إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2015/10/29

Interview with Misbah Kamal on Problems of Iraqi Insurance


حوار مع مصباح كمال حول بعض قضايا التأمين في العراق

 

 

فاروق يونس

 

نشرت هذه المقابلة أصلاً في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/2015/10/28/%d9%81%d8%a7%d8%b1%d9%88%d9%82-%d9%8a%d9%88%d9%86%d8%b3-%d8%ad%d9%88%d8%a7%d8%b1-%d9%85%d8%b9-%d9%85%d8%b5%d8%a8%d8%a7%d8%ad-%d9%83%d9%85%d8%a7%d9%84-%d8%ad%d9%88%d9%84-%d8%a8%d8%b9%d8%b6-%d9%82/

 

يساهم التامين في تقديم الحماية للأفراد والشركات والمؤسسات الحكومية من الخسائر التي تلحق بها ولتقليل درجة المخاطر من خلال عملية الحماية.

 

وكان من نتيجة التحول نحو اقتصاد السوق بعد سقوط النظام السابق التوجه نحو تأسيس شركات التامين الخاصة في العراق استمرارا لتأسيس بعض شركات التامين الخاصة التي تكونت عام 2000

 

وبغية التعرف على اهمية الدور الاقتصادي الذى تلعبه شركات التامين في العراق وما يواجهه هذا القطاع من مشاكل ومعوقات تم اجراء هذا الحوار مع الزميل مصباح كمال المختص بالشأن التأميني.

 

[1]

كما تعلمون تم في عام 1964 تأميم المصارف وشركات التامين واليوم هناك عدد من شركات التامين في القطاع العام مع ملاحظة وجود توجه جاد من قبل القطاع الخاص للتوسع بالعمل في سوق التامين العراقية فكيف تنظرون الى واقع النشاط التأميني في الوقت الحاضر؟

 

الانطباع المباشر الذي يرد إلى الذهن هو الحكم على واقع النشاط التأميني من منظور المقارنة مع الماضي بحيث يطل علينا الماضي متفوقاً على الحاضر في كافة الجوانب.  وما لم ندخل في التفاصيل، ومن منظور نقدي تاريخي، فإن مثل هذه المقارنة السريعة لا تعلمنا الكثير.  أقول هذا كي لا نقع أسرى لتعظيم مكانة النشاط التأميني في الماضي والحط من شأنه في الوقت الحاضر (وهذا الحاضر مفهوم نسبي إذ أنه قد يعني اليوم وقد يعني عقداً من الزمن ما لم نقم بتحقيب تاريخ التأمين العراقي).  وقد قمت بمحاولة بهذا الشأن في ورقة منشورة لي بعنوان "مقاربة لتاريخ التأمين في العراق" (2008) بربط تاريخ التأمين بصدور أول قانون للتأمين في العراق (1936)، تأسيس أول شركة تأمين عراقية خاصة (1946)، تأسيس أول شركة تأمين مملوكة للدولة (1950)، القانون الجديد لتنظيم أعمال التأمين (1960)، تأميم شركات التأمين (1964)، تأميم النفط وتطور قطاع التأمين (1972-1980)، حروب النظام الشمولي وبدء تآكل قطاع التأمين (1980-2003)، الاحتلال الأمريكي للعراق ونتائجه (2003- حتى الوقت الحاضر)، صدور قانون تنظيم أعمال التأمين رقم 10 لسنة 2005 (الأمر رقم 10).

 

ويمكن اختزال ذلك تحت بضعة عناوين: الفترة ما قبل الاستقلال (من قانون السيكورتاه العثماني لسنة 1905 حتى صدور أول قانون عراقي للتأمين سنة 1936)، فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (تأسيس أول شركة تأمين عراقية سنة 1946 برأسمال عراقي وأجنبي وتأسيس أول شركة تأمين حكومية سنة 1950)، حقبة تأميم قطاع التأمين (1964-1997)، ازدهار قطاع التأمين بعد تأميم شركات النفط الأجنبية (1972) وبدء تآكل وتدهور القطاع في فترة الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) ومحاولة إعادة هيكلة القطاع في تسعينيات القرن الماضي (ترخيص شركات تأمين خاصة بفضل قانون الشركات لسنة 1997)، آثار الاحتلال الأمريكي على الحياة الاقتصادية والسياسية والأمر رقم 10 من وضع "المستبد بأمره" بول بريمر.

 

ربما أطلت في هذا العرض لكن هدفي منه هو تأكيد أهمية وضع النشاط التأميني ضمن الأوضاع الاقتصادية والسياسية السائدة، فهذا النشاط يعكس ما هو قائم من أوضاع.  لعل المثل الواضح على ذلك هو بدء ازدهار النشاط (بوجود شركتين عامتين للتأمين وشركة إعادة تأمين عامة واحدة) قبل وخلال حقبة تأمين شركات النفط الأجنبية وإطلاق ما كان يسمى بالخطة الانفجارية، رغم مساءلة الاقتصاديين لمضامين وتوجهات هذه الخطة.  والمثل الثاني هو واقع التأمين بعد الاحتلال الذي لم ينمو أو يتطور بما يكفي لأنه يعكس الحالة العامة للاقتصاد العراقي.

 

الجواب على سؤالك عن واقع النشاط التأميني يمكن أن يجرنا إلى جوانب عديدة غير التطور التاريخي لقطاع التأمين.  أعني بذلك سياسة الاستخدام في شركات التأمين العامة وما يتبعها من هبوط في المعنويات، التركيبة البيروقراطية لشركات التأمين العامة والخاصة، الحضور الضعيف للقطاع في الحياة العامة، الآثار الضارة للأمر رقم 10، تفكيك السوق الوطنية للتأمين (غياب سوق فيدرالي موحد) بسبب سياسة حكومة الإقليم (وهي سياسة غير معلنة) تجاه شركات التأمين غير المؤسسة في الإقليم، تفشي أدوات التسوية العشائرية كبديل عن آلية التأمين الحديثة بالترافق مع نظام المحاصصة ... الخ.

 

يضاف إلى ذلك واقع البيئة التي تعمل فيها شركات التأمين وأعني بهذا عقود الدولة مع المقاولين الأجانب التي لا تنص على إجراء التأمين مع شركات تأمين عراقية مجازة من قبل ديوان التأمين، أو ترك حرية إجراء التأمين للمقاولين (وهو ما ينص عليه قانون الاستثمار الفيدرالي وما يماثله في إقليم كوردستان).  أو تقزيم دور شركات التأمين العراقية ليقتصر على توفير ترتيبات الواجهة وتقليص احتفاظها من أقساط التأمين إلى أدنى حد، وهذا هو الحال في العلاقة التأمينية بين الشركات النفطية العالمية وشركات التأمين العراقية.

 

مما يحزّ في النفس عدم الاستئناس برأي القطاع فيما يخص تعديل قوانين ذات علاقة بالتأمين أو خطط، ترسم وراء الكواليس، لإعادة هيكلة قطاع التأمين (مشاريع خصخصة شركات التأمين العامة).  لم أطلع خلال السنوات الماضية على أية ورقة موقف من شركات التأمين العامة والخاصة، الممثلة في جمعية التأمين العراقية (تأسست سنة 2005)، أو من ديوان التأمين العراقي (جهاز الرقابة تأسس سنة 2005 أيضاً) تجاه ما يجري.

 

أتحرج في إطلاق حكم عام على مجمل النشاط التأميني، رغم أن بعض دراساتي ومقالاتي تضمن أحكاماً ربما هي بحاجة إلى مناقشة غير التعليقات المهذبة التي كتبها بعض زملائي الأكارم.  إن وضع دراسات متعددة الجوانب وتجميع الإحصائيات الخاصة بالنشاط التأميني وليس كتلك التي خرج بها البنك الدولي (القطاع المالي العراقي، نيويورك، 2011) ضروري لوضع الأرضية العلمية لتأسيس الأحكام.

 

[2]

صدر في عام 2005 قانون تنظيم اعمال التامين وغالبا ما يشار الى نواقص هذا القانون وعيوبه خاصة وانه لم ينص على حصر اجراء التامين على استيرادات دوائر الدولة لدى شركات التامين العراقية كما كان الوضع سابقا فما هي ملاحظاتكم حول هذا القانون؟

 

لقد كرست كتاباً كاملاً لموضوع هذا السؤال (قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005: تقييم ودراسات نقدية، 2014)، كما قمت بتحرير مساهمات زملائي في نقد القانون في كتاب إلكتروني صدر بعنوان مساهمة في نقد ومراجعة قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 (2013).

 

لم يأتي القانون على ذكر التأمين على استيرادات دوائر الدولة لدى شركات تأمين عراقية مرخصة.  لكن أحكام القانون صيغت بشكل يسمح بتجاوز التأمين داخل العراق.  لنتذكر أن هذا القانون صدر كأمر حُررت مسودته من قبل سلطة الاحتلال الأمريكي (خلافاً لاتفاقيات جنيف التي لا تجيز للقوة المحتلة صلاحية تغيير ما هو قائم ما لم يكن هناك تهديد مباشر لأمن القوة المحتلة أو أن هناك ضرورة تستوجب التغيير).  كان هذا الأمر ترجمة للتوجهات الليبرالية الجديدة في إدارة الاقتصاد الوطني (ولها مريدوها في العراق) التي تعمل الولايات المتحدة على إدخالها، بالقوة الناعمة أو من خلال العنف، أينما استطاعت ذلك.

 

ليس لدي الجديد الذي استطيع أن أضيفه إلى ما كتبت سابقاً.  لذلك سأقتبس مقاطع مع بعض التحوير من كتابي مُركزاً على المادة 81 من قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 (الأمر رقم 10).  تعديل هذه المادة، في رأي، هو المدخل للتخلص من الآثار الضارة لهذا الأمر.  آمل أن ينصبَّ التعديل على التخلص من "الأمر رقم 10" في العنوان.

 

لقد كتبت بأن هذه المادة أطلقت حرية شراء التأمين وتضمنت تناقضاً قانونياً.  لشرح ذلك دعنا ننظر إلى بعض أحكام هذه المادة:

 

"أولاً- لأي شخص طبيعي أو معنوي عام أو خاص الحق في الاختيار بشراء منتجات التأمين أو خدماته من أي مؤمن أو معيد تأمين ما لم ينص القانون على خلاف ذلك.

 

ثانياً- لا يجوز اجبار شخص طبيعي أو معنوي عام أو خاص على شراء منتجات خدمات التأمين من مؤمن أو معيد تأمين أو وكيل أو وسيط أو مقدم خدمات تأمين محدد، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك."

 

المادة 81 ناقصة لأنها تخلو من الإشارة إلى محل إقامة المؤمن أو معيد الـتأمين أو تسجيله في العراق أو ترخيصه من قبل الديوان ولا القانون الذي تشير إليه هذا المادة، حسب علمي، نصًّ خلاف ذلك، ولم ينشر حتى الآن تعديل للقانون بهذا الشأن.  كما أن هذه الفقرة تُقرُّ أيضاً حق الشخص الطبيعي في اختيار شراء منتجات التأمين أو خدماته من أي مؤمن أو معيد تأمين دون النص على عراقية المؤمِن أو معيد التأمين (بمعنى تسجيله لدى مسجل الشركات وترخيصه من قبل الديوان).

 

لقد وفّرت المادة 81 الأرضية القانونية لتسريب أقساط التأمين العراقية إلى الخارج من خلال القبول الضمني بالتأمين خارج النظام الرقابي non-admitted insurance وهو ما لا نجد نظيراً له في معظم الانظمة الرقابية على النشاط التأميني في العالم.  وقد كتبتُ مرة أن "مايك بيكنز، مفوض التأمين في ولاية أركنساس، الذي أعد نص القانون باللغة الإنجليزية، يعرف تماماً القيود المفروضة على حرية شراء التأمين في ولايته وفي الولايات الأخرى للولايات المتحدة.  ومع ذلك أقحم هذه المادة تعبيراً عن العقيدة الليبرالية الجديدة في رفع الضوابط الرقابية."[1]

 

لقد وفرَّ قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 الغطاء القانوني للتأمين خارج العراق لدى شركات تأمين أجنبية غير مسجلة في العراق وغير مرخصة.  وعدا ذلك فإن القانون يتعارض مع أحكام الدستور الدائم، فقد أكدت المادة 130 من الدستور، فيما يخص نفاذ القوانين القائمة، على الآتي:

 

"تبقى التشريعات النافذة معمولاً بها، ما لم تُلغَ أو تُعدّلَ، وفقاً لأحكام هذا الدستور."

 

من التشريعات النافذة ذات العلاقة قرار مجلس قيادة الثورة رقم 192 المؤرخ 3/12/1998 الذي نصَّ في الفقرة ثانياً على أنه:

 

"لا يجوز التأمين خارج العراق مباشرة على أشخاص أو أموال موجودة في العراق أو مسؤوليات قد تتحقق فيه."  (الوقائع العراقية، العدد 3757، ص 618)

 

ومن المفيد الإشارة إلى أن هذا القرار ألغى قانون شركات ووكلاء التامين رقم (49) لسنة 1960 الذي نصّ في المادة 57 على الآتي:

 

"لا يجوز لأي شخص أن يُؤمن خارجَ العراق مباشرةً على أشخاصٍ أو عقاراتٍ أو أموالٍ موجودة في العراق."

 

ومن النواقص التدوينية لقانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 عدم إيراد نص بإلغاء قوانين التأمين السابقة أو الاحتكام إليها في حالات معينة.  هناك إذاً، كما يبدو لي، تضاربٌ بين قانون سنة 2005 والقوانين السابقة التي لم تخضع للإلغاء.


إزاء هذا الوضع يصبح ضرورياً القيام بالمراجعة الفنية والقانونية لقانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 وإعادة تدوينه فهو صار يُشكّل عنصراً أساسياً في توجيه النشاط التأميني.  إن القانون، في صيغته الحالية، يحجّمُ دور شركات التأمين العراقية.

 


 

[3]

كيف يمكن حسب راْيكم توسيع وتطوير سوق التامين العراقية؟  البعض يقول بأن شركات التامين الحالية وخاصة الاهلية تعانى من نقص كوادر التامين الفنية المهنية خاصة الشركات حديثة التكوين مع وجود منافسة بين القطاعين العام والخاص تؤدى الى انحسار وثائق التأمين لدى شركات القطاع الخاص.  ارجو القاء الضوء على هذا الموضوع وكيف يمكن ان تكون المنافسة على اساس جودة الخدمة وليس على اعتبارات اخرى؟

 

توسيع وتطوير سوق التأمين العراقية مسألة متشعبة.  سأحاول فيما يلي حصر الجواب أولاً بتقديم بعض المقترحات السريعة، التي عرضها زملاء آخرون أيضاً، قبل أن ألجأ إلى عقد بعض المقارنات بين الشركات الخاصة والعامة للتعليق على موضوع المنافسة.

 

فيما يخص صياغة مقترحات لتوسيع وتطوير سوق التأمين، أذكر التالي بسرعة:

 

§      إعادة النظر بالأمر رقم 10، وهو ما تعرضت له بشيء من التفصيل في الجواب على السؤال الثاني.

 

§      حصر التأمين مع شركات تأمين مسجلة في العراق ومرخصة من قبل ديوان التأمين، والنص على ذلك في جميع عقود الدولة.

 

§      تنظيم عقود الاستيراد على أساس سيف C&F وليس سي آي إف CIF لمنح شركات التأمين العراقية فرصة الاكتتاب بتأمين استيرادات العراق.

 

§              فرض غرامات وعقوبات على المخالفين.

 

§      تفعيل دور شركة إعادة التأمين العراقية من خلال استعادة الإسناد الإلزامي (الذي ألغي أواخر 1988) لمحافظ شركات التأمين المباشر بنسب يتفق عليها للإعادة العراقية.  هذا موضوع يحتاج إلى دراسة وإلى إعادة تقييم الإمكانيات الفنية المتوفرة في الشركة وإدارتها.

§      إدخال منتجات تأمينية جديدة ومنها تأمين المسؤولية المهنية للأطباء والجراحين وغيرهم من أصحاب المهن، والتأمين المتناهي الصغر، وأشكال من التأمين التكافلي.

 

§      التفكير بجعل بعض فروع التأمين إلزامياً على أطراف معينة، كقيام المؤسسات البلدية والمحافظات التأمين على المنشآت المدنية (الجسور، المباني العامة، المستشفيات ... الخ).

 

§      تشجيع دمج شركات التأمين الصغيرة لتوسيع قاعدتها المالية، وتجميع كوادرها، وتقليص النفقات (وسأعلق عليه لاحقاً).

 

تأسست شركات التأمين الخاصة بفضل قانون الشركات رقم 21 لسنة 1997.  وتأسست أول شركة خاصة للتأمين سنة 2000.  ومنذ ذلك الوقت تزايد عدد الشركات الخاصة ليقرب الآن من ثلاثين شركة.  وكما قلت فأنه من المفترض أن يؤدي ازدياد عدد الشركات إلى زيادة في الانتاج الكلي، وتحسين نوعية الخدمات المقدمة تحت ضغط المنافسة، إدخال أغطية تأمينية مبتكرة قائمة بذاتها أو من خلال توسيع نطاق تغطيات الوثائق القائمة.  لكن واقع الحال لا يدعم هذا الافتراض.  من مظاهر هذا الواقع الاكتتاب غير الفني (أسعار غير فنية بمعنى أنها لا تتساوق مع طبيعة وحدة الأخطار المؤمن عليها، وشروط تأمينية غير مدروسة ، نفرضها الشركات الأجنبية، وربما تكون هذه غير مفهومة للمكتتبين)، وما يرتبط بهذا الواقع من اشتداد حدة المنافسة المنفلتة بين الشركات، بدافع الحصول على الأعمال وزيادة حصتها.  ومن تداعيات هذا الواقع "تهريب" الأقساط، خارج النظام الرقابي رغم ضعفه، من خلال إعادة التأمين الاختياري ربما مع شركات إعادة تأمين عربية أو أجنبية لا تتمتع بالمتانة المالية أو التصنيف من هيئات التصنيف الدولية.  وعلى العموم، فإن دور معظم شركات التأمين الخاصة في تنمية قطاع التأمين ضعيف جداً لا يتعدى توفير فرصة عمالة لعدد قليل من الموظفين وهامش صغير للربح للمساهمين.

 

ومع ذلك تطلب الشركات الخاصة موقعاً أكبر لها في السوق لكنها لا تمتلك، في الوقت الحاضر، الموارد المالية الكبيرة، والكوادر البشرية المدربة، وربما حتى السياسات الانتاجية المناسبة لإحداث نقلة نوعية في عملها وفي مكانتها من حيث حصتها من حجم الأعمال.  مرة قال لي أحد الزملاء أن بعض هذه الشركات مع الأسف ما هي إلا دكاكين صغيرة للتأمين.  ويأتي هذا الوصف اعتماداً على صغر عدد العاملين في هذه الشركات (وهو ما قد يؤثر على مستوى تقديم الخدمات) ومقارنة رأسمال شركات التأمين واحتياطياتها لمواجهة المسؤوليات المكتتبة وغير ذلك من معايير الحكم على الأوضاع المالية والتنظيمية لشركات التأمين.

 

ويربط البعض التطور البطيء لشركات التأمين الخاصة بوجود شركتي التأمين العامتين (شركة التأمين الوطنية وشركة التأمين العراقية).  هل ان ضعف الشركات الخاصة هو حقاً بسبب وجود الشركات العامة؟  لو اختفت الشركتان بصفتهما الحالية وتحولتا إلى شركات مخصخصة، بقرار سياسي لا علاقة له بالجدوى الاقتصادية، هل سيتغير وضع شركات التأمين الخاصة؟  لا اعتقد ذلك إذ أن الخصخصة ربما تعزز من مكانتهما من حيث إنتاجية الأعمال، وتقليص التكاليف (التخلص من العمالة الفائضة)، وإدخال تقنيات جديدة لإدارة الأعمال والتسويق والبيع والتنظيم الداخلي لهما.  العائق أمام شركات التأمين الخاصة ليس وجود هاتين الشركتين، ومن الضروري لذلك التعمق في البحث لاكتشاف مكامن الخلل أو القصور في دور شركات التأمين الخاصة.

 

صحيح أن الشركتين تتمتعان بالأقدمية في السوق، وكوادرهما هي الأكبر، وربما الأفضل فنياً، في مجالات معينة، من تلك الموجودة في الشركات الخاصة، ولهما موارد مالية أكبر نسبياً بضمنها رأس المال، وتستفيدان من علاقات تاريخية سابقة مع الوزارات والمؤسسات الحكومية التي اعتادت على شراء التأمين منهما.  لكن ذلك لا يعفي الشركات الخاصة من مجابهة هذا الواقع مثلما حصل بالنسبة لتأمين عقود التراخيص النفطية إذ استطاعت الشركات الخاصة المشاركة في مناقصات تأمين أخطار شركات النفط الأجنبية العاملة في العراق وتقديم خدمات الواجهة.  ما الذي عملته شركات التأمين الخاصة في مجابهة الواقع؟

 

لا اعتقد بأن الشكوى من شركات التأمين العامة قائمة على أساس ايديولوجي – أعني خلق مُناخ فكري لتقويض مكانة الشركات العامة.  فقد تأسست شركة التأمين الوطنية كشركة حكومية في العهد الملكي عندما كان سوق التأمين العراقي قائماً على التنافس بين شركات ووكالات أجنبية وشركة عراقية واحدة.  ولم يكن ذلك بدافع اشتراكي فقد ظلت الشركة، طوال وجودها، تعمل كمؤسسة رأسمالية تستهدف الربح كأية شركة تأمين خاصة.  هي من أحد مواريث العهد الملكي التي بقيت عاملة رغم تبدل انظمة الحكم.  أما شركة التأمين العراقية فقد تأسست أصلاً سنة 1959 كشركة خاصة، أممت سنة 1964.

 

بعض النقد يتجه صوب استصغار أهمية وجود شركة تأمين عامة، لأنها بيروقراطية مترهلة بطيئة الأداء، تقتل روح المبادرة، وبالتالي فإن الارتقاء بها هو من خلال خصخصتها.  هذا هو الانطباع العام لكنه بحاجة إلى تمحيص.

 

في تصورنا ان شركات التأمين الخاصة لن تحتل موقعاً مهماً ما زال حجم الطلب (الشعبي من الأفراد، ومن قبل الشركات العامة والخاصة، ودوائر الدولة الاتحادية وفي الإقليم والمحافظات) على المنتجات التأمينية ضعيفاً، وما زال حجم رأسمالها صغيراً، وكذلك افتقارها إلى الكوادر المدربة.  عندما تتزاحم ثلاثين شركة على إيرادات اكتتابية لا تزال دون 100 مليون دولار سنوياً، مصدر القسم الأكبر منها من الدولة ومن المشاريع الإنشائية، فما الذي تستطيع الشركات الصغيرة أن تغنمه من هذه الإيرادات.  وحسناً فعل ديوان التأمين عندما أصدر التعليمات رقم (15) لتحديد رأس المال المقرر بخمسة مليارات دينار (بالنسبة لشركات التأمين القائمة) وخمسة عشر مليار دينار (بالنسبة للشركات التي تؤسس بعد تاريخ نفاذ هذه التعليمات).

 

إن تشجيع الشركات الخاصة القائمة على الاندماج للامتثال للسقف الجديد لرأس المال ضرورة اقتصادية وفنية.  يقيناً لا نختلف مع مبدأ تكوين شركات تأمين قوية مالياً ومكتملة فنياً ولعل هذه التعليمات، وبغض النظر عن عدم إفصاح الديوان عن سبب إصدار التعليمات، فإنها فرصة للعديد من شركات التأمين لإعادة النظر في موقعها من خلال الاندماج.

 

يعتبر البعض وجود شركات تأمين خاصة إضراراً بسوق التأمين العراقي دون ربط هذا الموقف بحجج يمكن مناقشتها.  كالقول بأن وجودها يؤجج تنافساً محموماً، ويشتت ما تبقى من كوادر مهنية، ويُسهّل من تسريب أقساط التأمين خارج العراق.

 

فالتنافس قابل للضبط من خلال الاتفاق على الحدود الدنيا لأسعار التأمين (دون تواطء بحق جمهور المؤمن لهم للحصول على أفضل الأسعار) والتأكيد على مستوى ونوعية الخدمات، وهذه من شأنها إفراز الغث من السمين.

 

تشتيت الكوادر الفنية بين الشركات ليس حقيقياً لأن الكوادر التي تعمل في الشركات الخاصة كانت قد تقاعدت عن العمل في الشركات العامة وليس من السهل إعادة استخدامها في شركات التأمين العامة إلا بأوامر خاصة، وهذه ليست سهلة وقد تخضع للمحاصصة.  ويمكن التعويض عن شحة الكوادر، في جميع الشركات، من خلال التدريب، وهو ما سنتناوله في الجواب على سؤال آخر.

 

لم تفكر إدارات الشركات الخاصة والعامة، حسب المعلومات المتوفرة لدي، وبسبب التأكيد على المنافسة دون غيرها من العلاقات بين الشركات، بالمشاركة co-insurance في تغطية الأعمال الكبيرة لتعظيم حجم الاحتفاظ الصافي، وتطوير أدوات التعامل معها، وفرض وجود شركات التأمين العراقية خاصة في مواجهة ضغوط الشركات الأجنبية العاملة في العراق في القطاع النفطي وغيره.

 

لتقييم المنافسة بين الشركات الخاصة والعامة أرى أن ننظر إلى الأخيرة على أنها تتمتع بريع تاريخي بفضل موقعها، وهو ما كتبت عنه في دراسة سابقة.  فرغم وجود شركات تأمين خاصة فإن الموقع الريعي للشركات العامة هو من إرث الماضي ونعني به إرث رأسمالية الدولة.  فبحكم العادة تلجأ منشآت القطاع العام إلى الشركات العامة لشراء وثائق التأمين.  هذا رغم أن قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 (المادة 81-الفقرة 3) ينص على استدراج العروض في تأمين الأصول العامة.

 

لكن شركات التأمين العامة هي الأكثر غنى، برأسمالها وكوادرها واحتياطياتها الفنية، من الشركات الخاصة، وأزعم أن موقعها الريعي قد يستمر حتى لو خضعت للخصخصة.  إذا كان هذا الزعم صحيحاً فما الذي تجنيه شركات التأمين الخاصة من الخصخصة؟  ستشتد المنافسة على الأسعار، وستتركز المنافسة، وهذا هو من باب التمني (إن وضعنا التنافس السعري جانباً) على تقليص كلفة الانتاج أو السيطرة عليها (عنصر حاسم في تقييم أداء الشركات) وزيادة المبيعات دون تخفيض الأسعار من خلال حملات إعلانية، وتغيير نطاق أغطية التأمين، وجباية أقساط التأمين بالتقسيط، وتحسين نوعية الخدمة المقدمة لحملة وثائق التأمين (إصدار وثائق التأمين بسرعة، تسوية طلبات التعويض دون تلكؤ، تذكير المؤمن له بحلول أجل تجديد وثائق التأمين السنوية، المساهمة في تحسين نوعية الخطر المؤمن عليه من خلال الكشف الموقعي على محل التأمين وتقديم التوصيات المناسبة لإدارة الخطر).

 

تعمل شركات التأمين العامة جنباً إلى جنب الشركات الخاصة أي أن الشركات العامة تعمل ضمن ضوابط السوق التنافسي – ومنها أن شركات التأمين الخاصة الكفؤة والناجحة تضغط كنموذج بديل للشركات العامة وقد تستقطب العناصر الجيدة من الشركات العامة (معظم إدارات شركات التأمين الخاصة منذ 2000 هم من "خريجي" شركات التأمين العامة).  مثل هذا الوضع يحفز الشركات العامة لمواجهة الشركات الخاصة في السوق.  عندها تلجأ الشركات العامة إلى تحسين أدائها، إن كان الأداء هو دون ما هو مخطط له أو بالمقارنة مع أداء الشركات الخاصة، من خلال اعتماد جملة من الإجراءات:

 

- التدريب المكثف والمستمر للعاملين بما فيه احترام المستهلكين ضمن ضوابط العقود والقوانين.

 

- الاستفادة من خبراء استشاريين من خارج الشركات في مجالات معينة – على سبيل المثال إدخال الحاسوب في جميع مجالات تنفيذ الأعمال اليومية او إعادة النظر في نظام الحوكمة وسبل تعزيزه.

 

- إجراء دراسات من قبل استشاريين مستقلين لكلفة الانتاج للمقارنة مع شركات التأمين الخاصة المماثلة.

 

- الاستفادة من نماذج التخطيط في الشركات الخاصة المتقدمة، وغيرها من الأدوات التي تستخدم في الشركات الخاصة: مُساءلة المدراء ومجالس الإدارات، ضوابط لمنع سوء استخدام السلطة من قبل المدراء، التعلم من الحوكمة المؤسسية لدى الشركات الخاصة الناجحة الملتزمة بضوابط الأداء والمُساءلة امام المالكين (مالكي الأسهم من الأفراد والشركات).

 

لكن هذه الإجراءات تكاد أن تكون معدومة.  ولو قارنا بين الشركات العامة والخاصة في العراق في الوقت الحاضر لوجدنا إنها جميعاً تدور في فلك المدير العام والمدير المفوض.  أي ان التنظيم الداخلي متشابه وبالتالي فإن المركزية في الإدارة هي السمة المميزة التي تسود في الشركات العامة والخاصة وكذلك البيروقراطية إلا في حالات نادرة.

 

[4]

يلاحظ بان نمو قطاع التامين في العراق ما يزال نموا بطيئا ودوره محدود حيث لا تشكل اقساط التامين اهمية تذكر في الناتج المحلى فما هي الاسباب برأيكم؟

 

حقاً ان نمو قطاع التأمين ما يزال بطيئاً وتعليل هذا الوضع يحتاج إلى دراسة وربما دراسات، وقد عرضت لجوانب من الموضوع في الماضي.  ولمن يقوم بهذا الدراسة من المناسب اعتماد منظور تاريخي، كما ذكرنا في الجواب على السؤال الأول، وذلك لأن النمو البطيء ليس وليد اليوم.  وكذلك البحث في مصادر الطلب على التأمين وهي، أساساً، ثلاثة: الأفراد، الشركات، الدولة (بضمنها المحافظات والأقاليم).

 

هناك ظاهرة غريبة بحاجة إلى فحص دقيق.  نعرف بأن عدد السيارات قد تضاعف في العراق خلال السنوات القليلة الماضية لكن عدد وثائق التأمين عليها (التأمين التكميلي الشامل لأن تأمين المسؤولية المدنية ينظمه القانون ولا يحتاج إلى إصدار وثيقة تأمين) لم يتضاعف.  لماذا؟  أهو عدم توفر القدرة المالية لدى أصحاب السيارات على شراء غطاء التأمين؟  أم هو عدم قناعتهم بالجدوى الاقتصادية للتأمين؟ أو هو بسبب مصاعب الحصول على تعويض سريع من شركة التأمين؟

 

ظاهرة أخرى تكاد أن تكون مماثلة وهي زيادة دخول شرائح قديمة وجديدة.  ترى لماذا لم يترجم هذا الواقع نفسه بطفرة في أرقام التأمين الفردي على الحياة؟  (إن كانت معلوماتي صحيحة فإن معظم أقساط التأمين على الحياة تعود لعقود التأمين الجماعية).

 

أزعم بأن أقساط التأمين كانت تاريخياً لا تشكل إلا نسبة صغيرة في الناتج المحلي الإجمالي.  أتمنى أن يقوم أحد الباحثين الشباب بدراسة تاريخية اقتصادية للموضوع والكشف عن العوامل التي تفسر التقلبات في حجم أقساط التأمين وتحدد نسبة مساهمة التأمين في الناتج المحلي الإجمالي.

 

ربما يعود سبب بطء النمو إلى تدهور قيمة التأمين كوسيلة رخيصة نسبياً للتعويض عن الأضرار، بافتراض أن هذه القيمة كانت أفضل في الماضي.  ربما يكمن السبب في الافتقار إلى ثقافة التأمين والتدبر للمستقبل وضعف حملات التوعية بأهمية التأمين للفرد وللمجتمع وللاقتصاد الوطني مقابل تصاعد القيم العشائرية وثقافة التواكل.  وربما هو ضعف الوعي العلمي غير المتجذر بعد في الوعي الجمعي، وما يرافق ذلك من معدلات غير مقبولة (عالية) للأمية (الأبجدية والثقافية) في المدينة والريف بفعل تزايد الفقر، تراجع مستوى المعيشة، التهجير، ضعف كفاءة النظام التعليمي والاستثمار فيه ... الخ.  من الواضح أن هذه العناصر تظل تصورية لحين إخضاعها للبحث.

 

إذا كان هذا صحيحاً بالنسبة للأفراد فما هو الوضع بالنسبة للشركات (العامة والخاصة).  نزعم، في غياب البيانات واعتماداً على حجم دخل أقساط التأمين المكتتبة، أن هذه أيضاً لا تُقْدم دائماً على شراء الحماية التأمينية.  ومتى ما قامت بالتأمين على ممتلكاتها، على سبيل المثل، فإنها لا تؤمن بالقيمة الاستبدالية لهذه الممتلكات بل بقيمة أقل من هذه (تعرف بالتأمين الناقص) ربما توفيراً في قسط التأمين وهو ما يحرمها من التعويض بكامل قيمة الضرر.

 

أما الحكومة فإنها تغض النظر في عقودها مع المقاولين عن إلزام هؤلاء بالتأمين لدى شركات تأمين عراقية مرخصة من قبل ديوان التأمين.  وبعض دوائرها تترك حرية شراء التأمين للمقاولين، مثلما يترك قانون الاستثمار الاتحادي وما يماثله في إقليم كوردستان حرية شراء التأمين من شركة تأمين أجنبية أو وطنية.  وفي العديد من الحالات يلجأ المقاولون إلى شركات التأمين في أوطانهم، وبذلك تحرم شركات التأمين العراقية من دورها في التأمين على ما هو، في الواقع، أصول عراقية.

 

أما عقود جولة التراخيص النفطية فإن بند التأمين فيها نص على دور لشركات التأمين العراقية إلا أن واقع الحال أسفر عن تحويل هذه الشركات إلى شركات واجهة، واحتفاظها بالحدود الدنيا من أقساط التأمين.  وكان لواقع سوق المنافسة القائم في العراق أثره على ما يقرب من إبطال مفعول بند التأمين إذ لم تعمل أي من شركات التأمين، العامة أو الخاصة، على تأكيد أحقيتها في إدارة وثيقة التأمين وإعادة تأمينها.

 

ولعل الطامة الكبرى هي الأمر رقم 10 (قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005).  وقد عرضت موقفي من هذا الأمر الأمريكي الأصل في جوابي على السؤال الثاني.

 

قلت في مقالة لي أنه من المفترض أن يؤدي ازدياد عدد شركات التأمين إلى زيادة في الانتاج الكلي (زيادة حجم الأقساط المكتتبة)؛ وتحسين مستوى ونوعية الخدمات المقدمة لجمهور المؤمن لهم؛ وتقديم أغطية تأمينية مبتكرة قائمة بذاتها أو من خلال توسيع نطاق التغطية.  إلا أن الواقع الحالي هو دون هذه الافتراض.  وما يشهده المراقب هو الاكتتاب غير الفني، واشتداد حدة المنافسة المنفلتة، بدافع الحصول على الأعمال.  ومن تداعيات هذا الوضع تهريب تأمين الأخطار وأقساطها إلى الخارج من خلال إعادة التأمين الاختياري، دون المرور من خلال اتفاقيات إعادة التأمين التي تديرها شركة إعادة التأمين العراقية لصالح معظم هذه الشركات.  إن صحت هذه الملاحظة، فإن الدور الذي تلعبه شركات التأمين الخاصة في تنمية قطاع التأمين ضعيف جداً لا يتعدى توفير فرصة عمالة لعدد قليل من الموظفين وهامش صغير للربح للمساهمين.

 

[5]

من الموْكد ان انتشار التامين يتطلب قدرا من الوعى ودرجة عالية من الثقافة كما ان التامين خدمة ذات طبيعة طويلة المدى في حين ان الناس محدودي الدخل او لنقل محدودي الثقافة التأمينية يرغبون بالحصول على الخدمة التأمينية مباشرة بعد تسديد الاقساط المستحقة.  ما هو دور شركات التامين في نشر الوعى التأميني، وهل يمكن تحقيق ذلك اذا استمرت شركات التامين العراقية باتباع اساليب التسويق التقليدية غير المعاصرة؟  ما هو دور مكاتب التسويق الوسيطة التي لا تهتم سوى بالحصول على العمولة فكيف ينتشر التامين اذا لم تكن هناك حملات اعلانية.  هل لكم اعطاء القارئ ولو نبذة عن اساليب تسويق التامين في الدول المتقدمة؟

 

الربط بين انتشار التأمين وقدْراً من الوعي ودرجة عالية من الثقافة أطروحة تحتاج إلى اختبار على أرض الواقع.  يفترض الربط تطور الفردانية individuation بحيث يكون الإنسان مسؤولاً عن نفسه وأفعاله واستقلالاً في التفكير ربما خارج الانماط القيمية التقليدية.  لكن مجتمعنا لا يزال محكوماً بقيم مصنوعة في السماء وأخرى متجذرة في البنية العشائرية.  وبهذا تكون جاذبية التأمين ضعيفة ما لم تتدخل الدولة لفرض شراء التأمين على الأفراد والشركات والمؤسسات الحكومية.  هذا ما يشهد عليه تطور فروع معينة للتأمين في العراق ودول أخرى كالتأمين على المسؤولية المدنية الناشئة عن السيارات، أو ضمان الموظفين، أو التأمين الهندسي على العقود الإنشائية.  وبعض الدول تلزم الشركات بالتأمين الصحي (دولة الإمارات العربية والمملكة العربية السعودية).  أو أن البنوك تشترط على المقترض التأمين على الحياة للوفاء بالقرض.  وفي بعض الدول الغربية هناك إلزامية التأمين على الحريق والفيضان.

 

لنرجع إلى العراق وضعف الوعي التأميني الذي يفسر، إلى حد ما، محدودية انتشار التأمين بين الأفراد.  أقول إلى حدٍ ما لأن هناك عاملاً مهماً يساهم في الانتشار وهو القدرة المالية على شراء الحماية التأمينية.  فحتى لو كان الوعي بالتأمين متوفراً فإن قيمة هذا الوعي ضعيفة إن لم يكن الوعي مدعماً بفائض في الدخل يمكن انفاقه على شراء وعد مستقبلي بالتعويض عند حدوث واقعة مغطاة في وثيقة التأمين.

 

بالنسبة لدور مكاتب التسويق الوسيطة التي لا تهتم بشيء سوى الحصول على العمولة، وأظن أنك تقصر هذا الدور على المكاتب الموجودة في العراق، فهو يعكس حالة عامة نشأت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وما أفرزه من صعود الإمعات والجهلاء لمواقع حرمت على أصحابها الحقيقين.  ولنا في "الحملة" التي أطلقها د. عبد الحسين العنبكي في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين[2]  لحرفنة professionalization مهنة الاقتصاد والاعتراف بدور وقيمة الاقتصاديين ... الخ خير دليل على ما أقول.  طبعاً يمكن رفع مستوى هذه المكاتب الخاصة من خلال وضع قواعد رقابية تنظم عملها ومؤهلات القائمين عليها.  وضع هذه القواعد هي من مسؤولية ديوان التأمين العراقي، ولحين قيامه بذلك يمكن لشركات التأمين، من خلال جمعية التأمين العراقية، وضع ضوابط معينة لعمل مثل هذه المكاتب.

 

لا غرو أن لشركات التأمين دورها في إشاعة التأمين من خلال الوسائل المتاحة لها، وهي عديدة: فريق المنتجين، وكلاء التأمين ووسطاء التأمين، الإعلانات في وسائل الإعلام، إصدار المطبوعات، الإعلانات في الأماكن العامة كملاعب كرة القدم.[3]  في بريطانيا، على سبيل المثل، يستخدم التلفزيون في الدعاية لمنتجات تأمينية معينة كالتأمين على السيارات، والحوادث الشخصية، والحياة، والتأمين الصحي.

 

وعدا ذلك فإن شركات التأمين من خلال جمعياتها تؤكد حضورها باستمرار ومشاركتها في التأثير على الانظمة والقوانين ذات الصلة بالتأمين.  لكننا في العراق ما نزال في أول الدرب.

 

[6]

هناك من يدعو الى ضرورة تأسيس معهد للتامين بهدف رفع كفاءة الاداء الفني لدى موظفي شركات التامين، ويشير البعض الى ان شركات التامين العراقية تهتم بالجانب الإنتاجي اكثر من اهتمامها بالجانب الفني الامر الذى يجعلها عرضة للخسارة.  ما تعليقكم؟

 

الدعوة إلى تأسيس معهد للتأمين دعوة سليمة في ظاهرها وهي موضع ترحيب بشكل عام.  لكن السؤال المهم هو: هل تم التفكير بتفاصيل هذه الدعوة؟  أعني من هي الجهة التي ستقوم بإدارتها ووضع المنهاج التعليمي والتدريبي؟  وكيف ستجند الهيئة التعليمية ومن أين؟  وهل تم التفكير بمصادر تمويلها، ومقارنتها بما هو متوفر في المنامة، ودمشق والقاهرة؟  أليست المعاهد الفنية القائمة ومنها المعهد العالي للدراسات المحاسبية والمالية التابعة لجامعة بغداد كافية مع بعض التحوير للتأكيد على الجوانب العملية؟

 

يمكن اللجوء إلى خطوات آنية من خلال الدورات التدريبية القصيرة في فرع معين للتأمين، وهي ما تقوم به جمعية التأمين العراقية بين الحين والآخر رغم عدم وجود سياسة موضوعة في هذا المجال.

 

كما أن إدارات شركات التأمين تستطيع تطبيق إلزامية التعليم المهني المستمر الذي يمكن أن يتخذ أشكالاً مختلفة وعدداً معينا من الساعات.  وكذلك استقدام محاضر أو محاضرين أو بالأحرى مدربين متخصصين لتدريب العاملين في شركات التأمين العراقية.  يضاف إلى ذلك ابتعاث الموظفات والموظفين في دورات تدريبية في الخارج لدى شركات تأمين عربية أو أجنبية.

 

ولعله من المفيد الإشارة إلى أن التعليم المهني المستمر continuing professional education وهو موضوع يخضع للرقابة من قبل أجهزة الرقابة لضمان الالتزام به، تعمل شركات ووسطاء التأمين في بريطانيا على الاهتمام به وخلاف ذلك فإنها تتعرض لعقوبات رقابية.  وتعمل شركات التأمين والوساطة على دعم الموظفين الذين يرغبون بالدراسة للحصول على شهادات معهد التأمين القانوني وحتى الدراسة الجامعية للتأمين وإدارة الخطر.

 

لنتذكر أن سوق لويدز العريق في لندن لا يسمح لمن يعمل فيه من مكتتبين ووسطاء تأمين وآخرين لهم علاقة بالعملية الاكتتابية ممارسة العمل دون الحصول على شهادة اختبار أولية.  هناك اتجاه نحو حرفنة مهنة التأمين (ليس بجعلها مهنة مغلقة، كما هو الحال في مهنة الطب أو المحاماة وغيرها، بل إضفاء أهمية على صفة العاملين فيها تتناسب مع مكانة صناعة التأمين في الاقتصاد الوطني).

 

كما أن هناك مصادر لتبادل المعلومات والمعرفة عن النشاط التأميني بشكل مجلات تأمينية متخصصة (تأمين مباشر، إعادة تأمين، أدارة الخطر، ومجالات أخرى ذات علاقة بالتأمين) ذات مستويات مختلفة، ورقية وإلكترونية، إضافة إلى وجود جريدة يومية للتأمين في سوق لندن.  أضف إلى ذلك النشرات التي تصدرها المكاتب الحقوقية عن التغييرات في القوانين ذات الصلة بالتأمين والأحكام التي تصدرها المحاكم في قضايا التأمين المعروضة عليها، وهذه مهمة بفضل سيادة نظام القانون العام common law الذي يتطلب معرفة بالأحكام السابقة وفحص دقيق لحيثيات القضايا للخروج بحكم عادل.

 

بالنسبة للشق الثاني من السؤال، وهو تركيز شركات التأمين العراقية على الجانب الإنتاجي فإنه مطلوب بحد ذاته في ظل سوق التأمين القائم على التنافس.  ما لم يزداد الإنتاج وما يصحبه من تعظيم في الإيرادات (وزيادة المسؤوليات التعاقدية في نفس الوقت تجاه حملة وثائق التأمين) فإن حصة الشركة الواحدة من السوق ستتضاءل وربما ينتهي الأمر بها بالخروج من السوق (التوقف عن الاكتتاب بأعمال جديدة) أو تعرضها للخسارة وحتى إفلاسها.  ومن المناسب هنا الإشارة إلى أن تعظيم الإيرادات (دخل أقساط التأمين المكتتبة وعوائد الاستثمار) قد لا يقابله تحقيق هامش جيد للربح لمالكي الشركة لتزايد حجم التعويضات المدفوعة، ضعف حماية إعادة التأمين، سوء إدارة الشركة والسيطرة على تكاليف الإنتاج وضعف الإنتاجية.  وهذه عناصر فنية تحتاج إلى عناية من إدارة الشركة.  يشهد تاريخ التأمين إفلاس شركات التأمين لتبنيها سياسة زيادة الإنتاج، من خلال تخفيض الأسعار على تأمين السيارات مثلاً، دون الاهتمام بالجوانب الفنية ومنها بناء الاحتياطيات النقدية لمواجهة المسؤوليات، واعتماد سياسة استثمارية رصينة لا تعرض الأموال المستثمرة للخسارة، ولا تجبرها إلى اللجوء إلى استعمال رأسمالها أو الاستدانة.

 

عندما تكون القواعد الرقابية ضعيفة فإن فرص انهيار الشركات تكون أكبر.  وقد تطورت مفاهيم الرقابة والتدخل الرقابي أساساً لحماية الزبون واستجابة للأزمات التي لحقت بالأسواق المالية.[4]  كما أنها صارت أكثر صرامة في التطبيق.

 

 

اجرى الحوار فاروق يونس

20-26 تشرين الأول 2015



[1] مصباح كمال، "نحو مشروع لصياغة سياسة لقطاع التأمين في العراق"، مرصد التأمين العراقي:
http://iraqinsurance.wordpress.com/2012/08/06/a-policy-for-iraqs-insurance-sector/
 
[2] أ. د. عبد الحسين العنبكي، "مبادرة للتصويت (الاقتصاد حرفة وليست هواية)،" شبكة الاقتصاديين العراقيين، 21 تشرين الأول 2015:
http://iraqieconomists.net/ar/2015/10/21/%d8%a3-%d8%af-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%86%d8%a8%d9%83%d9%8a-%d9%85%d8%a8%d8%a7%d8%af%d8%b1%d8%a9-%d9%84%d9%84%d8%aa%d8%b5%d9%88%d9%8a%d8%aa/
[3] يقدم د. سليم الوردي في فصل "في أروقة التأمين"، أحد فصول روايته (غارات الثور المجنح، بغداد: دار ميزوبوتاميا، 2011) صورة واقعية، رغم التواء المقصد ليستقيم مع خط الرواية في إدانة النظام، عمّا تقوم به شركة التأمين في صياغة منتجات تأمينية جديدة وطريقة تسويقها.  فبعد تبني المدير العام تنفيذ مشروع وثيقة التأمين الجديدة وبدء الحملة الإعلامية لترويجها وبيعها "تقاطر على مركز شركة التأمين في محلة "الفناهرة" آلاف المواطنين يطلبون استمارة "طلب التأمين" من خطر "الثور المجنح."  بعدها تبدأ عملية الارتزاق من بيع استمارات طلب التأمين بتواطؤ من المسؤولين.
 
أذكر هذا لأن د. سليم بفضل اشتغاله في شركة التأمين الوطنية وتدشينه لتخطيط الإنتاج فيها ومعرفته العميقة بالتأمين يبين أهمية الحملة الإعلامية في التسويق.
 
[4] إيرنست بالتنسبرجر، بيتر بومبيرجر، أليساندرو لوبا، بينو كيللر، ارنو فيكي، الرقابة على صناعة التأمين: قضايا أساسية، ترجمة: تيسير التريكي، مراجعة: مصباح كمال (بيروت: منتدى المعارف، 2014)