ممارسة غير مسؤولة لاستخدام الخسارة المهدرة في التأمين الهندسي
مصباح كمال
من باب التقديم: ممارسة تأمينية غريبة
التقيت في أوائل شهر آب بأحد زملاء التأمين الشباب،
وخلال اللقاء تحدثنا عن بعض قضايا التأمين العراقي. ذكر لي ممارسة غريبة لدى بعض شركات التأمين
والوسطاء في فروع معينة للتأمين: إصدار شركة التأمين لوثيقة التأمين بخسارة مهدرة (فقرة
تحمّل/استقطاع) تعادل 100% من مبلغ التأمين.[1]
تمثل هذه الممارسة، حسب علمي، ظاهرة غريبة وغير معهودة في
ممارسة التأمين في أي مكان في العالم. للحصول
على معلومات إضافية استنجدت بزميل آخر في العراق.
أكدَّ لي، مستعيناً بتجربته، ان بعض شركات التأمين تمنح حمايه تأمينية بخساره
مهدره تصل الى 100 بالمائة مقابل قسط زهيد وحسب طلب الزبون وخاصه لوثائق التامين الهندسي
كون ان المشروع المطلوب تغطيته على وشك الانتهاء وتسليمه لصاحب المشروع، ولكي يحصل
المقاول على السلفة النهائية عليه تقديم وثيقة تأمين للمشروع والذي كان يتوجب على
صاحب المشروع الحصول على الوثيقة عند البدء بالعمل. وأضاف أن بعض الزبائن طلبوا منه مثل هذه
الوثيقة وابلغوه استعدادهم لتزويده بكتاب موقّع من جانبهم بعدم مطالبتهم عن أي
حادث قد يحصل مقابل تحديد سعر بائس للخطر.
وأنه، وهو على صواب، كان يرفض مثل هذه الطلبات كونها تمثل استغفالًا وصورة
من صور الفساد لصاحب المشروع سواء كان حكوميا او خاصا إذ أن وثيقة التأمين هي البيّنة
على تفاصيل العقد بين المؤمن والمؤمن له وليس الكتاب الدخيل على العقد. وفي تبريرهم لهذا الإجراء كان الزبائن يؤكدون له
أن هناك العديد من الشركات مستعدة لإصدار هكذا حمايه.
موقف جمعية التأمين العراقية وديوان التأمين
من الغرائب أن جمعية التأمين العراقية و ديوان التأمين لهما علم بهذه الممارسة
إذ أنها كانت موضوعا للمناقشة في اجتماعات الجمعية وحتى أن رأياً قد تبلور يدعو
إلى قيام الديوان بإصدار التعليمات المناسبة لوقف الممارسة. ولكن لم يتحقق أي شيء على أرض الواقع رغم أن
قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 يفوّض الديوان ممارسة سلطته الرقابية على
وثائق التأمين. نقرأ في المادة-39- أولا- من القانون ما يلي:
يزود المؤمن الديوان بنماذج وثائق التأمين وملاحقها
المعتمدة في أعماله والتي يجب أن تتضمن شروط التأمين العامة والخاصة والأسس الفنية
العامة لهذه الوثائق ومعدلات الأقساط الملحقة بها، كما يزود المؤمن الديوان بجدول
استرداد أقيام وثائق التأمين على الحياة ومعدلات الأقساط الملحقة بها.
يعني هذا أن الديوان يستطيع من
خلال فحص نصوص وثائق التأمين ووسائل أخرى التأكد من سلامة "شروط التأمين
العامة والخاصة والأسس الفنية العامة لهذه الوثائق ومعدلات الأقساط الملحقة
بها."
شيء من التاريخ القريب
تذكّرنا ممارسة إصدار شركة
التأمين لوثيقة التأمين بخسارة مهدرة تعادل 100% من مبلغ التأمين مقابل قسط زهيد،
أي وثيقة تأمين لا توفر غطاءً تأمينياً، بالترتيبات التي كانت تجري في زمن
الدكتاتورية والمعروفة تحت عنوان "أجور المثل" أو ما يجري منذ 2003 تحت
عنوان "وصل القبض" كبديل عن التأمين الحقيقي. وقد تناولنا هذه المسألة في مقال سابق نقتبس
منه الآتي:
كان هناك في الماضي الذي خبرناه ما كان يعرف باسم أجور المثل، وكانت تصدر
بشكل رسالة إلى جهة حكومية أو إلى من يهمه الأمر.
كانت الرسالة الصادرة من شركة التأمين الوطنية (وقتها كانت الشركة الوحيدة
التي تمارس التأمين العام) أشبه ما يكون بمذكرة تغطية صغيرة (دون منح غطاء) يذكر
فيها اسم المقاول، واسم رب العمل، واسم المشروع ومبلغ التأمين، ونوع وثيقة
التأمين، وأجر المثل (قسط التأمين التي كانت الشركة ستطلبه لو أن المقاول قدم
طلباً للتأمين قبل بدء أعمال المشروع).
ولم تكن شركة التأمين تتقاضى قسطاً للتأمين أو رسماً لقاء إصدار رسالة أجر
المثل. كانت وظيفة الرسالة تسهيل التحاسب
بين المقاول ورب العمل بعد إكمال المشروع وإبراء ذمة الطرفين، إذ كان رب العمل
يستقطع أجر المثل (قسط التأمين) من استحقاقات المقاول. وهذا الاستقطاع يقوم على مبدأ تضمُّن سعر
المقاولة لكلفة إجراء التأمين على المشروع من قبل المقاول.[2]
وصل القبض ووثيقة التأمين التي
تصدر بدون توفير غطاء للتأمين تلغي سبب وجود مؤسسة التأمين حيث يحتل الوعد
التأميني مكانة القلب فيها بالتعويض عن الأضرار والخسائر. إن موافقة شركة التأمين على هذه الممارسة
(إصدار وصل القبض ووثيقة التأمين بخسارة مهدرة تعادل 100% من مبلغ التأمين) تكون
بهذا قد ألغت الوفاء بوعد التعويض بالكامل عن الأضرار. وهي بذلك قد تحولت إلى مكتب جباية لقسط تأمين
وهمي مقابل قيامها بإصدار ورقة لا تضم أية التزامات.
اجتماع تدهور القدرات
الاكتتابية مع جهل المقاول والتواطؤ الضمني لصاحب المشروع
تكشف هذه الممارسة عن
غياب وفي أحسن الأحوال تدني فهم مؤسسة التأمين ووظيفتها، وكذلك تدني مريع في القدرات
الاكتتابية لدى الشركات التي تكتتب بأخطار التأمين الهندسي وغيرها من فروع
التأمين. كما أن الممارسة هذه تؤكد على
تخلي هذه الشركات عن دورها في التعريف المهني بالخطر والقواعد القانونية المنظمة
لعقد التأمين.
تُرى هل أن مكتتب التأمين
الهندسي في هذه الشركات، بافتراض وجود مكتتب متخصص في هذا الفرع من التأمين، قام
بدراسة حقيقية لاستمارة طلب التأمين الذي يتضمن وصفاً عاماً للمشروع، والتفاصيل
الضرورية المُفترض من المقاول تقديمها أو يطلب المكتتب منه تقديمها قبل إبرام عقد
التأمين لتقدير الأخطار الكامنة في المشروع المعروض للتأمين في ضوء المخططات
الهندسية والمواصفات specifications وجدول الكميات وشروط عقد الإنشاء الخاصة
بالمشروع، وخبرة المقاول في إنشاء مشاريع مماثلة، قبل احتساب قسط التأمين المطلوب،
وتحديد شروط التأمين، والحدود الدنيا لفقرة الخسارة المهدرة، وتطبيق
التظهيرات/الملاحق endorsements المناسبة لطبيعة المشروع؟
من المؤسف ملاحظة وجود فجوة في
المستوى المهني والكفاءة، فيما يخص المعرفة المتعمقة بالتأمين والمهارات المرتبطة
به، بين عدد قليل يتقلص باستمرار من الكوادر المتقدمة، كبيرة العمر وتقاعدت عن
العمل، وبين الجيل الجديد العامل في شركات التأمين وكذلك مسؤولي التأمين في وزارات
ودوائر الدولة.
تكشف هذه الممارسة أيضاً أن صاحب
المشروع/رب العمل بدلاً من مطالبة المقاول بإبراز وثيقة تأمين أصولية صادرة من
شركة تأمين مرخصة من قبل ديوان التأمين يقبل بوثيقة تأمين "وهمية" صادرة
من شركة التأمين كمستند ودليل على وجود غطاء التأمين. يعني هذا أن أطرافاً ثلاثة تواطأت فيما بينه
لتمرير هذه الممارسة: صاحب المشروع، المقاول، شركة التأمين. وكنت قد كتبت في الماضي في سياق وصل القبض أن هذا
جهل ما بعده جهل فيما يخص التأمين. فلا
المقاول ولا رب العمل يعرف تفاصيل ما هو مؤمن عليه، ونطاق التغطية.
قد نفهم جهل المقاول بالتأمين
فربما يكون أمياً بالمعنى الضيق للكلمة أو أمياً ثقافياً، وقد عرف سوق التأمين
العراقي هذا النمط من المقاولين أيام الدكتاتورية، وخاصة بالنسبة لعقود الانشاء
المدنية الصغيرة التي كانت ترسى عليهم لا لأهليتهم في مجال معين في صناعة الإنشاء
وإنما لارتباطهم بالحزب الحاكم أو لإرشائهم لبعض المسؤولين عن العقود. وشهدت الفترة بعد 2003 ولا تزال وجود مثل هؤلاء
المقاولين ولكن هذه المرة لارتباطهم بالتنظيمات الطائفية وربما الميليشاوية وفي ظل
نظام متكامل للفساد.[3]
إن ما يدعو للقلق أن يكون
الموظف الرسمي الذي يمثل صاحب المشروع في تعامله مع المقاول المنفذ لأعمال
المقاولة المتعاقد عليها جاهلاً بالتأمين لأنه بسبب عدم مطالبته من المقاول إبراز
وثيقة تأمين أصولية يكون بذلك قد ألغى ما أسميته في السابق بالكفاءة البيروقراطية
(بالمعنى الجيد) في إدارة جانب من الشأن العام والحفاظ على مصالح الدولة. بعبارة أخرى، فإن هذا الجهل، على صغره، يؤشر
على غياب بناء الدولة العصرية المحايدة.
بعض تداعيات الممارسة
الغريبة
تتخذ هذه الممارسة
أحياناً شكل إصدار وثيقة التأمين الهندسي بخسارة مهدرة عالية. قد يلجأ المقاول إلى الخسارة المهدرة العالية
كوسيلة للتوفير في قسط التأمين، وهذا يدل على قصر نظر من قبله وغياب فهم ما يعنيه تشخيص
الخطر ومصادره، وقياس آثاره، والسيطرة عليه،
واعتماد الوسائل المناسبة للحيلولة دون وقوعه وعند وقوعه الحد من تفاقمه وحجم وتكرارية حالات الضرر
والتلف التي قد يتعرض له المشروع، ذلك
لأنه سيكون مسؤولاً عن تمويل كلفة تصليح الأضرار التي تكون مبالغها دون الخسارة
المهدرة العالية. وإذا كانت موارده
المالية الداخلية (رأس المال والاحتياطات لأغراض الطوارئ، بافتراض وجودها، وسيولته
النقدية) ليست متوفرة للسحب لمقابلة تكاليف التصليح أو أنها مطلوبة لأغراض أخرى،
فمن أين سيمول تصليح الأضرار؟ هل سيلجأ
إلى الاقتراض من البنوك؟
وعدا ذلك فإن
اللجوء إلى الخسارة العالية قد تعرّض مصالح رب العمل للخطر في حال عدم كفاية
الحماية التأمينية وعدم توفر القدرة المالية والسيولة النقدية لدى المقاول لتصليح
الأضرار، وما يترتب على ذلك من تأخير في إكمال أعمال المشروع وتسليمه ضمن المدة
المقررة في عقد الإنشاء.
مقابل ذلك هناك ميل لدى
بعض المقاولين لطلب خسارة مهدرة واطئة جداً لضمان الحصول على تعويض عن الأضرار
والخسائر الصغيرة. ومن الملاحظ أن مكتتب
التأمين الجيد يميل إلى عدم قبول الاكتتاب بخسارة واطئة جداً رغم إغراء القسط
الأعلى الذي يقتضيه، ذلك لأن الخسارة الواطئة تعني تعبئة موارد الشركة (كوادر
ومصاريف إدارية) لإدارة المطالبات الصغيرة، وبالتالي زيادة تكاليف إدارة العملية
التأمينية.
إن هذه الممارسة تنطوي على إساءة
لتاريخ ولسمعة قطاع التأمين العراقي: شركات تقوم بجباية أقساط التأمين، مقابل
غطاء وهمي، ولا تقوم بالتعويض. شركات
التأمين التي تمارس هذا النمط من "الاكتتاب" لا يهمها صورة القطاع في
الداخل والخارج وتساهم من حيث لا تدري في تشويه سمعة مؤسسة التأمين. والملاحظ أن هذه الممارسة تكاد أن تكون محصورة
بعدد من شركات التأمين الخاصة. ونقرأ في
الورقة البيضاء وفي بيان إنجازات وزارة المالية[4] عن
خطط لإعادة هيكلة (خصخصة) شركات التأمين العامة لكن أصحاب القرار والمستشارين
المعتمدين من العراقيين والأجانب ليسوا معنيين بالانحطاط الموجود لدى العديد من
شركات التأمين الخاصة. هل هم حقاً معنيين
بمصائر قطاع التأمين العراقي وتطوره؟ عندما
يكون الدافع الرئيسي هو تحقيق الربح للمساهمين بأي ثمن تتراجع الاعتبارات المهنية
الأخلاقية.
قروض البنك الدولي والتأمين
قبل أن ننهي ملاحظاتنا نود
الإشارة إلى مثال حقيقي لما نتحدث عنه في هذه الورقة. والمثال هو جدول وثيقة التأمين الهندسي (الرديء
في الإخراج) على تأهيل محطة ضخ رئيسية لمياه الأمطار في محافظة ديالى ضمن مشاريع
قرض البنك الدولي الطارئ لإعادة إعمار المناطق المحررة في محافظتي ديالى وصلاح
الدين. صاحب المشروع المذكور في الجدول:
وزارة الإعمار والإسكان والبلديات والأشغال العامة/مكتب الإدارة الستراتيجية. سعر المقاولة هو بحدود ربع مليون دولار.
الغريب أن هناك وثيقتي تأمين
على نفس المشروع صادرتين من قبل شركتي تأمين خاصتين وبنفس سعر المقاولة، إحداهما
بخسارة مهدرة 100% والأخرى بخسارة مهدرة تكاد أن تقترب من 50% من سعر المقاولة.
ما نود التوقف عنده هو أن المشروع
هو من ضمن المشاريع التي يمولها البنك الدولي.
من المعروف أن البنك له اهتمام عميق بالحماية التأمينية للمشاريع التي يكون
طرفاً فيها. فهو، كمقرض، يهتم بنطاق
التغطية التأمينية، والاستثناءات، والخسارات المهدرة، والملاءة المالية لشركات
التأمين، وتمثيل مصالحه في وثيقة التأمين.
البنك الدولي، كغيره من المؤسسات التمويلية العالمية، له برنامج للحدود
الدنيا من متطلبات التأمين minimum insurance requirements ويتعامل مع وسطاء تأمين دوليين وله ذراعه
التمويلي الخاص بتشجيع القطاع الخاص في الدول النامية: مؤسسة التمويل الدولية International
Finance Corporation (IFC). في حالتنا لا نعرف إن كان البنك قد أفرد فقرة
خاصة لتأمين مشاريع إعادة الإعمار، أو أنه ترك هذا الأمر لوزارة الإعمار والإسكان
والبلديات والأشغال العامة. (اطلعنا على
إحدى مناقصات الوزارة التي تدعو فيها المقاولين لتقديم عطاءاتهم لكنها كانت خالية
من الإشارة للتأمين).
ختاماً، نسأل إن قرأ مكتتبو
التأمين الهندسي في هاتين الشركتين، وشركات التأمين الأخرى، العامة والخاصة، الكتب
المعنية بالتأمين الهندسي باللغة العربية والإنجليزية؟
18 آب
2022
[1] للتعريف بأهمية الخسارة المهدرة أنظر: مصباح
كمال، التأمين: مقتربات تاريخية واقتصادية ومعاصرة (بيروت: منتدى المعارف،
2022)، الفصل العاشر، "محاولة للتفسير الاقتصادي للخسارة المهدرة التي تفرضها
شركات التأمين،" ص 139-142.
يمكن قراءة هذا التعليق في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:
[2] مصباح
كمال، وصل القبض بديلاً عن التأمين،" مجلة التأمين العراقي:
http://misbahkamal.blogspot.co.uk/2013/02/receipt-voucher-or-insurance-policy.html
[3] كما
جاء في كتاب استقالة وزير المالية، على عبد الأمير علاوي، المؤرخ 16 آب 2022.
[4] مصباح
كمال، "وزارة المالية العراقية ومعهد آدم سميث البريطاني ودراسة سو التأمين
في العراق،" موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين: