إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2018/08/15

Sordid Chapter in the History of Capitalist Insurance


التأمين والعبودية: فصل بغيض في تاريخ التأمين الرأسمالي



نشرت أصلاً في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 398-399، تموز 2018


إن الدول الرأسمالية الحديثة هي نتيجةُ تاريخٍ من العبودية وإبادة الشعوب والعنف والاستغلال، لا يقلّ الرعبُ فيه عن الصين أيام ماو تسي تونغ أو الاتحاد السوفييتي أيام ستالين. لقد وُلد النظام الرأسمالي هو الآخر ممزوجاً بالدم والدموع، ولكنه، بخلاف الستالينية والماوية، عاش مدة أطول وكافية لينسى جزءاً كبيراً من تلك الأهوال.

ترّي إيغلتون، لماذا كان ماركس مُحِقّاً، (2011)، الفصل الثاني، ص 12-13 في الأصل الإنكليزي للكتاب.
ترجمه عن الألمانية: إرينا داوود، ماجد داوود، طرطوس - الرمال الذهبية، 2013-2014، سورية

واحدة من الأهوال والمجازر المرتبطة بها التي لم يذكرها تيري إيغلتون بالنص هو تجارة العبيد (الهولوكوست الأفريقي) عبر الأطلسي بين الدول الأوروبية الكولونيالية (بريطانيا، فرنسا، إسبانيا، البرتغال وغيرها) وجزر الهند الغربية والبرازيل وأمريكا الشمالية.  المثل الأشهر في هذا الهولوكوست هو رمي العبيد في البحر من على ظهر السفينة زونغ عام 1781، وهو ما سنحاول أن نعرضه في هذه الورقة من منظور التأمين، مع التأكيد على أننا لا ندعي بأن هذه الورقة ترقى إلى بحث تاريخي في المصادر.

سكوت الكتابات التأمينية عن تأمين تجارة العبيد

نزعم أن التأمين على العبيد كبضاعة أو القتل الجماعي للأفارقة لم يلقَ عناية في الكتابات التأمينية، فهذا النوع من التأمين وما ارتبط به من رمي البشر في البحر لا يجد له ذكراً، حسب علمنا، في الكتابات التأمينية العربية،[1] وحتى الكتب الموضوعة باللغة الإنكليزية عن التأمين، وخاصة التأمين البحري وتاريخ سوق لويدز، لا تذكرها.[2]  لكننا نجد إشارات مهمة لها في كتاب أريك وليامز الرأسمالية والعبودية.[3]  ونجد عرضاً لها أيضاً في كتاب عن تاريخ التأمين وإعادة التأمين[4] ودراسة موثقة عنها.[5]  وهناك كتاب مهم لمؤرخ متخصص بتاريخ تجارة العبيد الثلاثية الأبعاد عبر الأطلسي (أوروبا، أفريقيا الغربية، جزر الهند الغربية/الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية) مكرّس للموضوع يتناول جوانب مختلفة ومنها الجانب التأميني.[6]  وقد اعتمدنا على هذه المصادر في إعداد وكتابة هذه الورقة.

الخلفية العامة

إهمال الكتابات التأمينية لانشغال صناعة التأمين بالتأمين على العبيد والسفن التي كانت تنقلهم والفظاعات المرتبطة بها - رمي العبيد المختطفين في البحر jettison - الذي بدأ في القرن الخامس عشر وتزامن مع ظهور النظام الرأسمالي، مدعاة للتساؤل.  ترى هل أن سبب هذا الإهمال هو الخجل من إبراز هذا الفصل الكريه في تاريخ التأمين رغم أن المحصلة النهائية كان رفض مكتتبي التأمين لتعويض أصحاب السفينة زونغ؟  لقد كان مكتتبو التأمين جزءاً من النظام السائد وقيمه وممارساته ومن المشاركين في تجارة العبيد من خلال توفير الحماية التأمينية لهذه التجارة.  وتاريخياً، ترجع العلاقة بين التأمين ونظام العبودية إلى ما قبل القرن السابع عشر، أي قبل تسليع العبيد، كما يؤكد مؤرخ متخصص.[7]

يقول وليامز إن جميع الطبقات في المجتمع الإنكليزي قبل 1783 كانت تشكل جبهة موحدة فيما يتعلق بتجارة العبيد.  فالتاج، والحكومة، والكنيسة، والرأي العام عموماً، ساندت تجارة العبيد.  نعم، كانت هناك بعض الاحتجاجات إلا أنها لم تكن فعّالة.  (ص 39).  ويذكر في نفس الصفحة أن حملة للتجارة بالعبيد انطلقت برعاية من الملكة إليزابيث الأولى (1603-1533).

يربط أريك وليامز بين تجارة العبيد عبر الأطلسي ومختلف الصناعات والخدمات المالية وغيرها ومنها التأمين (ص 59).  ويذكر أن لويدز، كغيرها من شركات التأمين، كانت تقوم بالتأمين على العبيد وعلى السفن التي كانت تنقلهم عبر الأطلسي، وكانت مهتمة بشكل قوي بالأحكام القانونية المتعلقة بتحديد "الوفاة لأسباب طبيعية" و "الأخطار البحرية" أثناء المجازفة البحرية.  (ص 104).  الاقتباس التالي من كتاب نشر أواخر القرن الثامن عشر يلقي الكثير من الضوء على هذا الاهتمام:

The insurer takes upon himself the risk of the loss, capture, and death of slaves, or any other unavoidable accident to them: but natural death is always understood to be excepted: - by natural death is meant, not only when it happens by disease or sickness, but also when the captive destroys himself through despair, which often happens: but when slaves are killed, or thrown into the sea in order to quell an insurrection on their part, then the insurers must answer.

يتحمل المؤمِن [شركة التأمين] بنفسه خطر خسارة العبيد أو القبض عليهم أو موتهم أو أي حادث آخر لا يمكن تجنبه يتعرضون له: ولكن من المفترض دائماً أن الموت الطبيعي يُستثنى من ذلك: - ويعنى بالموت الطبيعي، ليس فقط عندما يكون [الموت] بسبب اعتلال في الصحة أو المرض، ولكن أيضاً عندما يُنهي الأسير [العبد] حياته بسبب اليأس، الذي يحدث في كثير من الأحيان: ولكن عندما يُقتل العبيد، أو يُلقون في البحر لقمع تمرد من جانبهم، فعلى المؤمنين [شركات التأمين] الاستجابة [لطالب التعويض].[8]

ولنا أن نشير بعجالة إلى أن المناخ الفكري في إنجلترا كان مناصراً لتجارة العبيد من خلال النظرة الدونية لغير البيض، كما هو الحال مع الفيلسوف التجريبي الإنجليزي جون لوك (1632-1704) الذي كان مساهماً في الشركة الأفريقية الملكية Royal African Company التي تخصصت في تجارة العبيد ومن ثم الذهب والعاج، والفيلسوف والاقتصادي والمؤرخ الأسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776).  والسياسي والفيلسوف أدموند بيرك (1723-1792).[9]
قضية زونغ: رمي العبيد في البحر

في العام 1781 اشترى قبطاناً يعمل لدى وليم ﮔرﮔسون William Gregson، أحد المشتغلين في تجارة العبيد في مدينة ليفيربول البريطانية، سفينة شراعية هولندية لنقل العبيد كانت محتجزة في ساحل الذهب وتحمل اسم زورغ Zorgue، نيابة عن ﮔرﮔسون وشركائه.  وقبل أن تبدأ السفينة في تجارة العبيد تمَّ تغيير اسمها لتكون زونغ Zong.

بدأت زونغ رحلتها من ساو تومي Sao Tome في غرب أفريقيا متجهة عبر المحيط الأطلسي نحو جامايكا وعلى متنها 442 من العبيد الأفارقة و 17 ملاحاً بإمرة القبطان لوك كولنغوود Luke Collingwood.  بسبب تعرُّض السفينة لرياح غير مواتية وخطأ ملاحي فقد استغرقت رحلتها 108 يوماً بدلاً من 61 يوماً.  ولكن قبل ثلاثة أسابيع من وصولها إلى محطتها النهائية فإن 7 من ملاحي السفينة و 62 عبداً ماتوا بسبب سوء التغذية والمرض.  كما أن العشرات من العبيد كانوا يعانون من الأمراض ومعرضون للموت بسببها.  وعند اكتشاف شحة مياه الشرب على متن السفينة قرر القبطان كولنغوود إنقاذ أكبر عدد من ملاحيه والبضاعة البشرية بإصدار الأمر لرجاله لاختيار العبيد الأكثر مرضاً ورميهم في البحر.  وهكذا وخلال ثلاثة أيام تم قتل 132 عبداً.  هذه هي الخطوط العامة للقضية لكن التفصيلات التي يعرضها لمؤرخون ترسم صورة أكثر تعقيداً لاختيار قبطان السفينة ومساعديه والملاحين والتعامل مع العبيد على ظهر السفينة.

كان القبطان يعرف بأن مكتتبي التأمين البحري يدفعون التعويض في حالة رمي البضاعة في البحر jettison من أجل إنقاذ السفينة والملاحين.  الرمي في البحر إجراء ملاحي قديم وأحد الأشكال البسيطة لما يعرف باسم العوارية العمومية general average ويعتبر من الحوادث التي تغطيها وثيقة اللويدز الكلاسيكية.[10]  وكما جاء في دراسة حديثة: "يتحقق حادث الرمي في البحر عندما يقوم ربان السفينة برمي قسم من البضاعة في البحر تحت ضغط أحوال طارئة لتفادي غرق السفينة، أو لتصحيح توازنها الذي اختل بسبب تعرضها للأنواء البحرية، أو لمنع وقوع تلك الأموال في أيدي دولة عدوة."[11]  وكان العبيد يعتبرون ببساطة بضاعة كالأخشاب والمعادن والحيوانات.  ولذلك كان رميهم في البحر، في حالة تعرض السفينة لخطر ما، موضوعاً للتعويض بموجب غطاء وثيقة التأمين المعتمدة لدى لويدز، لكن هذه الوثيقة لم تكن تغطي حالات الوفاة الطبيعية أو البضائع القابلة للتلف بسبب طبيعتها كالفواكه.

لقد استقرت الممارسة آنذاك على أن الأفارقة الذين يموتون بشكل طبيعي – بسبب المرض أو سوء التغذية أو سوء المعاملة أو اليأس – لم يكونوا يشكلون موضوعاً للمطالبة بالتعويض عن وفاتهم.  لكن قتلهم بسبب تمردهم كان قابلاً للتعويض بالمبلغ المؤمن عليهم كبضاعة.

كانت صياغة وثيقة لويدز للتأمين البحري معقدة وفيها تكرار، ولفائدة القراء نقتبس النص الإنجليزي[12] متبوعاً بترجمتنا له.

Touching the Adventure and Perils which we the Assurers are contented to bear and do take upon us in this Voyage, they are of the Seas, men-of-War, Fire, Enemies, Pirates, Rovers, Thieves, Jettison, Letters of Mart and Counter-Mart, Surprisals, Takings at Sea, Arrests, Restraints and detainments of all Kings, Princes and People, of what Nation, Condition or Quality soever, Barratry of the Master and Mariners, and of all other Perils, Losses and Misfortunes that have or shall come to the Hurt, Detriment, or Damage of the said Goods and Merchandises and Ship, etc, or any part thereof.

[نضمن بهذا] نحن المؤمنون ما له علاقة بالمجازفة [البحرية] والأخطار التي ارتضينا تحملها ونأخذها على عاتقنا في هذه الرحلة، وهي [أخطار] البحار، رجال الحرب، الحريق، الأعداء، القراصنة، روفرز [القراصنة]، اللصوص، الرمي في البحر، خطابات التفويض بمهاجمة سفن العدو وخطابات التفويض بالانتقام من سفن دولة معتدية، الاستيلاء على السفن بالقوة أو الشَرَك، توقيف السفينة في ميناء، القبض، الإيقاف والمنع والاحتجاز من جميع الملوك والأمراء والشعوب، [العائدة] لأية أمة وفي أية حالة وبأية صفة، خيانة الرُبّان والملاحين، وجميع الأخطار الأخرى والخسائر والمحن التي تُلحق الأذى أو الضرر أو الأضرار بالبضائع والسلع والسفن المذكورة، وما إلى ذلك، أو أي جزء منها. [التأكيد من عندنا]

مطالبة أصحاب السفينة زونغ بتعويضهم عن رمي العبيد في البحر

عندما وصلت السفينة زونغ إلى ميناء ليفيربول تقدم أصحابها بمطالبة لتعويضهم بواقع 30 جنيه إسترليني عن كل عبد رُمي في البحر، وكانت حجتهم أن قبطان السفينة أضطر إلى رميهم بسبب نقص مياه الشرب، أي أن ما قام به كان من باب الضرورة- التضحية بالبعض لإنقاذ البعض الآخر.  رفض مكتتبو التأمين المطالبة فلجأ أصحاب السفينة إلى المحكمة التي قضت لصالح أصحاب السفن، لكن محامو المكتتبين أثاروا مسألة فنية تتعلق باختفاء سجلات السفينة وأن المطالبة تنطوي على غش لتحميل المكتتبين كلفة خسارة رحلة بحرية غير مربحة.  كما استدعوا الاعتبارات الإنسانية وحقوق الإنسان لدعم موقفهم الذي أثار نقاشاً حامياً بين الناس واعتبار رمي العبيد مجزرة وليس مجرد رمي بضاعة مشحونة من السفينة.[13]  وانتهت قضية ﮔرﮔسون ضد جلبرت Gregson v. Gilbert لتعرض ثانية أمام المحكمة العليا، ولكنها لم تنجح وتخلّى أصحاب السفينة عنها بسبب الشكوك الكثيرة التي أثيرت على سوء تصرف القبطان والظروف المحيطة بدعوى نقص مياه الشرب (سقوط الأمطار أثناء انحراف الرحلة عن مسارها وتوفر فضل من الماء بعد وصول السفينة إلى نهاية رحلتها) واختفاء سجلات السفينة إضافة إلى الضغط المستمر لدعاة إلغاء العبودية.

يجمع الكتاب المتخصصون على أن الاستفادة من غطاء وثيقة التأمين الخاصة بالسفينة زونغ كانت الدافع وراء فعل القتل الجماعي للأفارقة.  لو كانت شحة ماء الشرب المتوفر هو السبب، لماذا لم يتم الإبقاء على حياة الأفارقة؟  لأن ذلك كان سيؤدي إلى وفاة البعض منهم أو معظمهم قبل الوصول إلى جاميكا، وبالتالي فإن أصحاب السفينة، تجار العبيد، لن يتمكنوا من المطالبة بالتعويض عن وفاتهم (وفاة طبيعي) في حين أن رمي 132 منهم في عرض البحر يمكّنهم من الحصول على تعويض بمقدار 30 جنيه استيرلني لكل واحد منهم.

من مفارقات هذه القضية لجوء محامي المكتتبين (ثلاثة محامين) إلى اعتبارات إنسانية لرد دعوى المطالبة بالتعويض في زمن كانت فيه مفاهيم حقوق الإنسان لا تمتد لغير البيض.  وهم في ذلك كانوا متوافقين مع دعاة إلغاء العبودية.  ومن المفارقات أيضاً أن دعوى المطالبة بالتعويض أمام المحكمة رُدت على أساس أنها قائمة على الغش وليس القتل العمد للأبرياء.

تبين قضية زونغ رواج التأمين على تجارة العبيد في سوق لويدز بموجب وثيقتها المطبوعة للتأمين البحري، وفهْمُ أصحاب السفن والتجار لهذه الوثيقة والخسارة التي لا تغطيها (خسارة العبيد، البضاعة البشرية) لأن سببها (الوفاة لأسباب طبيعية وليس بسبب حادث) لا يصنف كأحد الأخطار البحرية في حين أن رمي البضاعة البشرية بسبب التمرد يكون مضموناً بموجب الوثيقة.  لم تكن هناك مبادئ أخلاقية تقيد حرية التأمين فقد كانت العبودية تجارة كغيرها من النشاطات التجارية وكان ممارسو هذه التجارة بحاجة إلى وثيقة تأمين عليها لضمان ديمومة عملهم وأرباحهم.

وتبين القضية أيضاً كيف أن رئيس القضاة، اللورد مانسفيلد، اتخذ موقفاً لضمان عدم تشويش المبادئ الأساسية لعقد التأمين رغم أنه حكم في قضية سابقة (1772) بعدم جواز ترحيل عبد من إنجلترا إلى أمريكا[14].  وهكذا فإن حق العبيد في الحياة في قضية ﮔرﮔسون ضد جلبرت صار ضحية على مذبح الموقف التقني المجرد لرئيس القضاة، اللورد مانسفيلد، الذي ترأس المحكمة في هذه القضية، عندما قال "إن حالة العبيد هي نفسها كما لو أن الخيول قد ألقيت من على ظهر السفينة في عرض البحر."

تثير قضية زونغ مسألة تحويل الإنسان إلى ملك عيني، سلعة، يمكن الاستحواذ عليه، وهو قابل للبيع والشراء، ويمكن التأمين عليه.  امتلاك البشر بهذه الصفة يعطي أصحاب الملكية حق التصرف بها كما يشاؤون.  وكما ذكر نائب المدعي العام في هذه القضية أمام المحكمة العليا فإن التأمين على السفينة زونغ قد "حدد أن الأفارقة المؤمن عليهم هم بضائع وممتلكات، وسواء كان هذا الأمر صحيحاً أو خاطئاً فإنه لا علاقة لنا به."[15]  وكما يبين جيمس والڤن فإن نائب المدعي العام اختزل موضوع القتل الجماعي إلى خيار بسيط وقاسي وهو: أن ما حدث في السفينة زونغ كان إجراءاً لتجنباً شر أكبر.[16]

إلغاء التأمين على تجارة العبيد

مع ظهور قضية زونغ للعلن نشأت وتعززت حركة نشطة وقوية في بريطانيا لإلغاء تجارة العبيد كان من أشهر دعاتها غرينفيل شارب (1813-1735) Grenville Sharp، وعضو البرلمان وليم ولبرفورس (1833-1759) William Wilberforce الذي ارتبط اسمه بقانون إلغاء تجارة العبيد.[17]  لقد حاول شارب إثارة دعوى جزائية ضد أصحاب السفن وطاقمها إلا أن قانون الجريمة كما يبدو لم يكن ينطبق على زونغ ذلك لأنه لم تكن هناك سابقة قانونية تقضي بأن صفة البشر لا تنتفي عندما يتحولون إلى بضاعة مشحونة في سفينة.  فالعبد بهذا المقياس ليس إنساناً بل سلعة يمكن التصرف بها والتأمين عليها.

في ظل هذا الوضع فإن الممارسات التأمينية المرتبطة بوثيقة لويدز للتأمين البحري لم تعد قابلة للصمود أمام التحول الفكري البطيء الذي بدأه دعاة إلغاء العبودية.  وهم بذلك قد مهدوا السبيل لتعديل الوضع القانوني والتأميني.

إن ما أثار حنق الداعين لإلغاء العبودية هي حقيقة أن القتلة، تجار العبيد وبطانتهم، كانوا يتحدثون علناً عمّا قاموا به دون أي خوف من اتهامهم باقترافهم لجريمة إبادة جماعية.  كان الأمر سهلاً عليهم: تقتل أولاً لاعتبارات تجارية ثم تطالب بالتعويض، وإن رفض التعويض تلجأ إلى المحكمة.  لم يكن هناك أي وازع أخلاقي أو ديني يردعهم.  فتحقيق الربح والتراكم من تجارة العبيد يأتي في المقدمة.

ألغيت تجارة العبيد رسمياً في بريطانيا بموجب قانون إلغاء تجارة العبيد لسنة 1807 وتضمن في المادة الأولى منه حظر التجارة بالعبيد والمادة الخامسة حظر التأمين على هذه التجارة ومن يمارسه يخضع لغرامة 100 جنيه إسترليني/وثلاثة أضعاف قسط التأمين.[18]  ولفائدة القراء نقتبس النص الإنجليزي للمادة الخامسة أولاً (للتعرف على صياغتها واللغة المماثلة لغة وثيقة لويدز للتأمين البحري) متبوعاً بترجمتنا لها.

V. And be it further enacted, That from and after the said First Day of May One Thousand eight hundred and seven, all Insurances whatsoever to be effected upon or in respect to any of the trading, dealing, carrying, removing, transshipping, or other Transactions by this Act prohibited, shall be also prohibited and declared to be unlawful; and if any of His Majesty's Subject's, or any Person or Persons resident within this United Kingdom, or within any of the Islands, Colonies, Dominions, or Territories thereunto belonging, or in His Majesty's Possession or Occupation, shall knowingly and willfully subscribe, effect, or make, or cause or procure to be subscribed, effected, or made, any such unlawful Insurances or Insurance, he or they shall forfeit and pay for every such Offence the Sum of One hundred Pounds for every such Insurance, and also Treble the Amount paid or agreed to be paid as the Premium of any such Insurance, the One Moiety thereof to the Use of His Majesty, His Heirs and Successors, and the other Moiety to the Use of any Person who shall inform, sue, and prosecute for the same.

وبالإضافة إلى ذلك فقد شُرّعَ أنه اعتباراً من وبعد أول يوم من شهر مايو سنة ألف وثمانمائة وسبعة، فإن إجراء جميع التأمينات أياً كانت على أو فيما يتعلق بأي تجارة، تعامل، حمل، تحويل، مناقلة أو معاملات أخرى تصبح محظورة بموجب هذا القانون، كما أنها تعتبر محظورة وتعلن بأنها غير قانونية؛ وإذا كان أي من رعايا صاحب الجلالة، أو أي شخص أو أشخاص من المقيمين في هذه المملكة المتحدة، أو داخل أي من الجزر أو المستعمرات أو المناطق أو الأقاليم التي ينتمون إليها، أو في حيازة أو تحت احتلال صاحب الجلالة، قد قام بمعرفته وعن قصد بالاكتتاب أو إجراء، أو تسبب أو استدرج للاكتتاب بها، أو تنفيذها، أو القيام بأي من هذه التأمينات غير المشروعة أو التأمين، فإنه أو فإنهم سوف يُغرّمون ويدفعون عن كل مخالفة مبلغ مائة جنيه عن كل تأمين، وكذلك ثلاثة أضعاف المبلغ المدفوع أو المتفق عليه كقسط تأمين لمثل هذا التأمين، يستخدم نصفه من قبل صاحب الجلالة وورثته وخلفائه، والنصف الآخر لاستخدام أي شخص يقوم بالإبلاغ وبذل الهمة والمقاضاة بشأن هذه التأمينات.

كانت نهاية القضية على يد محامي المكتتبين الذين أقنعوا المحكمة بالغش الذي تقوم عليه مطالبة أصحاب السفن، وبدلاً من متابعة القضية فقد تخلى أصحاب السفينة عن القضية دون صدور حكم من المحكمة.

لقد كانت قضية زونغ حقاً المفتاح الذي آذن بنهاية التأمين على تجارة العبودية.


31 تشرين الأول 2017



[1] لا يرد له ذكر في أحد الكتب العربية "الكلاسيكية" عن التأمين البحري: جمال الحكيم، التأمين البحري: دراسة علمية عملية قانونية (القاهرة: د.ن، ط 2، ط1 1955).

[2] على سبيل المثل:
Frederick Templeman, Marine Insurance: Its Principles & Practice (London: Macdonald & Evans Ltd, 4th Edition, 1934.  First Ed 1903)

D E W Gibb, Lloyd’s of London: A Study in Individualism (London: Macmillan & Co Ltd, 1957).
هناك إشارة للعبودية في هذا الكتاب، ص 11، ضمن نظام الإلزام بالعمل للخدم (العمل بالسخرة) لفترة معينة، وهم من الإنكليز والويلشين والاسكتلندين، في جزر الهند الغربية والساحل الشرقي لأمريكا الشمالية التي ازدهرت في النصف الثاني من القرن السابع عشر واستبدالهم فيما بعد بالزنوج (دون شرح لاختطافهم من أفريقيا وشحنهم كبضاعة إلى أمريكا الشمالية).

أما كتاب
Harold E Raynes, A History of British Insurance (London: Sir Isaac Pitman & Sons Ltd, 1964. 1st Ed. 1948)
فلا يرد فيه ذكر لتأمين تجارة العبيد أو قضية زونغ، لكنه يعرض مساهمات اللورد مانسفيلد، رئيس القضاة في إنجلترا، في تطوير قوانين التأمين وإجراءات المحاكم الخاصة بها، ص 158 على سبيل المثل.

[3] على سبيل المثل:
Eric Williams, Capitalism and Slavery (London: Andre Deutsch, 1964, first ed. 1944), p 46.
يبين أريك وليامز أن رأس المال المتراكم من المتاجرة في العبيد والسلع المنتجة من عمل العبيد عبر الأطلسي ساهمت في تمويل صناعة تكرير السكر البريطاني وتقطير شراب الرام وتصنيع المعادن وصناعة الأسلحة والقطن والبنية التحتية للنقل وحتى محرك البخار لجيمس وات.  فرضيته الأساسية هي أن الأرباح المتأتية من "التجارة الثلاثية الأبعاد" بين أوروبا وأفريقيا والعالم الجديد قدمت إسهاما هائلا للتنمية الصناعية في بريطانيا.  وهو ما لم يعتمده ماركس بشكل مستقل عندما كتب فصل "ما يسمى بالتراكم" (كارل ماركس، رأس المال، المجلد الأول، عملية إنتاج رأس المال، 2013)، ترجمة د. فالح عبد الجبار، ص 880 وما بعدها.  ومع ذلك فقد أشار ماركس إليها: "إن اكتشاف مناجم الذهب والفضة في أمريكا، واقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم واستعبادهم ودفنهم أحياء في المناجم، وبدايات غزو الهند الشرقية ونهبها، وتحويل أفريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوي البشرة السوداء، إن ذلك كله يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالي.  وتؤلف هذه العمليات الرغيدة العناصر الرئيسية للتراكم الأولي." (المصدر السابق، ص 24).

لمتابعة مناقشة هذه الأطروحة راجع:
Robin Blackburn, The Making of New World Slavery: from the Baroque to the Modern, 1492-1800 (London: Verso, 1997).

وجاء ذكر زونغ في سياق الحكم الذي أصدره اللورد مانسفيلد (1793-1705)، كبير قضاة إنكلترا: "إن حالة العبيد هي نفسها كما لو أن الخيول قد ألقيت من على ظهر السفينة في عرض البحر."  وسنعرض ذلك فيما بعد.

[4] Harold James, Peter Borscheid, David Gugerli & Tobias Straumann, The Value of Risk: Swiss Re and the History of Reinsurance (Oxford: Oxford University Press, 2013), p 30.

[5] Geoffrey Clark, “The Slave’s Appeal: Insurance and the Rise of Commercial Property,” Ch 3 in The Appeal of Insurance, edited by Geoffrey Clark, Gregory Anderson, Christian Thomann and J-Matthias von der Schulenburg (Toronto: University of Toronto Press, 2010), pp 52-74.

[6] James Walvin, The Zong: A Massacre, The Law & the End of Slavery (New Haven: Yale University Press, 2011).

[7] Geoffrey Clark et al, op cit, p 57-58; also, note 22, p 72.

[8] John Wesket, A Complete Digest of the Theory Law and Practice of Insurance, London, 1781, p. 525, quoted by James Walvin, op cit, page 112.

[9] هناك دراسات ومقالات متناثرة في الإنترنيت حول موقف بعض المفكرين الكبار من تجارة العبيد، يبين كتابها أن تطور هذه التجارة ارتبط بتأسيس إيديولوجية عنصرية لتبريرها، اعتمدت على الحَطّ من القيمة الإنسانية للأفارقة وغير البيض عموماً واعتبارهم بدون حضارة ووصمهم بالكسل والخمول وأكلة لحوم البشر.  أنظر على سبيل المثل:
Friday Interview: John Locke and Slavery

Making excuses for Hume: slavery, racism and a reassessment of David Hume’s thoughts on personal liberty

The Roots of Modern Racism

Nathaniel Adam Tobias, “British Utilitarianism's justification of Negro Slavery”

[10] كانت وثيقة التأمين تكتب بخط اليد وتم طباعة وثيقة اللويدز لأول مرة عام 1680-1681، ولم يتغير شكل وصياغة الوثيقة التي صارت تعرف باسم Lloyd’s S & G Policy لغاية إعادة النظر بها وتنقيحها سنة 1779.

[11] بهاء بهيج شكري، المعجم الوسيط في مصطلحات وشروط التأمين، الجزء الثاني (عمان: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2016)، ص 9-11.

[12] النص مقتبس من كتاب جيمس والڤن، ص 113-114.
[13] يتناول جيمس والڤن أطروحة "الضرورة" في الفصل الثامن من كتابه: James Walvin, op cit, p 138-159.
[14] تفاصيل القضية المعروفة باسم قضية سومرست Somerset Case معروضة فيp 130-136  James Walvin, op cit,، وكذلكGeoffrey Clark, op cit, p 63

[15] نقلاً عن James Walvin, op cit, p 145

[16] James Walvin, op cit, p 145-146

[17] James Walvin, op cit, passim
[18] يمكن قراءة نص هذا القانون باستخدام الرابط التالي:
47 Georgii III, Session 1, cap. XXXVI, http://www.pdavis.nl/Legis_06.htm


ليست هناك تعليقات: