وكالات التأمين: مقاربة لفهم الخدمة التأمينية
محمد الكبيسي
من باب التقديم: مقارنة أولية للعمل في القطاع الخاص والقطاع العام
العمل في وكالة تامين بالتأكيد ليس كالعمل لدى الحكومة فالفرق بينهما هو كالفرق بين العمل الخاص والعمل العام، ومعروف كيف يدار العمل الخاص وكيف يدار العمل العام. فالموظف في العمل العام يستطيع أن ينعم بالراحة خلال ساعات العمل ولديه متسع من الوقت لتناول الشاي والقهوة أثناء تبادل الحديث الشيق مع الزملاء عن ابرز أحداث سهرة الأمس في النادي وما بينها وما قبلها وما بعدها، بينما الموظف في القطاع الخاص لا يتناول قهوته إلا وهو يمعن النظر في كشوفات أو قوائم أو يدقق هذا ويمحص ذاك من الأوراق المكدسة أمامه. وكثيرا ما يفعل الشئ نفسه بالنسبة للوجبة السريعة التي يتناولها في ساعة الظهيرة عكس زميله في القطاع العام الذي لا يقبل بأقل من ساعة لممارسة طقوس تناول وجبته حتى إذا كان هناك طابورا من المراجعين بانتظار أن يعود إلى عمله الذين لا يتنفسون الصعداء إلا بعد أن يطلب الشاي ليحبس، بعدها لن يضطروا لانتظارٍ طويل فتدخين سيكارته لن يطول إلا، طبعا، إذا كان من مدخني السيكار او ربما الاركيلة. أما الجنس اللطيف، وخصوصا المتزوجات منهن، فالأحاديث المشتركة قد تطول قليلا وهي عادة ما تبدأ بقصص البيت والاولاد وتنتهي بقصص الزملاء والزميلات واخرها قصص المديرين والمديرات. ولكي لا يزعل علينا الزملاء في القطاع العام نقول ان ذلك ليس من دون استثناءات.
جاذبية العمل في وكالة للتأمين: تجربة شخصية
من هذا المدخل أردت أن ارسم ملامح تجربتي في العمل في وكالة تأمين كانت يومها تعتبر من أنشط وكالات التامين في العراق وذلك خلال آذار 1970 ألا وهي وكالة مجيد الياسين للتامين ومقرها في عمارة الخليلي في منطقة الشورجة بشارع الجمهورية ببغداد. وكانت من الوكالات القليلة التي تعاقدت كوكيلة للشركتين المملوكتين للدولة وهما شركة التامين الوطنية والشركة العراقية للتامين على الحياة، والسبب طبعا معروف وهو لتخصص كل منهما بفرع من فروع التامين فالوطنية كانت تمارس التأمينات العامة والعراقية تمارس تأمينات الحياة فقط كما يدل الاسم على ذلك.
شاركت في بداية العام 1970 في دورة أساسية أعدتها الوكالة في المركز التدريبي التابع لشركة التامين الوطنية في شارع السعدون قرب ساحة النصر، على ما اذكر، تلقينا فيها محاضرات نظرية من السادة شوقي سلبي وجميل نظام سامي وبصري محمد صالح وفاروق جورج والأستاذ بهاء بهيج شكري وآخرين غيرهم لا تحضرني أسماؤهم. ثم اختارتني الوكالة للعمل فيها براتب قدره خمسة عشر دينار بدوام كامل من الثامنة صباحا حتى الواحدة ظهرا ومن الرابعة حتى الثامنة مساء كموظف، إضافة إلى تعاقدها معي للعمل معها كمنتج غير متفرغ. وهكذا بدأت أولى خطواتي في عالم هذه الصناعة التي سرعان ما عشقتها ربما بسبب ما قدمته لي من تطوير لوضعي المالي بسرعة هائلة. فمنذ اليوم الأول لي في العمل شاهدت طوابير المنتجين الذين كانوا يأتون بطلبات التامين وخاصة الحياة لإيصالها للوكالة. فالمنتج الذي يقدم طلبا للتامين على الحياة بطريقة الدفع السنوي للقسط يمكن أن يتقاضي فورا عشرين دينارا (إذا رغب) فيما تدفع الشركة [شركة التأمين] للوكالة خمسة وعشرون دينارا. أما إذا كانت طريقة دفع الأقساط ربع سنوية فتدفع الوكالة ستة عشر دينارا في حين تستلم عشرين دينار من الشركة. وهكذا كان للمنتج حرية اختيار أن لا ينتظر طويلا لاستلام عمولته من الشركة.
أثار انتباهي وحفزني هذا الأمر فعزمت أن أتعلم أصول العمل وأساسياته. وفعلا تم لي ذلك. وبدون أيما تردد باشرت بالعمل مستفيدا من وجود أهدافي حول مقر الوكالة فسوق الشورجة وشارع الجمهورية وشارعي الرشيد والنهر وما حولهما تزخر بالعملاء المرتقبين. ولعله من المهم الإشارة إلى أن الوكيل المرحوم مجيد الياسين وجد في رغبتي هذه مصلحة للوكالة فشجعني وأمدني بوصولات تأمينات الحياة لتحصيلها متخذا إياها مدخلا لي للتعرف والتقرب من العملاء أولئك. وفعلا تمكنت بفترة قياسية من تحقيق نجاح رفع من دخلي عشرات المرات الأمر الذي حفزني أكثر فأكثر.
لماذا يفضل طالبي التامين وحملة الوثائق التعامل مع وكالة؟
خطر هذا السؤال ببالي كثيرا فسئلت عددا من الزبائن عن السبب وتلقيت عدة إجابات عنها فيما تم الإجماع على التالي منها:
1. الخدمة التي يقدمها الوكيل لزبائنه أفضل بكثير من الخدمة التي يتلقاها الزبون من الموظف الحكومي.
2. الوكيل ينهج أسلوبا تجاريا في تحصيل الأقساط من زبائنه ضمن سياسة مرنه يرتاح لها الزبون، وتتركز على فتح سجل لذمم الزبائن يقيد فيه الأقساط الدائنة والمدينة التي يقوم الوكيل بتسديدها للشركة عن العملاء من أمواله الخاصة، طبعا بعد أن يتحصل على موافقتهم الهاتفية مسبقا على أن يقوموا بتسديدها لاحقا. وهذه السياسة حيوية مع شريحة التجار المتواجدين في الأسواق المحيطة بالوكالة إذا علمنا أن مهلة الدفع قد تم تمديدها إلى حين ميسرة، فالعديد من التجار، كما هو معروف، لا تتوفر له في بعض الأحيان السيولة بمستويات ثابتة تكفي دوما لتسديد جميع التزاماته فنجده يضطر إلى اعتماد ما كان يعرف في مصطلحات السوق بـ ( الشاطر يداور فلوسه) أي يناور بها فيأخذ من تخصيصات عملية ما إلى عملية أخرى يعتقد انها ستعطي ثمارا أسرع من الأخرى، أو لأنه يرغب بالتوسع في نشاطه فيناور برأس المال هنا وهناك حسب مقتضى الحال فتراه يوما يمتلك سيوله كبيرة وفي يوم آخر تبلغ تلك السيولة مستوى الصفر! وهكذا.
يحرص ويفضل بل ويفرح الوكيل بالأعمال، وهذه مسألة مهمة جدا، التي تتجدد سنويا أكثر من الأعمال التي تنتهي خلال سنة أو اقل أو أكثر كأعمال البحري والهندسي وسواها في حين أن تأمينات الحياة قد وزعت العمولة الممنوحة عنها لثلاث سنوات أو أكثر كما انها حتى عندما تنتهي عمولاتها في السنة الرابعة تظل مصدر إيراد للوكيل حيث يتقاضي عمولات تحصيل وان كانت اقل بكثير من عمولات الإنتاج إلا أن التراكم يعتبر عاملا حاسما في مضاعفة ايراداته سنة بعد أخرى. كما أن تأمينات الحريق والحوادث تتجدد سنويا هي الاخرى وتتجدد معها العمولات الممنوحه عنها مما ينتج عنه نوع من الراحة عندما يعلم الوكيل ان نسبة 70% "على سبيل المثال" من اعمال السنة السابقة ستتجدد تلقائيا. فإذا ما استمرت جهوده التسويقية بنفس المعدلات المخطط لها مع اضافة نسبة نمو فان ذلك من شانه ان يعاونه على تحقيق الخطة الانتاجيه المرسومة له بدون كثير صعوبة مما يدفعه إلى اعتماد كل الوسائل المتاحة له للوصول الى ذلك ومنها التسهيلات التي يقدمها للزبون في تسديد اقساطهم وان كنت لا ادعي ان ذلك كان امرا مطلق النجاح ففي بعض الأحيان كان يواجه حالات اعسار الزبون عن التسديد ولكنها لم تزد عن القدر المحسوب الذي يمكن تحمله.
3. يحرص الوكيل على وصول كافة مواد الترويج والدعاية التي كانت تعدها الشركتان وتوزعها على منتجيهما ووكلائهما، بما يضمن لهما اقصى فائدة ممكنة سواء من الاعمال القديمة او لتحقيق اعمال جديدة تغذى بها متطلبات الخطة الانتاجية المرسومة له. وأتذكر أن هذه المواد كانت ذات قيمة لا باس بها فالتقاويم وحقائب الجلد والاقلام والزجاجيات كالاقداح واستكانات الشاي وغيرها كثير كانت تفعل فعلها في تسديد الاقساط وانتاج الاعمال الجديدة. [1]
4. يفضل الزبون ان لا يذهب بعيدا للحصول على الخدمة التامينية ويهمه كثيرا تقليص مراجعاته لدوائر الدولة قدر الامكان بسبب الروتين والاجراءات الاخرى المعروفة اضافة الى انه عند مراجعته للوكيل القريب منه عادة ما يحضى بكرسي وثير للاستراحة وبقدح من الشاي او القهوة وبمن يهتم بشكل واضح بطلبه ويحاول ان ينجزه له باسرع مايمكن وان كان الامر في واقع الحال لا يختلف عن ذلك كثيرا في الفروع الانتاجية للشركتان المنتشرة في ارجاء العاصمة ومراكزها التجارية وفي محافظات العراق كافة الا ان الوكيل كان يحاول منافستها وتقديم الافضل فكما هو معروف ان التنافس انما ينصب على نوع الخدمة المقدمة فاسعار التامين هي واحدة في مكاتب الشركتين او لدى وكلائها اومنتجيها فلا يتبقى ما يتم التنافس على تقديمه سوى الخدمة والعلاقات العامة حيث نجد وبمرور الزمن ان الوكيل والمنتج والموظف المنتج قد أصبح العديد من زبائنه من مقربيه واصدقائه الشخصيين.[1]
5. تتقاضى الوكالة عمولة اكبر من عمولة المنتج مما يتيح لها تغطية جانب من كلفها الادارية ويمكّنها ذلك أيضا من إعداد مواد ترويج تحمل اسمها اضافة الى ما تستلمه من حصة من مواد معدة من قبل الشركة.
6. بعض وكلاء شركة التامين الوطنية وخاصة القدماء منهم تتمتع وكالاتهم بصلاحيات اصدار بحدود معينة من مبالغ التامين مباشرة الامر الذي نستطيع معه القول ان طلبات التامين الصغيرة نسبيا كانت تصدر من الوكالة وبذا تختصر الوقت وتخفف من الضغط على مركز الشركة. وهذه ميزة مهمة اذ ان النسبة العظمى من الانتاج كان من طلبات التامين الصغيرة نسبيا.
7. الكادر الإنتاجي الذي يقوم الوكيل بتهيئه وتدريبه وتأهيله انما يساهم في واقع الامر في زيادة انتاج الشركة مما يساعدها على تحقيق خططها الانتاجية ويعمل على نشر الوعي التاميني بين صفوف الجمهور.
إن هذه الأمور، وكلها ايجابية، لا تعني أبدا عدم وجود سلبيات فالوكلاء لا يتساوون في إنتاجيتهم ولا في كفاءاتهم الإدارية أو التسويقية ولا نستطيع القول إن الأمور جميعها كانت تجري بسلاسة ونعومة ولعل استعراض ابرز تلك السلبيات سيكون مما يتصدى له بالبحث والتقصي زميل آخر.
وأخيرا، كانت الوكالات من ملامح وصور صناعة التامين في الخمسينات وحتى بداية الثمانينات ولا يمكن لأي باحث أن ينسى أو يتجاهل أهمية ما لعبته من ادوار في زيادة ونشر التوعية التأمينية، وما قدمته من خدمة للشركات الموكلة ولنفسها في ذات الوقت.
أربيل 26 كانون الثاني 2010
هوامش
1 اذكر عندما كنت مديرا لقسم التسويق في الشركة العراقية للتامين على الحياة في الثمانينات من القرن الماضي ان الشركة قامت باستيراد مواد دعائية بكميات كبيرة من اليابان بتوسط المؤسسة العامة لاستيراد وتوزيع الاجهزة الدقيقة وهي عبارة عن ساعات وادوات مكتب وحاسبات جيب من الانواع الراقية جدا التي كانت غير متوفره للبيع في الأسواق. وقد لاقت قبولا كبيرا من جمهور المؤمن لهم لسنوات عديده ولغاية التسعينات.
2 بعد احالتي على التقاعد سنة 1989 تعاقدت مع شركة التامين العراقية للعمل معها كوكيل فانتقلت اعمال معظم زبائني الشخصيين الى الوكالة وانتقلت مرة اخرى الى الشركة التي كنت مديرها المفوض سنة 2000-2006 وثالثة الى الشركة التي اعمل فيها حاليا. وليس جميع الزبائن من بغداد فمنهم من هو في جنوب العراق الان ومنهم من هم خارج العراق. ولا اختص انا بذلك بل هو الحال مع معظم منتسبي القطاع خصوصا مع عمل منهم في حقل الانتاج لسنوات طويله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق