التأمين: موضوع مهمل في الكتابات الاقتصادية العراقية
نشرت نسخة معدلة من هذا النص في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 336، 2010، ص36-49.
مصباح كمال
نزعم أن موضوع التأمين غائب في برامج الأحزاب السياسية كافة وإن جاء ذكر له ففي مجال الضمان الاجتماعي،[1] وحتى في هذا المجال فإنه لم يخضع للتحليل. وحتى العاملين في قطاع التأمين لا ينصرف اهتمامهم إلى الدور الاقتصادي للتأمين إذ أن معظم كتاباتهم تقتصر على قضايا فنية.[2] وكذا الأمر في الدراسات الأكاديمية ولكن من الإنصاف أن نقول بأن الدراسات العليا في المعاهد والجامعات العراقية أفردت مكاناً للتأمين وبعض جوانبه الاقتصادية في بحوث طلاب الدبلوم العالي والماجستير[3] لكن المنجز في هذا المجال لم ينشر حسب علمنا، ولم تخضع الدراسات ذاتها للتقييم والنقد خارج المجال الأكاديمي.[4] أما اهتمام الحكومات فهو الآخر مفقود وفي أحسن الحالات ضعيف جداً، وتصريحات أعضاء الحكومة ينقصها الدراسة المعمقة ولم تترجم في أرض الواقع إلى إجراءات أو قرارات ملزمة.
لا ندعي بأننا نسد بعض الفراغ في هذا المجال فهو خارج قدراتنا الفكرية لكننا من خلال التعليق المبتسر والانتقائي على آراء ثلاثة اقتصاديين (د. صبري زاير السعدي، د. كامل العضاض، د. كاظم حبيب نعتز بآرائهم وهي موضع ترحيب) نود بفضلهم أن نطل على موضوع التأمين في الكتابات الاقتصادية العراقية ونفتح باباً للمناقشة. وقبل ذلك نتعرض باختصار للتغطية الصحفية للنشاط التأميني لأن الصحف هي الأقرب للقراء وما تنشره عن التأمين يستحق العناية.
تغطية التأمين في الصحافة: اختزال المشاكل
لا يجد التأمين تغطية مناسبة ومتميزة له في الصحافة وقد قمنا برصد نماذج من هذه التغطية في مقالات سابقة لنا ولذلك لن نتوسع في الكتابة عنه هنا.[5] ربما لم يكرس محرر صحيفة عراقية مقالة رئيسية editorial للتأمين. ألاحظ مثلاً أن طريق الشعب والمدى والزمان وغيرها من الصحف والمجلات العراقية قد نشرت مقالات رئيسية عن جوانب مختلفة لقضايا تمس حياة الناس والاقتصاد لكن التأمين ظل غائباً عن اهتمامات هيئات التحرير. أقول هذا رغم أن مجلة عريقة، الثقافة الجديدة، كانت سخية في فتح صفحاتها لي ونشرت بعضاً من دراساتي عن التأمين وكنت أظن أنها ستثير الاهتمام.
وعندما تهتم وسائل الإعلام بالموضوع فإنها لا توفيه حقه فلا تعرف القارئة أو القارئ إن كان الصحفي وكاتب التقرير أو من يقتبس منهم من الخبراء مسؤولاً عن التغطية المبتورة أو المشوهة أو الناقصة. مثال ذلك ما أوردته آكانيوز (وكالة كردستان للأنباء، 2 تموز 2009) تحت عنوان: " اقتصاديون بصريون يؤكدون على ضرورة تفعيل دور شركات التأمين في العراق." فكاتب التقرير ينقل عن "محمد البصري من شركة التامين الوطنية" أن
"المشكلة الأولى التي تواجه شركات التامين في العراق بشكل عام هي جهل التاجر فضلا عن المواطن البسيط بثقافة التأمين التي تمهد له الأرضية الآمنة لمستقبل تجاري أفضل" مضيفا "لابد لنا من النهوض بدور التأمين في العراق ليواكب التطورات الحاصلة في صناعة التأمين في العالم."
"أما الخبير الاقتصادي سعيد البجاري فأوضح أسباب ضعف شركات التامين بقوله إن "هناك مشاكل حقيقية تعيق صناعة التأمين في العراق أهمها قلة العناصر الفنية التي تقوم بعملية الاكتتاب والمتمثلة في مكتتبي الأخطار ومستوى [مُسّوي] التعويضات من حيث عمليات التقدير كذلك عدم تفعيل دور الرقابة على أعمال التأمين."
من جهة يختزل المتحدث من شركة التأمين الوطنية مشكلات التأمين في العراق بجهل التاجر والمواطن بثقافة التأمين (وهو حديث قائم من عقود ماضية ولم تجري محاولات حقيقية لتجاوز الجهل)، ويحصرها الخبير الاقتصادي بقلة العناصر الفنية (وهي مشكلة تعود لما يزيد عن عقدين ولم تحض أيضاً بالدراسة واجتراح الحلول) وركود الرقابة على أعمال التأمين (أي تطبيق قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 وهو قانون صاغته سلطة الاحتلال ووجوده يساهم في حرمان شركات التأمين العراقية من أقساط التأمين التي تقدر بملايين الدولارات تغذي خزائن شركات التأمين العربية والأجنبية غير المسجلة في العراق وغير الخاضعة لرقابة ديوان التأمين العراقي). ترى هل أن الخبير كان يفكر بملابسات هذا القانون وتأثيراتها على وضع شركات التأمين العراقية؟ التقرير الإخباري الذي اقتبسناه لا يبين لنا ذلك.
نعرف بأن التأمين ومصطلحاته الفنية ليست في متناول الجميع ولكننا نتوقع من الصحفية أو الصحفي الإلمام بالموضوع ليعرف كيف يجري المقابلة مع ممارس للتأمين، وكيف يعرض الخبر أو المادة عن التأمين. وبعض اللوم هنا يقع على إدارات شركات التأمين في عدم اهتمامها بالعلاقات العامة ومنها إصدار تصريحات صحفية ربما تساعد الصحفيين في إعداد موادهم عن التأمين. الجهل بالتأمين ليس محصوراً بالمواطن البسيط.
إطار اقتصادي عام لتقييم دور التامين
يقول د. صبري زاير السعدي في كتابه التجربة الاقتصادية في العراق الحديث: النفط والديمقراطية والسوق في المشروع الاقتصادي الوطني (1951-2006):[6]
"إن شروط النمو الاقتصادي الرئيسية تتمثل في زيادة معدلات الادخارات (الاستثمار) المحلية من غير إيرادات الصادرات النفطية أولاً، وثانياً في زيادة الصادرات من غير النفط الخام. وبالتالي، كان لا بد للسياسات الاقتصادية الكلية أن تصمم لتأمين هذين الشرطين على المدى المتوسط والبعيد. كما كان على السياسات المالية والنقدية تحقيق التوازن الاقتصادي الداخلي والخارجي على المدى القصير في ظروف الاستخدام شبه الكامل للأيدي العاملة الوطنية. وتكشف التجربة، أن تحقيق التوازن الاقتصادي على المدى القصير لا يمكن أن يقوم على أساس التوسع في المديونية للخارج عن طريق الاقتراض الخارجي، وأنه يمكن أن ينحرف كثيراً عن شروط النمو الاقتصادي ما لم يتحقق فائض في الميزان التجاري عن طريق زيادة الصادرات غير النفطية، وأن يتم تمويل الإنفاق العام من الإيرادات غير النفطية، ولا سيما ضرائب الأرباح والدخول. كما تكشف التجربة أن فاعلية سعر الفائدة في تحقيق التوازن الاقتصادي تكون عالية عندما تزيد الإدخارات المحلية والسيطرة على التضخم، إضافة إلى فاعليتها في تشجيع تدفق رؤوس الأموال أو الاستثمارات الأجنبية المباشرة أو بشكل إسهامات في مشاريع القطاع العام أو المشاركة مع القطاع الخاص بمقادير تتناسب مع سياسة التوسع في الاقتراض الخارجي."
على المستوى النظري ودون الدخول في تفاصيل القيود التنظيمية للنشاط التأميني، يمكننا ترجمة شروط النمو الاقتصادي فيما يتعلق بدور قطاع التأمين في الآتي: مساهمة صناديق أقساط التأمين المتجمعة لدى شركات التأمين في زيادة معدلات الاستثمار، وكذلك المساهمة في زيادة الصادرات غير النفطية من خلال الاكتتاب بأعمال إعادة التأمين الواردة من خارج العراق. ولكن بسبب ضعف القاعدة المالية لشركات التأمين وإعادة التأمين العراقية في الوقت الحاضر فإنها غير قادرة على مثل هذا الاكتتاب لا بل أنها مضطرة إلى توسيع طلبها لحماية إعادة التأمين من خارج العراق. وسوف يمر وقت طويل قبل أن تستطيع الشركات توسيع نطاق عملياتها خارج العراق.
ويلاحظ د. السعدي أن الإنفاق الحكومي هو المتغير المهيمن على الطلب العام.[7] ومن باب التعميم، وخاصة في حقبة سبعينات القرن الماضي، يُلاحظ أن ازدهار نشاط التأمين أرتبط بالإنفاق على المشاريع النفطية والصناعية وأعمال الهندسة المدنية الكبيرة. فقد شهدت هذه الفترة طفرة كبرى في حجم أقساط التأمين المكتتبة في الداخل، وخاصة أقساط التأمين البحري-بضائع والتأمين الهندسي، وتعاظم أيضاً حجم أقساط إعادة التأمين.
وما زال الإنفاق الحكومي هو المهيمن على الطلب العام في الوقت الحاضر مع فارق أساسي، فيما يخص التأمين، هو أن هذا الإنفاق لا يترجم نفسه إلى طلب فعّال من قبل مؤسسات الدولة والمقاولين المعتمدين من قبلها على شراء الحماية التأمينية من شركات التأمين العراقية العامة والخاصة. وقد نشأ هذا الوضع السلبي بسبب أحكام قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005، وإهمال التأمين في عقود الدولة، وترك حرية التأمين لدى المستثمر الأجنبي والوطني للتأمين على المشروع الاستثماري لدى شركت التأمين الأجنبية أو الوطنية حسب رغبة المستثمر وهلم جرا. وقد كتبنا بشأن هذا الوضع عدة أوراق ونشرناها في مدونة مجلة التأمين العراقي الإلكترونية.[8]
أما التوسع في المديونية للخارج فهو استمرار لسياسة النظام الشمولي السابق مع اختلاف واضح وهو لجوء الحكومة الحالية إلى الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية، إذ نقرأ عن المفاوضات بين العراق وصندوق النقد الدولي لمنح العراق قرضاً بفائدة مخفضة لتنشيط الاقتصاد العراقي.[9]
دور توازني للنشاط التأميني
كنا قد تقدمنا بورقة بعنوان "السياسات الاقتصادية في العراق والخيارات البديلة: قطاع التأمين نموذجاً" لتقدم في ندوة علمية حول "أداء السياسات الاقتصادية في العراق والخيارات البديلة"[10] التي كان من المزمع عقدها في برلين في النصف الأول من شهر آب/أغسطس 2009 إلا أنها تأجلت. وقد قرأها بعض الأصدقاء والزملاء ومن بينهم د. كامل العضاض وقد علق عليها في 12 نيسان/أبريل 2009 ونقتبس منه الآتي:
"لقد استمتعت فعلا بقراءة ورقتك عن قطاع التأمين في العراق المقترحة لندوة برلين التي يشرف عليها الأستاذ الدكتور كاظم حبيب. اعتقد إن تشخيصاتك، ليس فقط عن غياب الرؤية الإستراتيجية لإعادة بناء العراق بكل كياناته الإنتاجية والخدمية، (وقطاع التأمين في طليعتها)، بل، أيضا، لتدني الفكر القيادي الموجّه، إذ يبدو إن هذا الفكر يفتقد الإحاطة الكافية أو حتى الفهم المتداول للبرالية ودور القطاعين العام والخاص، بمنظورها العلمي؛ يفتقده حتى بالمعايير الرأسمالية الأمريكية ذاتها.
أشتغل حاليا على دراسة في الحسابات القومية، حيث وجدت من خلال موازنة أرصدة، أو فوائض حسابات الأنشطة السلعية، (أي المادية)، مع كل من فوائض الأنشطة الخدمية، (غير المادية)، وفوائض أنشطة التأمين، فوجدت، لحد الآن إن قطاع التأمين هو الذي يلعب الدور التوازني، كلما يحصل خلل ما بين الإنتاج السلعي والنشاط الخدمي المصرفي، أو القطاع المالي كله. إذ تعلم إن الأزمات المالية الكبرى، ومنها الحالية في الإقتصادات التي يفور فيها النشاط المالي والنقدي والإئتماني، وليس التأميني، كالاقتصاد الأمريكي، حيث يفضي النشاط المالي، بإبداعاته وفذلكاته المالية، كإعادة الشراء والتسييج والمشتقات، مما يؤدي إلى أن تتحول المعاملات المالية إلى اقتصاد وهمي، ذلك لأنها لا تقوم على تدفق مماثل للسلع الحقيقية. أما قطاع التأمين، فهو الذي يسحب السيولات النقدية ويوظف أرصدته المالية في حافظة من الاستثمارات الحقيقية، فهو إذن، يلعب دور توازني ما بين القطاعين السلعي المادي والخدمي الإنتاجي، بما في ذلك الخدمات المالية. وأمامنا مثال هائل للأزمة المالية العالمية الحالية، وخصوصا في الولايات المتحدة، فالاختلال أصبح الآن هيكليا بسبب عبثية القطاع المالي! وهل تعلم أن شركات التأمين الأمريكية، مثل أليكو، لم تتأثر بفضل حافظتها البليونية في قطاع الاستثمار الحقيقي.
من هنا أقول، انه لا يوجد إلا فهم ساذج لدور نشاط التأمين في العراق في مجال التوازن الاقتصادي. وهذا ناهيك عن دوره في إستدناء الأخطار وفي توزيع أعباء الخسائر وفي المحافظة على الأصول الجديدة والتراكمية في الاقتصاد العراقي. أعتقد، بصراحة، إن ورقتك جاءت، ليس فقط في وقتها المناسب، وإنما أيضا، لتسد فراغا مغفلا، بما يخص القطاع التأميني الهام جدا في العراق." [التأكيد للدكتور العضاض]
ومتابعة للموضوع كتبت إلى الدكتور العضاض في 22 نيسان 2009 أشكره على تقييمه لورقتي واهتمامه بموضوع "النشاط التأميني من منظور الاقتصاد الكلي، أي مساهمة هذا النشاط في الناتج الوطني الإجمالي وما يتفرع عن ذلك من عناوين أخرى ومنها:
•التأمين على الحياة كوسيلة ادخارية فريدة ودور شركات التأمين كوسطاء ماليين، طبيعة الاستثمار في التأمين على الحياة وفي التأمينات العامة.
•توفير فرص العمالة من قبل شركات التأمين والخدمات الملحقة بالنشاط التأميني كوساطة التأمين، وتسوية المطالبات وتقييم الممتلكات.
•التضخم ودورة الأعمال وتأثيرها على مستوى النشاط التأميني.
•التغيير السكاني في العراق وأثره على الطلب على التأمين.
•السياسة المالية: الإنفاق العام/الحكومي، الضرائب المفروضة على وثائق التأمين وعلى إيرادات شركات التأمين، الرقابة على النشاط التأميني.
•السياسة النقدية: أدوات السياسة النقدية، تأثير السياسة النقدية على قطاع التأمين.
•التجارة الدولية وميزان المدفوعات."
وكتبتُ أيضاً: "إن ما تقدمتَ به من ملاحظات حول الدور التوازني لصناديق التأمين لتعديل الخلل بين الإنتاج السلعي والنشاط الخدمي المصرفي أو القطاع المالي، أمر جديد علي لأنني لست اقتصادياً ولم أقرأ ما فيه الكفاية عن الاقتصاد والتأمين والمصارف. لذلك فإني لست في موقع العارف الذي يستطيع الدخول في نقاش نظري علمي حول هذه الأطروحة. لذلك أرى، إن توفرَ لك الوقت، تطوير أطروحتك وهي، في رأي، لا تجد لها تطبيقاً في الاقتصادات غير المعقدة كالاقتصاد العراقي، إذ أن التوازن الاقتصادي الذي تتحدث عنه له علاقة ببيئة استثمارية متطورة لا تجد لها حضوراً في العراق.
ربما يكون الخلل الأكبر متمثلاً بالفجوة بين ما أسميته بالاقتصاد الوهمي (المضاربة بالأوراق المالية التقليدية والجديدة، وهي التي فجّرت الأزمة الأخيرة، التي لا علاقة لها بالإنتاج) والاقتصاد الحقيقي (إنتاج السلع والخدمات لإشباع الحاجات المعيشية للناس). وهو تطور رصده الاقتصادي الماركسي بول سويزي Paul Sweezy (1910-2004) منذ سبعينات القرن الماضي في العديد من مقالاته المنشورة في مجلة Monthly Review http://monthlyreview.org/ والتي نشرت فيما بعد ككتب مع زميله هاري ماﮔدوف أحدها كتاب Stagnation and the Financial Explosion الذي نشر في أواسط ثمانينات القرن الماضي. وفيها نتعرف على مفهوم "الأمولة" financialisation.
ذكرتَ "أن شركات التأمين الأمريكية، مثل أليكو، لم تتأثر بسبب حافظتها البليونية في قطاع الاستثمار الحقيقي" وهو قول يحتاج إلى تكييف. أليكو شركة أمريكية متخصصة بالتأمين على الحياة لها فروع في العديد من دول العالم وهي تابعة للشركة الأم أي آي جي AIG (American Insurance Group) وتعرفُ أن شركات التأمين على الحياة وبسبب طبيعة عقود التأمين التي تكتتب بها، والتي تمتد لسنوات عديدة تنتهي بوفاة المؤمن عليه أو بقائه حياً عند تحقق أجل وثيقة التأمين، مجبرة بقوة القوانين الرقابية على الاستثمار الآمن لمقابلة مسؤولياتها تجاه المؤمن عليهم. ومن هنا منشأ السياسة الاستثمارية المحافظة لشركات التأمين على الحياة. وبالنسبة للشركة الأم، وهي الأكبر في العالم، فإنها كانت على حافة الإفلاس لولا "التأميم" الجزئي لها من قبل الخزانة الأمريكية بعد ضخ ما يقرب من 80 بليون دولار لدرء انهيارها مما كان سيؤثر على الاقتصاد الأمريكي ككل وكان سيكون له تداعيات على اقتصادات أخرى.
في مناخ الأزمة المالية التي يمر بها الاقتصاد العالمي فإن المحافظ الاستثمارية لشركات التأمين ليست بمنأى عن آثار هذه الأزمة خاصة بعد أن أصبحت كلفة رأس المال (الاقتراض لأغراض التوسع مثلا) أصبحت عالية، وتعرّضَ العائد على استثمارات شركات التأمين وكذلك قيمتها السوقية إلى الهبوط، وميل المؤمن لهم، وخاصة الكبار منهم، إلى إعادة النظر في برامجهم التأمينية لتقليص كلفة شراء الحماية التأمينية. وحتى الأفراد يسيرون بنفس الاتجاه من خلال الاحتفاظ بنسبة من الأخطار المؤمن عليها لحسابهم لتقليص ما يسددونه من أقساط التأمين على أموالهم."
التغلغل التأميني، وقواعد السلوك، والسياسة الاستثمارية لشركات التأمين
استمر النقاش مع د. العضاض بعد إتمام دراستنا "برهم صالح وإعادة رسملة وتحديث قطاع التأمين العراقي" (http://misbahkamal.blogspot.com/2009/05/blog-post_20.html) ذكرنا فيها الآتي تحت باب بعض ملامح التحديث:
"ومن الوسائل الأخرى لتعزيز ثقة الجمهور وكذلك الالتزام بالمعيار الأخلاقي والفني للعمل إصدار مدونة لقواعد السلوك code of conduct لقطاع التأمين برمته لتكون شركات التأمين خاضعة للمساءلة بموجبها.
التغلغل التأميني والكثافة التأمينية. ربما ينصب التحديث على قياس مساهمة قطاع التأمين في الاقتصاد الوطني. فالمعروف، كما جاء في دراسة سابقة لنا، أن "أهمية قطاع التأمين في الاقتصاد الوطني لأي بلد يقاس من خلال مؤشرين: التغلغل التأميني insurance penetration والكثافة التأمينية insurance density. ويقصد بالتغلغل التأميني نسبة دخل أقساط التأمين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهو بذلك يؤشر على أهمية النشاط التأميني في الاقتصاد الوطني وتطور هذا النشاط بالنسبة للاقتصاد الوطني ككل. فإذا كانت هذه النسبة مرتفعة فإن ذلك يعني أن التأمين ينمو بسرعة أكبر من سرعة نمو الاقتصاد الوطني.
أما الكثافة التأمينية، فهي تعني إنفاق الفرد على شراء الحماية التأمينية، وبالتالي فهي تعبر عن إجمالي أقساط التأمين المتحقق في البلد منسوباً إلى عدد السكان. وتدل الإحصائيات على أن الكثافة التأمينية في البلدان المتقدمة تفوق كثيراً ما يماثلها في البلدان ضعيفة النمو."
وقد كان د. كامل سباقاً في تقييم هذه الدراسة وتقديم ملاحظات بشأنها (رسالة بالإنجليزية بتاريخ 6 أيار 2009). كتب، ضمن أمور أخرى، عن قواعد السلوك والتغلغل التأميني ونترجمه كما يلي:
"اقتراحك بوضع قواعد سلوك لقطاع التأمين مسألة أساسية وضرورية إلا أن هذه القواعد يجب أن تضم مؤشرات على الدور العقلاني التنموي لشركات التأمين وخاصة شركات التأمين على الحياة. ويمكن لهذه الشركات الاستمرار في أداء هذا الدور طالما تجنبت المضاربات المالية والمضاربات بمنتجات استثمارية غير مستقرة والتعامل مع أسواق المضاربة الثانوية كإعادة البيع وإعادة الشراء والحيل القذرة للأسواق الزائفة.
وعند حديثك عن مفهوم التغلغل التأميني عرّفته على أنه "نسبة دخل أقساط التأمين إلى الناتج المحلي الإجمالي." دعني أصحح هذا من منظور الحسابات القومية فهي الأرباح الصافية، أي أقساط التأمين المسددة مطروحاً منها التعويضات المدفوعة أو التي ستسدد. وبالطبع يجب استقطاع مصروفات أخرى."
في جوابي للدكتور العضاض اختصرت موضوعات النقاش تحت العناوين التالية: التغلغل التأميني، وقواعد السلوك، والسياسة الاستثمارية لشركات التأمين. ومما جاء في رسالتي:
"لن أطيل في التعليق وفي النقاش مؤملاً نفسي دخول زملائي من العاملين في قطاع التأمين العراقي دخول هذا المعترك. (آمل أن يتوفر لي الوقت للتعليق على دعوة وزير المالية العراقية في أوائل أيار إلى تفعيل دور شركات التأمين في تعزيز موارد الدولة). [وقد كتبت عن هذه الدعوة تعليقا بعنوان "تفعيل دور شركات التأمين في تعزيز موارد الدولة: مناقشة دعوة وزير المالية" مجلة التأمين العراقي، 21/5/2009 http://misbahkamal.blogspot.com/2009/05/6-2009.html].
"التغلغل التأميني
أنا مدين لك بتوضيح تطبيق مفهوم التغلغل التأميني من منظور الحسابات القومية. وأدعوك إلى تطوير معالجتك لهذا الموضوع في دراسة مستقلة. عموماً، نحن العاملين في قطاع التأمين، المستغرقين في العمل اليومي، لا يطرأ في بالنا التطبيقات الدقيقة للمفاهيم الاقتصادية والإحصائية الكلية من منظور الحسابات القومية (GDP, GNP) في مجال التأمين. وبالنسبة لي فإن القواعد والقيود الفنية الإحصائية والمالية الداخلة في تكوين الحسابات القومية خارج إمكاناتي.
ما يهمنا من الحديث عن التغلغل التأميني هو التفكير في الوسائل التي تزيد معدل التغلغل التأميني ومنها، على سبيل المثال:
جعل فروع معينة من التأمين إلزامياً كالتأمين الإلزامي على المسؤولية المدنية الناشئة عن حوادث السيارات (ولو أن تجربة العديد من أسواق التأمين العربية ليست جيدة بسبب الحدود غير الاقتصادية لأقساط التأمين التي يفرضها المشرّع على شركات التأمين).
التأمين الإلزامي الصحي (وهو موضوع ذو بعد اجتماعي اقتصادي يمس مصالح شريحة واسعة من الناس ليس هذا بالمكان المناسب للحديث عنه يقوم على قناعات قابلة للنقاش بشأن قدرة الدولة العصرية على تمويل الخدمات الصحية وغيرها).
وفيما يخص إلزامية التأمين هناك تخوف غير مبرر يقوم على جهل تجاه الإلزامية (وليس هذا أيضاً بالمكان المناسب للحديث عنه ويكفي أن أقول إن التأمين على خطر الفيضان إلزامي في بعض الولايات الأمريكية، والتأمين على المسؤولية العشرية لمقاولي الإنشاءات المدنية إلزامي في فرنسا، والتأمين على المباني في سويسره إلزامي .. الخ).
كما يمكن تعزيز التغلغل بجذب فئات جديدة للتأمين على الأخطار التي تتعرض لها ولا تؤمن عليها لأسباب دينية أو أخلاقية أو اقتصادية. وفي بالنا هنا نموذج التأمين التكافلي بشقيه الإسلامي والتجاري (micro-insurance).
وبالطبع كلما زادت معدلات النمو الاقتصادي زادت فرص التأمين على الوحدات الاقتصادية والتجارية الجديدة.
ومع تطور ثقافة حقوقية تجاه مسؤولية الأفراد والمؤسسات عن أفعالها تظهر الحاجة للحماية التأمينية من المسؤولية المدنية التي تشكل مصدراً إضافياً لطلب التأمين.
وتلعب السياسات الضريبية دوراً مهماً بالتأثير على الطلب الفعال على شراء الحماية التأمينية. ففي التأمين على الحياة يميل طالبو التأمين بتلك البرامج التأمينية التي تجمع بين التأمين التقليدي والاستثمار (الإدخار). الضرائب على هذه وغيرها من وثائق التأمين وكذلك على شركات التأمين قد تنفر مجموعات من الناس من شراء حماية تأمينية. كما أن شركات التأمين، كمؤسسات تجارية ربحية، تحول عبء ما يفرض على أموالها من ضرائب على عاتق المؤمن لهم من خلال زيادة في أسعار التأمين.
قواعد السلوك والممارسة
لم يكن غرضي من وضع قواعد للسلوك أن تكون موسعة بالشكل الذي اقترحته، أي أن تتضمن مؤشرات عن التنمية العقلانية لدور شركات التأمين وخاصة شركات التأمين على الحياة (وهنا ربما كان ذهنك منصرفاً لشركات التأمين على الحياة كأوعية ادخارية واستثمارية)، شريطة عدم تورطها في أدوات استثمارية قائمة على المضاربة. تعرف أن الفرص الاستثمارية أمام شركات التأمين العراقية محدودة وحسب علمي لم تلجأ هذه الشركات للاستثمار في أدوات غير مضمونة في الماضي أو الحاضر. إذا استثنينا الاستثمار في رأسمال شركات تأمين عربية، وهي قليلة، فإن أقصى ما قامت به شركات التأمين في الماضي هو فتح حساب ودائع في مصارف أجنبية كان الغرض منها الإيفاء ببعض المتطلبات في مجال الخسائر (العوارية العمومية مثلاً)، تسديد أجور المعاينات الهندسية لخبراء أجانب، الدفع الفوري للمطالبات بموجب اتفاقيات إعادة التأمين .. الخ.
قواعد السلوك التي كانت في بالي هي من نمط القواعد المنظمة للعلاقات بين شركات التأمين والمؤمن لهم (المستهلكين)، من الأفراد والشركات التي تشمل، على سبيل المثال، بنوداً عن أسلوب بيع وثائق التأمين، وضوح الغطاء التأميني، عدم التلكؤ في تسوية المطالبات، معالجة الاختلاف بين الشركة والمؤمن له بعدالة وكفاءة خلال فترة زمنية معقولة .. الخ. هناك قواعد أخرى للحد من ظاهرة غسل الأموال.
السياسة الاستثمارية لشركات التأمين
أتفقُ مع ملاحظاتك حول ضرورة وجود قواعد منظمة لاستثمارات شركات التأمين إضافة إلى الرقابة القانونية عليها في هذا المجال. كتبتُ قبل خمس سنوات تعليقاً عاماً لأحد زملائي في العراق ذكرت فيه أن تحقيق الربح الاكتتابي هو ما تعمل شركات التأمين من أجله، أو قل هو ما يجب أن تعمل من أجله، وفي حالة فشلها في ذلك فإنها تعوضه بالاستفادة من عوائد الأموال المستثمرة ـ الطريقة التقليدية لتغطية العجز، وهو ما يسِمُ عمل العديد من شركات التأمين العالمية. لكن السياسة الاستثمارية لشركات التأمين قد تمنى بالفشل بسبب اختيار استثمارات مشكوك في قيمتها السوقية.
إن الاعتماد على العوائد الاستثمارية سياسة لها مخاطرها. تخيل الاستثمار في العقارات، فإن تعرضت العقارات إلى الهلاك، وفي غياب التأمين عليها وخاصة التأمين ضد خطر فوات الربح (توقف الأعمال) لضمان استمرار دخل الإيجار، مثلاً، تفقد مثل هذه الاستثمارات قيمتها الآنية والدخل المنتج منها وبالتالي لن تسعف في تغطية العجز الاكتتابي. أو عند انهيار سوق الأوراق المالية وما يترتب عليه من فقدان العوائد إضافة إلى هبوط قيمة الأوراق المالية التي استثمرت فيها شركة التأمين بحيث أن بيعها سيكون، ربما، دون قيمتها الاسمية وبالتالي فإن العوائد المتحققة من البيع ستكون ضعيفة ولا تساعد كثيراً في تغطية العجز الاكتتابي (عدم كفاية أقساط التأمين المكتتبة لتمويل مطالبات المؤمن لهم بالتعويض). ثم هناك التغيير في سعر الفائدة على الودائع. ولذلك فإن الانصراف عن تحقيق ربح على الأعمال المكتتبة والاعتماد المطلق على عوائد الاستثمار في ظل التقلبات الدورية الملازمة للاقتصادات الرأسمالية ليس بالأمر المحمود. وبالطبع فإن تنوع المحفظة الاستثمارية يعمل على التخفيف من نتائج المخاطر التي تكتنف بعض الأدوات الاستثمارية."
التأمين واستراتيجية التنمية الوطنية المشتركة
سررنا أن نقرأ دراسة د. كاظم حبيب "نقاش اقتصادي مفتوح وصريح مع السيد الدكتور برهم صالح، نائب رئيس الوزراء العراقي" التي ضمت خمس حلقات (جريدة المدى، أيار 2009) وتعرض فيها للتأمين ودوره في الحلقة الثالثة: "فحوى إستراتيجية التنمية وأهميتها للاقتصاد العراقي" (المدى، 25/5/2009). وقد أثار في مدخل الدراسة عشر نقاط جوهرية على شكل أسئلة كان التأمين إحداها وصاغها كما يلي:
"وكيف يفترض معالجة قطاع التأمين وإعادة التأمين في العراق ليلعب دوره الاقتصادي وكاحتياط ضروري لثروات العراق؟"
كي نتابع موقف د. حبيب من الدور الاقتصادي للتأمين، ولفائدة القارئ، نقتبس مطولاً من دراسته. يذكر د. حبيب أن "الهدف المركزي منذ الآن وعلى مدى السنوات العشرين القادمة" يتركز "في تخليص العراق من التخلف والاعتماد الوحيد الجانب على موارد النفط في تكوين الدخل القومي. أي تنويع وتطوير الإنتاج ومصادر تكوين الدخل القومي." وهذه أطروحة مشتركة بين معظم الاقتصاديين العراقيين ومنهم زميلينا د. صبري زاير السعدي و د. كامل العضاض.
بعد ذلك يدعو د. حبيب إلى التزام جملة أدوات ومنها:
"1 الاستفادة من إمكانيات القطاعين الخاص والحكومي في عملية التنمية، بما في ذلك القطاع الخاص العربي والإقليمي والدولي، إضافة إلى التعاون مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
2 حماية الإنتاج المحلي من المنافسة الأجنبية خلال المراحل الأولى من تنفيذ إستراتيجية التنمية، أي تنظيم التجارة الخارجية بما يسهم في زيادة استيراد سلع الإنتاج وتقليص تدرجي لسلع الاستهلاك ووضع سياسة جمركية تساعد على تحقيق ذلك.
3 التحكم بتأمين انسياب نسبة تتراوح بين 60 – 70% من إيرادات النفط الخام صوب التثمير الإنتاجي وتنشيط القطاع الخاص لهذا الغرض أيضا.
4 وضع سياسة مالية ونقدية، بما فيها السياسة الضريبية والجمركية، وسياسة جادة للتأمين وإعادة التأمين على نطاق البلاد كلها تتناغم مع إستراتيجية التنمية الوطنية وتساهم في تحقيق تلك الأهداف الأساسية وتنقل البلاد من حالة الاقتصاد الشمولي المتخلف إلى حالة الاقتصاد المتقدم، اقتصاد السوق الاجتماعي، إذ أن السياسة المالية والنقدية، ومعها التأمين، هي الأدوات التنفيذية للسياسات الاقتصادية." [التأكيد من عندنا]
اقتصاد السوق الاجتماعي والتأمين
وقبل التعليق على رسم سياسة للتأمين وإعادة التأمين وما يتعلق بالسياسة المالية والنقدية نود التعريف باقتصاد السوق الاجتماعي الذي يرد في دراسة د. حبيب هذه وغيرها من دراساته لنعرج بعدها إلى ما يعنيه هذا الاقتصاد بالنسبة للنشاط التأميني.
اقتصاد السوق الاجتماعي أشبه ما يكون بمشروع بناء "طريق ثالث" بين الليبرالية (اقتصاد السوق، المبادرة الفردية، المنافسة) والاشتراكية (العدالة الاجتماعية). ويتطلب تحقيقه اعتماد سياسات تقوم على تأكيد المنافسة (والوجه الآخر له هو منع الاحتكار)، توفير الشروط لتحقيق تكافؤ الفرص بين الكيانات الاقتصادية وتعطيل سيطرة فئة على مقاليد الاقتصاد الوطني، وتدخل الدولة عند فشل السوق في أداء دوره (دور اضطراري). وقد يضاف إلى هذه السياسات تدخل الدولة لتوجيه الإنفاق والاستثمار لتلبية حاجات اجتماعية (هياكل ارتكازية، مدارس، مستشفيات وغيرها من خلال مشاركة الدولة مع القطاع الخاص الوطني أو الأجنبي أو الاستثمار المباشر وهذا الأخير هو الذي ينتظم دعوات الاستفادة من الريع النفطي لأغراض البنية التحتية، المادية وغير المادية، بما فيها التعليم والصحة والحفاظ على البيئة).
وبالنسبة للعراق فإن خيار الانتقال من الاقتصاد الشمولي الأوامري إلى اقتصاد السوق مسألة مفروغ منها وإضافة الصفة الاجتماعية لا يغير من طبيعة التوجه الاقتصادي للحكومة والأحزاب السياسية بما فيها أحزاب اليسار. فهناك تقدير واعتراف بدور جديد للدولة، في صيغتها الاتحادية، في العراق، رغم عدم وضوح الأفكار بشأن هذا الدور في الوقت الحاضر وضعف مؤسسات الدولة الاتحادية والتضارب في تحديد العلاقة بين الاتحاد والإقليم، يقوم على منهج الرعاية الاجتماعية، والتنمية البشرية والتكنولوجية وتدريب القوى العاملة ومحاربة الفساد المالي والإداري (مفوضية النزاهة) وإعلاء سلطة القانون. وبعبارة أخرى فإن التلكؤ الحالي في إدارة الاقتصاد وغياب السياسات الواضحة هو الممهد لإنهاء دور الدولة كمقرر لإدارة الاقتصاد. نحن بإزاء قيام اقتصاد رأسمالي في العراق رغم الأوصاف الأخرى التي تطلق عليه والذي سيترسخ مع دخول العراق عضواً في منظمة التجارة العالمية.
ماذا يعني ذلك بالنسبة للنشاط التأميني؟ ربما يعني خروج الدولة من السوق التجاري للتأمين. ويقتضي هذا خصخصة شركات التأمين وإعادة التأمين التابعة لها، وحصر دورها (دور الدولة) بتوفير أنماط من التأمين الاجتماعي، أو تطوير ما هو قائم منها، كما هو الحال في الديمقراطيات الغربية، أو تكوين مُجمّع تأميني لمقابلة الخسائر والأضرار المادية المترتبة على الكوارث أو خطر الإرهاب. وقد يكون هذا المجمع ممولاً من الميزانية العامة أو من مساهمة الشركات أو رسوم مفروضة على وثائق تأمين معينة، وقد يكون مشروعاً مشتركاً بين شركات التأمين والدولة. لكننا نستبق ما سيسفر أو لا يسفر عنه المستقبل.
يعني ذلك أيضاً ضمان الدولة للمنافسة (منع الاحتكار) بين شركات التأمين، وتوفير الشروط لتحقيق تكافؤ الفرص بين الكيانات الاقتصادية (عدم تفضيل شركة تأمين على غيرها في التأمين على الأصول المادية والمسؤوليات المادية) وتعطيل سيطرة فئة على مقاليد النشاط التأميني (الاندماج بين مجموعة من شركات التأمين بهدف السيطرة على السوق لتعظيم أرباحها)، وتدخل الدولة عند فشل شركات التأمين في أداء دورها (دور اضطراري ربما قد تلجأ إليه عند إفلاس شركة تأمين للحفاظ على حقوق حملة وثائق التأمين كما هو الحال بالنسبة للمودعين في المصارف). وقد يضاف إلى هذه السياسات تدخل الدولة لتوجيه الإنفاق والاستثمار لتلبية حاجات اجتماعية (وهو ما تمارسه الدولة من خلال الإنفاق العام الذي يخلق فرص جديدة لشراء أغطية التأمين، وتحديد مجالات استثمار صناديق التأمين، والسياسة الضريبية الخاصة بالنشاط التأميني ومنها عدم فرض ضريبة على عقود التأمين على الحياة لتشجيع الإدخار، أو وثائق التأمين الصحي لتقليل الضغط على الخدمات الصحية التي تقدمها الدولة).
السياسة المالية
ما يهمنا من هذا الاقتباس (الفقرة 4 من دراسة د. حبيب) هو إبراز تأثير السياسة المالية والنقدية على النشاط التأميني. لم يتوسع د. حبيب في عرضه "للسياسة المالية والنقدية ومعها التأمين" باعتبارها أدوات تنفيذية للسياسات الاقتصادية إذ أنه، كما نعتقد، لم يستهدف العرض التفصيلي فدراسة ليست مكرسة للتأمين. ولعله يرجع إلى هذا الموضوع في المستقبل ويقدم تفصيلاً لوجهة نظره بشأنه.
ويبدو أن إقحام التأمين مع السياسة المالية والنقدية يعكس اهتمام د. حبيب بالدور الاقتصادي للتأمين إذ أنه يدرجه ضمن إحدى الأدوات التنفيذية للسياسات الاقتصادية. وموضوع السياسات الاقتصادية هو ما كان يشغل ذهنه عندما كتب لنا بتاريخ 17 آذار/مارس 2009 باسم اللجنة التحضيرية للندوة العلمية حول "السياسات الاقتصادية في العراق والخيارات البديلة" لتقديم ورقة فيها. (تأجلت الندوة التي كان من المزمع عقدها في برلين في آب 2009).
نعرف بأن الأدوات الرئيسية في السياسة المالية تتضمن الإنفاق الحكومي والضرائب، وكلاهما يؤثران على النشاط التأميني. وقد علقنا على دور الإنفاق الحكومي تحت باب إطار اقتصادي عام لتقييم دور التامين في هذه الورقة ونكمله هنا في مناقشتنا مع د. حبيب. وتؤثر السياسة الضريبية على شراء التأمين (إن كانت هناك ضريبة على وثائق التأمين وهو ليس كذلك في العراق في الوقت الحاضر باستثناء رسم الطابع)، كما تؤثر على قدرة شركات التأمين في بناء احتياطياتها.
السياسة النقدية
تهدف السياسة النقدية إلى تحقيق استقرار نقدي داخلي (استقرار المستوى العام للأسعار من خلال محاولة التحكم بعرض النقد ومعدلات الفائدة وحجم الائتمان المصرفي للحد من التضخم) واستقرار نقدي خارجي (استقرار سعر الصرف)، وتوفير المتطلبات المالية للنشاط الاقتصادي. ويتدخل المصرف المركزي كلاعب رئيسي في سوق النقد للحفاظ على قيمة العملة الوطنية من خلال بيع وشراء القطع الأجنبي.
تؤثر السياسة النقدية على النشاط التأميني كغيرها من الأنشطة الاقتصادية. واختصاراً ومن باب الانتقاء نرى أن تدني سعر صرف العملة الوطنية، مثلاً، يعني زيادة كلفة شراء حماية إعادة التأمين من الخارج. كما أن التضخم الداخلي يؤدي إلى خسارة في قيمة موجودات شركات التأمين، وكذلك هبوط قيمة وثائق التأمين على الحياة (مدخرات المؤمن لهم) وتآكل قيمة الأموال المؤمن عليها وما ينشأ عنها من اختلاف في تسوية مطالبات تعويض الأضرار المادية بسبب التباين في مبالغ التأمين عند ابتداء التأمين وعن تسوية المطالبة.
سياسة جادة للتأمين وإعادة التأمين
يدعو الدكتور كاظم إلى تبني سياسة جادة للتأمين وإعادة التأمين على نطاق البلاد كلها تتناغم مع إستراتيجية التنمية الوطنية. ووصفه لمثل هذه السياسة بالجادة يدل على عدم رضا، في رأينا، عن ما هو قائم وما يصدر من مواقف غير مدروسة من قبل أعضاء الحكومة. لكنه لم يتوسع في شرح مفردات مثل هذه السياسة. وهذا أمر مفهوم لأنه ليس معنياً في دراسته هذه بالتأمين وإعادة التأمين بشكل مباشر سوى انتظامه ضمن إستراتيجية التنمية الوطنية.
ومن الضروري وضع مثل هذه السياسة في إطار أوسع ونعني به السياسة الاقتصادية ويراد منها سلوك الحكومة في المجال الاقتصادي، وهي، كما قلنا في دراسة لنا، "تعبير عن خيارات اجتماعية (تشخيص ما هو مفضل على أساس أخلاقي أو سياسي أو غيره لتحديد هوية ما يعرف بالمصالح العامة أو المصالح الجماعية وصياغته كهدف اجتماعي عام) تترجم في قرارات الحكومة وتوضع قيد التطبيق من خلال مؤسسات معينة (السوق أو الإدارات والمؤسسات والشركات العامة) تنسجم مع الخيار المفضل. ويمكن القول أيضاً إن الخطط الخمسية ما كانت إلا تعبيراً عن سياسة اقتصادية، وعن موقف تجاه سيرورة الاقتصاد والمجتمع."
ثقل تبني سياسة اقتصادية، بضمنها سياسة لقطاع التأمين، يقع على الحكومة لكن رسم سياسة التأمين تقع على عاتق مؤسسات التأمين (شركات التأمين وجمعيتها وديوان الرقابة على التأمين) وعلى من يمثل مصالح طالبي التأمين. ولأن أية سياسة للتأمين لها أبعاد اقتصادية واجتماعية يصبح من الضروري أن يهتم بها الاقتصاديون أيضاً.
وقد قمنا بمحاولة وضع ملامح سياسة غير مكتملة في دراستنا "السياسات الاقتصادية في العراق والخيارات البديلة: قطاع التأمين نموذجاً" (الثقافة الجديدة، العدد 333-334، 2009) نقتبس منها الآتي:
"واختصاراً، فإن السياسة التأمينية، التي ندعو لها يمكن أن تتضمن معالجة العناوين التالية:
دور الدولة المباشر وغير المباشر في النشاط التأميني: التأمين التجاري والاجتماعي.
رسملة شركات التأمين العامة والخاصة.
أطروحة خصخصة شركات التأمين ومدى الحاجة إليها ضمن الواقع الحالي للنشاط التأميني.
الموقف من دور شركات القطاع الخاص والشركات الأجنبية في سوق التأمين العراقي.
تكامل سوق التأمين العراقي: على المستوى الوطني الفيدرالي.
تكامل سوق التأمين العراقي: على مستوى الخدمات النوعية التكميلية (خبراء تسوية الخسائر، خبراء تقييم الممتلكات العينية، الوساطة التأمينية).
السياسة المالية وتأثيرها على دور التأمين في الاقتصاد الوطني."
وبالطبع فإن هذه العناوين تظل كذلك ما لم تترجم في دراسات معمقة رغم أننا قد قمنا بمحاولات بهذا الشأن نشرناها في مجلة التأمين العراقي. رسم سياسة للتأمين يتطلب جهداً جماعياً وبمشاركة من عدة أطراف لها مصلحة في الحماية التأمينية ومن يوفرها وكيف وبأية كلفة. وأملنا أن يساهم الاقتصاديون في هذا المسعى.
إستراتيجية التنمية الوطنية في إقليم كوردستان العراق والنشاط التأميني
وبالنسبة لإستراتيجية التنمية الوطنية في إقليم كوردستان العراق، يقول د. حبيب بأنها يجب أن تتضمن:
"أ اعتماد الموارد المالية المتأتية من تصدير النفط الخام والغاز الطبيعي في عملية التغيير الملحة لبنية الدخل القومي على صعيد الإقليم، وعلى صعيد العراق كله، وهي مهمة إستراتيجية مشتركة.
ب الاهتمام بتوفير مستلزمات إشباع الحاجات المادية لأفراد المجتمع من خلال تنفيذ سياسة تجارة خارجية عقلانية تساهم في توفير تلك الحاجات من جهة، ولكنها تساهم في تنمية الثروة الوطنية من خلال تنمية الصناعة والزراعة وتقليص الحاجة إلى الاستيراد سنة بعد أخرى، بدلاً من إغراق الأسواق المحلية بالسلع الاستهلاكية والكمالية ذات النوعيات الرديئة والمستوردة لأغراض سياسية بحتة.
ج وهذا يعني بوضوح كبير توجيه هذه الموارد وتوزيعها على خمسة اتجاهات أساسية في المرحلة الراهنة:
أولاً: استكمال وتطوير وإنشاء مشاريع البنية التحتية بكل أجزائها.
ثانياً: الصناعة: توجيه المزيد من الموارد المالية الحكومية لأغراض التنمية الصناعية الحديثة المراعية لمسائل حماية البيئة وتقليص التلوث التي تجعل من إقليم كردستان بلداً صناعياً متقدماً.
ثالثاً: الزراعة: توجيه المزيد من الموارد المالية لإغراض التنمية الزراعية.
رابعاً: السياحة: توجيه المزيد من الموارد لأغراض التنمية السياحية، بما فيها صناعة الفندقة.
خامساً: البنوك وشركات التأمين: يحتل هذان القطاعان أهمية استثنائية في الاقتصاد الكُردستاني باعتبارهما يمثلان بعض أهم الأدوات التنفيذية في السياسة المالية والنقدية للإقليم التي يفترض فيها أن تساهم في تنفيذ السياسات الاقتصادية لحكومة الإقليم. نعرف جميعاً بأن كُردستان بحاجة إلى:
سلسلة من البنوك التابعة للقطاع الخاص المحلي والأجنبي وبالنسبة إلى مختلف القطاعات الاقتصادية. ويفترض أن تساهم هذه البنوك ذات الاختصاص (مصارف صناعية وزراعية وسكنية وتجارية)، سواء أكانت تابعة للقطاع الخاص المحلي والأجنبي أم تابعة للحكومة، في عمليات التمويل الائتماني ...
كما أن اقتصاد الإقليم بحاجة ماسة إلى النشاط التأميني الذي يمكن أن تنهض به شركات التأمين وإعادة التأمين التي تسهم في دعم النشاط الاقتصادي والتمويلي في الإقليم. وهي مؤسسات اقتصادية تساهم في عملية الادخار من جهة، وفي تعويض عمليات اهتلاك رأس المال الثابت والخسائر التي تتحملها الشركات والأفراد لأسباب مختلفة مثل الكوارث الطبيعية أو الحرائق أو السرقات أو الموت على سبيل المثال لا الحصر. إنها تعبر عن ضمانة مالية واقتصادية كبيرة ومهمة للاقتصاد الكُردستاني وللأفراد والشركات والمجتمع في آن واحد.
ويتطلب قطاعا البنوك والتأمين وجود كوادر علمية وفنية مختصة تضع الأسس العملية والعلمية والفنية لإنشاء البنوك وشركات التأمين في كُردستان العراق وتطويرها وتحديد علاقتها ببغداد وبالعالم الخارجي.
ويبدو لي ضرورة وإمكانية وضع تقارير خاصة عن هذين القطاعين بحيث يمكن البدء بتنفيذها في كُردستان مباشرة، إذ لا بد من البدء بذلك مع البدء بعملية الإصلاح الإداري والاقتصادي وعملية التنمية في الإقليم. فهي جزء من آليات السياسة المالية المسؤولة عن تنفيذ السياسة الاقتصادية والاجتماعية."
بعض بنود هذه الإستراتيجية تذكرنا بالنقاشات والسياسات التي رافقت نماذج التنمية الاقتصادية التي انطلقت من التجربة السوفيتية بعد ثورة 1917 وإطلاق شعار الكهربة والسوفيتات كمعادل للاشتراكية وما تبعها من أطروحات حول التنمية الذاتية وتلك القائمة على بناء الصناعة الثقيلة والحماية الكمركية وإدارة التجارة الخارجية وفرض القيود على الاستيراد الخ. وليس هذا بالمجال المناسب للاشتباك مع موضوع نماذج التنمية وأهمية التخطيط للاقتصاد الوطني.
لنلاحظ أولاً أن د. حبيب يؤكد على توجيه الموارد النفطية وتوزيعها على خمسة فئات أساسية في المرحلة الراهنة، أي:
(استكمال وتطوير وإنشاء مشاريع البنية التحتية، توجيه المزيد من الموارد المالية الحكومية لأغراض التنمية الصناعية الحديثة المراعية لمسائل حماية البيئة وتقليص التلوث التي تجعل من إقليم كردستان بلداً صناعياً متقدماً، توجيه المزيد من الموارد المالية لإغراض التنمية الزراعية، توجيه المزيد من الموارد لأغراض التنمية السياحية بما فيها صناعة الفندقة، وكذلك قطاع المصارف والتأمين).
جميع وجوه الإنفاق الاستثماري هذه، سواء مباشرة من قبل الوزارات والهيئات الرسمية أو من قبل القطاع الخاص أو من خلاله، لها مردودات على نشاط التأمين من حيث تعظيم الطلب على الحماية التأمينية المباشرة. وهو ما أتينا على ذكره آنفاً عن الربط بين الإنفاق الحكومي والطلب على التأمين. فكل مشروع إنشائي يحتاج إلى غطاء تأميني ضد مخاطر الإنشاء والمسؤوليات القانونية التي قد تنشأ عنها تجاه أطراف ثالثة. وحال إنجاز المشروع ووضعه قيد التشغيل فإنه يحتاج إلى غطاء تأميني ضد مخاطر التشغيل واحتمال توقف الإنتاج بسبب ضرر مادي وبالتالي خسارة الدخل المتوقع. وكذا الأمر بالنسبة للتنمية الزراعية التي تستدعي التأمين على تضرر المحاصيل الزراعية بفعل البرد وآفات معينة واحتمال نفوق المواشي. كما أن المنشآت السياحية بما فيها الفنادق تحتاج إلى حماية تأمينية شاملة تجمع بين احتمال تعرضها لأضرار وخسائر مادية ومالية ومسؤوليات قانونية تجاه ضيوفها وأطراف ثالثة. أما المصارف فهي تحتاج إلى حماية تأمينية تعرف باسم الوثيقة المصرفية الشاملة. وشركات التأمين نفسها تحتاج إلى تأمين مبانيها وموظفيها مثلما تحتاج إلى حماية محافظها من أقساط التأمين ضد تعرضها للخسائر الكبيرة (مطالبات التعويض من قبل المؤمن لهم) لدى شركات إعادة التأمين.
لنلاحظ ثانيا أن مردود الإنفاق الاستثماري على قطاع التأمين، من خلال تعظيم الطلب على الحماية التأمينية للمشاريع تحت الإنشاء وتلك قيد التشغيل الإنتاجي، هذا المردود المتمثل بأقساط التأمين، يخضع لرسوم وضرائب تصب في صالح خزانة الدولة الاتحادية أو حكومة الإقليم. وتشمل هذه ضريبة رسم الطابع على وثائق التأمين الصادرة، رسم لصالح جمعية شركات التأمين وإعادة التأمين العراقية، ضريبة على دخل شركات التأمين. نلاحظ أن الدولة لا تفرض ضريبة على أقساط التأمين كما هو الحال في العديد من بلدان العالم.
مثل هذه الرسوم والضرائب تزيد من كلفة شراء الحماية التأمينية وبالتالي تؤثر سلبياً على الطلب الفعال للتأمين. كما أن لجوء الدولة إلى فرض ضرائب عالية على دخل شركات التأمين، وربما مستقبلاً على وثائق التأمين، ستؤثر على حجم الاحتياطيات المالية التي تلجأ إليها شركات التأمين لمقابلة مطالبات بالتعويض لم تخضع للتسوية النهائية بموجب وثائق تأمين سارية أو مطالبات قد تقع مستقبلاً.
والمعروف أن الإعفاءات الضريبية هي من الوسائل التي يمكن اللجوء إليها لتشجيع تنمية الطلب على وثائق التأمين على الحياة، إذ أن شركات التأمين على الحياة هي الأكثر قدرة، من شركات التأمين الأخرى، على توفير مصادر إدخارية للأفراد وكذلك الاستثمار العيني.
التأمين: الحلقة الأضعف في الكتابات الاقتصادية
من رأينا أن النشاط التأميني سيستمر أن يكون الحلقة الأضعف في الكتابات الاقتصادية العراقية واهتمامات الأحزاب والمسؤولين الرسميين.[11] وضمن معرفتنا المحدودة ما زال ذكر النشاط التأميني عند الاقتصاديين العراقيين مقتضباً جداً لا يبرز المكانة الاقتصادية التي يحتلها هذا النشاط في حماية الثروات الوطنية الخاصة والعامة وضمان ديمومة الإنتاج ومساهمته في التنمية الاقتصادية. وقد ذكرنا في هامش دراسة لنا أن
"قطاع التأمين لا يرقى في أهميته إلى قطاع النفط المهيمن على تفكير الاقتصاديين العراقيين. وحتى العاملين في قطاع التأمين لم يدرسوا أهميته في المساهمة في الحفاظ على الثروات الوطنية (أي المساهمة في تجديد الأصول المتضررة من خلال تمويل التصليحات أو الاستبدال)، وكذلك دوره كوسيلة ادخارية فعّالة (وخاصة تأمينات الحياة)، والمساهمة في تكوين رأس المال، وإمكانية توفير فرص كبيرة للعمالة، وأخيراً دوره الحضاري في التقليل من النزاع الاجتماعي وتحويل عبء الاختلاف بين الأفراد إلى شركات التأمين (كما في تأمين المركبات). وبعبارة أخرى، فإن دور التأمين في التنمية الاقتصادية لم يلقَ ما يستحقه من عناية الباحثين." [12]
لعل هذا التعليل ليس كافياً لكنه يؤشر على ما يرقى إلى إهمال فاضح للأهمية الاقتصادية للتأمين. ومن المناسب هنا أن ننظر إلى إغفال التأمين على أنه جزء من الإهمال العام للمسألة الاقتصادية في حين أن هناك تخمة في التعامل مع الشأن السياسي. يقول د. صبري زاير السعدي بهذا الشأن:
"وتكشف معطيات التجربة في فترة الاحتلال أن العملية السياسية أو المناقشات التي تتم بين الأحزاب والقوى السياسية لم تكن معنية بالأزمة الاقتصادية بشكل جدي كما يبرز في سلوكها وغياب برامجها السياسية خلال الانتخابات العامة، أو ضحالة مناقشاتها في مواد الدستور الاقتصادية، أو في الغياب الكامل للأزمة الاقتصادية في برامج الحكومات والتي كان فشلها في المجال الاقتصادي صارخاً ومؤلما."[13]
الأمل يظل قائماً لحصول نقلة نوعية في تفكير الأحزاب السياسية وفي صياغة برامج الحكومات في معالجة ما يسميه د. صبري زاير السعدي بالأزمة الاقتصادية، وهي أزمة مزمنة تتمثل في تدني معدلات النمو الاقتصادي والاستثمار العام والخاص وعدم تحسن مستوى البطالة وعدم وجود توازن في التركيب القطاعي للناتج المحلي الإجمالي، وضعف الخدمات والتزايد السكاني، والطابع الريعي للاقتصاد الذي يعرضه للانكشاف والتأثر بحركة الأسعار العالمية وأسعار الصرف.
إن سوء إدارة الاقتصاد الوطني ومحدودية الوعي الاقتصادي والاجتماعي بالتأمين لدى الجمهور الأكبر من المواطنين، وحتى الشركات التجارية والصناعية الصغيرة، يسهمان في تراجع حجم النشاط التأميني إضافة إلى عوامل أخرى كامنة في تنظيم شركات التأمين العامة والخاصة وافتقارها إلى الكوادر الفنية عالية التدريب والقدرات الإدارية. ترى هل أن ارتقاء مستوى النشاط في المستقبل وتوطين كيانات تأمينية أجنبية متطورة يوفر الأرضية للاهتمام بالحلقة الأضعف؟
لندن أب 2009 – كانون الثاني 2010
الهوامش
[1] مصباح كمال، التأمينات الاجتماعية في العراق: قراءة لموقف الحزب الشيوعي العراقي (لندن: تشرين الثاني 2009)، ورقة لم تنشر بعد.
[2] إن مسحاً سريعا لمحتويات مجلة رسالة التأمين (متوقفة عن الصدور منذ ثمانينات القرن الماضي) سيؤكد ذلك. نأمل أن يقوم أحد الزملاء في قطاع التأمين بهذا المسح بالرجوع إلى أعداد المجلة المتوفرة في مكتبة شركة التأمين الوطنية في بغداد.
[3] أنظر الدراسة القيّمة لمروان هاشم "الدراسة الأكاديمية للتامين في العراق" المنشور في 15/04/2009 في مجلة التأمين العراقي الإلكترونية http://misbahkamal.blogspot.com/2009/04/blog-post_15.html
[4] من باب المثال فقط نشير إل بعض من هذه الأطروحات الأكاديمية:
عبدالزهرة عبد الله علي، إعادة التأمين وميزان المدفوعات في الأقطار النامية (جامعة بغداد، دبلوم عالي تأمين، 1975)
حميد جاسم علوان، استثمارات قطاع التأمين مع دراسة تطبيقية ودورها في الاقتصاد العراقي (دبلوم عالي تأمين، 1978)
حسن عباس ضاحي، التضخم وأثره على التأمين على الحياة (جامعة بغداد، دبلوم عالي تأمين، 1982)
نسخ هذه الأطروحات متوفرة في مكتبة شركة التأمين الوطنية، بغداد.
[5] كتبنا سابقاً عن التغطية الصحفية للنشاط التأميني في العراق. أنظر: مصباح كمال "أخبار العراق التأمينية في الصحافة" مجلة التأمين العراقي (14/7/2008) http://misbahkamal.blogspot.com/2008/07/1-5-2008.html
وكتبنا مؤخراً دراسة بعنوان: جريدة العراق اليوم و شركة الحمراء للتأمين: مثال آخر على الكتابة الصحفية عن التأمين (لندن، تشرين الثاني 2009)
http://misbahkamal.blogspot.com/2009/11/blog-post_04.html
وألحقناها بمقالة أخرى بعنوان "قطاع التامين: صحفي يكتب ومدير مفوض شركة تأمين يعقب" مجلة التأمين العراقي، 7/12/2009.
http://misbahkamal.blogspot.com/2009/12/1829-22-2009.html
[6] د. صبري زاير السعدي، التجربة الاقتصادية في العراق الحديث: النفط والديمقراطية والسوق في المشروع الاقتصادي الوطني (1951-2006) (بغداد ودمشق وبيروت: دار المدى، 2009)، ص 338.
[7] د. صبري زاير السعدي، مصدر سابق، ص 340.
[8] راجع على سبيل المثال: مصباح كمال، " نزيف أقساط التأمين في العراق" مجلة التأمين العراقي (23/2/2009)
http://misbahkamal.blogspot.com/2009/02/blog-post_23.html
[9] عادل مهدي "مفاوضات بين العراق وصندوق النقد لتطوير المالية العامة والقطاع المصرفي" جريدة الحياة، 27 سبتمبر 2009.
[10] مصباح كمال، "السياسات الاقتصادية في العراق والخيارات البديلة: قطاع التأمين نموذجاً" الثقافة الجديدة، العدد333-334، 2009، 80-91.
[11] كتبنا غير مرة عن تصريحات المسؤولين ويمكن مراجعتها في مدونة مجلة التأمين العراقي ومنها:
"نزيف أقساط التأمين في العراق: مناقشة لتصريحات وزير التخطيط والتعاون الإنمائي" (23/02/2009)
http://misbahkamal.blogspot.com/2009_02_01_archive.html
"د. برهم صالح وإعادة رسملة وتحديث قطاع التأمين العراقي" (20/05/2009)
http://misbahkamal.blogspot.com/2009/05/blog-post_20.html
"نقد "مؤتمر التأمين" وتصريحات وزير المالية" (19/07/2009)
http://misbahkamal.blogspot.com/2009/07/28-2009.html
[12] مصباح كمال "التأمين في العراق وعقوبات الأمم المتحدة" مدونة مجلة التأمين العراقي الإلكترونية.
http://misbahkamal.blogspot.com/2008/06/2002-73-96.html (13/06/2008)
نشرت هذه الدراسة تحت نفس العنوان كفصل في كتاب جماعي بعنوان دراسات في الاقتصاد العراقي (لندن: المنتدى الاقتصادي العراقي، 2002)، ص 73-96.
[13] د. صبري زاير السعدي، مصدر سابق، ص 405.