استخدام التأمين في الكتابات الاقتصادية الكلاسيكية: آدم سميث وكارل ماركس
نشرت نسخة معدلة من هذه الدراسة في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 340-341، 2010، ص26-37.
مصباح كمال
مقدمة
هذه محاولة أولية متواضعة للتعريف باستخدام التأمين كمفهوم وآلية في بعض الكتابات الاقتصادية الكلاسيكية، اخترنا من بينها كتاب ثروة الأمم لآدم سميث (1723-1790) ورأس المال لكارل ماركس (1818-1883). وقد استفدنا من الإنترنيت في البحث عن ورود تعبير التأمين في نصوصهما. ربما لم ننجح في بحث شامل بهذا الشأن، ولعل من يهمه الأمر يضيف إلى ما وجدناه ويوسع نطاق التعليق والتحليل.
يقترن التأمين دائماً بالخطر (الخطر كموضوع/محل للتأمين (الممتلكات والمسؤوليات)، والخطر بمعنى مسببات الضرر أو الخسارة، كالحريق والانفجار والفيضان والحوادث العرضية وغيره، والخطر كحالة/وضع أو بيئة محل الخطر، والخطر كسلوك وموقف المؤمن له وهو ما يوصف بالخطر المعنوي)، فهو آلية لتوفير حماية مالية من آثار أخطار الطبيعة وتلك التي يتسبب بها الإنسان أو تنشأ نتيجة لدينامية النشاط الاقتصادي في مختلف المجالات، وما يترتب على ذلك من تبعات قانونية وتعاقدية. وتقوم الآلية على تجميع أقساط التأمين من عدد كبير من المؤمن لهم والاستفادة منها لتعويض أولئك الذين يتعرضون للخسارة أو الضرر. ويلعب قانون الأعداد الكبيرة ونظرية الاحتمالات والإحصاء والعلوم الاكتوارية دوراً مهماً في تصميم وتسيير آلية الـتأمين.
ومن منظور قانوني فإن التأمين هو "عقد به يلتزم المؤمن ان يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد مبلغاً من المال أو إيرادا مرتباً أو أي عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث المؤمن ضده، وذلك في مقابل إقساط آو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن." (المادة 981—فقرة 1 من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951).
لم يعالج سميث وماركس مفهوم التأمين وآليته أو القانون المنظم له (تكوين صندوق من أقساط التأمين من أكبر عدد ممكن من طالبي التأمين واستخدامه للتعويض عن الخسائر التي تلحق بالبعض منهم) كموضوع مستقل. فلم يكن ذهنهما منصرفاً إلى معالجة نظرية للتأمين كما فعل آخرون فيما بعد.
آدم سميث شرح مفهوم التأمين باختصار وأشاد بأهميته في حين أشار كارل ماركس إلى التأمين لخدمة أطروحاته الاقتصادية الأساسية. ويمكننا القول إن استخدام مفهوم التأمين لا يتعدى الإشارة إلى مؤسسة التأمين ونشاطها في زمانهما، وفي سياق موضوع أكبر – كما هو الحال عند ماركسٍ.
ملاحظة للقارئ والقارئة
[جميع العبارات المحصورة بين قوسين مربعين هي من وضع كاتب المقالة: مصباح كمال]
آدم سميث والتأمين
[هذا الجزء من الورقة هو ترجمة لمقالة نشرت في مدونة إلكترونية تحمل عنوان الاقتصاد السياسي ويُعرّفها صاحبها Mark Biernat كالتالي: "مدونة مارك بيرنات الاقتصادية لتحسين الاقتصاد، وتخفيض الضرائب وتخفيف أعباء الحكومة." ] [1]
لم يكتب آدم سميث الكثير عن التأمين ولكن نستعرض هنا بعض الأفكار والاقتباسات ذات علاقة به.
موقف آدم سميث من الخطر
"احتقار الخطر، وأمل افتراض النجاح، هما الأكثر حضوراً في سنين العمر الذي يختار فيه الشباب مهنهم مقارنة بأية فترة من الحياة. فكم هو قليل الخوف من سوء الحظ في توازيه مع حسن الحظ الذي يكشف عن نفسه بوضوح أكثر في مدى استعداد الناس العاديين للتطوع كجنود، أو العمل كبحارة، مقارنة بحرص غيرهم ممن هم في منزلة أفضل لدخول ما يسمى بالمهن الحرة."
اعتقد إن الناس يسيئون تقدير الخطر في كل ركن من أركان الاستثمار. فالغرور والكبرياء يضعان الخطر جانباً كما أن الرغبة في المجد تغشي أبصارهم. نظرة على إدارة الاستثمار في أي شركة تأمين في الوقت الحاضر تكشف تعريضهم لمدخرات الناس للخطر، والتي سيقوم دافعي الضرائب بإنقاذها [الشركات].
لقد كان التأمين بالنسبة لآدم سميث قيمة جيدة [فهو يشرح هنا آلية التأمين والحاجة إلى رأسمال مناسب لدى شرك التأمين لضمان وفائها بالتزاماتها تجاه المؤمن لهم]:
"تجارة التأمين توفر أمناً كبيراً لثروات الناس العاديين، وعن طريق تقسيم خسارة كبيرة، التي من شأنها أن تدمر أي فرد، على عدد كبير [من الناس والشركات] يصبح عبئها خفيفاً وسهلاً على المجتمع بأسره. ومن أجل توفير هذا الأمن، على أي حال، فمن الضروري أن يكون لشركات التأمين رأس مال كبير جدا. فقبل إنشاء الشركتين المساهمتين للتأمين في لندن [المراد بهاتين الشركتين هماLondon Assurance Corporation, and Royal Exchange Assurance Corporation تأسستا في لندن سنة 1720]، وضعت قائمة، على ما يقال، أمام النائب العام [المستشار القضائي للتاج]، بأسماء 150 من المرابين الذين أفلسوا في غضون بضع سنوات."
موقف آدم سميث من التأمين والتوزيع [توزيع الأخطار]
كتب آدم سميث عن التوزيع ما يلي:
"يبحر العديد، في كل الفصول، وحتى في زمن الحرب، دون أي تأمين. ربما يتم هذا في بعض الأحيان دون أي تهور. عندما يكون لشركة كبيرة، أو حتى تاجر كبير، عشرين أو ثلاثين سفينة في البحر، فإن كل واحدة منها [السفن] تُؤمِنُ، إن جاز التعبير، الأخرى. فقسط التأمين الذي يتم توفيره ربما يكفي ويزيد لتعويض هذه الخسائر التي يمكن أن تتعرض لها أثناء المجازفة المشتركة. إهمال التأمين على النقل البحري، على أي حال، كالإهمال على المنازل، هو، في معظم الحالات، ليس نتيجة لمثل هذا الحساب الدقيق بل مجرد تهور أرعن، وازدراء متغطرس تجاه الخطر."
الرسالة [التي يتضمنها هذا الموقف] هي: التوزيع هو نوع من التأمين الذاتي
يسجل آدم سميث نقطة مهمة وهي أن التوزيع [توزيع أعباء الأخطار] يمكن أن يوفر الحماية ضد الخطر. ولكن السؤال هنا هو: لماذا يتجاهل العديد من مديري الاستثمار هذا الأمر. صحيح أنهم يستخدمون التوزيع البسيط لكنهم لا يستخدمون التوزيع الحقيقي.
[يقدم آدم سميث في هذه الفقرة شرحاً مقتضباً جداً عن آلية عمل التأمين – الأعداد الكبيرة للأخطار/قانون المتوسطات. فشركة الملاحة البحرية التي لا تؤمن على هياكل سفنها، لدى شركة تأمين، ليس بسبب الإهمال وإنما عن وعي، تمارس شكلاً من أشكال إدارة الخطر من خلال التأمين الذاتي مستفيدة من قانون الأعداد الكبيرة ونظرية الاحتمالات. وفي المثال الذي يذكره يقول أن احتمال تعرض عشرين أو ثلاثين سفينة في "مجازفة مشتركة" للخسارة ليس وارداً، وهذا هو الحال في الأوضاع الاعتيادية وخلافها يصنف ككارثة. ولذلك فإنه يكيف موقفه بالقول أن قسط التأمين الذي لم ينفق على التأمين، بفضل التأمين الذاتي، "ربما يكفي ويزيد" للتعويض عن خسارة سفينة.
إن الخطر، بأشكاله المختلفة، يحيط بنا باستمرار ولا فكاك منه. ولذلك يؤكد آدم سميث أن الاستهانة بالخطر"مجرد تهور أرعن" وغطرسة تقوم على الجهل.]
التأمين / ثروة الأمم
كانت المملكة المتحدة دولة بحرية. ولآدم سميث تعليق مثير للاهتمام عن التأمين. فقد كتب آدم سميث عن التأمين في ثروة الأمم [نشرت لأول مرة في لندن سنة 1776]:
"كون فرصة تحقق الخسارة يُقلّلُ من قيمتها كثيرا، وقلّما تُثمن بأكثر مما تستحقه، فهو أمر نتعلمه من الربح القليل جدا لشركات التأمين."
هذا يعني أن الناس عادة ما يكون تأمينهم ناقصاً، على الأقل في 1776. لكن هناك شئ آخر. الناس يقللون من تقدير المخاطر المالية. وأنا أتفق 100٪ مع هذا. أنظر لسوق الأسهم أو سندات الرهن العقاري، فقد تعامل الناس معها على أنها آمنة 100٪.
[ربما كانت إشارة سميث إلى ميل الناس والشركات إلى التأمين على أموالهم بأقل من قيمتها الاستبدالية هي الأولى في إبراز ما أصبح يسمى اصطلاحاً بالتأمين الناقص. والدافع إلي التأمين الناقص من قبل المؤمن له هو تخفيض قسط التأمين الذي غالباً ما يحدد بضرب سعر التأمين بمبلغ التأمين. فكلما كان مبلغ التأمين منخفضاً انخفض معه قسط التأمين. هذا الميل لدى المؤمن له ليس في صالح المؤمن له عندا تتعرض أمواله المؤمن عليها للضرر إذ عندها يلجأ المؤمِن (شركة التأمين) إلى جعل المؤمن له مسؤولاً عن تعويض بعض الضرر الذي لحق به، وذلك من خلال تطبيق ما يعرف باسم شرط المعدل أو شرط النسبية. "وفحواها انه إذا كانت قيم المال المؤمن عليه تزيد يوم الحادث على مبلغ التأمين، كان التعويض الذي يلزم به المؤمن هو ما يعادل النسبة بين مبلغ التأمين وقيمة المال يوم الحادث... إن قاعدة النسبية مستمدة من مبدأ عادل تمليه قواعد العدالة ذلك أن التعويض يلزم أن يكون متناسباً مع القسط المدفوع وان المؤمن يضار ولا شك إذا ألزم في حالة التأمين الناقص بأداء نفس مبلغ التعويض الذي كان يدفعه لو أن التأمين كان كاملاً في حين أنه لم يستلم إلا قسطاً محسوباً على قيمة للشئ المؤمن عليه أقل من قيمته الحقيقية." ] [2]
موقف سميث من التأمين
"من أجل جعل التأمين، سواء ضد خطر الحريق أو [الخطر] البحري، تجارة تقريباً، يجب أن يكون قسط التأمين العام كافياً لتعويض الخسائر الشائعة، ودفع تكاليف الإدارة، والحصول على ربح كافٍ كان بالإمكان تحقيقه من رأسمال مماثل [لذلك الرأسمال الموظف في التأمين] وظف في أي تجارة شائعة. الشخص الذي لا يدفع أكثر من هذا [قسط التأمين]، من الواضح أنه لا يدفع ما يزيد عن القيمة الحقيقية للخطر، أو أدنى سعر يتوقع بصورة معقولة تأمينه بموجبه. ولكن على الرغم من أن العديد من الناس قد حققوا القليل من المال [الأرباح] عن طريق التأمين، فإن عدداً قليلاً جداً كونوا ثروة كبيرة بفضله؛ ووفقاً لهذا الاعتبار وحده، فإنه يبدو واضحا بما فيه الكفاية أن الرصيد العادي للربح والخسارة ليس أكثر ربحية في هذا مما كان سيكون عليه [الرصيد] في نشاطات تجارية أخرى يحقق للعديد من الناس الثروات. ورغم أن قسط التأمين معتدل عموما، فإن كثيراً من الناس يستهينون بالخطر باحتقار كبير يحول دون تخصيص قسط للتأمين."
تفسير آدم سميث للتأمين
أعتقد أن الاقتباس أعلاه عن التأمين يفصح عن نفسه. فهو كناية عن المخاطر المالية ككل. والناس لا يفهمون ذلك ويلعبون بالنار. وحتى العديد من شركات التأمين، كما اعتقد، تعرض الأصول الاستثمارية للخطر. هذا الأمر يدهشني.
[ينظر أدم سميث للنشاط التأميني كمشروع تجاري، رأسمالي، يستهدف الربح. فهو يعرض الاستخدامات البديلة لرأس المال الموظف في شركة تأمين، فإن لم يستطع الرأسمالي "الحصول على ربح كافٍ" أنتقل إلى نشاط آخر يدّر ما يكفي من الربح. وفي تقديره "أن العديد من الناس قد حققوا القليل من المال [الأرباح] عن طريق [الاستثمار في] التأمين" لكن "عدداً قليلاً جداً كونوا ثروة كبيرة بفضله." وينعى سميث باللائمة على الشركات والناس الذين لا يتحوطون ضد الخطر من خلال شراء حماية تأمينية.]
كارل ماركس والتأمين
لم نتوفر على ترجمة عربية جاهزة لكل نصوص ماركس ذات العلاقة بالتأمين وقمنا بترجمة حرة لبعضها. الاقتباسات مطولة بعض الشئ ولكنها ضرورية لفهم السياق الذي ورد فيه ذكر التأمين. [3]
تكوين احتياطي/صندوق للتأمين
في كتابه نقد برنامج غوتا (1875) يقول ماركس ما يلي في مناقشة الأطروحة التالية أدناه في البرنامج: [4]
٣– "إن تحرير العمل يتطلب رفع وسائل العمل إلى مستوى ملكية المجتمع بأسره، وضبط العمل الإجمالي بصورة جماعية مع توزيع دخل العمل توزيعا عادلاً".إن رفع وسائل العمل إلى مستوى ملكية المجتمع بأسره" (!) يعني على ما يبدو "تحويلها إلى ملكية للمجتمع بأسره"، ونقول هذا عرضاً.ما المقصود بـ"دخل العمل؟" أهو نتاج العمل أم قيمته؟ فإذا عنيت قيمته، فهل قيمة النتاج الإجمالية أم فقط القسم من البقية الذي أضافه العمل إلى قيمة وسائل الإنتاج المستهلكة؟إن "دخل العمل" عبارة عن فكرة غامضة كان لاسال [1825-1864] يتخذها بدلا من المفاهيم الاقتصادية الواضحة. ثم ما هو "التوزيع العادل"؟
إذا أخذنا أولا كلمتي "دخل العمل" بمعنى نتاج العمل، فإن دخل العمل الجماعي يعني حينذاك النتاج الاجتماعي الإجمالي. والآن، ينبغي إن نقتطع منه:
أولا، ما نستعيض به عن وسائل الإنتاج المستهلكة؛ثانيا، قسماً إضافيا لتوسيع الإنتاج؛ثالثا، أموالا للاحتياط أو للتأمين ضد الطوارئ، والكوارث الطبيعية، الخ..إن هذه الاقتطاعات من "دخل العمل غير المنقوص" تحتمها الضرورة الاقتصادية، وتتحدد مقاديرها وفقاً للوسائل والقوى المتوافرة، وجزئياً بموجب حساب الاحتمالات؛ ولكنها في مطلق الأحوال لا يمكن تحديدها على أساس العدالة."
الضرورة الاقتصادية تقتضي تكوين صندوق للتأمين لمواجهة الخسائر المترتبة على طوارئ العمل، التي ترافق عملية الإنتاج، وكذلك الكوارث الطبيعة التي تلحق بوسائل الإنتاج المادية. وكما يذكر ماركس في مكان آخر فإن "رأس المال الثابت هذا، منظوراً إليه من وجهة نظر موضوعية، يتعرض لحوادث معينة، ومخاطر في عملية إعادة الإنتاج."
وما يُحتفظ به في هذا الصندوق من أموال نقدية يتحدد باعتماد حساب الاحتمالات ـ أي احتمالات تعرض وسائل الإنتاج للخسائر بفعل طوارئ العمل أو الكوارث الطبيعية. ومثل هذه الاحتمالات هي أيضاً ما تعتمده شركات التأمين، التجارية والعامة والتعاونية، على الحياة والممتلكات والمسؤوليات القانونية والتعاقدية. وهي أيضاً ما تعتمده الشركات الكبيرة عندما تقوم بالتأمين الذاتي على ممتلكاتها من خلال تكوين صندوق للتأمين ضد الطوارئ. وهذه الممارسة اتخذت شكلاً مؤسسياً متطوراً صار يعرف منذ خمسينات القرن العشرين باسم شركة التأمين المقبوضة captive insurance company.
قوله إن مقدار الاستقطاعات من الناتج الاجتماعي الإجمالي لا يمكن تحديده في مطلق الحالات على أساس العدالة ربما يؤشر على استبعاد ماركس للمعايير الأخلاقية في مجال التأمين.
معروف أن ماركس كان مهتماً بالرياضيات فقد خلّفَ ما يقرب من ألف صفحة من مسودات خاصة بدراسته لجوانب من الرياضيات. [5] يعنى هذا أنه كان يكتب من موقف العارف بأهمية حساب الاحتمالات الذي ينتظم آلية التأمين.
السؤال الذي ينهض هنا هو: هل أن استقطاع أموال "للاحتياط أو للتأمين ضد الطوارئ، والكوارث الطبيعية، الخ.. " يكون على نطاق الشركة الواحدة، وهو بهذا الشكل نوع من أنواع التأمين الذاتي، أو على المستوى الوطني – أي من منظور بنية الدولة الحديثة من خلال تخصيصات الميزانية أو تكوين صناديق طوارئ لمواجهة آثار الكوارث. هذا على مستوى المؤسسات الإنتاجية الصناعية والخدمية. كيف هو الحال بالنسبة للأفراد؟ هل أن الفرد يقوم بالتأمين الذاتي (من خلال تخصيص احتياطي من دخله) أو أن الدولة تقوم بجبر الضرر والخسارة المادية التي تلحق به وبأسرته كما هو الحال بالنسبة لإصابات العمل أو إعانة البطالة وغيرها من المنافع المرتبطة بإدارة ما صار يعرف بدولة الرفاهية. هذا الجانب لم يشغل حيزاً في تفكير ماركس فنظرته ضمن المفهوم الموسع لإعادة الإنتاج اقتصرت على توفير الحدود الدنيا للإبقاء على العمال كقوة عمل وإعادة إنتاجهم وعائلاتهم كوسائل إنتاجية قادرة على العمل وعلى إنتاج فائض القيمة. وسيمر بعض الوقت قبل أن تظهر التشريعات الخاصة بالضمان الاجتماعي.
إن طبيعة النظام الاقتصادي تحدد كيفية تمويل مثل هذه الصناديق لتعويض الأفراد والمؤسسات من نتائج الكوارث الطبيعية كالفيضان والزلازل والأعاصير.
الاحتياطي المستقطع من الناتج الاجتماعي الإجمالي (لصندوق التأمين) لمقابلة آثار الحوادث والكوارث والمساهمة في تصليح وصيانة وسائل الإنتاج المادية، من وجهة نظر ماركس، يمكن أن يدار من قبل "شركات تأمين منفصلة" أو من داخل المؤسسة الإنتاجية. تكوين مثل هذا الاحتياطي يتجاوز طبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي ـ كما سيرد فيما بعد – إذ أن الخطر، بأشكاله المختلفة، ملازم للاجتماع البشري ولا يقتصر على التنظيم الرأسمالي.
تمويل صندوق التأمين
"لو أخذنا بعين الاعتبار إعادة الإنتاج في حالتها الطبيعية، فإن جزءا فقط من العمل المضاف حديثا للإنتاج يستخدم في الإنتاج، وبالتالي في إعادة إنتاج رأس المال الثابت. وهذا هو بالتحديد الجزء الذي يحل محل رأس المال الثابت المستخدم في إنتاج مواد الاستهلاك، وأجزاء كبيرة من العائدات. .... رأس المال الثابت هذا، منظوراً إليه من وجهة نظر موضوعية، يتعرض لحوادث معينة، ومخاطر في عملية إعادة الإنتاج. (وعلاوة على ذلك، واعتباره من وجهة نظر القيمة، فإنه [رأس المال الثابت] قد يستهلك من خلال تغيير في الطاقة الإنتاجية للعمل، لكن هذا لا يشير إلا إلى الرأسمالي الفرد). وبناء على ذلك فإن جزءاً من الأرباح، من فائض القيمة وفائض المنتجات، والذي يمثل فقط العمل الجديد المضاف، بقدر ما يخص قيمتها، هو بمثابة صندوق التأمين. في هذه الحالة لا يهم، ما إذا كان هذا الصندوق يدار من قبل شركات تأمين منفصلة أم لا. هذا هو الجزء الوحيد من الإيرادات التي تستهلك كموضوع للاستهلاك بعينه ولا يخدم بالضرورة كصندوق للتراكم. وما إذا كان يخدم في الواقع في التراكم، أو يغطي مجرد نقص في إعادة الإنتاج، يتوقف على الحادث. وهذا أيضا هو الجزء الوحيد من فائض القيمة وفائض المنتج، وبالتالي من فائض العمل، والذي سيستمر في الوجود، خارج ذلك الجزء الذي يخدم التراكم والتوسع في عملية إعادة الإنتاج، حتى بعد إلغاء النظام الرأسمالي."
(رأس المال: نقد الاقتصاد السياسي، المجلد الثالث. عملية الإنتاج الرأسمالي ككل، الجزء السابع، الفصل التاسع والأربعون. مساهمة في تحليل عملية الإنتاج. VII.XLIX.36)
في شرحه لمخطط إعادة إنتاج مكونات رأس المال الاجتماعي الإجمالي aggregate social product وهي ليست مجرد إعادة إنتاج لمقدار القيمة بل هي في ذات الوقت إعادة إنتاج مادية، يُقسّم ماركس الإنتاج الاجتماعي إلى قسمين. القسم الأول يضم إنتاج وسائل الإنتاج والقسم الثاني يضم إنتاج وسائل الاستهلاك.
ويقسم ماركس إعادة الإنتاج إلى نوعين: إعادة الإنتاج البسيط وإعادة الإنتاج الموسع. في النوع الأول يستهلك إجمالي فائض القيمة بشكل غير منتج – إي إنه ينفق لشراء السلع الاستهلاكية. أما إعادة الإنتاج الموسع فإنها تعني أن جزءاً من إجمالي فائض القيمة يستخدم في شراء رأسمال إضافي، ثابت ومتغير، بهدف زيادة حجم الإنتاج. [في الحالة الأولى يظل الاقتصاد في مكانه في حين يحقق الاقتصاد في الحالة الثانية نمواً بفضل إعادة استثمار جزء من فائض القيمة.[6]
وفقا لماركس، فإن إعادة الإنتاج الاقتصادي في النظام الرأسمالي مشروطة بتراكم رأس المال. فإذا فشل العمال في إنتاج المزيد من رأس المال، من فائض القيمة، فإن إعادة الإنتاج الاقتصادي تبدأ بالانهيار. ولذلك فإن إعادة الإنتاج هي بالضرورة إعادة إنتاج موسع وتحتاج إلى نمو مستمر للسوق. وهكذا فإن النمو الاقتصادي ليس مجرد رغبة لدى الرأسمالي ولكن ضرورة مطلقة أيضا في النظام الرأسمالي، وليس فقط بسبب النمو السكاني ولكن لأسباب اقتصادية تجارية (التراكم والتركز) ولتعظيم أرباح الرأسمالي.[7]
يقول ماركس إن "رأس المال الثابت هذا، منظوراً إليه من وجهة نظر موضوعية، يتعرض لحوادث معينة، ومخاطر في عملية إعادة الإنتاج." رأس المال الثابت يتعرض "لحوادث معينة" في عملية الإنتاج الأساسية، أثناء تكوين رأس المال العيني الثابت، وليس فقط في عملية إعادة الإنتاج. في الواقع إن الحوادث يمكن أن تقع في مختلف المراحل الإنتاجية بضمنها النقل والخزن والمناولة. هذه المقولة هي ذاتها التي ذكرها ماركس في نقد برنامج غوتا. لكن ماركس هنا ليس معنياً بذلك بل بما تتركه الحوادث من آثار سلبية على عملية التراكم الرأسمالي، عملية إعادة الإنتاج. والحماية التأمينية، كما هو الحال في الاقتصاد الرأسمالي القائم، تدخل كعنصر غير مباشر في الإنتاج من خلال توفير أرصدة نقدية، بمثابة تعويض، للخسائر المادية والمالية التي تتعرض لها وسائل الإنتاج.
ماذا يعني إن "جزءاً من الأرباح، من فائض القيمة وفائض المنتجات، والذي يمثل فقط العمل الجديد المضاف، بقدر ما يخص قيمتها، هو بمثابة صندوق التأمين. في هذه الحالة لا يهم، ما إذا كان هذا الصندوق يدار من قبل شركات تأمين منفصلة أم لا. هذا هو الجزء الوحيد من الإيرادات التي تستهلك كموضوع للاستهلاك بعينه ولا يخدم بالضرورة كصندوق للتراكم."
ما يتضمنه هذا القول هو أن الرأسمالي له الخيار أن يقوم بتكوين صندوق للتأمين، يمول من "الأرباح، من فائض القيمة" لتوفير التعويض لرأس المال الثابت الذي يتعرض للحوادث ويستوجب التصليح أو الاستبدال؛ أو يستخدم مخصصات هذا الصندوق لشراء الحماية التأمينية من شركة تأمين مستقلة.
صندوق التأمين الذي يذكره ماركس هو المعادل لآلية التأمين الذاتي، أو في صورته العصرية هو شركة التأمين المقبوضة. تأسيس شركات التأمين المقبوضة لها أسباب عديدة منها تدوير الأرباح داخل المؤسسة وهي تشكل أحد عناصر التكامل ألعامودي للمؤسسة الرأسمالية.
ولا يرى ماركس في صندوق التأمين ما يساهم في التراكم بل يعتبره إنفاقاً استهلاكياً صرفاً. وهو من هذا المنظور يدخل في خانة العناصر "غير المنتجة" في حين أن ضمان إعادة الإنتاج، لضمان الإبقاء على ما هو قائم من رأسمال عيني ثابت بعد تعرضه للحوادث، يحتاج إلى تمويل وصندوق التأمين يقوم بتوفير التمويل.[8] والكلفة المالية للتأمين، في صورته التجارية (شراء الحماية التأمينية من خارج الشركة) أو في وضع رصيد مخصص للحوادث (التأمين الذاتي)، يمكن أن تحتسب مسبقاً. قد لا تكون الأرصدة الداخلية المخصصة لمقابلة كلفة تصليح آثار الحوادث والكوارث الطبيعية كافية وعندها يضطر الرأسمالي إلى تمويل كلفة تصليح أو استبدال رأس المال المتضرر من فائض القيمة (وقد لا يكون هذا كافياً لأنه لم يتحقق كما هو متوقع بسبب الحوادث والكوارث). لو كانت الحماية التأمينية، في صورتها التجارية أو المقبوضة، متوفرة للرأسمالي لكان عندها قد قام بتصليح الأضرار دو إخلال كبير بسيولته النقدية وحافظ على مستوى أرباحه.
ونعرف أن التطور التاريخي للنشاط التأميني يُدل على دوره في الحفاظ على الثروات الرأسمالية وفي توفير أرصدة قابلة للاستثمار في الأصول المادية الثابتة وفي الأوراق المالية وضمن ضوابط للحفاظ عل حقوق المؤمن لهم.
وجهة نظر ماركس هو أن صندوق التأمين يمول من الأرباح الناشئة من قيمة العمل الجديد المضاف. وهو يعتبر ما يخصص لصندوق التأمين من الأرباح، من فائض القيمة، استهلاكاً صرفاً ولو أنه يكيّف هذا التخصيص بالقول بأنه "لا يخدم بالضرورة كصندوق للتراكم." يعني هذا أن رؤيته للتأمين ضيقة تنحصر في عملية المساهمة في جبر واستبدال رأس المال الثابت (المكائن والعدد والآلات) عند تعرضها لطوارئ ولحوادث معينة ولكوارث طبيعية. مثل هذا التقييم ينطبق على المؤسسة الواحدة التي تخصص صندوقاً للتأمين وآخر للإندثار/الاستهلاك: "ما نستعيض به عن وسائل الإنتاج المستهلكة – كما يقول ماركس - وآخر "لتوسيع الإنتاج."
ونعرف أن لصناديق التأمين دوراً اقتصادياً أوسع يتمثل ليس بمجرد المحافظة على الثروات المادية الوطنية من خلال التعويض عن الأضرار والخسائر التي تلحق بها، وإنما المساهمة من خلال تراكم أقساط التأمين، الفائضة عن مواجهة مصاريف إدارتها ومقابلة الالتزامات التعاقدية أو تلك المفروضة بقوة القانون، في تكوين أرصدة قابلة للاستثمار في أصول مادية جديدة أو أوراق مالية أو في تقديم القروض.
دور صندوق التأمين في جبر الضرر
"في الواقع، يتم تقسيم فائض القيمة التي أوجدها الرأسمالي إلى إيرادات ورأس المال، وهذا يعني تقسيمه إلى مواد للاستهلاك ووسائل إضافية للإنتاج. لكن رأس المال الثابت القديم، والمحول من العام الماضي (خارج الجزء الذي أصابه الضرر وتدمر لذلك الحد، وباختصار، رأس المال الثابت القديم الذي ليس من الضروري إعادة إنتاجه، وبقدر ما كان هناك أي انقطاع في عملية إعادة الإنتاج، فالتأمين يغطي ذلك)، بقدر ما يتعلق بقيمته، لا يعاد إنتاجه من العمل الجديد المضاف."(رأس المال: نقد الاقتصاد السياسي، المجلد الأول. VII.XLIX.37
يظهر لنا هنا أن ماركس يحصر وظيفة التأمين (الممول داخلياً من إيرادات المنشأة أو التأمين الذي أشتراه الرأسمالي من شركة تأمين) في تغطية (تعويض) ذلك الجزء من رأس المال (العيني) الثابت الذي "أصابه الضرر وتدمر لذلك الحد." وهنا حقاً لا يدخل التعويض التأميني في عملية إعادة الإنتاج إذ أن وظيفة التأمين هي إرجاع الممتلكات، رأس المال الثابت، إلى الوضع الذي كانت عليه قبل تعرضها للحوادث. ولأن التأمين، في جوهره، هو مشروع تعاوني فإن الحماية التأمينية لا يمكن ولا يجب أن تكون موضوعاً للربح لأن في ذلك إجحاف بحقوق جمهور المؤمن لهم.
درجة الخطورة، أسعار التأمين وأسعار السلع
"هذه المفاهيم تنفع كأساس لحسابات الرأسمالي، على سبيل المثال افتراض أن رأس المال الذي يتم استخدامه ببطء أكثر من غيره، وذلك لأن السلع تتطلب وقتا أطول لإنتاجها، أو لأنه يجب أن تباع في أسواق نائية وينبغي لذلك فرض الربح المفقود بهذه الطريقة وتعويضه عن طريق رفع السعر. وهناك فكرة أخرى هي أن رؤوس الأموال المستثمرة في نشاطات تتعرض لخطر كبير، على سبيل المثال في مجال النقل البحري، ينبغي تعويضها عن طريق زيادة في الأسعار. وحالما يتطور الإنتاج الرأسمالي، وأعمال التأمين، يتعادل الخطر بالنسبة لجميع مجالات الإنتاج (انظر كوربيت)، إلا أن رؤوس الأموال المستثمرة في الشركات الأكثر خطورة تضطر لدفع أسعار أعلى للتأمين واستعادتها [أسعار التأمين العالية] في أسعار سلعها. جميع هذه من الناحية العملية تعادل القول إن كل ظرف من الظروف (وكلها تعتبر ضرورية بالتساوي في حدود معينة)، مما يجعل خطاً إنتاجيا واحداً مربحاً، وآخر أقل ربحاً، تحسب أساساً مشروعاً للحصول على تعويض، دون أن تتطلب العمل المتجدد دائماً للمنافسة للبرهنة على تبرير مثل هذه المطالبات. الرأسمالي ينسي ببساطة، أو بالأحرى لا يرى، لأن المنافسة لا تظهرها له، أن جميع هذه المطالبات بالتعويض المقدمة بشكل متبادل من قبل أصحاب رأس المال في حساب أسعار السلع من خطوط إنتاجية مختلفة تكرر، بطريقة أخرى، الفكرة القائلة بأن من حق جميع الرأسماليين، بما يتناسب مع حجم رؤوس أموالهم، لحصص متساوية من النهب المشترك، إجمالي فائض القيمة. فهم بدلا من ذلك تحت انطباع رؤية أن الأرباح في جيوبهم تختلف عن فائض القيمة التي استولوا عليه، وأن تلك الأسباب للتعويض لا تعادل مشاركتهم في إجمالي فائض القيمة، ولكن بالأحرى أنهم هم الذين يخلقون الربح ذاته، والمفترض أن [هذا الربح] ينشأ من الإضافة لسعر سلعهم، والتي يقدمون مبررات مختلفة بشأنها."
(رأس المال: نقد الاقتصاد السياسي، المجلد الثالث. عملية الإنتاج الرأسمالي ككل. II.XII.16)
تحويل عبء الزيادة في أسعار التأمين على "رؤوس الأموال المستثمرة في الشركات الأكثر خطورة" إلى المستهلك (سواء كان فرداً أو شركة) ظاهرة اقتصادية معروفة. يعنى هذا أن الرأسمالي يلجأ إلى زيادة أسعار منتجاته للتعويض عن أقساط التأمين، العالية، التي يدفعها لقاء حدة الخطورة في رأس المال. وهو إذ يقوم بذلك فمن أجل المحافظة على هامش ربحه باعتباره الخالق للربح في حين أن مصدر هذا الربح بالنسبة لماركس هو فائض القيمة. يدفعنا هذا إلى القول إن ماركس كان يفرق بين درجات الخطورة في تعرض رؤوس الأموال للمخاطر الطبيعية والحوادث الأخرى المرتبطة بعملية الإنتاج. فأسعار التأمين تعكس حدة الخطر في المال المؤمن عليه أو المسؤوليات المؤمن عليها. وهذه قاعدة تقوم على مبدأ الموازنة بين حدة الخطورة وبين ما تفرزه من أضرار والرصيد التأميني اللازم للتعويض عن هذه الأضرار كي لا تعمل على إفناء شركة التأمين أو استنفاذ صندوق التأمين لدى المؤسسة الإنتاجية – وهذا بغض النظر عن طبيعة النظام الاقتصادي.
المتوسطات الحسابية/الاحتمالات في التأمين على الحياة وفي تقدير القيمة الاستعمالية للمكائن
"ينفق عمر أداة من أدوات العمل، في تكرار عدد أكبر أو أقل من عمليات مماثلة. ويمكن مقارنة عمرها مع حياة الإنسان. فكل 24 ساعة يقرب الإنسان من قبره: ولكن كم هي عدد الأيام التي ما زال [الإنسان] يحتاجها للسفر على هذا الطريق، أمرٌ لا يستطيع إنسان أن يحدده بدقة من خلال النظر فقط في وجهه. ومع ذلك فإن هذه الصعوبة لا تمنع مكاتب التأمين على الحياة من وضع استنتاجات دقيقة جداً وفي نفس الوقت مربحة جدا من خلال نظرية المتوسطات theory of averages. وهذا هو الحال مع أدوات العمل. فمن المعروف بالتجربة متوسط مدة استمرار ماكنة من نوع ما في الاشتغال. لنفترض أن القيمة الاستعمالية لها في عملية العمل تستغرق ستة أيام فقط. وعليه، في المتوسط، فإنها تفقد كل يوم سدس قيمتها الاستعمالية، وبالتالي تتخلى [الماكنة] عن سدس قيمتها لما ينتج يوميا. البلى الذي تتعرض له أدوات العمل، وخسارة قيمتها الاستعمالية اليومية، والكمية المقابلة من القيمة التي تفقدها لصالح المنتج تحتسب وفق ذلك."
رأس المال : نقد الاقتصاد السياسي، المجلد الأول، عملية الإنتاج الرأسمالي الجزء الثالث، الفصل الثامن، رأس المال الثابت ورأس المال المتغير. III.VIII.11)
كما ذكرنا أعلاه فإن ماركس كان مواكباً لاستعمالات نظرية الاحتمالات وقانون الأعداد الكبيرة والمتوسطات. واهتمامه هذا يفسر المقارنة التي يعقدها بين حياة الإنسان وحياة الماكنة. وها هو هنا يشرح لنا تطبيقاً لنظرية المتوسطات فيما يخص عمر الآلات والمكائن المستخدمة في الإنتاج.
والتعليل الذي يقدمه ينتظم أحد أنواع التأمين، تأمين عطب المكائن. فشركة التأمين تفرق بين المكائن الجديدة والمكائن المستعملة، وتضع شروطاً محددة فيما يخص البلى والاندثار/الاستهلاك نتيجة الاستعمال، أو عدم الاستعمال، باعتباره من الظواهر الملازمة للاستعمال، وبالتالي يحدد العمر التشغيلي للمكائن. وهذا العمر يتأثر بنمط التشغيل (عدد ساعات التشغيل، وزيادة التشغيل فوق القدرة التصميمية) ومستوى ونوع الصيانة التي تخضع لها المكائن. والغالب أن الاندثار لا يكون موضوعاً للتأمين – أي لا يتم التعويض عنه لأنه يفتقد أحد العناصر المهمة في التأمين وهو الصفة الاحتمالية لوقوع الحادث المسبب للضرر. فكل ما هو مؤكد الوقوع أو يمكن التنبؤ بوقوعه أو نعرف أنه سيحصل، شئنا أم أبينا، كالبلى الذي يحصل تدريجياً فهو حتمي، لا يتساوق مع معيار التأمينية insurability أو الاستئمانية.[9]
وبالطبع فإن ماركس هنا ليس معنياً بالتأمين على المكائن بل تناقص القيمة الاستعمالية لها منظوراً إليها كرأسمال مادي ثابت. ولكن في مكان آخر ربط ماركس بين تضرر رأس المال الثابت، ومنه المكائن، وتمويل الضرر اللاحق بها خلال عملية الإنتاج بالقول:
"رأس المال الثابت القديم، والمحول من العام الماضي (خارج الجزء الذي أصابه الضرر وتدمر لذلك الحد، وباختصار، رأس المال الثابت القديم الذي ليس من الضروري إعادة إنتاجه، وبقدر ما كان هناك أي انقطاع في عملية إعادة الإنتاج، فالتأمين يغطي ذلك."
لسنا من المتخصصين في الاقتصاد الماركسي ولذلك فإن عرضنا ربما يعوزه الدقة أو الفهم الصحيح لمقولات ماركس، وعليه ننبه على ضرورة قراءة ما كتبناه بدرجة من الحذر القائم على الشك. وندعو المعنيين للمساهمة في نقد وإثراء الموضوع. ونأمل أن يقوم غيرنا بالكشف عن استعمالات التأمين في الكتابات الاقتصادية الكلاسيكية، وكذلك في الكتابات الاقتصادية العربية وحتى في كتابات عربية أخرى.
مصباح كمال
لندن تموز/يوليو 2010
misbahkamal@btinternet.com
الهوامش
[1] يمكن قراءة النص الأصلي باستخدام هذا الرابط:
http://political-economy.com/adam-smith-insurance/
[2] بديع أحمد السيفي المحامي، الوسيع في التأمين وإعادة التأمين علماً وقانوناً وعملاً، ج 1 (بغداد: د.ن.، 2006) ص 181، 182
[3] اعتمدنا على الموقع الإلكتروني التالي في اقتفاء استخدام التأمين في كتاب رأس المال، ثلاثة أجزاء:
http://www.econlib.org/cgi-bin/searchbooks.pl?searchtype=BookSearch&pgct=1&sortby=R&searchfield=F&grp=AllMarx&id=68&query=insurance+&andor=and#pagelisting
[4] اقتبسنا هذه الترجمة من الموقع الإلكتروني: http://www.marxists.org/arabic/archive/marx/1875-cg/index.htm والترجمة غير موفقة في توصيل المعنى. ويمكن قراءة النص الإنجليزي باستخدام هذا الرابط: http://www.marxists.org/archive/marx/works/1875/gotha/ch01.htm
[5] The Mathematical Manuscripts of Karl Marx, New Park Publications, 280pp. Reviewed by Andy Blunden;
Source: Labour Review (WRP), June 1983.
[6] A Dictionary of Marxist Thought, Ed by Tom Bottomore (Oxford: Basil Blackwell Ltd, 2nd ed 1991), p471-472.
[7] هناك الكثير من الارتباك في المناقشات حول إعادة الإنتاج الاقتصادي ويعزى ذلك إلى حقيقة أن علماء الاقتصاد يساوون أو يجمعون بين الإنتاج المادي (الموسع) للسلع والخدمات اللازمة لبقاء البشرية وإعادة الإنتاج (الموسع) لرأس المال. من وجهة نظر ماركس، هناك أربعة جوانب رئيسة لإعادة الإنتاج الاقتصادي:
إنتاج منتجات قابلة لإعادة الإنتاج للحفاظ على مخزون الموجودات في المجتمع أو الإضافة لهذا المخزون.
الإبقاء على وإعادة إنتاج الناس القادرين على العمل وعائلاتهم.
إعادة إنتاج والإبقاء على وضمان تطبيق العلاقات الاجتماعية ولا سيما علاقات الإنتاج التي تميز الهرم الاجتماعي/التراتب الطبقي، وحقوق الملكية.
الإبقاء على وإعادة إنتاج العلاقات الاقتصادية.
إعادة الإنتاج الاقتصادي ملازم لجميع الأنظمة مع بعض الاختلاف عند التحول من نمط إنتاجي معين إلى آخر.
هذه المعلومات مقتبسة من الإنترنيت.
[8] يفترض أن صندوق التأمين يضم أرصدة كافية للتعويض عن خسارة كبيرة تلحق برأس المال الثابت (وفي زماننا خسارة الأرباح أيضاً التي هي موضوع للتأمين التجاري) أو أن الحماية التأمينية التي يشتريها الرأسمالي من شركة التأمين، مقابل قسط للتأمين، واسعة بما يكفي لتمويل خسارة واحدة كبيرة أو عدة خسائر خلال السنة.
[9] انظر: جيفري كلارك، "وجهة نظر تاريخية عن التأمينية" مدونة مجلة التأمين العراقي، 3/6/2010
http://misbahkamal.blogspot.com/2010/06/historical-viewpoint-on-insurability.html