إطلالة على بواكير التأمين والرقابة على النشاط التأميني في العراق
مصباح كمال
نشرت هذه الدراسة في مجلة الثقافة الجديدة، بغداد، العدد 331، 2009، ص 44-52
لا يكتب التاريخ اعتماداً على المراجع الثانوية. البحث التاريخي الجيد يتطلب استقصاء المعلومات والبيانات من مصادرها الأصلية. ولكن بسبب عدم توفر مثل هذه المصادر اعتمدنا في كتابة هذه الورقة على ما هو منشور في محاولة أولية لتقديم عرض مبتسر لبواكير التأمين في العراق. تحتاج الورقة إلى مراجعة نقدية من قبل المعنيين بتاريخ التأمين في العراق وخاصة اولئك الذين يتوفرون على المصادر أو يمكنهم الوصول إليها.
ليس صحيحاً القول، من باب التفاخر الوطني، أن التامين في العراق قديم جداً يرجع إلى شريعة حمورابي والشرائع العراقية القديمة الأخرى وكأن مؤسسة التأمين في صورتها الحديثة كانت معروفة في العالم القديم. لكننا لا نعدم أن نجد بعض مظاهر تحويل عبء الخسارة والتعويض عنها في الممارسات القديمة التي جاءت هذه الشرائع لتنظيمها. وقد شهدت شعوب أخرى أيضاً ممارسات مماثلة في ماضيها. وهذه الممارسات تقترب من آلية التأمين في التخفيف من آثار ما يلحق الإنسان من أضرار بدنية ومادية في ممتلكاته وهي ما يشهد عليها صندوق العشيرة وأنماط أخرى من التكافل الاجتماعي كوجوه صرف الزكاة والصدقات والبر بالوالدين. هذه وغيرها كانت تشكل نوعاً من الحماية في غياب الرعاية والضمان الاجتماعي التي تقوم بها الدولة العصرية.[1]
لم يترجم هذا التراث القديم نفسه في ممارسات تفيد التوجه نحو تكوين مؤسسة ولو بدائية للتأمين، ولم نكتشف هذا التراث إلا في القرن العشرين بعد انتشار التأمين كمؤسسة حمائية ضد الأخطار التي تكتنف حياة الإنسان والجماعات في مختلف أنشطتهم. هناك في الواقع عدم تواصل وانقطاع فكري مع الماضي مما يعني أننا لم نستطع الاستفادة من الشرائع القديمة الدنيوية والدينية في إعلاء شأن التأمين وأهميته في الحياة المعاصرة. فلم يشهد العراق نشاطاً تأمينياً قائماً على أساس تبادلي mutual وهو من أقدم أنواع التأمين الذي شهده العالم القديم،[2] وحتى صندوق العشيرة[3] الذي يمثل شكلاً بدائياً للتبادلية لم يتطور إلى شكل مؤسسي. ومع تغيير البنية الاجتماعية (ظهور وتنامي طبقة وسطى، والزيادة السكانية، والحراك الاجتماعي القائم على نمو وتوسع المدن وبناء طرق المواصلات الحديثة .. الخ) والانحسار التدريجي للانتماء القبلي[4] وتزايد الهجرة من الريف إلى المدينة فقدت صناديق العشيرة أهميتها وحل الضمان الاجتماعي محلها. ولأن صندوق العشيرة قائم على عرف اجتماعي غير مكتوب فليس هناك ما يفيد في تقدير حجم الدور الذي كان يلعبه.
لم ينشأ النشاط التأمين في صورته الحديثة في العراق لحاجة اقتصادية أو اجتماعية محلية في حماية الأفراد والأصول المادية من عوارض الطبيعة وأخطار التجارة والصناعة الملازمة للإنتاج كما كان الحال في بلدان أخرى كبريطانيا وغيرها من الدول الغربية. فقد دخل التأمين إلى العراق، كما في البلدان العربية، من خلال تأسيس وكالات لشركات التأمين الغربية.
كانت وكالات التأمين الأجنبية في العراق والبلدان العربية مرتبطة أساساً بالتجارة الخارجية للمتروبولات الأوروبية، وكانت هذه الوكالات الشكل الأولي الذي اتخذه النشاط التأميني في البلاد العربية الخاضعة للحكم العثماني. وكان التأمين البحري على البضائع هو الأهم من بين أنواع التأمين التي تتعاطى بها الوكالات الأجنبية لكننا لا نعدم وجود التأمين على المؤسسات التجارية ضد أخطار الحريق. وارتبط هذا النوع من التأمين بالمؤسسات المالية، كالبنوك، التي كانت تقدم القروض لتمويل التجارة وتقوم بإصدار خطابات الاعتماد وإلزام المقترض توفير ضمانة التأمين.
كان توسع صناعة التأمين خارج بريطانياً، على سبيل المثال، مرتبطاً بانتشار الشركات التجارية البريطانية في العالم، واتخذ التوسع التأميني شكل تأسيس وكالات وفروع للشركات الأم.[5]
يذكر أحد المؤرخين الأكاديميين أن شركة صن للتأمين The Sun Insurance Officeالتي تأسست سنة 1710 أن أحد الأسواق غير الأوروبية التي عملت فيه الشركة كان في الشرق الأدنى حيث جذب حرب القرم (1853-1856) اهتمام الرأسماليين البريطانيين لما أسمته صحيفة التايمز The Times بعد عشر سنوات من الحرب "الثروة المنتجة والأهمية التجارية للمنطقة الغربية من آسيا الصغرى." وقد بان هذا الاهتمام بالامتياز الذي منحه السلطان العثماني سنة 1856 لبناء خط سكة الحديد بين سميرنا وآيدين في عمق تركيا وتبعه تأسيس البنك العثماني الإمبراطوري ومن بعده تأسيس وكالتي تأمين سنة 1863 إحداهما تابعة لشركة رويال في ليفربول Royal of Liverpool والأخرى تابعة لشركة صن Sun Fire Office
ويمضي المؤرخ في ذكر الصعوبات والجهد المبذول من قبل هاتين الوكالتين للتغلب على صعوبات الموقف الديني المتحامل على التأمين (أهو مقبول التحوط ضد الكوارث وقضاء الله؟) والممارسات التجارية المحافظة ونقص أجهزة مكافحة الحريق وطرق البناء والتصنيع الخطرة.[6] ويذكر الكاتب أيضاً أن شركة صن قامت سنة 1867 بتعيين وكيل لها في اسطنبول. وفي بداية ثمانينات القرن التاسع عشر كانت وكالات الشركة قد امتدت إلى قبرص وبيروت والإسكندرية وبور سعيد. ولم تكن الموصل أو بغداد أو البصرة ضمن هذا التوسع إلا لاحقاً في القرن العشرين.[7]
لم نبحث في تتبع تاريخ توسع شركات التأمين البريطانية نحو العراق ونأمل أن نقوم بذلك بعد توفر فرصة البحث فيه. وما عرضناه هو من باب إظهار الميل لدى الرأسمالية البريطانية للتوسع في الخارج ومن بينها العراق وخاصة بعد احتلاله سنة 1917. ولهذا نجد أن أول دخول للشركات البريطانية إلى العراق كان في أعقاب الاحتلال.
وإذا كانت تجربة شركات التأمين في البلدان العربية الأخرى، مصر مثلاً، مقياساً يستهدى به فإن التأمين على أخطار الحريق والحياة كان أيضاً معروفاً في العراق. "لم يدخل التأمين إلى العالم العربي إلا في وقت متأخر إذ أن أول ظهور له في أي من بلدان الشرق الأوسط كان بعد غزو واحتلال القوات البريطانية لمصر سنة 1882. وكان التأمين على الحياة أول أنواع التأمين الذي أدخلته إلى القاهرة شركة بريطانية صغيرة تأسست سنة 1845 كجزء من توسعها خارج المملكة المتحدة. وقد تم ذلك [دخول الشركة البريطانية] في أواسط ثمانينات القرن التاسع عشر."[8]
وقد جاء قانون شركات التأمين لسنة 1936 ليؤكد على مكانة التأمين على الحياة، كما يرد فيما بعد.
حين توج فيصل ابن الشريف حسين ملكاً على العراق في 23 آب 1921، الحدث الذي سجل تأسيس كيان سياسي مستقل باسم العراق تحت الوصاية البريطانية، لم يكن في العراق شركة تأمين عراقية وطنية. وحتى قبل الحرب العالمية الأولى (1914-1918) لم يكن النشاط التأميني، بشكله المؤسسي التجاري، معروفاً في العراق. ويفترض باسم فارس في كتابه الموسوعي عن التأمين في الأقطار العربية أن دخول التأمين إلى العراق، في صيغته الغربية، كان في نهاية سنة 1922 بعد التوقيع على الاتفاقية البريطانية العراقية في تشرين الأول من تلك السنة. ويقوم هذا الافتراض على أن البيوتات التجارية البريطانية الكبيرة كانت تقتفي توسع التاج البريطاني في العالم.[9] وهذا الافتراض صحيح في العديد من الحالات (لكن هناك استثناءات فيما يخص توسع شركات التأمين البريطانية في بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وهي لم تكن تحت الاحتلال البريطاني أو مستعمرات تابعة للتاج البريطاني في فترة توسع التأمين خارج بريطانيا). لكن مصادر أخرى تفيد بصحة هذا التاريخ إذ أن شركتين بريطانيتين هما Provincial Insurance Company, Guardian Assurance Company بدأتا العمل في العراق سنة 1920.[10]
شهدت فترة عشرينات القرن العشرين تغييرات سريعة ومهمة تمثلت بتشكيل مؤسسات الدولة المختلفة بما فيها المؤسسات التعليمية والمالية، وزيادة سكانية وخاصة في بغداد. وظهر في هذه الفترة أيضاً ميل نحو توسيع نطاق الملكية الخاصة وتكديس الثروة من خلال توسيع روابط العراق مع الأسواق العالمية. لكن هذه التغييرات وغيرها لم تترجم نفسها في هذه الفترة بقيام شركة تأمين عراقية. وسيمضي ربع قرن قبل أن تتأسس مثل هذه الشركة.
ويرد في كتاب حنا بطاطو العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية إشارة في أحد جداول الكتاب لوجود 3 شركات تأمين أجنبية سنة 1928-1929 واعتمادا على تقارير إنجليزية فإن كل أعمال التأمين المهمة سنة 1936 كانت بيد شركات تأمين بريطانية.[11]
لا تتوفر لدينا معلومات عن القوانين المنظمة للنشاط التأميني في هذه الفترة ويبدو أن أول قانون عراقي بهذا الشأن هو ذلك الذي صدر في 1936. قبلها كان التأمين في العراق خاضعاً للقانون التجاري العثماني الذي صدر في 9 آب 1904 (21 جمادي الآخر 1323) وملحقه قانون التأمين (السيكورته) وكان يتكون من 25 مادة. وكان القانون التجاري العثماني متأثراً بنمط القانون التجاري الفرنسي. وهكذا كان النشاط التأميني في هذه المرحلة خاضعاُ لقانون شركات الضمان السيكورتاه الصادر في العهد العثماني (هكذا يشير إليه قانون شركات ووكلاء التأمين رقم 49 لسنة 1960 في ملحقه عن الأسباب الموجبة لصدور القانون).
في 1 نيسان 1936 صدر قانون شركات التأمين رقم 74 لسنة 1936 إبان وزارة ياسين الهاشمي الثانية (1894-1937) التي لم تدم طويلاً (1935 - 1936) إذ أطاح بكر صدقي (1886 ـ 1937) بوزارته في انقلاب عسكري (26 تشرين الأول 1936) هو الأول في تاريخ العراق الحديث وفي العالم العربي.
ويضم هذا القانون الموجز(ملغى) 13 مادة. ربما يشكّل هذا القانون أول محاولة جادة في الإشراف على عمل شركات التأمين المحلية والأجنبية. نلاحظ على هذا القانون أولاً تركيزه على ما يسميه "الحياة البشرية" فهو يميز بين التأمين على الحياة، والتأمين بالأقساط وضمان رؤوس الأموال رغم أن ما يسمى التأمين بالأقساط شكل من أشكال التأمين على الحياة. يرد في المادة 1 بهذا الشأن ما نصه:
"يقصد في هذا القانون بتعبير: التأمين على الحياة العمل التجاري الذي بواسطته تعقد مقاولات للتأمين على حياة البشر بما في ذلك أية مقاولة تقضي بدفع مقدار من النقود عند الوفاة أو عند حدوث عارض له علاقة بالحياة البشرية وكذلك أية مقاولة تقضي على الأشخاص المؤمنين بدفع مقدار من النقود لمدة تتوقف على الحياة البشرية و التأمين بالأقساط العمل التجاري الذي بواسطته تعقد مقاولات تأمين لمنح الأشخاص المؤمنين أقساطاً مقطوعة متوقفة على الحياة البشرية. ضمان رؤوس الأموال العمل التجاري الذي بواسطته تعقد مقاولات تأمين تقضي بأن يدفع في المستقبل للأشخاص المؤمنين مبلغاً أو عدة مبالغ لقاء دفعة واحدة أو أكثر من نقود أدوها لشركة التأمين ويستثنى من ذلك التأمين على الحياة والتأمين بالأقساط المذكورين أعلاه." [التأكيد من الكاتب]
نستدل من هذا النص على أن هذه الأنواع من التأمين كان معروفاً في ذلك الوقت لكننا لا نعرف اسماء الشركات التي كانت تكتتب بها والفئات الاجتماعية التي كانت تقوم بشرائها والمبالغ المؤمن عليها. ولا نعرف أيضاً عدد العراقيين من حملة وثائق التأمين هذه.
أما أنواع التأمين الأخرى، كالتأمين على الحريق والشحن البحري، فلا يرد نص مخصص بشأنها وتكتفي المادة 2 من القانون بذكر "أعمال التأمين الأخرى" كما يلي:
"على كل شركة من الشركات التي تتعاطى أي نوع من أعمال التأمين سيغورطة[12] في العراق سواء أكان لها مكتب خاص في العراق أو وكيل يمثلها فيه أو تودع باسمها لدى أحد المصارف التي يعينها وزير المالية: 1 - مبلغاُ من النقود لا يقل عن 10000 دينار لقاء التأمين على الحياة أو التأمين بالأقساط أو إطفاء رؤوس الأموال أو كلها. 2 - مبلغاً من النقود لا يقل عن 5000 دينار لقاء أعمال التأمين الأخرى."
ويظهر من هذا النص أن الشركات التي يشير إليها القانون هي شركات غير عراقية ("سواء أكان لها مكتب خاص في العراق أو وكيل يمثلها فيه") إذ لم يكن وقتها قد تأسست شركة تأمين برأسمال عراقي.
تم تحديد أعمال التأمين الأخرى بموجب قانون تعديل قانون شركات التأمين رقم 74 لسنة 1936 (الوقائع العراقية، العدد 1896، 4/7/1941) إذ جاء في المادة 1 من قانون التعديل: "مادة 1 تضاف الفقرة التالية الى المادة الاولى من قانون شركات التامين رقم 74 لسنة 1936: انواع التامين الاخرى وهي عبارة عن المقاولات التي تعقد للتامين ضد الحريق والحوادث وأخطار العمل وما يتسبب عنها من عاهات وأخطار التلف او التدمير او الضياع او السرقة وإخطار النقل البري والبحري والجوي وخيانة الامانة وكافة الاخطار والعوارض التي لم ينص عنها [عليها] صراحة في هذا القانون."
ربما كان هذا القانون أول تشريع في العراق ينص على الملاءة المالية لشركات التأمين إذ تنص المادة 6 على قيام الشركات "مرة على الأقل في كل ثلاث سنوات بتحريات عن أحوالها المالية بما في ذلك تقدير الديون والموجودات وذلك بواسطة محاسب أخصائي في أعمال التأمين .." ولعل المراد بالمحاسب الأخصائي الخبير الإكتواري أو المحاسب القانوني وقد نكون مخطئين بهذا الشأن إذ أن العراق لم يختبر وجود اكتواري متفرغ للعمل في شركة تأمين.
كما أن هذا القانون ربما كان أيضاً أول تشريع عراقي ينظم عمل شركات التأمين الأجنبية. وتنص المادة 7 بهذا الشأن:
"لا يجوز لشركة أجنبية أن تتعاطى في العراق أعمال التأمين على الحياة أو التأمين بالأقساط أو ضمان رؤوس الأموال ما لم يكن لديها رأس مال مكتتب يعادل على الأقل مائة ألف دينار."
وجرى تعديل بسيط لهذه المادة بموجب قانون تعديل قانون شركات التأمين رقم 74 لسنة 1936:
"مادة 5 تلغى المادة السابعة من القانون المذكور ويستعاض عنها بما يأتي: لا يجوز لشركة اجنبية ان تتعاطى في العراق اي نوع من انواع التامين المنصوص عليها في المادة الاولى من هذا القانون ما لم تثبت بان لديها رأس مال مدفوع يعادل على الاقل مائة الف دينار."
وينصب التعديل على استبدال رأس المال المكتتب (رأس المال المصرح به الذي اكتتب به المساهمون في الشركة) برأس المال المدفوع (المبالغ التي سددها المساهمون لقاء الأسهم التي اكتتبوا بها). التأكيد على رأس المال المدفوع هو من باب ضمان أن شركة التأمين حقيقية لها الملاءة المالية لمزاولة العمل ومقابلة مسؤولياتها.
بعد صدور قانون شركات التأمين رقم 74 لسنة 1936 صدر نظام اجازات وكلاء شركات التأمين رقم 25 لسنة 1936 (الوقائع العراقية، العدد 1522، 6/18/1936) وضم خمس مواد.
"مادة 1 يجب ان تستوفى الاجازة المنصوص عليها في المادة الثامنة من قانون شركات التامين رقم 74 لسنة 1936 للقيام بأعمال وكالة شركة من شركات التامين الشروط التالية: 1- ان يكون لدى الوكيل وكالة تخوله الصفة القانونية .... 2 - ان يكون الوكيل: ا - قد بلغ 21 سنة من العمر. ب – غير محكوم عليه بجناية او بجنحة مخلة بالشرف. ج - غير محكوم عليه بالإفلاس إلا اذا استعاد اعتباره. د - معروفا بالاستقامة وحسن السلوك. هـ - ان يكون مسجلا في غرفة التجارة.
وقد خضع هذا النظام للتعديل بموجب نظام تعديل نظام اجازات وكلاء شركات التأمين رقم 25 لسنة 9361 (الوقائع العراقية تاريخ 30 أيار 1938). أنصب التعديل على الفقرة 2 من المادة 1 وبموجبه ألغيت الفقرة 2 من المادة الأولى وحلت محلها الفقرة التالية: "2 – ان يكون الوكيل: ا – شخصا حكميا معترفا بشخصيته الحكمية بمقتضى القوانين العراقية النافذة ومسجلا في غرفة التجارة. ب – شخصا حقيقيا بالغا 21 سنة من العمر، ومعروفا بالاستقامة وحسن السلوك وغير محكوم عليه بجناية او جنحة مخلة بالشرف ولا بالإفلاس إلا اذا استعاد اعتباره ومسجلا في غرفة التجارة."
أهمية هذا التعديل تكمن في الاعتراف بالوكيل التأميني كشخصية حكمية إضافة إلى الوكيل كشخصية حقيقية. وهذا يؤشر إما على تطور في مزاولة التأمين خلال سنتين أو انتباه المشرّع لنقص في نظام اجازات وكلاء شركات التأمين رقم 25 لسنة 9361.
وجاء في المادة 3 من نظام اجازات وكلاء شركات التأمين رقم 25 لسنة 1936 نص بوقف إجازة شركة التأمين أو وكيلها:
"مادة 3 1 على وزير المالية ان يوقف الاجازة الممنوحة بموجب المادة الاولى من هذا النظام لمدة لا تتجاوز الستة اشهر او يلغيها في كل من الاحوال التالية: ا - اذا خالفت الشركة او وكيلها احكام القانون رقم 74 لسنة (1936) بأية طريقة كانت. ب - اذا ثبت بصورة قاطعة ان احد حملة الصكوك بوليسات التامين في العراق قد طالب شركة التامين بطلب غير منازع فيه فأهملته الشركة او وكيلها مدة تسعين يوما او اذا امتنع الوكيل او الشركة عن تنفيذ حكم اكتسب الصورة القطعية. ج - اذا طرا على اعتبار الشركة المالي اي خلل يستوجب تزييد الضمانة الواجبة الوضع او هبطت اسعار قيمة السندات المعتاض بها عن مبلغ الضمانة وامتنعت الشركة او وكيلها عن تسديد ذلك. 2 على وزير المالية ان يعيد الاجازة اذا نفذت احكام القانون المذكور في اعلاه بظرف ستين يوما من تاريخ الايقاف او الالغاء. 3 تبطل الاجازة اذا فقد الوكيل احد الشروط المنصوص عليها في المادة الاولى من هذا النظام."
نلاحظ أن وقف الإجازة يتأسس على ثلاث شروط (مخالفة أحكام قانون شركات التأمين رقم 74 لسنة 1936، إهمال حقوق حملة وثائق التأمين، خلل في الوضع المالي لشركة التأمين يستوجب زيادة الضمانة أو هبوط قيمة الضمانة). هذه الشروط يراد منها حماية حقوق المؤمن له إلا أن النص، كما هو عليه، لا يتوسع فيما يخص استرداد مثل هذه الحقوق من الشركة المخالفة لأحكام القانون. كما أن النص لا يذكر فرض غرامة مالية معينة على الشركة المخالفة.
هكذا بدأت بواكير الرقابة على النشاط التأميني في العراق. والموضوع يستحق المزيد من البحث.
مصباح كمال
لندن كانون الأول 2008
[1] أنظر دراستنا: "موقع شريعة حمورابي في تاريخ التأمين" التي كتبناها كمقدمة لترجمتنا لبضعة صفحات من الفصل المعنون نظرات تاريخية في التأمين في كتاب إيرفنغ فيفّر و ديفيد كللوك: Perspectives on Insurance (الدراسة منشورة في مدونة Iraq Insurance Review http://misbahkamal.blogspot.com/2008_07_01_archive.html [2] C. F. Trenerry, The Origin and Early History of Insurance (London: P. S. King & Son, 1926). [3] صندوق العشيرة هو أحد أشكال التعاضد الاجتماعي المحدود، يساهم في تمويله الأفراد، كل حسب قدرته وليس اعتماداً على معيار معين. يقوم بإدارة الصندوق من يؤتمن على نزاهته وقد يكون إمام مسجد أو شيخ القبيلة أو أحد الأفراد الكبار في العمر ممن يشهد لهم بالاستقامة. ويقوم المؤتمن على الصندوق بصرف الأموال المتجمعة فيه لتعويض من يصيبهم الضرر. و"العونة" شكل من التعاضد الاجتماعي التلقائي لدرء عواقب الأضرار التي تلحق بالغير. ومن المناسب هنا أن نذكر مؤسسة عرفية أخرى لها علاقة بحل النزاعات والخلافات: نظام القضاء العشائري. ويضم مجموعةٌ "القوانين" غير المكتوبة والأعراف المتداولة يتعامل بها أفراد العشيرة في تنظيم حياتهم وفي تسوية الخلافات التي تنشأ بينهم من خلال الحكم الذي يصدره القاضي العشائري. والقاضي هو شخص من أبناء العشيرة يتميز بمعرفة بالقوانين والأعراف والعادات العشائرية وذو سمعة طيبة وأخلاق حميدة. وقد يكون القاضي شيخ العشيرة أو عضو آخر في العشيرة يتمتع بالمزايا المتوقعة منه. ويضم النظام إجراءات تتمثل بالجاهة (مجموعة من الأشخاص يتم تكليفهم من شخص او أِشخاص للتدخل لدى طرف اخر لحل قضية ما)، العطوة (هدنة بين طرفين متخاصمين يتم إعطائه من أهل المجني عليه وللمدة التي يرونها مناسبة) والقهوة العربية (تشرب القهوة العربية رمزاً لإنهاء الخلافات). ويعرف هذا النظام في مصر باسم "قعدة العرب" المنتشر في المجتمعات الريفية والبدوية: "قعدة العرب" محكمة عرفية لإنهاء خلافات الدم بين كبار العائلات، جريدة الحياة، 8 أيلول 1999. [4] في ظل الانكسارات التي مني بها نظام العائلة وبغية إدامة السيطرة على الحكم قام النظام بإذكاء الانتماء القبلي الذي أصبح بعد الاحتلال الأمريكي، وارتباطاً بالطائفية، صيغة نافذة في إدارة الشؤون العامة. أنظر زهير الجزائري، المستبد: صناعة قائد، صناعة شعب (بغداد-بيروت: معهد الدراسات الاستراتيجية، 2006) ص 235-245. إن الانتعاش المصطنع منذ 9 نيسان 2003 للانتماء القبلي الذي تشجع عليه الإدارة الأمريكية، قوة الاحتلال، وتعمل له بعض الأحزاب السياسية الحاكمة في العراق ينحصر في الإطار السياسي والأمني. [5] R L Carter, Economics and Insurance (Stockport: PH Press Ltd, n.d. [1971?], p56. [6] P G M Dickson, The Sun Fire Office 1710-1960 (London: Oxford University Press, 1960), p188. [7] Dickson, op. cit., p190. [8] ترجمنا هذه الفقرة من كتاب: Basim A Faris, Insurance &Reinsurance in the Arab World (London: Kluwer Publishing, 1983), p43. [9] Faris, op. cit. pp 192-193. [10] Abdul Zahra Abdullah Ali, Insurance Development in the Arab World (London: Graham & Trotman, 1985) p 2, quoting Swiss Reinsurance Company, Insurance Markets of the World (Zurich: Swiss Re Publications, 1964). [11] حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، الكتاب الأول، ترجمة عفيف الرزاز (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، 199)، ص 307. [12] الكلمة "سيغورطه" أو "سيكورته" أو "سيكورتاه" تركية sigorta (من الأصل الإيطالي sicurta) وتعني التأمين، وهناك قانون عثماني يحمل هذه الكلمة وهو قانون الضمان (السيكورتاه) الصادر عام 1322 (1905). وتكتب الكلمة أحياناً سوگره أو صوگرة. وقد دخلت كلمة صوگرة في التداول الشعبي العراقي كمقابل للضمان أو ما هو مؤكد. وترد الكلمة في نص القانون وكأنها شرح لعبارة "أعمال التأمين" الواردة قبلها.
مصباح كمال
نشرت هذه الدراسة في مجلة الثقافة الجديدة، بغداد، العدد 331، 2009، ص 44-52
لا يكتب التاريخ اعتماداً على المراجع الثانوية. البحث التاريخي الجيد يتطلب استقصاء المعلومات والبيانات من مصادرها الأصلية. ولكن بسبب عدم توفر مثل هذه المصادر اعتمدنا في كتابة هذه الورقة على ما هو منشور في محاولة أولية لتقديم عرض مبتسر لبواكير التأمين في العراق. تحتاج الورقة إلى مراجعة نقدية من قبل المعنيين بتاريخ التأمين في العراق وخاصة اولئك الذين يتوفرون على المصادر أو يمكنهم الوصول إليها.
ليس صحيحاً القول، من باب التفاخر الوطني، أن التامين في العراق قديم جداً يرجع إلى شريعة حمورابي والشرائع العراقية القديمة الأخرى وكأن مؤسسة التأمين في صورتها الحديثة كانت معروفة في العالم القديم. لكننا لا نعدم أن نجد بعض مظاهر تحويل عبء الخسارة والتعويض عنها في الممارسات القديمة التي جاءت هذه الشرائع لتنظيمها. وقد شهدت شعوب أخرى أيضاً ممارسات مماثلة في ماضيها. وهذه الممارسات تقترب من آلية التأمين في التخفيف من آثار ما يلحق الإنسان من أضرار بدنية ومادية في ممتلكاته وهي ما يشهد عليها صندوق العشيرة وأنماط أخرى من التكافل الاجتماعي كوجوه صرف الزكاة والصدقات والبر بالوالدين. هذه وغيرها كانت تشكل نوعاً من الحماية في غياب الرعاية والضمان الاجتماعي التي تقوم بها الدولة العصرية.[1]
لم يترجم هذا التراث القديم نفسه في ممارسات تفيد التوجه نحو تكوين مؤسسة ولو بدائية للتأمين، ولم نكتشف هذا التراث إلا في القرن العشرين بعد انتشار التأمين كمؤسسة حمائية ضد الأخطار التي تكتنف حياة الإنسان والجماعات في مختلف أنشطتهم. هناك في الواقع عدم تواصل وانقطاع فكري مع الماضي مما يعني أننا لم نستطع الاستفادة من الشرائع القديمة الدنيوية والدينية في إعلاء شأن التأمين وأهميته في الحياة المعاصرة. فلم يشهد العراق نشاطاً تأمينياً قائماً على أساس تبادلي mutual وهو من أقدم أنواع التأمين الذي شهده العالم القديم،[2] وحتى صندوق العشيرة[3] الذي يمثل شكلاً بدائياً للتبادلية لم يتطور إلى شكل مؤسسي. ومع تغيير البنية الاجتماعية (ظهور وتنامي طبقة وسطى، والزيادة السكانية، والحراك الاجتماعي القائم على نمو وتوسع المدن وبناء طرق المواصلات الحديثة .. الخ) والانحسار التدريجي للانتماء القبلي[4] وتزايد الهجرة من الريف إلى المدينة فقدت صناديق العشيرة أهميتها وحل الضمان الاجتماعي محلها. ولأن صندوق العشيرة قائم على عرف اجتماعي غير مكتوب فليس هناك ما يفيد في تقدير حجم الدور الذي كان يلعبه.
لم ينشأ النشاط التأمين في صورته الحديثة في العراق لحاجة اقتصادية أو اجتماعية محلية في حماية الأفراد والأصول المادية من عوارض الطبيعة وأخطار التجارة والصناعة الملازمة للإنتاج كما كان الحال في بلدان أخرى كبريطانيا وغيرها من الدول الغربية. فقد دخل التأمين إلى العراق، كما في البلدان العربية، من خلال تأسيس وكالات لشركات التأمين الغربية.
كانت وكالات التأمين الأجنبية في العراق والبلدان العربية مرتبطة أساساً بالتجارة الخارجية للمتروبولات الأوروبية، وكانت هذه الوكالات الشكل الأولي الذي اتخذه النشاط التأميني في البلاد العربية الخاضعة للحكم العثماني. وكان التأمين البحري على البضائع هو الأهم من بين أنواع التأمين التي تتعاطى بها الوكالات الأجنبية لكننا لا نعدم وجود التأمين على المؤسسات التجارية ضد أخطار الحريق. وارتبط هذا النوع من التأمين بالمؤسسات المالية، كالبنوك، التي كانت تقدم القروض لتمويل التجارة وتقوم بإصدار خطابات الاعتماد وإلزام المقترض توفير ضمانة التأمين.
كان توسع صناعة التأمين خارج بريطانياً، على سبيل المثال، مرتبطاً بانتشار الشركات التجارية البريطانية في العالم، واتخذ التوسع التأميني شكل تأسيس وكالات وفروع للشركات الأم.[5]
يذكر أحد المؤرخين الأكاديميين أن شركة صن للتأمين The Sun Insurance Officeالتي تأسست سنة 1710 أن أحد الأسواق غير الأوروبية التي عملت فيه الشركة كان في الشرق الأدنى حيث جذب حرب القرم (1853-1856) اهتمام الرأسماليين البريطانيين لما أسمته صحيفة التايمز The Times بعد عشر سنوات من الحرب "الثروة المنتجة والأهمية التجارية للمنطقة الغربية من آسيا الصغرى." وقد بان هذا الاهتمام بالامتياز الذي منحه السلطان العثماني سنة 1856 لبناء خط سكة الحديد بين سميرنا وآيدين في عمق تركيا وتبعه تأسيس البنك العثماني الإمبراطوري ومن بعده تأسيس وكالتي تأمين سنة 1863 إحداهما تابعة لشركة رويال في ليفربول Royal of Liverpool والأخرى تابعة لشركة صن Sun Fire Office
ويمضي المؤرخ في ذكر الصعوبات والجهد المبذول من قبل هاتين الوكالتين للتغلب على صعوبات الموقف الديني المتحامل على التأمين (أهو مقبول التحوط ضد الكوارث وقضاء الله؟) والممارسات التجارية المحافظة ونقص أجهزة مكافحة الحريق وطرق البناء والتصنيع الخطرة.[6] ويذكر الكاتب أيضاً أن شركة صن قامت سنة 1867 بتعيين وكيل لها في اسطنبول. وفي بداية ثمانينات القرن التاسع عشر كانت وكالات الشركة قد امتدت إلى قبرص وبيروت والإسكندرية وبور سعيد. ولم تكن الموصل أو بغداد أو البصرة ضمن هذا التوسع إلا لاحقاً في القرن العشرين.[7]
لم نبحث في تتبع تاريخ توسع شركات التأمين البريطانية نحو العراق ونأمل أن نقوم بذلك بعد توفر فرصة البحث فيه. وما عرضناه هو من باب إظهار الميل لدى الرأسمالية البريطانية للتوسع في الخارج ومن بينها العراق وخاصة بعد احتلاله سنة 1917. ولهذا نجد أن أول دخول للشركات البريطانية إلى العراق كان في أعقاب الاحتلال.
وإذا كانت تجربة شركات التأمين في البلدان العربية الأخرى، مصر مثلاً، مقياساً يستهدى به فإن التأمين على أخطار الحريق والحياة كان أيضاً معروفاً في العراق. "لم يدخل التأمين إلى العالم العربي إلا في وقت متأخر إذ أن أول ظهور له في أي من بلدان الشرق الأوسط كان بعد غزو واحتلال القوات البريطانية لمصر سنة 1882. وكان التأمين على الحياة أول أنواع التأمين الذي أدخلته إلى القاهرة شركة بريطانية صغيرة تأسست سنة 1845 كجزء من توسعها خارج المملكة المتحدة. وقد تم ذلك [دخول الشركة البريطانية] في أواسط ثمانينات القرن التاسع عشر."[8]
وقد جاء قانون شركات التأمين لسنة 1936 ليؤكد على مكانة التأمين على الحياة، كما يرد فيما بعد.
حين توج فيصل ابن الشريف حسين ملكاً على العراق في 23 آب 1921، الحدث الذي سجل تأسيس كيان سياسي مستقل باسم العراق تحت الوصاية البريطانية، لم يكن في العراق شركة تأمين عراقية وطنية. وحتى قبل الحرب العالمية الأولى (1914-1918) لم يكن النشاط التأميني، بشكله المؤسسي التجاري، معروفاً في العراق. ويفترض باسم فارس في كتابه الموسوعي عن التأمين في الأقطار العربية أن دخول التأمين إلى العراق، في صيغته الغربية، كان في نهاية سنة 1922 بعد التوقيع على الاتفاقية البريطانية العراقية في تشرين الأول من تلك السنة. ويقوم هذا الافتراض على أن البيوتات التجارية البريطانية الكبيرة كانت تقتفي توسع التاج البريطاني في العالم.[9] وهذا الافتراض صحيح في العديد من الحالات (لكن هناك استثناءات فيما يخص توسع شركات التأمين البريطانية في بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وهي لم تكن تحت الاحتلال البريطاني أو مستعمرات تابعة للتاج البريطاني في فترة توسع التأمين خارج بريطانيا). لكن مصادر أخرى تفيد بصحة هذا التاريخ إذ أن شركتين بريطانيتين هما Provincial Insurance Company, Guardian Assurance Company بدأتا العمل في العراق سنة 1920.[10]
شهدت فترة عشرينات القرن العشرين تغييرات سريعة ومهمة تمثلت بتشكيل مؤسسات الدولة المختلفة بما فيها المؤسسات التعليمية والمالية، وزيادة سكانية وخاصة في بغداد. وظهر في هذه الفترة أيضاً ميل نحو توسيع نطاق الملكية الخاصة وتكديس الثروة من خلال توسيع روابط العراق مع الأسواق العالمية. لكن هذه التغييرات وغيرها لم تترجم نفسها في هذه الفترة بقيام شركة تأمين عراقية. وسيمضي ربع قرن قبل أن تتأسس مثل هذه الشركة.
ويرد في كتاب حنا بطاطو العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية إشارة في أحد جداول الكتاب لوجود 3 شركات تأمين أجنبية سنة 1928-1929 واعتمادا على تقارير إنجليزية فإن كل أعمال التأمين المهمة سنة 1936 كانت بيد شركات تأمين بريطانية.[11]
لا تتوفر لدينا معلومات عن القوانين المنظمة للنشاط التأميني في هذه الفترة ويبدو أن أول قانون عراقي بهذا الشأن هو ذلك الذي صدر في 1936. قبلها كان التأمين في العراق خاضعاً للقانون التجاري العثماني الذي صدر في 9 آب 1904 (21 جمادي الآخر 1323) وملحقه قانون التأمين (السيكورته) وكان يتكون من 25 مادة. وكان القانون التجاري العثماني متأثراً بنمط القانون التجاري الفرنسي. وهكذا كان النشاط التأميني في هذه المرحلة خاضعاُ لقانون شركات الضمان السيكورتاه الصادر في العهد العثماني (هكذا يشير إليه قانون شركات ووكلاء التأمين رقم 49 لسنة 1960 في ملحقه عن الأسباب الموجبة لصدور القانون).
في 1 نيسان 1936 صدر قانون شركات التأمين رقم 74 لسنة 1936 إبان وزارة ياسين الهاشمي الثانية (1894-1937) التي لم تدم طويلاً (1935 - 1936) إذ أطاح بكر صدقي (1886 ـ 1937) بوزارته في انقلاب عسكري (26 تشرين الأول 1936) هو الأول في تاريخ العراق الحديث وفي العالم العربي.
ويضم هذا القانون الموجز(ملغى) 13 مادة. ربما يشكّل هذا القانون أول محاولة جادة في الإشراف على عمل شركات التأمين المحلية والأجنبية. نلاحظ على هذا القانون أولاً تركيزه على ما يسميه "الحياة البشرية" فهو يميز بين التأمين على الحياة، والتأمين بالأقساط وضمان رؤوس الأموال رغم أن ما يسمى التأمين بالأقساط شكل من أشكال التأمين على الحياة. يرد في المادة 1 بهذا الشأن ما نصه:
"يقصد في هذا القانون بتعبير: التأمين على الحياة العمل التجاري الذي بواسطته تعقد مقاولات للتأمين على حياة البشر بما في ذلك أية مقاولة تقضي بدفع مقدار من النقود عند الوفاة أو عند حدوث عارض له علاقة بالحياة البشرية وكذلك أية مقاولة تقضي على الأشخاص المؤمنين بدفع مقدار من النقود لمدة تتوقف على الحياة البشرية و التأمين بالأقساط العمل التجاري الذي بواسطته تعقد مقاولات تأمين لمنح الأشخاص المؤمنين أقساطاً مقطوعة متوقفة على الحياة البشرية. ضمان رؤوس الأموال العمل التجاري الذي بواسطته تعقد مقاولات تأمين تقضي بأن يدفع في المستقبل للأشخاص المؤمنين مبلغاً أو عدة مبالغ لقاء دفعة واحدة أو أكثر من نقود أدوها لشركة التأمين ويستثنى من ذلك التأمين على الحياة والتأمين بالأقساط المذكورين أعلاه." [التأكيد من الكاتب]
نستدل من هذا النص على أن هذه الأنواع من التأمين كان معروفاً في ذلك الوقت لكننا لا نعرف اسماء الشركات التي كانت تكتتب بها والفئات الاجتماعية التي كانت تقوم بشرائها والمبالغ المؤمن عليها. ولا نعرف أيضاً عدد العراقيين من حملة وثائق التأمين هذه.
أما أنواع التأمين الأخرى، كالتأمين على الحريق والشحن البحري، فلا يرد نص مخصص بشأنها وتكتفي المادة 2 من القانون بذكر "أعمال التأمين الأخرى" كما يلي:
"على كل شركة من الشركات التي تتعاطى أي نوع من أعمال التأمين سيغورطة[12] في العراق سواء أكان لها مكتب خاص في العراق أو وكيل يمثلها فيه أو تودع باسمها لدى أحد المصارف التي يعينها وزير المالية: 1 - مبلغاُ من النقود لا يقل عن 10000 دينار لقاء التأمين على الحياة أو التأمين بالأقساط أو إطفاء رؤوس الأموال أو كلها. 2 - مبلغاً من النقود لا يقل عن 5000 دينار لقاء أعمال التأمين الأخرى."
ويظهر من هذا النص أن الشركات التي يشير إليها القانون هي شركات غير عراقية ("سواء أكان لها مكتب خاص في العراق أو وكيل يمثلها فيه") إذ لم يكن وقتها قد تأسست شركة تأمين برأسمال عراقي.
تم تحديد أعمال التأمين الأخرى بموجب قانون تعديل قانون شركات التأمين رقم 74 لسنة 1936 (الوقائع العراقية، العدد 1896، 4/7/1941) إذ جاء في المادة 1 من قانون التعديل: "مادة 1 تضاف الفقرة التالية الى المادة الاولى من قانون شركات التامين رقم 74 لسنة 1936: انواع التامين الاخرى وهي عبارة عن المقاولات التي تعقد للتامين ضد الحريق والحوادث وأخطار العمل وما يتسبب عنها من عاهات وأخطار التلف او التدمير او الضياع او السرقة وإخطار النقل البري والبحري والجوي وخيانة الامانة وكافة الاخطار والعوارض التي لم ينص عنها [عليها] صراحة في هذا القانون."
ربما كان هذا القانون أول تشريع في العراق ينص على الملاءة المالية لشركات التأمين إذ تنص المادة 6 على قيام الشركات "مرة على الأقل في كل ثلاث سنوات بتحريات عن أحوالها المالية بما في ذلك تقدير الديون والموجودات وذلك بواسطة محاسب أخصائي في أعمال التأمين .." ولعل المراد بالمحاسب الأخصائي الخبير الإكتواري أو المحاسب القانوني وقد نكون مخطئين بهذا الشأن إذ أن العراق لم يختبر وجود اكتواري متفرغ للعمل في شركة تأمين.
كما أن هذا القانون ربما كان أيضاً أول تشريع عراقي ينظم عمل شركات التأمين الأجنبية. وتنص المادة 7 بهذا الشأن:
"لا يجوز لشركة أجنبية أن تتعاطى في العراق أعمال التأمين على الحياة أو التأمين بالأقساط أو ضمان رؤوس الأموال ما لم يكن لديها رأس مال مكتتب يعادل على الأقل مائة ألف دينار."
وجرى تعديل بسيط لهذه المادة بموجب قانون تعديل قانون شركات التأمين رقم 74 لسنة 1936:
"مادة 5 تلغى المادة السابعة من القانون المذكور ويستعاض عنها بما يأتي: لا يجوز لشركة اجنبية ان تتعاطى في العراق اي نوع من انواع التامين المنصوص عليها في المادة الاولى من هذا القانون ما لم تثبت بان لديها رأس مال مدفوع يعادل على الاقل مائة الف دينار."
وينصب التعديل على استبدال رأس المال المكتتب (رأس المال المصرح به الذي اكتتب به المساهمون في الشركة) برأس المال المدفوع (المبالغ التي سددها المساهمون لقاء الأسهم التي اكتتبوا بها). التأكيد على رأس المال المدفوع هو من باب ضمان أن شركة التأمين حقيقية لها الملاءة المالية لمزاولة العمل ومقابلة مسؤولياتها.
بعد صدور قانون شركات التأمين رقم 74 لسنة 1936 صدر نظام اجازات وكلاء شركات التأمين رقم 25 لسنة 1936 (الوقائع العراقية، العدد 1522، 6/18/1936) وضم خمس مواد.
"مادة 1 يجب ان تستوفى الاجازة المنصوص عليها في المادة الثامنة من قانون شركات التامين رقم 74 لسنة 1936 للقيام بأعمال وكالة شركة من شركات التامين الشروط التالية: 1- ان يكون لدى الوكيل وكالة تخوله الصفة القانونية .... 2 - ان يكون الوكيل: ا - قد بلغ 21 سنة من العمر. ب – غير محكوم عليه بجناية او بجنحة مخلة بالشرف. ج - غير محكوم عليه بالإفلاس إلا اذا استعاد اعتباره. د - معروفا بالاستقامة وحسن السلوك. هـ - ان يكون مسجلا في غرفة التجارة.
وقد خضع هذا النظام للتعديل بموجب نظام تعديل نظام اجازات وكلاء شركات التأمين رقم 25 لسنة 9361 (الوقائع العراقية تاريخ 30 أيار 1938). أنصب التعديل على الفقرة 2 من المادة 1 وبموجبه ألغيت الفقرة 2 من المادة الأولى وحلت محلها الفقرة التالية: "2 – ان يكون الوكيل: ا – شخصا حكميا معترفا بشخصيته الحكمية بمقتضى القوانين العراقية النافذة ومسجلا في غرفة التجارة. ب – شخصا حقيقيا بالغا 21 سنة من العمر، ومعروفا بالاستقامة وحسن السلوك وغير محكوم عليه بجناية او جنحة مخلة بالشرف ولا بالإفلاس إلا اذا استعاد اعتباره ومسجلا في غرفة التجارة."
أهمية هذا التعديل تكمن في الاعتراف بالوكيل التأميني كشخصية حكمية إضافة إلى الوكيل كشخصية حقيقية. وهذا يؤشر إما على تطور في مزاولة التأمين خلال سنتين أو انتباه المشرّع لنقص في نظام اجازات وكلاء شركات التأمين رقم 25 لسنة 9361.
وجاء في المادة 3 من نظام اجازات وكلاء شركات التأمين رقم 25 لسنة 1936 نص بوقف إجازة شركة التأمين أو وكيلها:
"مادة 3 1 على وزير المالية ان يوقف الاجازة الممنوحة بموجب المادة الاولى من هذا النظام لمدة لا تتجاوز الستة اشهر او يلغيها في كل من الاحوال التالية: ا - اذا خالفت الشركة او وكيلها احكام القانون رقم 74 لسنة (1936) بأية طريقة كانت. ب - اذا ثبت بصورة قاطعة ان احد حملة الصكوك بوليسات التامين في العراق قد طالب شركة التامين بطلب غير منازع فيه فأهملته الشركة او وكيلها مدة تسعين يوما او اذا امتنع الوكيل او الشركة عن تنفيذ حكم اكتسب الصورة القطعية. ج - اذا طرا على اعتبار الشركة المالي اي خلل يستوجب تزييد الضمانة الواجبة الوضع او هبطت اسعار قيمة السندات المعتاض بها عن مبلغ الضمانة وامتنعت الشركة او وكيلها عن تسديد ذلك. 2 على وزير المالية ان يعيد الاجازة اذا نفذت احكام القانون المذكور في اعلاه بظرف ستين يوما من تاريخ الايقاف او الالغاء. 3 تبطل الاجازة اذا فقد الوكيل احد الشروط المنصوص عليها في المادة الاولى من هذا النظام."
نلاحظ أن وقف الإجازة يتأسس على ثلاث شروط (مخالفة أحكام قانون شركات التأمين رقم 74 لسنة 1936، إهمال حقوق حملة وثائق التأمين، خلل في الوضع المالي لشركة التأمين يستوجب زيادة الضمانة أو هبوط قيمة الضمانة). هذه الشروط يراد منها حماية حقوق المؤمن له إلا أن النص، كما هو عليه، لا يتوسع فيما يخص استرداد مثل هذه الحقوق من الشركة المخالفة لأحكام القانون. كما أن النص لا يذكر فرض غرامة مالية معينة على الشركة المخالفة.
هكذا بدأت بواكير الرقابة على النشاط التأميني في العراق. والموضوع يستحق المزيد من البحث.
مصباح كمال
لندن كانون الأول 2008
[1] أنظر دراستنا: "موقع شريعة حمورابي في تاريخ التأمين" التي كتبناها كمقدمة لترجمتنا لبضعة صفحات من الفصل المعنون نظرات تاريخية في التأمين في كتاب إيرفنغ فيفّر و ديفيد كللوك: Perspectives on Insurance (الدراسة منشورة في مدونة Iraq Insurance Review http://misbahkamal.blogspot.com/2008_07_01_archive.html [2] C. F. Trenerry, The Origin and Early History of Insurance (London: P. S. King & Son, 1926). [3] صندوق العشيرة هو أحد أشكال التعاضد الاجتماعي المحدود، يساهم في تمويله الأفراد، كل حسب قدرته وليس اعتماداً على معيار معين. يقوم بإدارة الصندوق من يؤتمن على نزاهته وقد يكون إمام مسجد أو شيخ القبيلة أو أحد الأفراد الكبار في العمر ممن يشهد لهم بالاستقامة. ويقوم المؤتمن على الصندوق بصرف الأموال المتجمعة فيه لتعويض من يصيبهم الضرر. و"العونة" شكل من التعاضد الاجتماعي التلقائي لدرء عواقب الأضرار التي تلحق بالغير. ومن المناسب هنا أن نذكر مؤسسة عرفية أخرى لها علاقة بحل النزاعات والخلافات: نظام القضاء العشائري. ويضم مجموعةٌ "القوانين" غير المكتوبة والأعراف المتداولة يتعامل بها أفراد العشيرة في تنظيم حياتهم وفي تسوية الخلافات التي تنشأ بينهم من خلال الحكم الذي يصدره القاضي العشائري. والقاضي هو شخص من أبناء العشيرة يتميز بمعرفة بالقوانين والأعراف والعادات العشائرية وذو سمعة طيبة وأخلاق حميدة. وقد يكون القاضي شيخ العشيرة أو عضو آخر في العشيرة يتمتع بالمزايا المتوقعة منه. ويضم النظام إجراءات تتمثل بالجاهة (مجموعة من الأشخاص يتم تكليفهم من شخص او أِشخاص للتدخل لدى طرف اخر لحل قضية ما)، العطوة (هدنة بين طرفين متخاصمين يتم إعطائه من أهل المجني عليه وللمدة التي يرونها مناسبة) والقهوة العربية (تشرب القهوة العربية رمزاً لإنهاء الخلافات). ويعرف هذا النظام في مصر باسم "قعدة العرب" المنتشر في المجتمعات الريفية والبدوية: "قعدة العرب" محكمة عرفية لإنهاء خلافات الدم بين كبار العائلات، جريدة الحياة، 8 أيلول 1999. [4] في ظل الانكسارات التي مني بها نظام العائلة وبغية إدامة السيطرة على الحكم قام النظام بإذكاء الانتماء القبلي الذي أصبح بعد الاحتلال الأمريكي، وارتباطاً بالطائفية، صيغة نافذة في إدارة الشؤون العامة. أنظر زهير الجزائري، المستبد: صناعة قائد، صناعة شعب (بغداد-بيروت: معهد الدراسات الاستراتيجية، 2006) ص 235-245. إن الانتعاش المصطنع منذ 9 نيسان 2003 للانتماء القبلي الذي تشجع عليه الإدارة الأمريكية، قوة الاحتلال، وتعمل له بعض الأحزاب السياسية الحاكمة في العراق ينحصر في الإطار السياسي والأمني. [5] R L Carter, Economics and Insurance (Stockport: PH Press Ltd, n.d. [1971?], p56. [6] P G M Dickson, The Sun Fire Office 1710-1960 (London: Oxford University Press, 1960), p188. [7] Dickson, op. cit., p190. [8] ترجمنا هذه الفقرة من كتاب: Basim A Faris, Insurance &Reinsurance in the Arab World (London: Kluwer Publishing, 1983), p43. [9] Faris, op. cit. pp 192-193. [10] Abdul Zahra Abdullah Ali, Insurance Development in the Arab World (London: Graham & Trotman, 1985) p 2, quoting Swiss Reinsurance Company, Insurance Markets of the World (Zurich: Swiss Re Publications, 1964). [11] حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، الكتاب الأول، ترجمة عفيف الرزاز (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، 199)، ص 307. [12] الكلمة "سيغورطه" أو "سيكورته" أو "سيكورتاه" تركية sigorta (من الأصل الإيطالي sicurta) وتعني التأمين، وهناك قانون عثماني يحمل هذه الكلمة وهو قانون الضمان (السيكورتاه) الصادر عام 1322 (1905). وتكتب الكلمة أحياناً سوگره أو صوگرة. وقد دخلت كلمة صوگرة في التداول الشعبي العراقي كمقابل للضمان أو ما هو مؤكد. وترد الكلمة في نص القانون وكأنها شرح لعبارة "أعمال التأمين" الواردة قبلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق