إطلالة
على ابن خلدون وجذور التأمين في العالم العربي
مصباح كمال
نشرت هذه المقالة أصلاً في مجلة الثقافة
الجديدة، العدد 404-405، آذار 2019.
لم يعرف فقهاء الإسلام الأوائل التأمين كمؤسسة نظامية،
اجتماعية أو تجارية، تقوم بتجميع المساهمات/الأموال من مجموعة من الأفراد، ووضع
هذه الأموال في صندوق يستخدم للتعويض من آثار الأضرار والخسائر الطبيعية والبشرية الذي
يلحق بعدد قليل من الأفراد، مستفيدةً بالقيام بهذه الوظيفة من قانون الأعداد
الكبيرة والاحتمالات. ولهذا لا يرد في
كتاباتهم ذكر للتأمين، ولكننا لا نعدم أن نجد إشارات إلى ما له علاقة بالتأمين
وأعني به الخطر/المخاطرة والموقف منه، وكذلك بعض الممارسات قبل وبعد الإسلام والتي
تضم شيئاً من عناصر التأمين كالديّة.[1]
أشكال أولية للتأمين في التراث العربي
يذكر الشيخ عبد الله العلايلي في إباحة التأمين على
المَتاع والحياة:
حماية الطريق بالإذْمام، أي "الادْخال في الذمة"؛
هل تستحق مُقابلاً أم لا؟ كانت محلاً
لخلافٍ كبير، ومن قال بالاستحقاق احتج بما أسماه قُدامى العرب
"تَلَاءً"؛ وهو سهم يكتبُ المُجير عليه، أو يَسِمُه بسِمَته، فيَتَنقَّل
حامِلُه آمناً من مكان إلى آخر.[2]
وجاء في القرآن، سورة قريش:
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ
الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي
أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)
حيث كان رجال قريش قبل الإسلام يقومون برحلتين للتجارة
في كل عام. ففي الصيف يتّجهون إلى الشام
لاعتدال مناخها، وفي الشتاء يتجهون إلى اليمن لأنها دافئة. وكانت الرحلتان تنطويان على شكلٍ أولي للتأمين
يقوم على التكافل في التعويض عن الخسائر أثناء الرحلة. فمن نَفَقَ له جملٌ أو تَلَفَ له مَتاعٌ استحق
تعويضاً من التجار المشاركين في الرحلة كلٌ حسب نسبةٍ مما حققه من أرباح أو بنسبةٍ
من رأسماله الموظف في الرحلة.[3]
فقد ذكر سعدي أبو جيب ما نصَّ عليه فقهاء الحنفية بشأن
ضمان خطر الطريق والتأمين:
لو قال رجلٌ لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، وإن كان
محفوفاً وأخذَ مالكَ فأنا ضامنٌ، فسَلَكَه وأُخذَ ماله يُضمِن القائل.[4]
أي أن القائل يُعوّض الشخص الآخر لخسارة أمواله، وهو
بمثابة اتفاق خاص بين شخصين يمكن تصنيفه ضمن الأشكال الأولية غير المنظمة للتأمين
لكنه لا يرقى إلى نشاط تأميني منظم، جماعي أو تجاري. صحيح أن هناك طرفين "متعاقدين"
شفاهاً (القائل والرجل المخاطب، مُؤمِن ومؤمَن
له) وأن هناك "مجازفة" (خطر تأميني ينطوي على احتمال التحقق من عدمه)
وتحويل لعبء المجازفة (عبء الخطر) إلى القائل (المؤمِن)، إلا أن العِوَض/المُقابل
(قسط التأمين) وتجميع هذه الأقساط في صندوق مالي لتعويض الخسارة مفقودان، كما أن
الضمان ليس مبنياً على تقييم للاحتمالات كالذي تقوم به شركات التأمين. أي أن الاتفاق لا يعدو غير تقديم حماية من شخص
إلى شخص آخر ربما لسبب أخلاقي. ومثل هذا
النمط من التأمين كان موجوداً في مجتمعات أخرى، وكانت تشكّلُ في أوروبا بدايات
التحول نحو إجراء التأمين بعقد مكتوب في القرن الرابع عشر.
إن هذا الاتفاق، كغيره، لا يُشكّل صيغة تأمينية قائمة
على نظرية للاحتمالات، واتفاق مُنظَّم بين طرفين متعاقدين، قابل للتنفيذ بقوة
القانون، مقابل مبلغ (قسط تأمين) لتعويض الطرف المتضرر في نفسه أو أمواله بسبب خطر
أو أخطار محددة، وكل ذلك ضمن إطار تنظيمي مؤسسي، أو شبه مؤسسي، لإدارة عملية توزيع
عبء الخسارة المالية على عدد كبير من أعضاء الجماعة المشتركة في مشروع الحماية من
الأخطار الخارجية التي قد تصيبهم.
أشكال أولية لإدارة الخطر في التراث العربي
ويشهد تاريخ العرب وجود أشكال أولية، تؤشر على بدايات إدارة
الخطر. إن إدارة الخطر، رغم حداثتها
كموضوع مستقل، فإنها موجودة، وبأشكال مختلفة، كممارسة للتحوط من آثار ما يمكن أن
يحصل مستقبلاً للناس وأموالهم من خسائر وأضرار.
نقرأ التالي في كتاب:
"من قديمٍ كانت جزيرة العرب طريقاً عظيماً للتجارة،
فطوراً تنقل غلاتها إلى ممالك أخرى كالشام ومصر، وأهم هذه الغلات البخور الذي يكثر
في الجنوب في ظفار؛ وطوراً تنقل غلات بعض الممالك إلى البعض الآخر، ذلك لأن طريق
البحر لم يكن طريقاً آمناً، فالتجأ التجار إلى البر يسلكونه، ولكن طريق البر نفسه
كان طويلاً وكان خطراً، لذلك أحاطوه بشيء من العناية، كأن تخرج التجارة في
قوافل، وأن تسير القوافل في أزمنة محددة وفي طريق محدودة."[5] [التأكيد من عندي]
ولنا في قصة النبي يوسف ومشورته لفرعون مصر عن خطر سنوات
المجاعة مثلاً جيداً عن إدارة هذا الخطر.
وبهذا الشأن نقرأ التالي في القرآن (سورة يوسف: 43-49)
"قَالَ
الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ
وَسَبْعَ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي
فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ. قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ
بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ.
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ
أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ.
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ
يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ
لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ. قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا
فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا
تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ
ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً
مِّمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن
بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ."
إن التفكير في المستقبل وما قد يحمله من آثار واستنباط
الوسائل المناسبة للتعامل مع تصوّر الآثار نشاط بشري يتخذ أشكالاً عديدة.
وقد ورد شيء عن الخطر في المقدمة لابن خلدون،
لكنه لم يكن فقيهاً بالمعنى الاصطلاحي. في
أحد فصول المقدمة يتحدث ابن خلدون عن تفاوت الأرباح في العمل التجاري نتيجة لتفاوت الأخطار التي تتعرض له:
كذلك نقل السلع من البلد البعيد
المسافة أو في شدة الخطر في الطرقات، يكون أكثر فائدة للتجار، وأعظم أرباحاً،
وأكفلُ بحوالة الأسواق، لأن السلعة المنقولة حينئذ تكون قليلة مُعوِزة دون [لبعد]
مكانها أو شدة الغَرَر [تعرض النفس للهلاك، الخطر] في طريقها، فيقلُّ حاملوها،
ويعزُّ وجودها؛ وإذا قلَّت وعزَّت غلت أثمانها.
وأما إذا كان البلدُ قريبَ المسافةِ، والطريق سابلٌ [مسلوك] بالأمن، فإنه
حينئذ يكثر ناقلوها، فتكثر وترخص أثمانها.[6]
لو كان ابن خلدون على معرفة
بالتأمين لكان قد أضاف أن أسعار السلع والأرباح تتأثر بكلفة الشحن والتأمين (ودور
طول مسافة نقل السلع وواسطة النقل: برية، أو نهرية أو بحرية)، كما فعل آدم سميث في
كتابه ثروة الأمم.[7] والمعروف أن ابن خلدون قد سبق آدم
سميث في العديد من نظرياته وآرائه في تقسيم العمل، ونظرية العمل للقيمة، والعرض
والطلب، والضرائب، ودور النقود، والتجارة الخارجية ودور الدولة الاقتصادي، إلخ[8] لكن التأمين، في صيغته البدائية أو التجارية، لم يكن حاضراً في جهازه الفكري.
دعوى ممارسة التأمين في الأندلس، وعدم معرفة ابن خلدون بالتأمين
يورد سعدي أبو جيب في هامش من كتابه شيئاً عن ممارسة
التأمين في الأندلس:
يذكر الأستاذ محمد نور غفاري في مقاله عن "التأمين
ونظرة الإسلام إليه"، المنشور في مجلة رابطة العالم الإسلامي عدد صفر 1399هـ
(كانون الثاني سنة 1979م) "أن التأمين قد بدأ به المسلمون في الأندلس كنظام
للتعاون والتبادل"، وينقل ذلك عن تاريخ أليس ي. إسكات، وأن صورته الأولى هي
التأمين التجاري." ويقول الكاتب بعد
ذلك "ثم عم هذا النظام في عهد بني عثمان كما ذكر الفقيه ابن عابدين."[9]
لم نستطع الاطلاع على هذا المقال لنتعرف على المصادر
التي اعتمد عليها كاتبه، وقد علّقنا في مكان آخر أن "دولة الأندلس دامت من
711 إلى 1492 وكانت تتمتع بعلاقات تجارية مع بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، ربما
كان التبادل التجاري بينها موضوعاً لأشكال من الحماية التأمينية في صيغها الأولى
خاصة وأنه كانت هناك علاقات تجارية متميزة بين البندقية وإسطنبول التي كان لها
دورها في شمال أفريقيا. ولعل الكشف عنها
يضيف الجديد لتأريخ التأمين مثلما قد يكشف عن موقف إسلامي أولي تجاه
التأمين."[10]
القول إن "التأمين قد بدأ به المسلمون في الأندلس
كنظام للتعاون والتبادل" يحتاج إلى دليل تأريخي خاصة وأنه يتضمن دعوى الريادة
في هذا المجال. إذا كان التأمين معروفاً
في الأندلس فإن ابن خلدون (1332-1406) كان سينتبه إليه خاصة وأنه كان مُلمّاً
بفنون التجارة والصناعة وأفرد لها فصولاً في مقدمته مثلما كتب عن نشاطات أخرى
بتفصيل الباحث العارف، فقد كان ذو فكر موسوعي، ومدقق لتأريخ الماضي وشاهد على
نشاطات عصره.
لا يرد في الكتب التي تؤرخ لبدايات التأمين، كعقد مستقل
أو مرتبط بقرض، ما يشير إلى دور للمسلمين في الأندلس. وتخبرنا كتب تأريخ التأمين إن أول وثيقة تأمين
بحري يعود إلى 23 تشرين الأول 1347 لتغطية رحلة من جنوا إلى مَيُورَقَة.[11]
غياب مؤسسة التأمين في العالم العربي
لم يعرف العالم العربي التأمين التجاري، الرأسمالي، إلا
في العصور المتأخرة، وكان موضوعاً للجدل تحريماً وتحليلاً. وحسب ما قال سعدي أبو جيب فإن "أحداً من
الفقهاء لم يتعرض إليه قبل الفقيه الحنفي ابن عابدين، الذي أفتى بعدم جوازه."[12]
لقد ظلت مؤسسة التأمين غائبة أو غريبة عن العالم العربي
لحين إدخالها إليها من خلال التوسع الإمبريالي الأوروبي في النصف الثاني من القرن
التاسع عشر.[13]
وعند مراجعة المعجم الاقتصادي الإسلامي[14] لم أجد فيه
ذكراً للتأمين، أو الأمن أو الأمان. لكن
المعجم يضم مواد عن الأَرش، والأعيان، والخطر، والاقتصاد، وكلها تتعلق بجوانب من
التأمين. فالأَرش، مثلاً، هو "بدل ما
دون النفس من الأطراف، وقد يُطلق على بدل النفس وحكومة العدل"[15] أي أنه يتعلق فيما
يعرف في زماننا بالتأمين من الحوادث الشخصية بما فيها الوفاة والتعويض عنها. لو كان التأمين حاضراً في الكتابات الفقهية
الإسلامية وغيرها لكنا وجدنا مادة عنه في المعجم، فقد ذكر مؤلف المعجم في تصديره أنه
لاحظ
منذ عهد بعيد أن في كتب الفقه الإسلامي، وغيرها من
الكتب، كثيراً من المصطلحات الخاصة بالمكاييل، والموازين، والمقاييس، والبيوع،
والمعاملات، والأمور الاقتصادية المختلفة، وهذه المصطلحات ترد في مواطنها مبهمة
غير محددة، وقد تختلف معانيها ومقاديرها بحسب تعدد الأمكنة والأزمنة واختلاف
الناس."[16]
إن أول من تعرَّض لموضوع
التأمين من الفقهاء، كما يقول أبو جيب، هو ابن عابدين (1784-1836). وقد أبرزنا مساهمته بتحريم النشاط التأميني في
دراسة سابقة، ونقلنا عنه التالي:
وَبِمَا قَرَرْنَاهُ يَظْهَرُ
جَوَابُ مَا كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْهُ فِي زَمَانِنَا: وَهُوَ أَنَّهُ جَرَتْ
الْعَادَةُ أَنَّ التُّجَّارَ إذَا اسْتَأْجَرُوا مَرْكَبًا مِنْ حَرْبِيٍّ
يَدْفَعُونَ لَهُ أُجْرَتَهُ، وَيَدْفَعُونَ أَيْضًا مَالاً مَعْلُومًا لِرَجُلٍ حَرْبِيٍّ
مُقِيمٍ فِي بِلادِهِ، يُسَمَّى ذَلِكَ الْمَالُ: سَوْكَرَةً [قسط التأمين] عَلَى
أَنَّهُ مَهْمَا هَلَكَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي الْمَرْكَبِ بِحَرْقٍ أَوْ
غَرَقٍ أَوْ نَهْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَذَلِكَ الرَّجُلُ ضَامِنٌ لَهُ بِمُقَابَلَةِ
مَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، وَلَهُ وَكِيلٌ عَنْهُ مُسْتَأْمَنٌ فِي دَارِنَا
يُقِيمُ فِي بلادِ السَّوَاحِلِ الإسْلامِيَّةِ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ يَقْبِضُ
مِنْ التُّجَّارِ مَالَ السَّوْكَرَةِ وَإِذَا هَلَكَ مِنْ مَالِهِمْ فِي
الْبَحْرِ شَيْءٌ يُؤَدِّي ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنِ لِلتُّجَّارِ بَدَلَهُ تَمَامًا، وَاَلَّذِي
يَظْهَرُ لِي: أَنَّهُ لا يَحِلُّ لِلتَّاجِرِ أَخْذُ بَدَلِ الْهَالِكِ مِنْ
مَالِهِ لأنَّ هَذَا الْتِزَامٌ مَا لا يَلْزَمُ.[17]
وقد كتبتُ في نفس الدراسة وتحت
عنوان ثانوي، العقود الرضائية، تعليقاً على فتوى ابن عابدين. فمن رأي أن الفتوى تضمُّ "موقفاً تجاه
الفصل بين ما يتوافق عليه الناس من عقود برضاهم واختيارهم بلا غش وتغرير وبين
الأمور التعبدية. وهذا الفصل يؤسس توجهاً
صريحاً نحو علمنة الحياة الاقتصادية عند الناس.
فحتى موقف ابن عابدين الرافض للسوكرة (التأمين) في بلاد الإسلام وتحليله في
التعامل مع دار الحرب يؤشر على بدايات للقبول بالتأمين لأنه يرفع الحرج عن التاجر
المسلم في التعامل مع التجار الأجانب ودخوله معهم في عقود تجارية من بينها عقود
التأمين البحري. موقف ابن عابدين هذا هو
شكلٌ أولي مُقيّد للتعامل مع معطيات الواقع المعاش. وهذا يُدلل على أن متطلبات الواقع أقوى من
محظورات الشريعة."
غياب عقد التأمين في التراث الإسلامي
لا يرد في كتب الفقه والحديث إشارة إلى التأمين لأن هذا
النشاط الاقتصادي لم يكن معروفاً في العالم العربي قبل القرن التاسع عشر. تصفّح أي من هذا الكتب، صحيح البخاري
مثلاً، ستجد عنده كتاب المغازي، والغسل، والحيض، والصلاة، والزكاة، والبيوع،
والكفالة، والإجارة، والحرث والمزارعة، والاستقراض، والشركة، والرهن، والهبة
والشروط، إلخ لكنك لن تعثر على كتاب التأمين أو ما يقرب منه. وقل مثل ذلك عن غيره من كتب الفقه والحديث.
لذلك، نزعم أن الفقه الإسلامي لم يعرف عقد التأمين، في
مفهومه الحديث وتنظيمه، وما يرد في التراث من إشارات، قبل الإسلام وبعده، ما هي
إلا مجرد إشارات تكلَّست في بيئتها التاريخية ولم تخضع إلى تطوير لتتحول إلى مؤسسة
منظمة للتعامل مع عدم اليقين وإدارة الخطر، الطبيعي والبشري، المصاحب لحياة الناس
ونشاطهم الاقتصادي كأفراد وشركات. لو كان
التأمين حاضراً بصيغته التعاقدية في الفقه الإسلامي لما انصبَّ رأي ابن عابدين على
رفضه في (دار الإسلام)، ولما قامت مدرسة "إسلامية" ترفض التأمين.
لقد ظلّ النموذج الأوروبي لمؤسسة التأمين هو السائد في
العالم العربي، حتى ان مؤسسي أول شركة تأمين إسلامية في السودان، بنك فيصل
الإسلامي عام 1979، وهي شركة التأمين الإسلامية المحدودة، وغيرها من شركات التأمين
الإسلامي أو التكافلي، استوحوا هذا النموذج، في صيغته التبادلية، من النموذج
الغربي رغم إضفاء تسميات جديدة على بعض المصطلحات كإطلاق تعبير التبرع على قسط
التأمين، والاستفادة من بعض العقود الشرعية كعقد الكفالة وعقد الإجارة في تنظيم
شركة التأمين.
وقد كتبتُ في سياق آخر له علاقة بالموروث الديني
المستخدم لأغراض الاشتغال في التجارة بأن الاعتماد على النص القرآني يتطلب
انتقاءاً دقيقاً للكشف عن الأشكال الأولية للتأمين أو قُل عناصر أولية ذات علاقة
بنظام التأمين، في حين أن التقاليد القبلية قبل الإسلام أكثر ثراءً من هذه
الناحية.[18] فالنص القرآني يُحيل المرء أحياناً إلى
التواكلية، كما جاء في سورة البقرة: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من
الأموال والأنفس والثمرات [الضرر والخسارة بالمعنى التأميني] وبشّر الصابرين
(الآية 155) الذين إذا أصابتهم مصيبة [حادث أو كارثة بالمعنى التأميني] قالوا إنا
لله وإنا إليه راجعون." (156). أي لا
رجوع إلى مؤسسة أخرى (كيانات التأمين المختلفة في زماننا) لتتولى توفير درجة من راحة
البال ضد عدم التيقن ابتداءً والتعويض الكلي أو الجزئي عن خسائر الأفراد والجماعات
بعد وقوعها. وعلى أي حال، فإن القرآن
"حمّال أوجه" كما نُقل عن علي بن أبي طالب.
إن الاعتماد على اقتباسات من النصوص الدينية ليس كافياً
للاستدلال بأن نظام التأمين كان موضوعاً في السماء،[19] وأنه كان
مطبقاً على العلاقات بين الناس وعلى أموالهم في الماضي، فالتأمين المنظم كالذي
تقوم به الشركات لم يكن معروفاً لا بل أن مفهوم الشركات المساهمة القائمة على
تحديد المسؤولية لم يكن معروفاً في الاقتصادات الإسلامية.
مع هذا فإن اكتشاف الأشكال البدائية لبعض عناصر التأمين،
وكذلك إدارة الخطر، في تاريخ العالم العربي يُفيد في تعميق الثقافة التأمينية
المعاصرة، مثلما هو مفيدٌ في التأكيد على أن مصادر المعرفة والممارسات القديمة هي
التي وفّرت التراكم الضروري لابتكار التأمين في شكله الحديث. وهذا ما انتبه له العديد من الباحثين في
دراستهم لشريعة حمورابي، ونظام الدية قبل الإسلام وبعده وغيرها.
28 تشرين الأول 2018
[2] الشيخ عبد الله
العلايلي، أين الخطأ؟ (بيروت: دار الجديد، 1992، ط1 دار العلم للملايين،
1978)، ص 101.
[3] اعتمدنا في كتابة هذه الفقرة على " نشأة
التأمين في مصر" المنشور في موقع الهيئة العامة للرقابة المالية، مصر:
ابن خلدون، المقدمة (بيروت: دار العلم للجميع،
د.ت.) ص 396.
[7] تناولنا هذا
الموضوع في فصل حول آدم سميث والتأمين في كتاب لنا
قيد التأليف حول حضور التأمين في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي (2018).
"Ibn Khaldun, Father of Economics," from Arab Civilization,
(joint editorship with George N. Atiyeh), State
University of New York Press, 1988. Pp. xii, 365.
James R. Bartkus and M. Kabir Hassan, “Ibn Khaldun and Adam Smith:
Contributions to Theory of Division of Labor and Modern Economic Thought,” http://muslimheritage.com/article/ibn-khaldun-and-adam-smith-contributions-theory-division-labor-and-modern-economic-thought
د. إبراهيم محمد البطاينة، د. أمجد عبد المهدي، "آراء ومواقف ابن
خلدون في المسائل الاقتصادية،"
وينقل العديد من الكتاب رأي جوزيف شومبيتر، اعتماداً على كتابه History of Economic Analysis, 1954 أن ابن خلدون هو الذي
وضع أسس العديد من الأفكار الأصلية في مختلف مجالات الفكر الاقتصادي وأنه سبق آدم
سميث.
[10] مصباح كمال، "التأمين كمؤسسة علمانية:
نظرة تاريخية موجزة،" الثقافة الجديدة، العدد المزدوج 378-379، تشرين
الثاني 2015، ص 104-114. ونشرت كذلك في موقع
شبكة الاقتصاديين العراقيين.
[11] للتعرف على الخلفية والتفاصيل راجع:
Harold E. Raynes, A History of British Insurance (London: Sir
Isaac Pitman & Sons Ltd, 2nd ed 1964. 1st ed 1948),
pp 7-9.
[13] H James (editor), P Borscheid, D Gugerli,
T Straumann, The Value of Risk, Oxford: University Press, 2013, pp 50-52.
[18] رينات بَكّين،
"الأشكال الأولية للتأمين في المجتمع الإسلامي: مؤسسة الدية والزكاة
كمثال،" ترجمة مصباح كمال، التأمين العربي، العدد 108، مارس (آذار)
2011، ص14-21.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق