آثار إعادة المفصول السياسي إلى وظيفته في شركات التأمين
مصباح كمال
هذه الملاحظات تستند على انطباعات تكونت عبر فترات زمنية متباعدة من خلال أحاديث عابرة مع زملاء
في شركات التأمين وخارجها. وتقتصر الملاحظات على شركات التأمين وإعادة التأمين العامة. معلوماتنا التفصيلية عن عدد المفصولين الذين رجعوا إلى
العمل قليلة جداً فلم يُصرّح بها أحد، ولعل بعض القراء يستطيع توفير مثل هذه
المعلومات ويساهم في مناقشة أطروحة هذه المقالة.
نحترم المفصول السياسي لأنه كان في وقته كاشفاً لمثالب
النظام الدكتاتوري القمعي وممارساته، ولذلك تعرّض إلى أنماط من الظلم والحرمان:
نقله للعمل في غير مجال اختصاصه، حرمانه من استحقاقات الترقية الوظيفية، فصله من
الوظيفة، اعتقاله وربما تعذيبه هو وأهله وغيرها من أشكال المعاناة التي كانت أجهزة
النظام السابق تجيد استعمالها ضد معارضيها دون اعتبار للقيم الإنسانية وحقوق
الإنسان. ولذلك فإن استرداد الحقوق يحقق
درجة من العدالة للمفصولين.[1]
وقد صنّف قانون أعادة المفصولين السياسيين رقم 24 لسنة 2005 المُعدّل فئات
المفصولين "لأسباب سياسية او عرقية او مذهبية للفترة الممتدة بين
17/7/1968 و 9/4/2003" كما يلي:
أولاً:
من ترك
الوظيفة بسبب الهجرة او التهجير خارج العراق.
من
اعتقل او احتجز او تم توقيفه من قبل سلطات النظام السابق.
من
احيل على التقاعد قبل بلوغه السن القانونية.
ثانياً:
يعد مشمولاً بأحكام هذا القانون من سجن أو اعتقل أو
احتجز أو أوقف للأسباب المذكورة والمدة الزمنية الواردة في الفقرة أولاً من المادة الأولى
وتسبب ذلك في:
1- حرمانه من إكمال دراسته الثانوية والجامعية.
2- تعذر
حصوله على وظيفة أو مباشرته في الوظيفة التي عين فيها قبل سجنه أو اعتقاله أو
احتجازه أو توقيفه.
3- عدم
تعيين من كان متعاقداً مع دوائر الدولة أو القطاع العام أو المختلط على الملاك
الدائم.
هدفنا من هذه المقالة هو إظهار جانب
من الموضوع إلى العلن ومناقشته يتعلق بأداء العمل، كي يعمل المعنيون بالأمر التوصل
إلى حلول بعضها هي من اختصاص الإدارات وبعضها لدى المفصولين أنفسهم.
عودة المفصولين سياسياً مسألة مفروغ
منها سوى أن صيغة استرجاع حقوق المفصولين تخضع للمناقشة.[2] ففي حالة شركات
التأمين: هل أن نطاق استرجاع الحقوق يقتصر على استعادة الدرجة الوظيفية، زيادة سن التقاعد من 63 سنة إلى 68[3] سنة كتعويض مادي عن
الرواتب التي لم يستلمها خلال فترة الفصل، ام يمتد لوضع المفصول في مراتب وظيفية عليا ربما كان
سيصل إليها لو استمر في وظيفته. هذه قضية
إشكالية.
من ناحية، لا يمتلك المفصول المهارات العملية والمعارف المتخصصة
الكافية ليحتل موقعاً أعلى لا لعيب في قدراته الفكرية وإمكانياته بل لإبعاده
القسري عن موقع العمل في الماضي. ومن باب
التعميم، ورغم قساوته، يمكن الزعم بأن المفصول، بعد
عودته للعمل، غير كفوء ولا مؤهل وغير قادر بالوفاء بمتطلبات الموقع الوظيفي الجديد
(مهارات تأمينية خاصة)، لأنه كان بعيداً عن التغييرات التي جرت في الشركة: تنقلات الموظفين، إدخال
الأجهزة الإلكترونية في إنجاز العمل، تغيير في توزيع المسؤوليات .. الخ.[4] مشكلة المفصول لا تختلف عن مشكلة الشخص الذي يُجبر على ترك العمل لأداء
الخدمة العسكرية، كلاهما، بحكم الضرورة، يتخلفان عن تطوير مهارات خاصة بالعمل
الوظيفي اليومي. ومن ناحية أخرى، لو قبلنا بهذه الأطروحة بات على إدارات
الشركات إزاحة من هُم في مراتب عليا ليحتلها المفصول الذي عاد إلى العمل. وهذا الوضع ينطوي على إجحاف بحقوق غير
المفصولين، ويؤدي إلى تأثير سلبي على
معنويات العاملين بخلق حالة من الإحباط وتثبيط الهمم الذي يؤثر على
الإنتاجية. كما أنها تؤدي إلى تشويش في
الهيكل التنظيمي.[5] وقد انتبه المُشرّع
في قانون إعادة المفصولين السياسيين رقم 24 لسنة 2005 المعدل إلى هذا الموضوع بربط
الترقية عند توفر الكفاءة والمؤهلات (والمؤهلات ليست محددة) كما يلي:
المادة 2
الغيت هذه المادة بموجب المادة (3) من قانون تعديل
قانون إعادة المفصولين السياسيين، رقمه 25 لسنة 2008، واستبدلت بالنص الاتي:
أولاً
: تحتسب مدة الفصل وما بعدها للأسباب الواردة في المادة الأولى من هذا القانون
خدمة فعلية لأغراض الترفيع و العلاوة والترقية والتقاعد.
ثانياً
: تحتسب مدة الاعتقال أو الحجز أو السجن وما بعدها للأسباب الواردة في المادة
الأولى من هذا القانون خدمة فعلية لأغراض الترفيع والعلاوة والترقية والتقاعد.
ثالثاً : تحتسب المدد المذكورة في الفقرتين أولاً و
ثانياً من هذه المادة لأغراض الترقية عند توافر الكفاءة والمؤهلات لذلك. (التأكيد من
عندنا).
لا نتوقع من المفصول الذي عاد إلى
وظيفته أن يتخذ من عذاباته ذريعة لعدم، او قلة، الاهتمام برفع مستواه المهني لأداء
مهمات العمل. الاختيار السياسي الذي أدى
إلى الفصل يجب أن لا يكون مِنّة على أحد. وليس
صحيحاً إنصاف المفصول بالامتيازات على حساب غير المفصول. فالمظلومية مفهوم يلغي الاستحقاق على أسس موضوعية
غير الانتماء السياسي والمذهبي وغيرها من الانتماءات المعرقلة للتقدم – كما بانَ
منذ تأسيس النظام المحاصصي بالتزامن مع الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003.
هناك قضايا حساسة تمس أجواء العمل يجري
الحديث عنها في الأوساط الخاصة ولكنها لا تجد تعبيراً عنها في العلن في كتابات
نقدية كالحديث عن ضعف أداء المفصول وحتى استغلال بعض المفصولين لمظلوميتهم السابقة
كوسيلة لتغطية عيوبهم المهنية.
السبب؟ بعضه الخوف عند البعض من
آثار الإفصاح عن الموقف، والبعض الآخر يتعكز على اللاأبالية: ليس هذا من شأني. وعلى العموم، هناك حساسية تجاه إثارة التساؤل
عن الإمكانيات المهنية للمفصولين.
بسبب "الهالة" التي تحيط
بالمفصول السياسي لا يخضع إلى محاسبة حقيقية لتقصيره عن رفع مستواه المهني وعدم
فعاليته في العمل- وهذا شكل من أشكال الفساد الإداري. عندما لا يكون المفصول متمكناً من مهام عمله أو
أن مهامه قليلة جداً فإنه يميل إلى إضاعة وقت النشطين من الموظفين من خلال التحدث
إليهم وإلهائهم عن الاهتمام بعملهم. ولعدم
ممارسته عملاً حقيقياً منتجاً يتجه إلى البحث عن منافع خاصة به: استحقاق الحوافز
دون أن يكون أهلاً لها، وكذلك تَسقُّط أخطاء العاملين وإيصالها إلى دائرة المفتش
العام. وهكذا يتم إشغال (= إضاعة) وقت
العمل والتأثير على الإنتاجية.
لعله من
الأفضل، في هذه الحالة، أن يقيم المفصول في بيته ويتسلم راتبه لأن وجوده داخل
مكاتب الشركات لا يزيد الإنتاج أو يرفع من مستوى الأداء الفني. وجوده في موقع العمل يصبح عنصراً معرقلاً. هو بالأحرى جزء من البطالة المقنعة في هذه
الشركات. ونزعم أن هناك بطالة مقنعة في
شركات التأمين العامة لم تُبحث بعد.[6]
مقابل
المفصولين الذين استردوا حقوقهم هناك مفصولين ما زالوا مفصولين لأنهم غير قادرين
على إبراز مستندات مؤكدة لانتمائهم السياسي ولا يقبلون بتزويرها مثلما عمل البعض
وصاروا يحتلون مواقع رسمية مهمة بفضل نظام المحاصصة، كما هو الحال في جهاز الدولة.
وقد استرد
البعض، بفضل الفساد الإداري، حقوقاً لم يكونوا أهلاً لها. وقد انتبه المشرع إلى ذلك. فالمادة 6 من قانون تعديل قانون إعادة المفصولين
السياسيين رقم 25 لسنة 2008 نص على الآتي:
أولاً : تطبق أحكام قانون العقوبات العراقي رقم 111
لسنة 1969 على كل من قدم معلومات غير صحيحة للاستفادة من قانون إعادة المفصولين
السياسيين.
ثانياً : يُعفى من حكم الفقرة أولاً من هذه المادة كل
من اعترف بعدم صحة المعلومات التي أدلى بها وأعاد الأموال التي تسلمها نتيجة لذلك
خلال ستة أشهر من تاريخ نشر هذا القانون في الجريدة الرسمية.
ونعرف
أفراداً نفوا أنفسهم اختياراً من العراق خوفاً من نتائج "لسانهم
الطويل" إبان الحكم الدكتاتوري ومن المواقف النقدية التي كانوا يتبنوها في
رفض النظام الذي كان قائماً، وتخلّوا عن عملهم (استقالة من الوظيفة،
إن استطاعوا ذلك لأن الاستقالة كانت ممنوعة، أو هجر الوظيفة والخروج من العراق). أيصحُ لهم الآن الادعاء بانهم كانوا ضحايا
النظام ويجب استرداد ما فاتهم؟ الفكرة لا
تخطر على بالهم ولكننا نذكرها في سياق هذه الملاحظات للإشارة إلى تهافت بعض دعوات
المظلومية واسترداد الحقوق. لا يحق لهم
الآن أن يطالبوا بحقوق في العودة إلى العمل أو الحصول على تقاعد وإلا فإن الانتماء
السياسي واتخاذ الموقف النقدي يصبح وظيفة يستحق عليه صاحبه أجراً!
ليست هناك حلول جاهزة لإدماج المفصول في هيكل
الشركة مع مراعاة الهيكل التنظيمي وسيكولوجية الإدارة لكن مناقشة الموضوع كفيلة
بالكشف عن مضامين المشكلة وعرض الحلول. ولعل
الأمانة مع النفس والتواضع للتعلم والتأقلم، في هذا الإطار، هي المنطلق لوعي
المفصول لإمكانياته. ومن جانب إدارة
الشركة إدراك حالة المفصول من الناحية الفنية والعمل على إدخاله في دورات تدريبية لرفع
مستواه رغم أن النتائج قد لا تكون إيجابية دائماً. ومن منظور أوسع، قيام الإدارة بإشاعة روح الجماعة والتضامن
والعمل الجماعي esprit de corps بين العاملين كافة بغض النظر
عن الاختصاص، وذلك من خلال اتباع سياسة متوازنة لدمج المفصولين مع زملائهم، وتقليص
الهوة بينهم من خلال التدريب المكثف النظري والعملي للجميع.
لندن 27 كانون الثاني – 7 شباط 2013
[1]
من المفارقات أن التركة المُرّة الحزينة لحكم حزب
البعث لم يعالج بالكامل. فهناك عوائل
شهداء ومفصولين سياسيين لم يعوضوا مثلما لم تعالج آثار الأنفال. ففي افتتاحيتها في 6 شباط 2013 كتبت جريدة طريق
الشعب في ختام الافتتاحية: "نكرر دعوة الحكومة والبرلمان الى انصاف اولئك
الضحايا وعوائلهم، ونكرر المطالبة بشمولهم بالقوانين ذاتها، التي شُرّعت في
السنوات الماضية لتعويض ضحايا النظام الصدامي المقبور منذ سنة 1968 . انه واجب وطني
وإنساني بامتياز!"
[2]
هناك قانون ينظم عودة المفصولين وهو قانون عودة المفصولين والمتضررين سياسياً رقم 51 لسنة 2003 وقانون 24 لسنة 2005 وتعديلاته بالتعليمات رقم (1) لسنة 2009.
[3] المادة 4 (الغيت هذه المادة بموجب المادة (4) من قانون تعديل قانون إعادة المفصولين السياسيين، رقم 25 لسنة 2008، واستبدلت بالنص الاتي:
أولاً: ُيستثنى من الإحالة على التقاعد بسبب بلوغ السن القانونية الراغبون في الاستمرار في الخدمة من المشمولين بأحكام هذا القانون.
ثانياً: يعاد إلى الوظيفة الراغبون في الخدمة ممن بلغوا السن القانونية للإحالة على التقاعد من المشمولين بأحكام هذا القانون.
ثالثاً: يحال على التقاعد الذين اعيدوا للخدمة الفعلية من المشمولين بأحكام الفقرة الأولى من المادة الأولى من هذا القانون إذا بلغوا سن الثامنة والستين.
رابعاً: يستحق من بلغ الثامنة والستين من عمره من المشمولين بأحكام المادة الأولى من هذا القانون راتباً تقاعدياً مع مراعاة أحكام المادة الثانية من هذا القانون.
خامساً: يستحق العاجزون عن المباشرة بالوظيفة التي أعيدوا إليها بسبب التقدم بالسن أو المرض من المشمولين بأحكام هذا القانون راتباً تقاعدياً على أن تحتسب مدة الفصل لأغراض العلاوة والترفيع والترقية والتقاعد
[4]
ولكن هل نستطيع أن نفترض بان المفصول قد اكتسب مهارات ومؤهلات معينة بعد أن أجبر على ترك وظيفته؟ مثال ذلك العمل خلال فترة النفي في الخارج في مجال الاختصاص وتعلم لغة جديدة. لا ندري إن كان هذا المثال ينطبق على شركات التأمين.
[5]
ربما يتذكر البعض ممن عاصر ثورة
تموز 1958 قرار الزحف – عبور الطلاب الراسبين إلى المرحلة التالية من الدراسة دون خضوعهم للامتحان بسبب نشاطهم السياسي ودخولهم إلى السجن - فقد كان تأثير هذا القرار سلبياً على بقية الطلاب ممن اجتهدوا كي ينتقلوا إلى المرحلة القادمة من الدراسة.
[6] ليست لدينا معلومات دقيقة عن
هذه البطالة المقنعة لكن قراءة ما كتبه نصير الحسون في خبر تحليلي "20808 شركات
دخلت السوق في سنة" (الحياة،
الأحد 17 فبراير 2013) يلقي بعض الضوء على الموضوع، فقد نقل عن خبير اقتصادي ما
يلي: "حذر الخبير الاقتصادي أرسلان سالم العباسي، من خطر استمرار هيمنة
الأحزاب السياسية على قطاع التشغيل واستحداث الوظائف العامة، والتي تسببت بفرض
644769 موظفاً لا يعرفون القراءة والكتابة على مؤسسات الدولة المختلفة. وأضاف في تصريح لـ «الحياة» أن بيانات رسمية
صادرة عن وزارتي المالية والتخطيط، أشارت إلى أرقام خطيرة تتعلق بقطاع التشغيل
للوزارات والدوائر الممولة مركزياً، حيث بلغ عدد العاملين في القطاع العام 2 مليون
و 907 آلاف و 776 موظفاً." ونفترض أن بعض الموظفين غير المؤهلين يعملون في
شركات التأمين العامة.