعي، واعتماد نظام عادل لتمويله.

هذه المعالجات مترابطة تشكل مع بعضها نظاماً يفترض البرنامج، أو هكذا نقرأه، أن تقوم به الدولة. لا يذكر البرنامج الدور الذي تقوم به العيادات والمختبرات الطبية والمستشفيات الخاصة في العراق. لكننا نفترض أيضاً أن مقترحات البرنامج لا تتعارض مع التوجه الاقتصادي للحزب والذي يقوم على تعددية الشخصية الاقتصادية: العامة والخاصة والمختلطة والتعاونية. ونرى في النص على اعتماد نظام عادل لتمويل التأمين الصحي ما يشير إلى إمكانية مساهمة المنتفعين من هذا التأمين ببعض من كلفته قد تأخذ شكل قسط للتأمين، استقطاع من دخل الأجراء والموظفين، المساهمة البسيطة في كلفة الأدوية وهلم جرا. هل يا ترى إذاً أن البرنامج يحمل في طياته مشروع نظام تأميني مختلط لصحة المواطنين؟


[9] على الصعيد الإعلامي يثبت البرنامج الأهداف التالية:

- الضمان الاجتماعي لعائلات الضحايا من الإعلاميين.

- ضمان نقابة الصحفيين لتمتع الإعلاميين بالضمان الاجتماعي والحقوق التقاعدية.

وهنا يثار سؤال: من الذي يوفر الضمان والتقاعد: النقابة، أو المؤسسات الخاصة التي يعمل فيها الإعلاميون، أو الدولة؟ نعرف بأن المؤسسات الخاصة في العراق بدائية فيما يخص الاهتمام بحقوق العاملين لديها ولهذا فهي لم تفكر في إدخال أنظمة تقاعد مهنية في عقود العمل. ولم تعمل شركات التأمين، وهي ضعيفة الآن، على دراسة إمكانية توفير مرتب تقاعدي لقاء أقساط. ربما، وبالأحرى، يجب على النقابة والمؤسسات الخاصة توفير الحماية التأمينية، ولو في حدودها الدنيا، على الحياة وعلى الحوادث الشخصية. وحسب علمنا هناك مشروع قيد التنفيذ في هذا المجال.


[10] يضع البرنامج ضمن أهدافه ضمان حياة لائقة للمتقاعدين وكبار السن من العمال [توفير مرتب تقاعدي]، وكذلك إقامة منظومة شاملة للضمان الاجتماعي ضد البطالة والعوز [وهو مطلب عام تنسحب أثاره على فئات أخرى أتى ذكرها في البرنامج] والإضرار الناجمة عن العمل [أي تأمين إصابات العمل ومسؤولية رب العمل]. لم يأتي البرنامج عل ذكر الضمان الصحي للعمال من قبل أرباب العمل ربما لأن العمل كمواطنين يستطيعون الاستفادة من مستوصفات ومستشفيات الدولة. راجع تعليقنا السابق على البطالة والعجز عن العمل والشيخوخة ومعالجة الوضع الصحي.


[11] عن الطفل والطفولة يذكر البرنامج حماية الطفولة ورعايتها [هدف عام] وتأمين الضمان الصحي والاجتماعي والتعليم للأطفال اليتامى وأبناء [وبنات] العوائل المعدمة، ولأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة والمشردين الذين يتوجب قبل هذا توفير المأوى المناسب لهم. وكذلك توفير دور الحضانة ورياض الأطفال.


أيكون صحيحاً إن افترضنا أن توفير هذه الخدمات والمؤسسات المتخصصة يقع على عاتق الدولة أم مؤسسات اجتماعية أو تجارية مستقلة؟ يحتاج هذا الموضوع إلى التوسع لتحديد هوية مجهزي الخدمات وسبل تمويلها.

[12] نتمنى على من تتوفر له المصادر مراجعة سياسة الحزب في مجال التأمينات الاجتماعية ومتابعة تطوراتها كما ترد في وثائقه الرسمية.

[13] Massimo Salvadori, Karl Kautsky and the Socialist Revolution 1880-1938 (London: Verso, 1990), p 255.

[14] أنظر مقالة كريم الساعدي "شبكات الأمان الاجتماعي في بلادنا بين الواقع والطموح" طريق الشعب، http://www.iraqcp.org/tarikalshab/74/126/index3.htm


[15] يمكن الاسترشاد بما ورد في دراسة د. صبري زاير السعدي: التجربة الاقتصادية في العراق الحديث: النفط والديمقراطية والسوق في المشروع الاقتصادي الوطني (1951-2006)، (دمشق، بيروت، بغداد: دار المدى للثقافة والنشر، 2009)




ليست هناك تعليقات: